المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الأول من الباب السادس من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
14/11/2007, 09:04 AM
الجزء الأول من الباب السادس
هذا الله ، وذلك الله
اللفظ والمعنى :
يقول الحكماء إن اللفظ مجرد وعاء ، ونحن نصب فيه المعنى ، واللفظ واحد ، بينما يختلف المعنى من شخص لآخر طبقاً لعلمه وخبرته ، فمفهوم القلب لدى الشاعر مختلف عن مفهومه لدى الطبيب ، ومفهوم الأطفال لدى الأم مختلف عن مفهومه لدى الأب ، ومفهوم الجماهير لدى السياسي يختلف عن مفهومه لدى محرّري الأخبار ، وفيما يلي قصة حادثة تاريخية لا تخلو من جاذبية في هذا الخصوص .
يقال أنه في القديم ، عندما كانت الديانة " البوذية " (1) لا تزال فاعلة في آسيا ، كانت هناك قرية بوذية على حدود الهند مع بورما ، وفكّر الإنجليز في احتلال هذه القرية ، وهكذا ضربوا حصاراً حول القرية ، واندهش أهل القرية كثيراً : لماذا يقف هؤلاء الناس خارج القرية هكذا ؟!. لماذا لا يدخلونها ؟!.
وأرسل الكهول في القرية وفداً من شخصين ليتحدّث مع " أولئك الناس " . وقابل أعضاء الوفد القائد الإنجليزي ، فقالوا له : يا سيدي ، بماذا نستطيـع أن نخدمـك ؟!. ماذا تريدون ؟!. فقال القائد الإنجليزي : جئنا لاحتلال القرية . فسأله أعضاء الوفد البوذي : ماذا تعني باحتلال القرية ؟!. قال القائد : نريد أن نأخذ القرية . قال البوذيان : هذا هو الأمر إذاً ، فاسمح لنا أيها القائد أن نتحدّث مع كبرائنا ، ثم نخبرك بما حدث .
وبعد قليل عاد البوذيان ، وقالا للقائد : الوقت الآن متأخّر ، ولكن بالتأكيد تستطيع أن تحتلّ القرية غداً .
وفي اليوم التالي رأى الجنود أهل القرية يحملون على رؤوسهم صرراً ولفّات من القماش ويغادرون القرية . وبعد أن خرج أهل القرية جميعاً منها حاملين أمتعتهم ، قال آخر رجل منهم للقائد الإنجليزي : يا سيدي ، تستطيع الآن أن تحتل القرية .
والحقيقة أنه لم يكن لدى البوذيين تصوراً للاحتلال والحرب والعراك أصلاً ، وكانت هذه الألفاظ لا معنى لها في أذهانهم . ومثل ذلك تماماً حين نقول إن لفظ " الغصن " في نظر المتخصص في علم النبات لا يعني ذلك " الغصن " الأخضر وفقط ، وإنما يحمل بداخله نظاماً من الخلق والإبداع مثيراً .هذا الله ، ذلك الله :
إن المفهوم الذي خرجت به في طفولتي من كلام " العواجيز " في حيّنا عن الله تعالى أنه " كيان ضخم الجثة ، غاضب ، في غاية الضيق والضجر ، يجلس وأمامه نار ضخمة تتأجج ، وفي يده عصا ، وتعلو جبينه تكشيرة وعبوس ، ينتظر متى يموت شخص ، فيمسك به من رقبته ، ويقذف به في النار المشتعلة أمامه " . وظلّ هذا التصوّر لله في ذهني لفترة كبيرة ، وذات مرّة ، وبمحض الصدفة ، وقع في يدي كتاب " الكون الغامض " الشهير لمؤلفـه السيد " جيمس جينز " ، وبقراءته انقلبت الأمـور رأساً على عقب ؛ أهذه الكائنات متسعة ، ومنظمة ، وعظيمة إلى هذا الحد ؟!!. فكيف يكـون مبدعهـا إذاً ؟!. وذاب في نفسـي ذلك التصـور عن الله الذي يشبه " الفتوّة " ، ويجلس مشعلاً أمامه ناراً ، وحلّ محلّه تصوّر للخالـق العظيم ، وظللت أنظر ، وأنظر في صمت ، كأني تمثال لا حراك فيه ، ثم تأكدت أن الشخص الذي لا يعرف شيئاً عن هذا الاتساع المثير للكائنات ، لا يمكن أن يفهم معنى عظمة الله وجبروته ، وذلك المؤذن الذي تخرّج من المدارس الدينية ، ويرفع نداء " الله أكبر " خمس مرات في اليوم ، لا يعرف مفهـوم ومعنى " الله أكبر " هذه (2) ، ومن الضروري للإنسان أن يدرس العلـوم الطبيعية ، لكي يفهم حكمة الخالق وعظمته في خلق الكائنات ، وتنظيمها ، وتسييرها بهذا الشكل المحيّر .
ضفدعة البئر :
كانت هناك ضفدعـة تعيش في بئر ، وكان هذا البئر هو كل دنياها التي تتربع على عرشها ، وتصدر نقيقها في سعادة وفرح دائم ، ثم شاء الله وجاء السيل ، وجرفت مياه السيل ضفدعة من ضفادع البحر إلى البئر ، فاندهشت ضفدعة البئر لما رأتها ، وقالت لها : أنت ، من أين جئت ؟!. قالت ضفدعة البحر : جئت من البحر . فسألتها ضفدعة البحر : وماذا يكون البحر هذا ؟!. أجابتها ضفدعة البحر : إنه كبير جداً . فنفخت ضفدعة البئر حلقها حتى امتلأ هواءاً وقالت : أيكون البحر كبيراً هكذا ؟!!!. قالت ضفدعة البحر : أكبر بكثير . فنفخت ضفدعة البئر نفسها أكثر وقالت : كبير هكذا ؟!!!. وبينما كانت ضفدعة البئر تنفخ نفسها إذ انفجرت وتناثرت أشلاؤها .
سادتي ، نحن جميعاً الذين لا نعرف شيئاً عن الكائنات وما يتعلق بها من علوم طبيعية مثل ضفدعة البئر هذه ، والسبب في هذا الخلط كله هو لفظ " علم " ، إذ أن علماء الدين لدينا يفهمون المقصود من لفظ " العلم " على أنه " علم الدين " ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال " اطلبوا العلم ولو في الصين " (3) لم يكن المراد منه سوى العلوم الطبيعية ، إذ أن مركز العلوم الدينية حينئذ كان هو " المدينة المنورة " ، وبالتالي لا مجال أصلاً للسفر خارجها من أجل تحصيل العلوم الدينية (4) .
وقد ذكر القرآن الكريم في مواضع متفرقة منه فضل العلم والعلماء ، وكلها تشير في مفهومها إلى العلوم الطبيعية والعلوم الخاصة بالكائنات والمخلوقات ، وطالما لم نحصل على العلوم المتعلقة بمخلوقات الله ، فإننا لا نستطيع فهم عظمته تعالى ، واتساع كائناته ، وجمال نظمها ، ودقة نسقها ، وبالتـالي لا نستطيع أيضاً أن نفهم معاني القرآن الكريم ، أو حتى عظمة القرآن الكريم ذاته .
ومن هنا فإن العلوم الدينية بغير الحصول على العلوم الدنيوية تصبح كسيارة بغير إطارات تسير عليها . سادتي ، إن المدارس الدينية عندنا لا تستطيع أن تخلق سوى ضفادع الآبار ، وهي بالفعل تفرّخها بكثرة (5) ، والمؤسف أن المدارس الدينية يتم إنشاؤها على قدم وساق في كل مركز ومدينة ، في كل مكان ، مع توهّم خاطئ بأننا بهذا نخدم الإسلام ، ونحن نجزل العطاء في شكل تبرعات لهذه المدارس .
الأصولية :
والإسلام تسوء سمعته يوماً بعد يوم بسبب ضفادع الآبار هؤلاء ، وأهل الغرب يتهموننا بالأصولية . سادتي ، كم هم غافلون أهل الغرب ؟!!!. فأنا أصولي ، ونحن جميعاً أصوليون ، نحن الذين نهتم بأصول الدين وأسسه ، ولسنا أولئك المستمسكين بالفروع والاختلافات !!!!!.
إن أهل الغرب ينظرون إلى المسلمين ويستنتجون تخمينات لا أساس لها ، لكنهم لم يحاولوا أبداً التعرّف على الإسلام .
ذات يوم جاءني " محمد عمر " وهو يزمجر غاضباً وقال : يا " مفتي " ، ما هذا التخريف الذي تكتبه ؟. حسبك ، وأمسك عليك قلمك .
و " محمد عمر " ليس صديقي فقط ، وإنما هو زعيمنا أيضاً ، زعيم تنظيم " إحنـا مالنـا " (6) ، وإن كنت تريد التعرّف على شخصية " محمد عمـر " الزعيـم ، فاقـرأ كتاب " سفر في سفر " (7) للكاتب " إشفاق أحمد " ، وهذا الكتاب في ذاته يعتبر تدويناً لمسيرة تنظيم " وإحنا مالنا " سابق الذكر ، فالزمجرة والغضب إحدى السمات الرئيسية لـ " محمد عمر " ، وهي مجرد زمجرة لا ضرر منها (8) ، غضبه مثل الصخب الذي يحدثه التلفزيون ثم لا ينتهي إلى شيء ، وعندما يهدأ غضب " محمد عمر " نضحك عليه جميعاً ، ونعاكسه مثيرين إياه ، وهو يبتسم ، فـ " محمد عمر " إذاً زعيم بالاسم فقط ، يحب أن يطلق عليه لقب " زعيم " ، لكنه عملياً يظل في خدمة أصدقائه دائماً ، إنه إلى الآن لم يستوعب أن عمل الزعيم ليس خدمة الناس ، وإنما حكمهم .
المهم أنه جاء ذلك اليوم مزمجراً وقال : كفاك تخريفاً . سألته : أيّ تخريف تقصد ؟. قال : ذلك الذي تقوله من أن في أمريكا مدينة من الأولياء !!. قلت : نعم ، إنهم مكبّون على البحث ليل نهار ، لا يلتفتون إلى طعام أو شراب ، ولا يهتمون بملبس ، استغرقوا أنفسهم تماماً في العمل البحثي .
صاح " محمد عمر " في غضب : هؤلاء العلماء الذين تقصدهم ملحدون جميعاً ، لا يؤمنون بالله ولا بدين . قلت : لا ، هذا غير ممكن ، هذا كلام غير مقنع . فصاح : كيف ؟!. ماذا تعني بغير ممكن ؟!. قلت : إن الذي رأى وشاهد طرفاً من كائنات الله ، لا يمكن أن يكون ملحداً ، ومن تتمكن عظمة الكائنات من قلبه بفهم معنى عظمة الله ، ويعرف أكثر مني أنه لا شريك له ، وأنه قادر مطلق .


السيد " جيمس جينز" :
فإذا كان أثر كتاب السيد " جيمس جينز " على قارئ عادي إلى هذا الحد ، فإلى أي مدى يا ترى أثرت مشاهدات " حيمز " عليه هو نفسه !. وهناك قصة مشهورة فيما يتعلق بالسيد " جيمس جينز " وخوفه من الله ، وقد حكى هذه القصة الشيـخ " عنايت الله خان مشرقي " (9) ، ونقلتها أنا من كتاب " عظمة الله " للسيد " عزيز أحمد خان " . حدثت هذه القصة عام 1909م ، وكان يوماً من أيام الآحاد ، والسماء تمطر مطراً خفيفاً . خرج العلامة " مشرقي " لأمر من الأمور ، فرأى عالم الفلك المعروف السيد " جيمس جينز " متجهاً إلى الكنيسة . دهش العلامة " مشرقي " لما رأى ذلك ، لأن علماء الطبيعة بشكل عام لا يعترفون بالطقوس والمناسك الدينية . تقدّم العلامة " مشرقي " من السيد " جيمز " ، وألقى عليه التحية بأدب ، ولم ينتبه السيد " جيمز " إلى التحيـة ، ولم يلتفت إلى العلامة " مشرقي " ، وواصل سيره ، فتعقبه الشيخ " مشرقي " ، وألقى عليه التحية ثانية ، وعندئذ توقف السيد " جيمز " ، وسأله مندهشاً : تكلم ، ماذا تريد ؟!.
وأهل الغرب لا يعرفون التحية التي لا هدف من ورائها ، حتى وإن كانت غاية في الاحترام ، فهم يعتقدون أن هناك بالضرورة هدفاً لمن يأتي ليلقي التحية على أحد ، ولهذا قال السيد " جيمز " للعلامة " مشرقي " : تكلم ، ماذا تريد !.
قال " مشرقــي " : أريـد أن أقـول شيئـين . قال السيد " جيمز " : قـل . قال " مشرقــي " : الأمـر الأول هـو أن السمــاء بدأت تمطـر ، ومع ذلك فأنت تضع المظلّة " الشمسية " مطوية تحت إبطك ، لماذا لا تفتحها ؟!.
ضحك السيد " جيمس " من شرود ذهنه ، وقام بفتح المظلّة . فقال " مشرقي " : والأمر الثاني هو أنني أريد أن أسألك : هل أنت ذاهب إلى الكنيسة للتعبّد ؟!.
استمع السيد " جيمس " لسؤال " مشرقي " ، وظل صامتاً للحظة ثم قال : تفضل عندي اليوم مساءاً نتناول الشاي معاً ونتحدّث .
وذهب الشيخ " مشرقي " في المساء إلى منزل السيد " جيمس " الذي كـان في انتظاره ، والشاي معدّ على المنضدة . وبدأ السيد " جيمس " حديثه عن النظام المدهش والمثير للأجرام الفلكية ، وعن تفاصيل المسافات الشاسعة بينها ، واتساع مساحتها ومداراتها المعقدة . وأخذ قلب الشيخ " مشرقي " بعد أن سمع ما سمع من السيد " جيمس " ينتفض لعظمة الله وكبريائه وجبروته ، وكان السيد " جيمس " نفسه في حالة عجيبة ، كان شعر رأسه منتصباً ، وعينـاه تكـاد تمزّقهمـا الحـيرة والعجـب ، ويداه ترتعشان ، وفي صوته رجفة . قال السيد " جيمس " : يا " عنايت الله " ، عندما أنظر إلى معجزات خلق الله ترتعد فرائسي من جلال الله وعظمته ، وعندما أذهب إلى الكنيسة ، وأقول " يا الله أنت عظيم " فإن كل ذرة في جسدي تشهد بذلك ، بل إنني أجد في العبادة متعة تفوق ما يجده الآخرون فيها بآلاف المرات .
قال الشيخ " مشرقي " : يا سيدي ، ذكّرني ما تقول بآية من آيات القرآن الكريم ، أتسمح لي أن أتلوها عليك ؟!. قال السيد " جيمس " : بالتأكيد . وتلا الشيخ " مشرقي " الآية باللغة العربية ، ثم شرح معناها قائلاً بأنها تعني أن أهل العلم فقط هم الذين يخشون الله (10) .
صاح السيد " جيمس " مندهشاً : أصحيح ما تقول !. هذه هي الحقيقة التي عرفتها بعد زمن طويل من الاطـلاع والتجـارب . كيف علم محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة العظيمة ؟!. إن كانت هذه الآية من القرآن فعلاً فهو إذاً كتاب وحي وإلهام .
إيمانان :
إن إيماني بالقرآن هو إيمان القلب ، لأني أؤمن بكل كلمة وردت في القرآن دون أن أعرفها ، وليس للإيمان العقلي دخل فيه ، أما أولئك الذين يعرفون العلوم المتعلقة بالكائنات ، فإن إيمانهم مضاعف ، وأكثر نضجاً ، وهو ما نسميه " حق اليقين " ، لأن لعقولهم وأذهانهم دخلاً في هذا الإيمان .
ومع أنني على يقين من كل لفظ في القرآن ، لكن هذا اليقين يقين غير ناضج ، حيث أنني لا أفهم كثيراً مما جاء فيه ، وهذا عيب في علمي أنا ، وعلى سبيل المثال لم أستطع إلى الآن أن أستوعب الصور التي رسمها القرآن الكريم للجنة والنار ، فأنا أسير لحواسي الخمسة ، ولهذا فإن فهمي محـدود ، وعلى سبيل المثال لا أستطيع أن أستوعب كيف تكون هناك راحة حيث لا يوجد ألم ؟!. وكيف يكون هناك نور حيث لا يوجد ظلام ؟!. وكيف يكون هناك اطمئنان حيث لا يوجد قلق واضطراب ؟!. إن الراحة والألم في تصوري ليسا أمرين منفصلين ، وإنما هما أمر واحد ، ولا أستطيع أن أتصور مكاناً تملؤه الراحة من ألفه إلى يائه ، كما لا أستطيع أن أتصور حياة أبدية لا تنتهي !!.
لكل منا ناره :
وهناك قصة وردت في كتاب " التذكرة الغوثية " (11) فيما يتعلق بالنار أثّرت فيّ كثيراً . تقول القصة : كان هناك عابد يعيش في غار بجبل ، وكان هذا العابد يقضي ليله ونهاره في عبـادة الله ، وكـان يرافقـه خـادم له . ولمـا كـان العـابد مغرمـاً بتدخـين النرجيلـة " الشيشة " ، فقد أمر خادمه أن يحتفظ بجمرات مشتعلة دائماً لهذا الغرض .
وذات مرة أمر العابد خادمه بإعداد النرجيلة ، وكان الوقت منتصف الليل . نظر الخادم فوجد النار قد انطفأت بفعل المطر ، وتصادف أن انتهى الكبريت أيضاً . اضطرب الخادم وارتبك ، ماذا يفعل الآن ، فقال للعابد : يا سيدي ، انطفأت النار ، وليس لدي كبريت لأشعلها ، فلتأمرني ماذا أفعل ؟!. قال العابد في غضب : لا بد أن أدخن النرجيلة حتى ولو أحضرت النار من جهنم . ومشى الخادم ، وظل يمشي ، حتى وصل إلى جهنم فعلاً ، وهناك وجد حارساً على البوابة الرئيسية لجهنم يجلس مغالباً النعاس . هزّ الخادم حارس جهنم وسأله : هل هذا هو باب جهنم ؟!. قال الحارس : نعم ، هذا هو باب جهنم . فقال الخادم : لكني لا أرى ناراً هنا . قال الحارس : كل من يدخل جهنم يأتي بناره معه . مثل هذا التصور يمكن استيعابه وفهمه .
هذه الدنيا وتلك الدنيا :
دعك مما أقول ، فأنا شخص نصف متعلم ، لكن المفكرين المثقفين وعلماء لطبيعة الذين طالعوا القرآن يعجزون هم أيضاً عن فهم بعض الأمور في القرآن الكريم . إن علمنا الآن قاصر ، ولهذا لا نستطيع فهم الإشارات العميقة للقرآن .
إن علماء الطبيعة والباحثين في أيامنا هذه ينظرون إلى خاصية أخرى من خصائص القرآن بدهشة وحيرة ، يقولون إن كتب الأديان بصفة عامة لا تعطي لدنيانا هذه أهمية تذكر ، فهي تأمر بالإعراض عنها ، وتقول إنها خداع بصري ، وإن كنتم تريدون الرؤية فأغمضوا عينيكم ، فإن هذه الحيـاة فانية ، ولا حقيقة لها ، لكن القرآن على العكس من ذلك يهتم بهذه الدنيا وهذه الحياة . فالقرآن يلفت أنظارنا مراراً إلى الكائنات ، ويقول تكراراً : " انظروا ، كيف صنعنا الأرض ، وكيف زينّا السماء ، انظروا كيف أنبتنا فيها النبات ، عليكم أن تنظروا ، ثم أمعنوا النظر في هذه الأشياء " (12) ، وفي موضع آخر يقول : " فهم كالأنعام ، بل هم أسوأ ، لأنهم لا يستعملون عقولهم " (13) .
والقرآن الكريم لا يقول لا تتعلقوا بهذه الدنيا ، وتخلّصوا منها - باعتبارها نجساً – باللجوء إلى الجبال ، والانشغال بذكر الله هناك مثلما تقول الأديان الأخرى ، القرآن لا يعلّم الانعزال ، بل على العكس من ذلك ، إنه يشعرنا بأهمية هذه الدنيا وهذه الحياة ، باعتبارها الغرس الذي سيثمر في الآخرة جنة أو ناراً .
يقول العلماء والمفكرون إن القرآن الكريم يعلّمنا أن نخلق توافقاً وتناغماً بين الدين والدنيا ، أن نجعل بينهما توازناً وتواءماً ، وأن نقيم علاقات طيبة بالناس ، وعلاقات طيبة مع الله ، أن نريح ونستريح ، أن لا نؤذي أنفسنا ، ولا نؤذي الآخرين . إن الإسلام يخلق التوازن بين الدين والدنيا .
جدتي :
عندما كنت طفلاً كانت جدتي في التسعينيات من عمرها ، وكانت تجلس معظم وقتها على " دكّة " (14) في حجرتها ، وكانت هذه " الدكة " تحتل مكاناً بالقرب من الشباك ، ومفروش عليها سجادة صلاة . كان الشباك على يمين " الدكة " ، وعلى شمالها صندوق خشبي كبير لا غطاء له ، ويمتلئ بأشياء قديمة مهملـة . كانت جـدتي تؤدي صلاتهـا جالسة على هذه " الدكة " ، وكثيراً ما كنت أدخل على جدتي حجرتها وهي تصلي ، وأصيح : أين كرتي يا جدتي ؟!. ولم أكن أنتبه إلى أن جدتي تصلي ، وأن السؤال عن الكرة ينبغي أن يكون بعد أن تنتهي من صلاتها ، وأظل أصيح : " أين الكرة يا جدتي ، يا جدتي ، أين كرتي " . وكانت جدتي قبل أن تنزل إلى السجود تنظر بطرف عينها إلى الصندوق الخشبي حيث تقبع الكرة ، ثم تمدّ يدها اليسرى وهي ساجدة إلى الصندوق ، وتتناول الكرة ، وبعد أن ترفع رأسها من السجود تلقي بالكرة ناحيتي .
ولم يكن الأمر يتوقف على الكرة فحسب ، فمثلاً تدخل جدتي في الصلاة ، وبعد قليل تنادي عليها بصوت عال سيدة تجلس في صحن البيت أمام موقد الطبيخ قائلة : هل أقلّل النار تحت الأرز الآن ؟!. وكانت جدتي تصدر أحياناً صوتاً يفيد أن " نعم " ، وتستمر في صلاتها .
وكانت " عواجيز " حيينا يضحكن كثيراً على عادة جدتي هذه ، ويقلن لها : يا حاجة ، ما هذا الذي تفعلينه ، إنك بهذا تفقدين التسلسل والخشوع والتواصل في الصلاة ، وكانت جدتي تصيح فيهن قائلة : اصمتن ، فهناك حاجة لأعمال أخرى بالإضافة إلى الصلاة ، أيظل الولد يبكي من أجل الكرة وأنا أصلي ؟!. أية صلاة هذه ؟!. ألا يعلم " الله " أن الأعمال الدنيوية ضرورية هي الأخرى ؟!. إنني أقول إن الدين والدنيا يسيران معاً ، وليس الأمر مجرد جلوس وقيام في شكل صلاة !!.
وكانت سيدات حيينا في تلك الأيام يضحكن على جدتي قائلات : لقد جنّت الحاجة . والآن عندما أفكر في الأمر أشعر بهذا التوازن البسيط السهل العملي الذي حققته جدتي بين الدين والدنيا .
فقير جند (15) :
عندما كنت طالباً في كلية " التدريب المركزي " (16) بلاهور قبل سنوات طويلة ، كان لي صديق اسمه " فقير جند " ، ولكن كم كانت شخصيته رائعة ، سبحان الله ، لقد مضت الآن اثنتان وستون سنة ، لكني لا أزال أحتفظ بعبق شخصية " فقير جند " هذا حتى الآن .
كنت أقول له : يا " فقير جند " ، أنت رجل يمكن أن يحبه الآخرون . وكان يصيح قائلاً : يا صديقي " مفتي " ، أتقول هذا الكلام لي أنا ، اذهب وقله لتلك " الفتاة " ، قل لها أنني يمكن أن يحبني الآخرون . ولكن كيف أكون رجلاً يمكن أن يحبه الآخرون وأنا أظل أهزّ ذيلي أمامها لساعتين كاملتين بصبر وتحمّل ، إلى أن تتكرّم هي وتتعطّف وترمقني بنظرة ، وأنت تقول أنني يمكن أن يحبني الآخرون !!!.
كان التعليم المختلط قد بدأ حديثاً في كلية " التدريب العملي " هـذه في ذلك الوقت ، وكانت هناك ست فتيات يتدربن معنا ، واحدة منهن عشقها " فقير جند " ، وكان يقص عليّ يومياً خبراً عجيباً من قصة حبه هذه ، على سبيل المثال يقول : يا صديقي " مفتي " ، اجتهدت اليوم بطوله ، وامتدحتها كثيراً ، وأسمعتها كل أشعار الحب والغرام التي أحفظها ، تذللت لها ، توسلت إليها ، فعلت ما لا أتصور أن أفعله ، أتعرف ماذا كان جزائي منها ؟!!. لقد مدّت تلك التافهة يدها ناحيتي قائلة : يمكن أن تقبّلها : YOU MAY KISS IT ، أيها الإله (17) ، كم في دنياك من العجائب ، يا صديقي ، على الأقل إلهكم أفضل من إلهنا ، لأنه يقول بأن تؤدوا إلى العامل أجره قبل أن يجف عرقه (18) . وكنت أقول له : ولكن يا صديقي " فقير جند " ، ما أعجب هذه التي اتخذت منها محبوبة ، لا شكل ولا عقل ، وكان يجيبني : آه يا " مفتي " ، إنك لم ترها ، أقسم بالإله ، إن أنهار اللبن تجري هناك .
هوامش

1 - الديانة البوذية المنسوبة إلى " بوذا : كوتم سدهارتهـ " في شمال الهند في القرن السادس ق.م ، وتستهدف في جوهرها التحرر بنور البصيرة ، وتعتمد على التأمل للوصول إلى حالة " النيرفانا : الخلاص والتطهر " .
2 - المدارس الدينية في باكستان هي مدارس تتخصص في تدريس العلوم الدينية لطلاّبها منذ صغرهم ، وربما اتسمت مناهج التعليم فيها ببعض الجمود والقدم والتعقيد ، لكننا نختلف مع الكاتب في أن كل من تخرّج من هذه المدارس ويعمل مؤذناً في المساجد لا يعرف معنى الله أكبر ، إذ أن كثيرين من كبار علماء الدين الباكستانيين تخرّجوا في مثل هذه المدارس .
3 - ضعف بعض علماء الحديث هذا الحديث ، وأكد البعض أنه موضوع .
4 - إن كلام النبيّ صلى الله عليـه وسلم ليس محدوداً على زمانه ومكانه فقط ، وإنما يمتد ليشمل كل زمان ومكان ، وبعد أن انتشر الإسلام في ربوع الأرض لا نستبعد أن يكون هناك من العلماء والمعاهد الدينية خارج الجزيرة العربية كلها تشدّ إليها الرّحال في طلب العلوم الدينية ، ومن هنا فالحديث بهذا الشكل لا يجوز أن نقصره على العلوم الطبيعية فقط ، وإن كان يشملها تأكيداً .
5 - أخشى أن يكون في التعميم إجحاف كبير .
6 - في الأصل " دعك من هذا يا رجل " ، وقد ترجمتها بما يتناسب مع تقريب المعنى من ذهن القارئ العربي .
7 - سفر در سفر .
8 - شبه الكاتب صديقه محمد عمر بـ " الدبور " الذي يطنّ ، لكنه لا يلدغ ، ولأنه تشبيه غير مألوف عندنا فقد فضلت ترجمته كما في المتن ، وأشرت إليه هنا في الحاشية للأمانة العلمية .
9 - من علماء شبه القارة الهندو باكستانية في القرن العشرين .
10 - الآية " ومن النـاس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور " ، سورة فاطر : آية رقم 28 ، وليس في الآية ما يجزم بأن العلماء فقط – كما نقل الكاتب عن الشيخ مشرقي – هم الذين يخشون الله ، وإن كانت تؤكد على خشية العلماء من الله تعالى .
11 - من كتب التصوف المشهورة .
12 - الإشارة إلى قوله تعالى " أفلم ينظروا إلى السماء بينهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج " – سورة ق – آية رقم : 6 ، 7 .
13 - الإشارة إلى قوله تعالى " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم " – سورة محمد – آية رقم : 12 ، وكذلك قوله تعالى " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلاً " – سورة الفرقان – آية رقم : 44 .
14 - الدكّة المقصودة هنا مقعد خشبي مرتفع عن الأرض ما يقرب من نصف متر ، وهو ذو شكل مستطيل ، وتوجد الدكة في معظم بيوت المسلمين في شبه القارة الهندو باكستانية ، وتوضع باتجاه القبلة دائماً حيث تؤدي النساء ، وخاصة كبيرات السن منهن صلاتهن فوقه .
15 - يبدو من اسمه أنه رجل هندوسي .
16 - CENTRAL TRAINING COLLEGE .
17 - في الأصل قال الشاب ذاكراً إلهه " يا بهكوان " ، و " بهكوان " هو الاسم الذي يطلقونه على الإله .
18 - ورد في المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أعطوا الأجير حقه قبل أن يجفّ عرقه " .