المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الثاني من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
14/11/2007, 09:11 AM
الجزء الثاني من الباب السادس
( هذا الله وذاك الله )
روح الجماعة :
ذات يوم جاءني " فقير جند " وقد بدت الجدية على وجهه وقال : يا " مفتي " ، أتذكر عندما أقسمت لك أن أتّبـع دينك ، لقد تحلّلت من قسمي هذا . قلت : لمـاذا ، ماذا حدث ؟!. قال : لقد انكشف لي اليوم سرّ دينك . قلت : كيف هذا ؟!. قال : لقد سمعت اليوم قبل أن آتيك خطبة الشيخ !. قلت : ماذا قال ؟. قال : هراء كثير ، إن إلهكم يقول كونوا مسلمين ، لكنه جعل من نفسه إلهاً للمسلمين فقط ، هل هذا أسلوب إله ؟!!. سألته : لماذا ، ماذا في ذلك ؟!. قال : يا صديقي ، يبدو أنك أحمق ، ألا تفهم هذا الأمر البسيط ، ليس في إلهك روح الجماعة . يا أخي ، إن كنت شكلت حزباً خاصاً بك من المسلمين فكن إله المسلمين فقط ، وساعدهم ، وتولّهم ، وأهلك الأحزاب الأخرى ، أما كنت ربّ العالم كله فلماذا تشكل أحزاباً إذاً !!.
كان كلام " فقير جند " يعجبني إذ ذاك ، وأنتم أيها السادة ، وبكل أمانة ، لو فكرتم في كلام " فقير جند " هذا لأعجبكم أنتم أيضاً .
التعصب الإيجابي :
كنت أقول لنفسي إن هناك تعصباً إيجابياً ، وتعصباً سلبياً ، ونحن سلّم بسوء التعصب السلبي ، أعترف بذلك ، لكن لا مفرّ كذلك من التعصب الإيجابي أيضاً ، فهناك تعصب لدينك ، ولبلدك ، حتى لو كانت بلدك هذا يتأرجح مثل بلدنا ، لكن هناك بالرغم من كل شيء تعصب لشعبك ، ولبني جلدتك ، لعائلتك ، ولوالديك ، فهو أمر تقتضيه بشرية الناس .
كنت أقول لنفسي إن الله يقيناً يعرف أنه من الضروري محاباة من يعبدونه ، فلماذا إذاً يتغاضى عن كل هذا ؟!!. فهو يقول آمنوا بي ، عاملوا الناس معاملة حسنة ، ولئن لم تطبقوا أحكامي فسوف تعاقبون . احذروا من أن تسيئوا الفهم بأنني سأحابيكم وأؤيدكم وأتولى أمركم لأنكم مسلمون ، لأن في هذا مصلحة لكم أنتم …. أية مصلحة في أن لا تتولى أمرنا ، لا تعتبرنا منك ، بينما نحن منك فعلاً .
سادتي ، لقد قضيت شبابي كله في محاكمة الله تعالى ، كنت أوقفه في القفص ، وأجلس أنا على كرسي القاضي ، ثم أوجه إليه الاتهامات ، وأظل أوجهها إليه ، وكان هو يبتسم . سادتي ، لا تسيئوا بي الظن ، فالأمر ليس مقصوراً عليّ أنا فقط ، إذ أن شبابنا غارق في هذا الأمر إلى أذنيه ، كلهم يوقفون الله في القفص ، يجلسون على كرسي القاضي ، ويوجهون الاتهامات إلى الله ، ويظلون يتهمونه . ….. سادتي ، إن الناس يأتون لزيارتي .
شكايات في شكايات :
وكل من يأتني يشكو ، شكايات بسيطة وصغيرة ، البعض يشكو صراحة ، والبعض تلميحاً ، البعض يشكو بكل وضوح ، والبعض يشكو دون أن يقول شيئاً ، والبعض يخفي شكواه وراء جملة " الحمد لله " ، أو " نشكر الله " ، مثلما قال أحد الشعراء :
· حين يطلق أحد زفرة حارة ويقول :
· الحمد لله على أي حال يضعني فيه .
· أقول لنفسي أشكر هذا .
· أم اتهام لرب العالمين .
الجميع يشكونه ، يعاتبونه ، يعترضون عليه ، وهو يسمع الجميع مبتسماً . لم يغضب من نكراننا الجميل أبداً ، ولم يتعكر صفو قلبه من ناحيتنا أبداً .هناك أحد الدراويش يأتي إلى حارتنا ، وينادي كل عدة دقائق بصوت يدوي في الحارة كلها قائلاً :
· لماذا أخّرت دوري إلى هذا الحدّ .
وأستشيط غضباً لندائه هذا ، وتكاد النيران بداخلي تتميز من الغيظ . وذات يوم نفذ صبري ، وبلغ به السيل الزبى ، ولهذا أسرعت إلى هذا الدرويش ، وأمسكت به ، وسألته في غضب : ما هذا الذي تقوله ؟!!. قال : أنا أنادي يا " بيه " . فنهرتـه قائلاً : ما معنى هذا النداء الذي تقوله ؟!. قال : أطلب ، أطلب .
قلت : وهل يكون الطلب هكذا أيها الأحمق !. تعلّم أولاً كيف تطلب ، إن الذي يطلب يتوسّل إلى من يطلب منه ، ويلتمس منه ، ويرجوه . احترم من تطلب منه وتأدّب معه ، إنك تشكوه وتتهمه قائلاً : " لماذا أخّرت دوري إلى هذا الحد " ، أيهـا الأحمق ، إنها مشيئة من يعطي ، إن شاء عجّل العطاء ، وإن شاء أخّره ، إن شاء زاد فيه ، وإن شاء نقصه ، وإن شاء منع عطاءه .
فقال الدرويش : اذهب يا " بيه " ، اذهب ، وأدّ عملك أنت ، ولا تتدخل فيما بيني وبينه ، ولا شأن لك بالطالب أو المعطي ، من تكون أنت بالنسبة له ، لقـد ناديته طيلة حياتي هكذا ، ولم ينهرني أبداً ، ولم يغضب مني أبداً ، على العكس ، أعطاني ، وظل يعطيني .
مرارة في مرارة :
ثم إن تلك الفتاة التي كانت تأتيني كل أسبوع بلا انقطاع ، تأتي من منطقة نائية ، منطقة بعيدة جداً ، تخرج من بيتها في الصباح الباكر ، لكي تصل عندي بعد ساعتين ونصف ، وتجلس في صمت ، بلا كلام أو سلام ، فتاة غاية في الجمال ، وكنت أناديها باسم " كجري " ، فتـاة عجيبة ، جمال لا حد له في الظاهر ، ومرارة لا حد لها في الداخل ، مرارة تجعل غضبها الدفين يطل من بين شفتيها ، فيهيل التراب على حسنها وجمالها ، كانت ممتلئة حزناً وغضباً من الله تعالى ، وكنت أسألها : لماذا كل هذه المرارة يا بنيتي ؟. فكانت ترمقني بنظرة تمتلئ غيظاً وغضباً قائلة : ما ذنبي إن كانت بداخلي مرارة وغيظ ، بداخلي نار متأججة ، أتعرف لماذا ؟!. لأنني ورثت هذا الغضب ، أنعم به أبي عليّ ، إن صفة الغضب لديّ لا تساوي شيئاً قياساً بصفة الغضب لدى أبي ، عندما يتكلم أبي يتزلزل البيت ، يصمت البيت كله ، تكاد الأواني في المطبخ تصطك ببعضها البعض ، هذا الغضب الشديد لدى أبي أورثني إيّاه .
سألتها : ما ذنب الله في ذلك ؟. صاحت : ذنب من إذاً ؟!!. فهو الذي لا يمكن أن تتحرك ورقة من مكانها إلا بأمره وحكمه ، لماذا فعل هذا بي ؟!. إن لي أخوات أخريات ، وكلهن هادئات لا ينفعلن ، أما أنا فأظل أحترق زمجرة .
تراجع الجمال وفتوره :
قلت لها : انظري ، لقد أعطاك الله جمالاً . واحمرّ وجهها من الغضب . قالت : يا أستاذ مفتي ، الذنب كله ذنب هذا الجمال ، وهذا من سوء طالعي ، إن زوجي يتهمني دائماً بقوله : إنك مغرورة بجمالك ، وسوف أحطّم غرورك هذا ، سألقي على وجهك ماءاً حارقة " مية نار " ، ولهذا يحبسني في البيت ، لا يسمح لي حتى بمجرد النظر من الشباك ، ولا بالخروج من البيت ، سفّهني وأهانني ، حتى هربت من البيت إلى بيت أبي ، ورفض أهلي استقبالي . أمي المسكينة بمثابة الجثة منذ فترة طويلة (19) ، أبي هو الذي يأمر وينهى ، ويرعد ويمطر . ولم يستمر زواجي سوى شهرين فقط ، وطلقني زوجي ، لم يكن هذا زواجاً ، وإنما كان عذاباً . لماذا قدّر الله عليّ هذا ؟!. ما هو الذنب الذي ارتكبته ؟!. وأنت الآن تنهرني وتعنّفني ، تسألني لماذا آتي إليك ؟!. إنني أظل جالسة عندك وفقط ، هل أسبّب لك أي أذى ؟!. لا أدري لماذا أجد عندك الراحة والاطمئنان ؟!.
تعلّم كيف تعطي :
وذلك الشاب ، ابن المليونير ، ابنه الوحيد ، يأتيني ، ويظل يبكي حاله ويندبه ، يقول : لقد سلّط الله عليّ كهلاً بملابس خضراء ، واستحالت حياتي إلى عذاب ، أعيش بين فكّي رحى ، بيتي يمتلئ ثروة ومالاً ، لكن كل من فيه لا يتحدث إلا عن الأخذ فقط ؛ خذ هذا ، وهذا أيضاً . لا أحد يتحدث عن العطاء ، الحديث عن العطاء في بيتي ذنب ، لكنني كلما آويت إلى فراشي استعداداً للنوم ، أتاني ذلك الكهل بملابسه الخضراء . يقول لي : اعط يا بني ، تعلّم العطاء ، فالعطاء أمر عظيم ، والله يحب العطاء ، إن كانت لديك روبيتان (20) ، تصدّق بواحدة منهما على آخر ، وإن كان لديك رداءان ، تصدّق بواحد منهما على آخر .. يا بني ، الثروة ليست شيئاً بغيضاً ، اجمع منها ما استطعت ، ولكن اجمع منها لكي تستطيع إعطاء الآخرين وتوزيعها عليهم ، استمر في العطاء يا بني ، استمر في العطاء .
كل من يأتيني يكون ممتلئاً بالشكوى من الله ، وأنا أقول يا الله ، لماذا يحدث هذا ؟!. لا أحد يشكرك ، يشكوك من أعطيته قليلاً ، ويشكوك كذلك من أعطيته كثيراً . و " هو " يجيبني بابتسامة ، يظل مبتسماً ، وأنا أسأله : يا الله : ما هو السرّ في أن كل ما في الكون من أنهار وبحار ، وجبال ووديان وصحاري ، الكل يخشع لعظمتك وهيبتك ، كل الوحوش والطيور تطيع أوامرك ، لا يجرؤ أحدها على أن يتنفّس أمامك ، لكن هذا المخلوق الذي يسمى إنسان ، يشكوك ، يسيء الأدب معك ، يعترض على أوامرك وأحكامك ، ومع ذلك لا تغضب منه ، لا يتغيّر قلبك تجاهه ، تظل تبتسم ، يا أيها القادر المطلق ، أخبرني بالسرّ في هذا !!. لماذا تسمح له بالتطاول هكذا ؟!.
دعك مما يقوله الآخرون ، أنا نفسي أشكوك ، أقول لنفسي : يا الله ، لماذا أنت رحيم بي إلى هذا الحدّ ؟!. في حين أنه ليس عندي ما يميّزني ، فأنا إنسان لا أفعل شيئاً ، مجرد كلام فقط ، لا أطبّق أحكامك وأوامرك ، فلماذا تسمح لي بهذا التطاول !!. قل لي : ما السرّ في ذلك ؟!.


مدلّل عجيب :
وكان الوقت منتصف الليل ، والصمت يلفّ المكان كله ، ونحن الاثنان نجلس سويّاً ، أنا أسأله ، و " هو " يبتسم ، وفجأة ارتفع في الفضاء صوت يقول : مدلّل عجيب ، تطلب القمر لتلعب به ..... مدلّل عجيب .
وشعرت وكأني وجدت إجابة لسؤالي . نظرت إليه ، وكان " هو " يبتسم ، وكانت ابتسامته تشع بالموافقة .
ثم جاء الدكتور " غلام مرتضى " ، وجلس أمامي قائلاً : لماذا أنت مندهش يا مفتي !!. ليس في الأمر سرّ ، فلقد أعلن هو أنه يدلّل عباده !!.
لقد أكرم الله هذا المدلّل " الإنسان " وأعزّه ، لقد نفخ الله من روحه قي هذا المدلّل ، لقد سخّر الله الكائنات لهذا المدلّل ... سخرّ له الكائنات !!. كنت أنظـر في حـيرة ودهشة إلى " غلام مرتضى " قائلاً : أعطاه هذا المقام الرفيع ، أنعم عليه بكل هذا !!!.
أظنك تعرف " غلام مرتضى " ، نعم ، هو ذلك الذي يأتي على شاشات التلفزيون ، لحيته خفيفة ، ووجهه مستطيل ، وعلى رأسه قبّعة ، شيخ صرف . عندما رأيته للمرة الأولى على شاشة التلفـزيون غضبت كثيراً ، وقلت لنفسي : أهذا هو الشيـخ الذي عثر عليه رجال التلفزيون ؟!!. أميّ ، لم يحصل سوى على الابتدائية ، وليس على وجهه أية علامات للذكاء ، إن الناس لا يزالون يتهموننا بالأصولية (21) .
ولما بدأ الرجل يتكلم دهشت دهشة عظيمة ، إنه لا يتكلم من فمه ، وإنما يتحدث من قلبه ، لا تشنّجات في حديثه ، ولا وجود لتلك الخشونة التي يتسم بها المشايخ في أسلوبهم ، في صوته شجن ، ولا يعلّم الخوف من الله ، وإنما يعلّم حبّ الله . ثم اكتشفت أنه عالم كبير ، حاصل على ماجستير في الفلسفة ، ودكتوراه في العلوم الإسلامية ، وعمل في منصب كبير ، كما عمل أستاذاً بالجامعة أيضاً ، وعمل لفترة في جامعة " شمله " . وأصابتني حيرة كبيرة ؛ أيكون هذا الرجل كل هذا معاً ، ولا يبدو على ظاهره شيء منه !!. فلا وجود لتلك الجعجعة التي تراها عند الشيوخ ، ولا لذلك الغرور الذي نلمسه عندهم .
ثم جاء السيد " طفيل " وفال : لماذا لا تقرأ القرآن ؟!. اقرأ القرآن ، وستعرف ما هو الشرف الذي أنعم الله به على الإنسان . لقد جعل الله من الإنسان نائباً له ، ومنحه طاقات استطاع بها كشف الأسرار الخفية للكائنات ، وسخّر بها القوى الكونية واستفاد منها .
سادتي : لم يكن كبار الفلاسفة قبل القرآن يعترفون بوجود الإنسان أصلاً ، كانوا يقولون أن هذه الدنيا مجرد سراب ، لا وجود مستقل لها ، إنه مجرد حلم يراه الله .
شرف الإنسان :
أما الذين يعترفون بالإنسان من كبار الفلاسفة قبل القرآن فقد كانوا يقولون إن مولده مجرد حادثة ، ولقد ولد بنفسه ، لا هدف له ولا مقصد . ترى ما قيمة الإنسان في نظر أولئك الذين يعتقدون بأنه لا معنى لوجود الكائنات أصلاً !!!.
لقد قال القرآن الكريم لأمثال هؤلاء أن الكائنات إبداع خالق واحد ، ولها مقصد وهدف واحد ، وأن هذه الحياة ليست حلماً ، وإنما هي حقيقة ... حقيقة هائلة ... حقيقة هامة للغاية ، إنها ذلك الغصن الذي ستظهر عليه إما ثمار الجنة ، وإما ثمار جهنم . لقد أنعم الله على الإنسان بشرف عظيم ، إنه ليس فان ، لأن الله نفخ فيه من روحه ، . هذا المدلّل " الإنسان " سيلعب بالقمر ، وسيلتقط النجوم ، لقد أنعم الله على هذا المدلّل بطاقات هائلة .
أيها السادة ، لقد اعترف العلماء الطبيعيون الآن أن الإنسان لا يستخدم من القوى والطاقات الكامنة فيه سوى جزءاً واحداً من عشرة أجزاء منها ، ولا تزال التسعة أجزاء الباقية كامنة تنتظر من يفعّلها .
يقول الحكماء " إن صوت الطبل يطرب من بعيد " (22) ، ولقد اهتم علماء الطبيعة أول الأمر بـ " الطبول البعيدة " …. بالقمر ، بالنجوم ، بالشمس ، بالمجرّة ، ولم يكتشفوا أن الإنسان نفسه هو أعظم الأسرار ، ولهذا " بقي الظلام تحت المصباح " (23) كما هو ، ثم أثار الشعراء ضجة تقول : " وراء البرقع لص ، وفي ثوبك لصّ " (24) ، ولكن لم يلتفت أحد إلى البرقع أو الثوب .
والآن أصبح هناك جدار أمام البحث العلمي ، ولم يعد هناك طريق للتقدم ، ولا بد من تعديل الاتجاه . لقد بدأوا يلتفتون الآن إلى الإنسان ، لقد شعروا أن الإنسان هو أكبر لغز في الكائنات ، وهو الذي نفخ الله فيه من روحه ، وجعله نائباً وخليفة له ، والكائنات جميعاً تخدمه ... إنه مدلّل الله العجيب !!!.
المتأسلمون :
لا أعرف لماذا لم يتصوّر علماء الدين لدينا أن الإنسان هو أشـرف المخلوقـات ؟!!. لماذا ؟!!. إنهم يعتقدون أن غير المسلمين ضالون في غيّهم يعمهون ، أما المسلم العادي فإنهم يحتقرونه مؤكدين على أنه لا يعمل بالإسلام ، لقد قسّموا المسلمين إلى طبقات داخل اللاوعي لديهم ، وهذا التقسيم الطبقي تنطبق عليه المقولة الإنجليزية التي تقول :
" الجميع شواذّ ما عدا أنت وأنا ، وحتى أنت يا عزيزي بك بعض الشذوذ " (25) .
وقد شعرت بهذه الحقيقة لأول مرة عام 1964م / 1965م ، وكنت حينئذ أعمل في وزارة الاستعـلامات ، وكان في حجرتي دولاب يمتلئ كتباً ، وذات يوم فتحت هذا الدولاب قدراً ، وأخرجت منه كتاباً كيفما اتفق ، كان كتاباً لعالم دين كبير ، وكنت أعرف من خلال تخصصي أنه عالم كبير ، وقد فرض نفسه على الساحة بعلمه ، بمعنى أنه استحق هذه المكانة الرفيعة باجتهاده وكفاحه ، ورغم أنني لم أكن أعرف شيئاً عن العلوم الدينية حينئذ ، إلا أنني كنت أعتقد في هذا الرجل تماماً .
وهكذا أخذت أقلّب صفحات الكتاب على سبيل التسلية ، إلى أن توقفت فجأة عند صفحة من صفحاته . ما هذا ؟!. لقد قسّم المسلمين صراحة إلى طبقات ، إنه لا يعترف بالمسلم الذي ينطق الشهادتين ، بينما يعتبر نفسه وأمثاله مسلمين ، أما عامة المسلمـين فإنه يطلـق عليهم " المتأسلمون " . كان في قلبه نوع من الاحتقار للعامة من المسلمين عبّر عنه في مواضع عديدة من كلامه ، لقد كان يخلق الفرقة والتباعد بين المسلمين بدلاً من أن يجمع بينهم ويوحدهم .
وطالعت الكتاب بإمعان ورغبة في التعرّف على شخصيته ، فلقد حوّله ادعاؤه للعلم إلى صنم ، والحكماء يقولون : أيها الناس ، احذروا من غرورين ، الأول : غرور العلم وتكبّره ، والثاني : غرور الخير وتكبّره ، وكان في صاحبنا هذان الغروران .


مجسّم الشر :
لا أعرف لماذا يرى علماء الدين لدينا في الإنسان تجسيداً للشّر ، غارقاً في الذنوب ضالاً عن الطريق . سادتي : إن كنتم تعتقدون أن الله تعالى جعل الإنسان أشرف المخلوقات ، وأنه تعالى نفخ في هذا الإنسان من روحه ، وقدّر له تسخـير الكائنـات ، فكيف يكون الإنسان تجسيداً للشر ؟!!. وأنا أعتقد أنه في اليوم الذي تزيد فيه نسبة الشر في الإنسان عن نسبة الخير فيه ، ستنتهي عندئذ هذه الحياة وهذه الدنيا ، إذ أن هذا العالم يسير بقوة عاطفة الخير لدى بني الإنسان .
يقولون أنه عندما جاء الشيخ الصوفي الكبير " علي الهجويري " إلى " لاهور " ، خرج بعد عدة أيام من وصوله يتجوّل في المدينة ليتعرّف على أحوالها ، وبعد أن تتجوّل فيها عاد وهو يستعيذ بالله مما رأى ، فسأله رجل عما به ، فقال : إنني في حيرة شديدة ، إذ كيف لم تغرق هذه المدينة حتى الآن ، إن بها من الشرور والسوء – عافانا الله - قدراً كبيراً .
وبعد أن مضى على الشيخ " الهجويري " شهر كامل في " لاهور " ، خرج يتجوّل فيها ثانية ، ثم عاد ولسانه رطب بالثناء على المدينة ، على خلاف المرة الأولى ، ولما سأله رجل عن سبب ثنائه على المدينة قال : إن بها من الخير – زادها الله - قدراً كبيراً ، ومن الصـالحين جمعاً غفيراً ، وأدعو الله أن يحفظها على مرّ العصور !!!.
سادتي : إذا نظرت إلى هذه الدنيا نظرة سطحية ، فستبدو لك مليئة بالشرور ، في حين أن الحياة بمثابة البحر ، لا يكون المدّ والجزر فيه إلاّ على سطحه ، وعلى سطحه فقط تثور الأمواج الهادرة ، ويتطاير رذاذها ، ويكثر زبدها ، بينما يسود الهدوء التام أعماق هذا البحر ... سكون لا نهائي ، وهكذا المجتمع الإنساني ، يتطاير رذاذ الشر على سطحه الخارجي فقط ، بينما يعمره الهدوء من الداخل (26) .
سادتي : إن اقتراف الذنب ليس بالأمر اليسير أبداً ، إنه مثل ارتكاب الجريمة تماماً ، وحين يقبل الشـخص على ارتكاب جريمة ما ، يخرج عن أطواره الطبيعية ، ويشعل بداخله نيران الغضب ، ويزيد نيران الانتقام اشتعالاً ، ويؤجّج لهيب الكراهية والنفور ، بمعنى أنه يولّد بداخله حالة من الجنون .
وهكذا الذنب أيضاً ، فمثلاً إذا أردت أن تكذب فإن ذلك أمر غاية في الصعوبة ، وأنا هنا لا أتحدث عن المجرمين المحترفين ، وإنما أتحدث عن الأشخاص العاديين ، في هذه الحالة يكذب اللسان فقط ، بينما لا تؤيده في هذا باقي أعضاء الجسد ولا تسايره ، بل إنها على العكس من ذلك تحتجّ عليه قائلة : هذا كذب ، هذا كذب ، وغالباً ما يتعثّر اللسان ويتلعثم أيضاً .
والإسـاءة إلى أحد ، أو خداع أحد ، ليس بالأمر السهل هو الآخر ، وهكذا باقي الأمور ، وبالتالي إذا افترضنا أن الواحد منا يقوم بخمسين عمل في اليوم الواحد ، فقد يكون من بينها عملان فقط يندرجان تحت عنوان الشر ، بينما تكون الأعمال الثمانية والأربعـون الباقية خيراً .
وعلماء الدين لدينا مضطرون إلى النظر إلى عامة المسلمين نظرة احتقار ، لأن أهميتهم الشخصية تعتمد على ذلك ، إنهم من داخلهم يعتبرون عامة المسلمين قطيعاً من الأغنام ، وأنهم حرّاسه (27) ، لم يعد لديهم توازن ذهني ، وأصابهم انفصام في الشخصية ، فشخصية ظاهرة تقول شيئاً ، وأخرى كامنة تقول شيئاً آخر .
هوامش
19 - يقصد أنها لا حول لها ولا قوة .
20 - الروبية هي العملة الرسمية لباكستان ، وهي تساوي بالعملة المصرية عشرة قروش تقريباً .
21 - يقصد الكاتب أن مثل هؤلاء المشايخ هم الذين يدفعون الناس إلى اتهامنا بالأصولية .
22 - مثل باللغة الأردية يقول " دور كـ دهول سهانـ : صوت الطبل من بعيد يطرب " ، ويضرب للشيء الذي نسمع ثناءاً عليه ، وإذا ما رأيناه اكتشفنا أنه ليس كما سمعنا ، أو للشيء يبدو من بعيد جميلاً ، وهو عن قرب غير ذلك .
23 - مثل بالأردية يقول " جراغ تلـ اندهيرا : يكون الظلام تحته " ، ويضرب لمن يكون مفيداً لغيره ولا يفيد نفسه ، وهو يقابل ما نقوله نحن في لهجتنا العامية " باب النجار مخلّع " .
24 - تعبير بنجابي يقول " تيريـ بكل ديـ وج جور " ، والترجمة الدقيقة لهذا التعبير هي " في عبّك لص "
25 - ALL ARE QUEER SAVE THEE & ME , AND EVEN THEE , MY DEAR A LITTLE BIT QUEER .
26 - قدر من التفائل يحسد عليه الكاتب !!!.
27 - لا أظن إلا أن هذا التعميم والإطلاق على كل رجال الدين خطأ .