المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الأول من الباب السابع من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
15/11/2007, 07:18 AM
الجزء الأول من الباب السابع
كوب اللبن :
هناك أقسام متنوعة من البشر ضمن " العاملين لدى الله تعالى " (1) ، فمنهم الإسكافي ، ومنهم الراعي ، ومنهم الموظف الكبير ، ومنهم الأحمق ، ومنهم العسكري ، ومنهم العالم ، ومنهم النخاس ، ومنهم الشاعر ، ومنهم المتسوّل ، ومنهم الرأسمالي ، وهم في هذا يشبهون خرقة " الدرويش " تملأها " رقعات " مختلفة الألوان والأشكال ، فهذه من الخيش ، وهذه من الحرير ، وهذه من النايلون ، وهذه من القماش المذهّب المزركش .
لقد نصب الله تعالى مهرجاناً عجيباً أصاب خلقه بحيرة لا حدّ لها ، وقد حاول عدد من الأولياء والصالحين وهم في عالم الوجد كشف سرّ هذا المهرجان ، فقال أحدهم :
· لقد اكتشفت ما يخفيه الحجاب (2) .
وقال آخر :
· كنت أنا السّر الوحيد في الكائنات .
وصاح ثالث :
· أنا الحق (3) ...
ومع ذلك لم ينكشف السّر .
قال الشيخ " الهجويري " :
· سأحل أنا هذا اللغز ، وسأكشف السّر .
فقال " هو " :
· حلّه واكشفه إن استطعت .
فكتب الشيخ " الهجويري " كتاب " كشف المحجوب " .
سادتي : لقد قرأت كتاب " كشف المحجوب " هذا أربع مرات ، لكن السّر لم ينكشف ، بل على العكس ، اختلّ ما بقي من العقل .
على أية حال عرفت شيئاً عن الصالحين ، إذ قال عنهم " الشيخ الهجويري " – وأنا هنا أنقل ما قاله الشيخ بألفاظي أنا – أن الله تعالى جعلهم حكاماً للعالم :
1 – من بينهم أربعمائة ( 400 ) يعيشون في حجاب ، ولا يعرف أحدهم الآخر ، بل ولا يشعرون بمكانتهم ومقامهم ، ويظلّون في اختفاء دائم عن أنفسهم وعن الناس .
2 – ومنهم من رزق قوة القبض والبسط ، وهم أعمدة بلاط الله تعالى ، وعددهم ثلاثمائة ( 300 ) ، ويطلق عليهم " الأخيار " .
3 – ومنهم أربعة ( 4 ) يقال لهم " الأبدال " (4).
4 – وسبعة ( 7 ) يقال لهم " الأبرار " (5) .
5 – وثلاثة ( 3 ) يقال لهم " الأومار " (6) .
6 – وثلاثة ( 3 ) يقال لهم " النقابة " (7) .
7 – وواحد ( 1 ) يقال له " القطب " أو " الغوث " (8) .
وقد ذكر " الشيخ الهجويري " أسماء هؤلاء وعددهم ، لكنه لم يلق الضوء على نوعية العمل الذي يقومون به ، أي ماذا يفعل أصحاب المناصب هؤلاء ، ولماذا أسست هذه الخدمات الروحانية ، كما لم يوضح " الشيخ الهجويري " آيات هؤلاء الصالحين وعلاماتهم .
كوب اللبن :
وأنا أظن فيما يتعلق بعلامة " الصالح " وآيته أنه يحمل في يده كوباً مملوءاً عن آخره باللبن ، لكن انتظر ، فإن هذا الأمر يحتاج إلى توضيح :
يقولون أنه كان هناك " مرشد سيخيّ " ، وكان له مريد يدعى " داس " ، وقد أنفق المرشد السيخي عدة سنوات في تعليم هذا المريد " داس " . وذات يوم قال له : انظر ، لقد علمتك بقدر ما استطعت ، والآن سيقوم " المهاراج " (9) بتعليمك في مستوى أعلى ، فاذهب إلى المملكة الفلانية ، وهذه المملكة تقع بين الجبال ناحية الشرق ، فإذا ما وصلت إلى المملكة عليك بمقابلة " المهاراج " ، وأبلغه منا السلام ، وقل له أننا قد أرسلناك لمزيد من التعليم ، ثم افعل ما يأمرك به .
وتوجه " داس " ناحية الشرق ، وظل يسير على قدميه حتى وصل إلى المملكة المقصودة بعد شهر كامل ، وهناك منعه الحراس على أبواب قصر " المهاراج " من دخوله ، وعلى الرغم من أن " داس " أبلغهم بأن " المرشد " هو الذي أرسله للمثول في حضرة " المهاراج " ، لكنهم لم يسمحوا له بالدخول .
وظل " داس " لشهر كامل يجلس بجانب سور قصر " المهاراج " ، يرقب موكبه عند خروجه من القصر ودخوله إليه . كان " المهاراج " يمتطي جواداً ، وتحيط به صفوف من المرافقين في ملابس لامعة مزركشة ، وكلما رأى " داس " هذه الأبهة ، وهذا الهيلمان الذي يحيط بـ " المهاراج " راح في تفكير عميق .
الشكوك والشبهات :
يقول " داس " لنفسه : ترى إلى أين أرسلني " المرشد " ، فهذا " المهاراج " يحكم مملكة كبيرة ، ولديه كل نعم الدنيا ، ويعيش في رغد ورفاهيـة ، والخدم والحشم من حوله في خدمته ... إنه غارق إلى أذنيه في متع الدنيا وأمورها ، فماذا يمكن أن يعلّمني هذا ؟!!! .
وذات يوم اتفق أن مرّ موكب " المهاراج " بجانب سور القصر حيث يجلس " داس " ، عندئـذ استجمـع " داس " شجـاعتـه ، وهـبّ واقفاً في طريق الموكب . أمسك مرافقو " المهاراج " بـ " داس " ، وقدموه إلى " المهاراج " ، فسـأله في غضب : تكلم أيها المجنون ، لماذا فعلت هذا ؟.
قال " داس " في صوت خفيض : أيها " المهاراج " ، لقد أرسلني المرشد " ديف " إليك . وفهم " المهاراج " ماذا يعني ، فغيّر من لهجته وقال : خذوه إلى القصر ، واجعلوه في حجرة من حجراته ، وخصصوا له من الخدم من يهتم بطعامه وشرابه ، ويراقبه حتى لا يحاول الهرب ، وسوف أحكم أنا بنفسي في قضيته ، وسوف أقترح أنا عقاباً له .
وظل " داس " مقيماً بالقصر لشهر كامل ، والخدم يلبّون له كلّ ما يطلب ، وقد خلب جمال القصر من الداخل لبّه ، وبهر أنظاره ، وثارت الشكوك والشبهات في قلبه أكثر من ذي قبل . وذات ليلة كان هناك احتفال ، والقصر يتلألأ بالأنوار ويبرق ، والمصابيح تزيّن المدينة كلها وتضيئها ، وفي منتصف الليل أخبر الخادم " داس " أن " المهاراج " أمر بمثوله في حضرته ، ومثل " داس " في حضرة " المهاراج " الذي قال : انظر ، الليلة احتفال وعيد ، والمدينة كلها مبتهجة ، والمسرحيات والعروض تقدم في كل مكان فيها ، ونحن نريد أن تخرج في نزهة لتشاهد المدينة ، سيصحبك الخادم ، ويطوف بك المدينة كلها ، ثم يعود بك .
سيف مسلط على الرأس :
ولما همّ " داس " بالذهاب ناداه " المهاراج " قائلاً : هناك أمر آخر ، وهو أن تحمل هذا الكوب المليء باللبن على يديك أثناء نزهتك ، واحذر أن تسقط منه قطرة لبن واحدة . وقدم " المهاراج " كوباً مملوءاً عن آخره باللبن إلى " داس " ، ثم استدعى " المهاراج " الجلاّد قائلاً : اذهب معه ، فإذا ما سقطت من كوب اللبن ولو قطرة واحدة اقطع رأسه .
وفي اليوم التالي استدعى " المهاراج " " داس " وسأله قائلاً : أخبرني ، ماذا شاهدت في نزهتك بالمدينـة أمس ، ومـاذا أعجبـك فيهـا . عقـد " داس " يديه أمامه ، وقال : أيها " المهاراج " ، كيف أشاهد الاحتفالات بالمدينة وتركيزي كله كان في كوب اللبن والسّيف المسلط على رأسي ؟!!!!.
ابتسم " المهاراج " وقال : يا " داس " ، هذا هـو حالنـا أيضاً ، لقد وضع مرشدنا " كوب اللبن " في أيدينا ، وأمرنا بأن نتولى حكم المملكة . أي ننظر إلى هذه المباهج والرفاهيـات الدنيوية ، ولكن علينا أن ننتبه حتى لا تسقط من " كوب اللبن " قطرة على الأرض .
نعم ، كنت أقول أن علامة " الوليّ الصالح " وآيته أن يكون في يده " كوب من اللبن " ، وسواء كان جالساً على كرسي الحكم ، أو غارقاً في ماسورة مجاري ، يظل اهتمامه منصبّاً على " كوب اللبن " ... لكن انتظروا ... لاحظوا حماقتي أيها السادة ، فأنـا أتكلـم عن " كوب اللبن " ، بينما زملائي من المفكرين ينكرون وجود الأولياء أصلاً ، وقد اعترض عليّ بعض المفكرين في الجرائد بعد أن نشرت كتابي " الكهـ نكرى " (10) .
المشايخ والأولياء :
هناك أديب أعرفه ويعرفني ، وهو في ذات الوقت أستاذ جامعي . يقول إن " مفتي " يدخلنا في متاهات ودوامات بلا داع أو سبب ، ونحن لا نستوعب هذه المتاهات ، والشخصيات في هذه " الحواديت " شخصيات فكاهية ، فيقول " مفتي " مثلاً : إن " النقاش الوليّ " قادم ، وهو الذي سيزيّن باكستان ويجمّلها .
قلت للسيد البروفيسير : يا سيدي ، من أنا حتى أتحدث عن المشايخ والأولياء ، إنني رجل نصف متعلم ، وكل ما أعرفه عن الدين سماعيّ ، أما الأولياء فقد تحدث عنهم " الشيخ الهجويري " ، سلطان " لاهور " (11) ، ذلك الذي تذهب لزيارة أعتابه والسلام عليه مرة كل شهر ، ذلك الذي تعترف بأنه عالم .
كتب " الشيخ الهجويري " عن الأولياء في كتابه " كشف المحجوب " يقول :
1 – لقد جعل الله من الأولياء حكاماً للكائنات .
2 – لقد أنفق الأولياء حياتهم الدنيا كاملة في سبيل الله تعالى .
3 – لقد أنكر الأولياء ذواتهم ، وظلوا على هذا المنوال ، إلى أن توفاهم الله تعالى .
4 – السماء تمطر ببركة هؤلاء الأولياء .
5 – والأرض تنبت ببركة هؤلاء الأولياء .
6 – ينتصر المسلمون في معاركهم ضد الكفار بفضل بركة روحانيات هؤلاء الأولياء .
الصراع :
انظروا أيها السادة كم ينافق المفكرون !!!. إذا تحدث " مفتي " عن الأولياء نهروه ، وفي نفس الوقت يعتقدون فيمن عرّفنا على الأولياء ، ويحبونه ، ويطلبون بركاته ، لكن هذا الأمر يا سادة ليس جديداً ، فهذا الصراع قديم ، ولا يزال قائماً بين الله والفلاسفة .
يقول الفلاسفة : يا الله ، سيّر هذه الدنيا كما نحب نحن ونريد ، أو على الأقل بشكل نفهمه . والله على الجانب الآخر مصرّ (12) على ما يريد (13) ، يقول : يا سادة ، أنا قادر مطلق ، فعال لما أريد ، وأنتم لا تستطيعون إلزامي بشيء . ويصرّ السادة الفلاسفة على عنادهم . يقولون : إن لم تسمع لنا فلن نعترف بك قادراً مطلقاً ، وسوف لا نعترف إلاّ بما يؤثر في قلوبنا ، أمّا ما عدا ذلك فلا .
وكانت النتيجة أن ظل الفلاسفة ينتقدون كلام الله تعالى ، ولا يزالون ، يتساءلون : كيف هذا ؟!. ولماذا هذا ؟!. هذا لا يمكن أن يكون ، هذا ضد القانون !!!.
والفلاسفة أيضاً صادقون ، يقولون إذا كان الله تعالى هو الذي وضع الأصول والمبادئ والقوانين التي تسيّر الكائنات وفقاً لها ، فكيف يخالف هو نفسـه هذه الأصـول والمبادئ والقوانين !!. يأتي هو بالمعجزات ، ثم يسمح للأولياء بالإتيان بالكرامات .
وهناك أمر آخر وهو أن الفلاسفة لدينا مغرمون باتبّاع منطقهم ، يتربعون على منصّة القضاء ، ويحكمون بأنفسهم على أفعال الله تعالى قائلين : لم يحسن الله تعالى العمل الفلاني ، وأفسد العمل الفلاني ، وهل هكذا تكون الألوهية ؟!!!. وهكذا كان أكثر ما اعترض عليه الفلاسفة هو المعجزات والكرامات .
المعجزات :
والله يضحك من قولهم ، يقول أن أيها العمي ، أنعموا النظر . إن كل ما أفعله معجزة ، انظروا إلى ذلك " المخلوق " الذي تسمونه " بقرة " ، إنها تأكل العشب ، ونحن وضعنا نظاماً يجعل العشب يولّد الدم من جانب ، والروث من جانب آخر ، واللبن من جانب ثالث . أليس هذا معجزة ؟!! (14) . انظروا إذاً ، قطعـة واحدة من الأرض ، فنبات يجمع منها " الحموضة " المنعشة ، ويثمر " الليمون " ، ونبات يمتص منها " الحلاوة " اللذيذة ، ويثمر " المانجو " ، أليست هذه معجزة ؟!! (15) . انظروا ، الصحراء القفر الجرداء ، لا أثر فيها لقطرة ماء ، وبها نبتة ضعيفة هزيلة ، تثمر ثمرة " بطيخ " تمتلئ ماءاً حلو المذاق ، أليس هذا معجزة ؟!!.
انظروا ، فراشة صغيرة ، جعلنا في ذيلها شعلة مضيئة ، شعلة من نار باردة ... فبأي معجزة من معجزاتنا تكذبون ؟!!.
ثم انظروا في أنفسكم ، ذلك الوليّ من أوليائنا ، والذي أطلقتم عليه لقب " علامة " (16) لقصور في فهمكم ، ألم يقل : كنت أنا سراً كامناً في صدر الكائنات (17) .
عظمة الشخصية :
عفواً أيها السادة ، فلقد كان الحديث عن " كوب اللبن " ، لكني وضعت أصابعي بلا داع في " عش دبابير " الفلاسفة . نعم ، كنت أقول أن كوب اللبن علامة على الصالحين الأولياء ، فلقد حمل أحد الأولياء " كوب اللبن " ، وسكن في مدينة " أجمير " الشريفة (18) ، عقر دار " الهندوس " ،ولقد قدّر لي أن أحضر الاحتفال بمولد هذا الوليّ في مدينة " أجمير الشريفة " العام الماضي ، ولشدّ ما كانت دهشتي عندما وجدت عدد الزّوار من غير المسلمين يفوق عدد الزوار المسلمين بمراحل .
ووليّ آخر حمل " كوب اللبن " في يده ، ويسكن مدينة " السّحرة " ، وهي المعروفة اليوم باسم مدينة " باكبتن " الشريفة (19) . وأعظم " كوب لبن " كان لأعظم شخصيـة ، " سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " ، فلا يزال كبار فلاسفة الإنسانية وعلماؤها ومؤرخوها ، وبصفة خاصة غير المسلمين منهم ، يعترفون بعظمة شخصية " سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " ، بالرغم من مرور أكثر من ألف وأربعمائة عام على مولده ، وأنا أضع اسم " النبي صلى الله عليه وسلم " على رأس القائمة ، ولقد سلّم كبار قساوسة ورهبان النصارى أيضاً بعظمة شخصيته صلى الله عليه وسلم .
ثقافة القبيلة :
يظن الناس بشكل عام أن " مكة " وما حولها كانت مناطق يسودها الجهل والجهالة قبل مجيء الإسلام ، وهذه فكرة خاطئة ، لأن البدو الذين كانوا سكنوا هذه المناطق كانوا منقسمين إلى قبائل ، و " ثقافة القبيلة " تكون مصبوغة بصبغة خاصة بها ، وقد شرح الدكتور " أفضل إقبال " نفسيات القبيلة في كتابه "حضارة الإسلام " ، وفيه مقال بعنـوان " القويّ والإقناع " . والدكتور " أفضل إقبال " يميل في كتاباته إلى الالتزام بالحقائق ، وقد استطاع الموازنة بين " نفسيات القبيلة " و " الشخصية الإسلامية " ببراعة .
إن للعادات والتقاليد أهمية كبرى في ثقافة القبيلة ، ولكل قبيلة عاداتها وتقاليدها وأعرافها الخاصة بها ، وهو ما يعرف بـ " القانون القبلي " ، ويلتزم به الجميع بلا مناقشة ، وليس للفرد أهمية شخصية في ثقافة القبيلة ، وإنما يستمد الفرد أهميته من القبيلة ذاتها ، وتكون المميزات الشخصية التي تقوّي القبيلة وتدفعها إلى الأمام محل استحسان وتقدير .
وأبناء " ثقافة القبيلة " معروفون بالمبالغة والتظاهر والتفاخر والغضب والنزال ، وهم محبّون للانتقام ، يدّعون الشجاعة ، مغرمون بتناول الطعام وإطعامه . وهكذا وجدنا خصائص الشخصية الإسلامية تختلف تمام الاختلاف عن ثقافة القبيلة (20) .
هوامش

1 - الكاتب هنا يقصد الذين يعملون في مجال التبليغ والدعوة ونشر الدين ودراسة الدين وعلومه وكل من له صلة بهذا المجال .
2 - استخدم الكاتب هنا تعبيراً بنجابياً هو " تري بكل ديـ وج جور " ، وهو يعني " وراء البرقع لص " ، أي أنه اكتشف ما وراء البرقع ، وما يخفيه الحجاب ، وترجمة التعبير على هذا الشكل في المتن قد لا يتوافق مع سياق الكلام ، ولذلك ترجمته كما أثبته في المتن ، وهذا التعبير يشبه المثل الشعبي لدينا " تحت العمة قرد " ، وكلاهما يؤدي نفس المعنى في سياق اكتشاف حقيقة خفية .
3 - المقولة للحسين بن منصور الحلاج ، وكنيته أبو مغيث ، وهو من أهل ( بيضاء ) بفارس ، ونشأ بواسط بالعراق ، وصحب الجنيد وأبا الحسن النوري وعمراً المكي والفوطي وغيرهم ( من رجال التصوف ) ، والمشايخ في أمره مختلفون ، ورده أكثر المشايخ ونفوه ، وأبوا أن يكون له قدم في التصوف ، وقبله من جملتهم أبو العباس بن عطاء وأبو عبد الله محمد خفيف ، وأبو القاسم إبراهيم بن محمد النصرآباذي ، وأثنوا عليه ، وصححوا له حاله ، وحكوا عنه كلامه ، وجعلوه أحد المحققين حتى قال محمد بن خفيف " الحسين بن منصور عالم رباني " . قتل ببغداد بباب الطاق يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة . طبقات الصوفية – ص 307 ، 308 .
4 - جاء في طبقات الصوفية أن " الأبدال " أو " البدلاء " أربعون ، وليسوا أربعة كما ذكر الكاتب ، وهم كما يقول أبو عبد الرحمن السلمي ( متوفى 412هـ ) مؤلف طبقات الصوفية في صفحة (2 ) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " مثل أمتي مثل المطر ، لا يدرى أوله خير أم آخره " ، فعلم صلى الله عليه وسلم أن آخر أمته لا يخلوا من أولياء وبدلاء يبينون للأمة ظواهر شرائعه ، وبواطن حقائقه ، ويحملونهم على آدابها ومواجبها ، إما بقول أو بفعل ، فنهم في الأمم خلفاء الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم ، وهم أرباب حقائق التوحيد والمحدثون وأصحاب الفراسات الصادقة والآداب الجميلة ، والمتبعون لسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين إلى أن تقوم الساعة ، لذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يزال في أمتي أربعون على خلق إبراهيم الخليل عليه السلام ، إذا جاء الأمر قبضوا " . كما جاء في نفس الكتاب ص 243 فيما روي عن أبي عبد الله المغربي : " سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت إبراهيم بن شيبان يقول سمعت أبا عبد الله المغربي يقول " الأبدال بالشام والنجباء باليمن والأخيار بالعراق " . وجاء في معجم اصطلاحات الصوفية لعبد الرازق الكاشاني المتوفى 730هـ – تحقيق وتعليق د . عبد العال شاهين – الطبعة الأولى – مصر 1992م أن " البدلاء هم سبعة رجال يسافر أحدهم عن موضع ويترك جسداً على صورته فيه بحيث لا يعرف بأنه فقد ، وذلك معنى " البدل " لا غير " ص 62 . وفي ص 23 ، 25 من معجم ألفاظ الصوفية للدكتور حسن الشرقاوي – الطبعـة الأولى – مصـر 1987م جاء أهم " أهل فضل وكمال واستقامة واعتدال ، تخلصوا من الوهم والخيال ، ولهم أربعة مظاهر : الصمت والجوع والسهر والعزلة ، والأبدال لا ينقصون ولا يزيدون " . وقال أيضاً : " الأبدال إحدى المراتب في الترتيب الطبقي للأولياء عند الصوفيـة لا يعرفهم عامة الناس – أهل الغيب – وهم يشاركون بما لهم من اقتدار له أثره في حفظ نظام الكون " .
5- جـاء فيما روي عن إبراهيم بن أدهم في كتاب طبقات الصوفية ص 32 – 33 " .. فقال عند ذلك : يا غلام ، إياك إذا صحبت الأخيار ، أو حادثت الأبرار أن تغضبهم عليك ، فإن الله يغضب لغضبهم ، ويرضى لرضاهم ، وذلك أن الحكماء هم العلماء ، وهم الراضون عن الله عز وجل إذا سخط الناس ، وهم جلسـاء الله غداً بعد النبيين والصديقين " .
6 - الـ " أومار " أو الـ " عمار " هم الذين يعمرون المساجد والخنقاوات ، ولهذا سموا بهذا الاسم .
7 - النقباء هم المطلعون على خفايا الضمائر ، لانكشاف الستائر لهم عن وجوه السرائر ، وهم ثلاثمائة في كل زمان . انظر : معجم مصطلحات الصوفية – د . عبد المنعم الحفني – بيروت – الطبعة الثانية 1978م .
8 - القطب رجل واحد هو موضع نظر الله تعالى من العالم في كل زمان ، ويسمى بالغوث أيضاً ، باعتبار التجاء الملهوف إليه ، وخلق على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسمى أيضاً بقطب العالم ، وقطب الأقطاب ، والقطب الأكبر ، وقطب الإرشاد ، وقطب المدار ، وأما مسمى الغوث فهو للقطب حين يلجأ إليه ، ولا يسمى في غير ذلك الوقت " غوثاً " . انظر المرجع السابق ص 197 ، 217 ، 218 .
9 - مهاراج " مها – راج " تعني الحاكم العظيم أو الملك ، ويكون هندوسياً .
10 - الكهـ نكرى أحد مؤلفات ممتاز مفتي وأشهرها .
11 - تعارف واصطلاح صوفي ، لأن الشيخ الهجويري يعدّ من كبار المتصوفة ، ووليّ من أولياء الله الكرام ، ويقع ضريحة في مدينة لاهور ، فهو إذاً سلطانها ، وهذا هو المقصود .
12 - هكذا في الأصل .
13 - " فعّال لما يريد " – البروج : 16 .
14 - الإشارة إلى قوله تعالى " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون " – سورة النحل – آيات رقم : 66 ، 67 ، 68
15 - قال تعالى " وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " – الرعد – آية رقم 4 .
16 - الإشارة إلى الشاعر العظيم العلامة " محمد إقبال : توفي عام 1938م " ، والذي نادى بقيام وطن مستقل للمسلمين في شبه القارة الهندية ، وقد تحقق ما نادى به عام 1947م بقيام دولة باكستان بقيادة الزعيم " محمد علي جناح " .
17 - هذا هو المصرع الثاني من البيت الأخير في غزلية من غزليات العلامة إقبال في ديوانه " جناح جبريل " ، والبيت هو :
تو نــ يه كيا غضب كيا ! مجهـ كو بهى فاش كر ديا ** مين هى تو ايكـ راز تها سينهء كائنات مين !
_ ما هذا الذي فعلت ! لقد أظهرتني أنا أيضاً ، وقد كنت سراً كامناً في صدر الكائنات !
انظر : كليات إقبال اردو – بال جبريل – ص 297 – لاهور – باكستان 1977م .
18 - الإشارة إلى الشيخ معين الدين جشتي ، الذي يعد أشهر رجال التصوف على مستوى الهند كلها ، والذي يوجد ضريحه في مدينة " أجمير " الهندية ، ويطلق أهل شبه القارة الهندو باكستانية على هذه المدينة اسم " اجمير شريف " أي " أجمير الشريفة " احتراماً لها وتعظيماً ، وذلك لتشرفهـا بوجـود ضريح الشيـخ بها ، مثلما نطلق نحن اسم " الأزهر الشريف " على ذلك الصرح العلمي المعروف ، تعظيماً واحتراماً واعترافاً بشرف ما يدرس فيد من علوم
19 - مدينة " باكبتن " تقع بالهند ، وبها أضرحة عدد كبير من المتصوفة الكرام .
20 - ومن ثقافة الإسلام أيضاً إطعام الطعام وإكرام الضيف .

إبراهيم محمد إبراهيم
15/11/2007, 07:18 AM
الجزء الأول من الباب السابع
كوب اللبن :
هناك أقسام متنوعة من البشر ضمن " العاملين لدى الله تعالى " (1) ، فمنهم الإسكافي ، ومنهم الراعي ، ومنهم الموظف الكبير ، ومنهم الأحمق ، ومنهم العسكري ، ومنهم العالم ، ومنهم النخاس ، ومنهم الشاعر ، ومنهم المتسوّل ، ومنهم الرأسمالي ، وهم في هذا يشبهون خرقة " الدرويش " تملأها " رقعات " مختلفة الألوان والأشكال ، فهذه من الخيش ، وهذه من الحرير ، وهذه من النايلون ، وهذه من القماش المذهّب المزركش .
لقد نصب الله تعالى مهرجاناً عجيباً أصاب خلقه بحيرة لا حدّ لها ، وقد حاول عدد من الأولياء والصالحين وهم في عالم الوجد كشف سرّ هذا المهرجان ، فقال أحدهم :
· لقد اكتشفت ما يخفيه الحجاب (2) .
وقال آخر :
· كنت أنا السّر الوحيد في الكائنات .
وصاح ثالث :
· أنا الحق (3) ...
ومع ذلك لم ينكشف السّر .
قال الشيخ " الهجويري " :
· سأحل أنا هذا اللغز ، وسأكشف السّر .
فقال " هو " :
· حلّه واكشفه إن استطعت .
فكتب الشيخ " الهجويري " كتاب " كشف المحجوب " .
سادتي : لقد قرأت كتاب " كشف المحجوب " هذا أربع مرات ، لكن السّر لم ينكشف ، بل على العكس ، اختلّ ما بقي من العقل .
على أية حال عرفت شيئاً عن الصالحين ، إذ قال عنهم " الشيخ الهجويري " – وأنا هنا أنقل ما قاله الشيخ بألفاظي أنا – أن الله تعالى جعلهم حكاماً للعالم :
1 – من بينهم أربعمائة ( 400 ) يعيشون في حجاب ، ولا يعرف أحدهم الآخر ، بل ولا يشعرون بمكانتهم ومقامهم ، ويظلّون في اختفاء دائم عن أنفسهم وعن الناس .
2 – ومنهم من رزق قوة القبض والبسط ، وهم أعمدة بلاط الله تعالى ، وعددهم ثلاثمائة ( 300 ) ، ويطلق عليهم " الأخيار " .
3 – ومنهم أربعة ( 4 ) يقال لهم " الأبدال " (4).
4 – وسبعة ( 7 ) يقال لهم " الأبرار " (5) .
5 – وثلاثة ( 3 ) يقال لهم " الأومار " (6) .
6 – وثلاثة ( 3 ) يقال لهم " النقابة " (7) .
7 – وواحد ( 1 ) يقال له " القطب " أو " الغوث " (8) .
وقد ذكر " الشيخ الهجويري " أسماء هؤلاء وعددهم ، لكنه لم يلق الضوء على نوعية العمل الذي يقومون به ، أي ماذا يفعل أصحاب المناصب هؤلاء ، ولماذا أسست هذه الخدمات الروحانية ، كما لم يوضح " الشيخ الهجويري " آيات هؤلاء الصالحين وعلاماتهم .
كوب اللبن :
وأنا أظن فيما يتعلق بعلامة " الصالح " وآيته أنه يحمل في يده كوباً مملوءاً عن آخره باللبن ، لكن انتظر ، فإن هذا الأمر يحتاج إلى توضيح :
يقولون أنه كان هناك " مرشد سيخيّ " ، وكان له مريد يدعى " داس " ، وقد أنفق المرشد السيخي عدة سنوات في تعليم هذا المريد " داس " . وذات يوم قال له : انظر ، لقد علمتك بقدر ما استطعت ، والآن سيقوم " المهاراج " (9) بتعليمك في مستوى أعلى ، فاذهب إلى المملكة الفلانية ، وهذه المملكة تقع بين الجبال ناحية الشرق ، فإذا ما وصلت إلى المملكة عليك بمقابلة " المهاراج " ، وأبلغه منا السلام ، وقل له أننا قد أرسلناك لمزيد من التعليم ، ثم افعل ما يأمرك به .
وتوجه " داس " ناحية الشرق ، وظل يسير على قدميه حتى وصل إلى المملكة المقصودة بعد شهر كامل ، وهناك منعه الحراس على أبواب قصر " المهاراج " من دخوله ، وعلى الرغم من أن " داس " أبلغهم بأن " المرشد " هو الذي أرسله للمثول في حضرة " المهاراج " ، لكنهم لم يسمحوا له بالدخول .
وظل " داس " لشهر كامل يجلس بجانب سور قصر " المهاراج " ، يرقب موكبه عند خروجه من القصر ودخوله إليه . كان " المهاراج " يمتطي جواداً ، وتحيط به صفوف من المرافقين في ملابس لامعة مزركشة ، وكلما رأى " داس " هذه الأبهة ، وهذا الهيلمان الذي يحيط بـ " المهاراج " راح في تفكير عميق .
الشكوك والشبهات :
يقول " داس " لنفسه : ترى إلى أين أرسلني " المرشد " ، فهذا " المهاراج " يحكم مملكة كبيرة ، ولديه كل نعم الدنيا ، ويعيش في رغد ورفاهيـة ، والخدم والحشم من حوله في خدمته ... إنه غارق إلى أذنيه في متع الدنيا وأمورها ، فماذا يمكن أن يعلّمني هذا ؟!!! .
وذات يوم اتفق أن مرّ موكب " المهاراج " بجانب سور القصر حيث يجلس " داس " ، عندئـذ استجمـع " داس " شجـاعتـه ، وهـبّ واقفاً في طريق الموكب . أمسك مرافقو " المهاراج " بـ " داس " ، وقدموه إلى " المهاراج " ، فسـأله في غضب : تكلم أيها المجنون ، لماذا فعلت هذا ؟.
قال " داس " في صوت خفيض : أيها " المهاراج " ، لقد أرسلني المرشد " ديف " إليك . وفهم " المهاراج " ماذا يعني ، فغيّر من لهجته وقال : خذوه إلى القصر ، واجعلوه في حجرة من حجراته ، وخصصوا له من الخدم من يهتم بطعامه وشرابه ، ويراقبه حتى لا يحاول الهرب ، وسوف أحكم أنا بنفسي في قضيته ، وسوف أقترح أنا عقاباً له .
وظل " داس " مقيماً بالقصر لشهر كامل ، والخدم يلبّون له كلّ ما يطلب ، وقد خلب جمال القصر من الداخل لبّه ، وبهر أنظاره ، وثارت الشكوك والشبهات في قلبه أكثر من ذي قبل . وذات ليلة كان هناك احتفال ، والقصر يتلألأ بالأنوار ويبرق ، والمصابيح تزيّن المدينة كلها وتضيئها ، وفي منتصف الليل أخبر الخادم " داس " أن " المهاراج " أمر بمثوله في حضرته ، ومثل " داس " في حضرة " المهاراج " الذي قال : انظر ، الليلة احتفال وعيد ، والمدينة كلها مبتهجة ، والمسرحيات والعروض تقدم في كل مكان فيها ، ونحن نريد أن تخرج في نزهة لتشاهد المدينة ، سيصحبك الخادم ، ويطوف بك المدينة كلها ، ثم يعود بك .
سيف مسلط على الرأس :
ولما همّ " داس " بالذهاب ناداه " المهاراج " قائلاً : هناك أمر آخر ، وهو أن تحمل هذا الكوب المليء باللبن على يديك أثناء نزهتك ، واحذر أن تسقط منه قطرة لبن واحدة . وقدم " المهاراج " كوباً مملوءاً عن آخره باللبن إلى " داس " ، ثم استدعى " المهاراج " الجلاّد قائلاً : اذهب معه ، فإذا ما سقطت من كوب اللبن ولو قطرة واحدة اقطع رأسه .
وفي اليوم التالي استدعى " المهاراج " " داس " وسأله قائلاً : أخبرني ، ماذا شاهدت في نزهتك بالمدينـة أمس ، ومـاذا أعجبـك فيهـا . عقـد " داس " يديه أمامه ، وقال : أيها " المهاراج " ، كيف أشاهد الاحتفالات بالمدينة وتركيزي كله كان في كوب اللبن والسّيف المسلط على رأسي ؟!!!!.
ابتسم " المهاراج " وقال : يا " داس " ، هذا هـو حالنـا أيضاً ، لقد وضع مرشدنا " كوب اللبن " في أيدينا ، وأمرنا بأن نتولى حكم المملكة . أي ننظر إلى هذه المباهج والرفاهيـات الدنيوية ، ولكن علينا أن ننتبه حتى لا تسقط من " كوب اللبن " قطرة على الأرض .
نعم ، كنت أقول أن علامة " الوليّ الصالح " وآيته أن يكون في يده " كوب من اللبن " ، وسواء كان جالساً على كرسي الحكم ، أو غارقاً في ماسورة مجاري ، يظل اهتمامه منصبّاً على " كوب اللبن " ... لكن انتظروا ... لاحظوا حماقتي أيها السادة ، فأنـا أتكلـم عن " كوب اللبن " ، بينما زملائي من المفكرين ينكرون وجود الأولياء أصلاً ، وقد اعترض عليّ بعض المفكرين في الجرائد بعد أن نشرت كتابي " الكهـ نكرى " (10) .
المشايخ والأولياء :
هناك أديب أعرفه ويعرفني ، وهو في ذات الوقت أستاذ جامعي . يقول إن " مفتي " يدخلنا في متاهات ودوامات بلا داع أو سبب ، ونحن لا نستوعب هذه المتاهات ، والشخصيات في هذه " الحواديت " شخصيات فكاهية ، فيقول " مفتي " مثلاً : إن " النقاش الوليّ " قادم ، وهو الذي سيزيّن باكستان ويجمّلها .
قلت للسيد البروفيسير : يا سيدي ، من أنا حتى أتحدث عن المشايخ والأولياء ، إنني رجل نصف متعلم ، وكل ما أعرفه عن الدين سماعيّ ، أما الأولياء فقد تحدث عنهم " الشيخ الهجويري " ، سلطان " لاهور " (11) ، ذلك الذي تذهب لزيارة أعتابه والسلام عليه مرة كل شهر ، ذلك الذي تعترف بأنه عالم .
كتب " الشيخ الهجويري " عن الأولياء في كتابه " كشف المحجوب " يقول :
1 – لقد جعل الله من الأولياء حكاماً للكائنات .
2 – لقد أنفق الأولياء حياتهم الدنيا كاملة في سبيل الله تعالى .
3 – لقد أنكر الأولياء ذواتهم ، وظلوا على هذا المنوال ، إلى أن توفاهم الله تعالى .
4 – السماء تمطر ببركة هؤلاء الأولياء .
5 – والأرض تنبت ببركة هؤلاء الأولياء .
6 – ينتصر المسلمون في معاركهم ضد الكفار بفضل بركة روحانيات هؤلاء الأولياء .
الصراع :
انظروا أيها السادة كم ينافق المفكرون !!!. إذا تحدث " مفتي " عن الأولياء نهروه ، وفي نفس الوقت يعتقدون فيمن عرّفنا على الأولياء ، ويحبونه ، ويطلبون بركاته ، لكن هذا الأمر يا سادة ليس جديداً ، فهذا الصراع قديم ، ولا يزال قائماً بين الله والفلاسفة .
يقول الفلاسفة : يا الله ، سيّر هذه الدنيا كما نحب نحن ونريد ، أو على الأقل بشكل نفهمه . والله على الجانب الآخر مصرّ (12) على ما يريد (13) ، يقول : يا سادة ، أنا قادر مطلق ، فعال لما أريد ، وأنتم لا تستطيعون إلزامي بشيء . ويصرّ السادة الفلاسفة على عنادهم . يقولون : إن لم تسمع لنا فلن نعترف بك قادراً مطلقاً ، وسوف لا نعترف إلاّ بما يؤثر في قلوبنا ، أمّا ما عدا ذلك فلا .
وكانت النتيجة أن ظل الفلاسفة ينتقدون كلام الله تعالى ، ولا يزالون ، يتساءلون : كيف هذا ؟!. ولماذا هذا ؟!. هذا لا يمكن أن يكون ، هذا ضد القانون !!!.
والفلاسفة أيضاً صادقون ، يقولون إذا كان الله تعالى هو الذي وضع الأصول والمبادئ والقوانين التي تسيّر الكائنات وفقاً لها ، فكيف يخالف هو نفسـه هذه الأصـول والمبادئ والقوانين !!. يأتي هو بالمعجزات ، ثم يسمح للأولياء بالإتيان بالكرامات .
وهناك أمر آخر وهو أن الفلاسفة لدينا مغرمون باتبّاع منطقهم ، يتربعون على منصّة القضاء ، ويحكمون بأنفسهم على أفعال الله تعالى قائلين : لم يحسن الله تعالى العمل الفلاني ، وأفسد العمل الفلاني ، وهل هكذا تكون الألوهية ؟!!!. وهكذا كان أكثر ما اعترض عليه الفلاسفة هو المعجزات والكرامات .
المعجزات :
والله يضحك من قولهم ، يقول أن أيها العمي ، أنعموا النظر . إن كل ما أفعله معجزة ، انظروا إلى ذلك " المخلوق " الذي تسمونه " بقرة " ، إنها تأكل العشب ، ونحن وضعنا نظاماً يجعل العشب يولّد الدم من جانب ، والروث من جانب آخر ، واللبن من جانب ثالث . أليس هذا معجزة ؟!! (14) . انظروا إذاً ، قطعـة واحدة من الأرض ، فنبات يجمع منها " الحموضة " المنعشة ، ويثمر " الليمون " ، ونبات يمتص منها " الحلاوة " اللذيذة ، ويثمر " المانجو " ، أليست هذه معجزة ؟!! (15) . انظروا ، الصحراء القفر الجرداء ، لا أثر فيها لقطرة ماء ، وبها نبتة ضعيفة هزيلة ، تثمر ثمرة " بطيخ " تمتلئ ماءاً حلو المذاق ، أليس هذا معجزة ؟!!.
انظروا ، فراشة صغيرة ، جعلنا في ذيلها شعلة مضيئة ، شعلة من نار باردة ... فبأي معجزة من معجزاتنا تكذبون ؟!!.
ثم انظروا في أنفسكم ، ذلك الوليّ من أوليائنا ، والذي أطلقتم عليه لقب " علامة " (16) لقصور في فهمكم ، ألم يقل : كنت أنا سراً كامناً في صدر الكائنات (17) .
عظمة الشخصية :
عفواً أيها السادة ، فلقد كان الحديث عن " كوب اللبن " ، لكني وضعت أصابعي بلا داع في " عش دبابير " الفلاسفة . نعم ، كنت أقول أن كوب اللبن علامة على الصالحين الأولياء ، فلقد حمل أحد الأولياء " كوب اللبن " ، وسكن في مدينة " أجمير " الشريفة (18) ، عقر دار " الهندوس " ،ولقد قدّر لي أن أحضر الاحتفال بمولد هذا الوليّ في مدينة " أجمير الشريفة " العام الماضي ، ولشدّ ما كانت دهشتي عندما وجدت عدد الزّوار من غير المسلمين يفوق عدد الزوار المسلمين بمراحل .
ووليّ آخر حمل " كوب اللبن " في يده ، ويسكن مدينة " السّحرة " ، وهي المعروفة اليوم باسم مدينة " باكبتن " الشريفة (19) . وأعظم " كوب لبن " كان لأعظم شخصيـة ، " سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " ، فلا يزال كبار فلاسفة الإنسانية وعلماؤها ومؤرخوها ، وبصفة خاصة غير المسلمين منهم ، يعترفون بعظمة شخصية " سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " ، بالرغم من مرور أكثر من ألف وأربعمائة عام على مولده ، وأنا أضع اسم " النبي صلى الله عليه وسلم " على رأس القائمة ، ولقد سلّم كبار قساوسة ورهبان النصارى أيضاً بعظمة شخصيته صلى الله عليه وسلم .
ثقافة القبيلة :
يظن الناس بشكل عام أن " مكة " وما حولها كانت مناطق يسودها الجهل والجهالة قبل مجيء الإسلام ، وهذه فكرة خاطئة ، لأن البدو الذين كانوا سكنوا هذه المناطق كانوا منقسمين إلى قبائل ، و " ثقافة القبيلة " تكون مصبوغة بصبغة خاصة بها ، وقد شرح الدكتور " أفضل إقبال " نفسيات القبيلة في كتابه "حضارة الإسلام " ، وفيه مقال بعنـوان " القويّ والإقناع " . والدكتور " أفضل إقبال " يميل في كتاباته إلى الالتزام بالحقائق ، وقد استطاع الموازنة بين " نفسيات القبيلة " و " الشخصية الإسلامية " ببراعة .
إن للعادات والتقاليد أهمية كبرى في ثقافة القبيلة ، ولكل قبيلة عاداتها وتقاليدها وأعرافها الخاصة بها ، وهو ما يعرف بـ " القانون القبلي " ، ويلتزم به الجميع بلا مناقشة ، وليس للفرد أهمية شخصية في ثقافة القبيلة ، وإنما يستمد الفرد أهميته من القبيلة ذاتها ، وتكون المميزات الشخصية التي تقوّي القبيلة وتدفعها إلى الأمام محل استحسان وتقدير .
وأبناء " ثقافة القبيلة " معروفون بالمبالغة والتظاهر والتفاخر والغضب والنزال ، وهم محبّون للانتقام ، يدّعون الشجاعة ، مغرمون بتناول الطعام وإطعامه . وهكذا وجدنا خصائص الشخصية الإسلامية تختلف تمام الاختلاف عن ثقافة القبيلة (20) .
هوامش

1 - الكاتب هنا يقصد الذين يعملون في مجال التبليغ والدعوة ونشر الدين ودراسة الدين وعلومه وكل من له صلة بهذا المجال .
2 - استخدم الكاتب هنا تعبيراً بنجابياً هو " تري بكل ديـ وج جور " ، وهو يعني " وراء البرقع لص " ، أي أنه اكتشف ما وراء البرقع ، وما يخفيه الحجاب ، وترجمة التعبير على هذا الشكل في المتن قد لا يتوافق مع سياق الكلام ، ولذلك ترجمته كما أثبته في المتن ، وهذا التعبير يشبه المثل الشعبي لدينا " تحت العمة قرد " ، وكلاهما يؤدي نفس المعنى في سياق اكتشاف حقيقة خفية .
3 - المقولة للحسين بن منصور الحلاج ، وكنيته أبو مغيث ، وهو من أهل ( بيضاء ) بفارس ، ونشأ بواسط بالعراق ، وصحب الجنيد وأبا الحسن النوري وعمراً المكي والفوطي وغيرهم ( من رجال التصوف ) ، والمشايخ في أمره مختلفون ، ورده أكثر المشايخ ونفوه ، وأبوا أن يكون له قدم في التصوف ، وقبله من جملتهم أبو العباس بن عطاء وأبو عبد الله محمد خفيف ، وأبو القاسم إبراهيم بن محمد النصرآباذي ، وأثنوا عليه ، وصححوا له حاله ، وحكوا عنه كلامه ، وجعلوه أحد المحققين حتى قال محمد بن خفيف " الحسين بن منصور عالم رباني " . قتل ببغداد بباب الطاق يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة . طبقات الصوفية – ص 307 ، 308 .
4 - جاء في طبقات الصوفية أن " الأبدال " أو " البدلاء " أربعون ، وليسوا أربعة كما ذكر الكاتب ، وهم كما يقول أبو عبد الرحمن السلمي ( متوفى 412هـ ) مؤلف طبقات الصوفية في صفحة (2 ) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " مثل أمتي مثل المطر ، لا يدرى أوله خير أم آخره " ، فعلم صلى الله عليه وسلم أن آخر أمته لا يخلوا من أولياء وبدلاء يبينون للأمة ظواهر شرائعه ، وبواطن حقائقه ، ويحملونهم على آدابها ومواجبها ، إما بقول أو بفعل ، فنهم في الأمم خلفاء الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم ، وهم أرباب حقائق التوحيد والمحدثون وأصحاب الفراسات الصادقة والآداب الجميلة ، والمتبعون لسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين إلى أن تقوم الساعة ، لذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يزال في أمتي أربعون على خلق إبراهيم الخليل عليه السلام ، إذا جاء الأمر قبضوا " . كما جاء في نفس الكتاب ص 243 فيما روي عن أبي عبد الله المغربي : " سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت إبراهيم بن شيبان يقول سمعت أبا عبد الله المغربي يقول " الأبدال بالشام والنجباء باليمن والأخيار بالعراق " . وجاء في معجم اصطلاحات الصوفية لعبد الرازق الكاشاني المتوفى 730هـ – تحقيق وتعليق د . عبد العال شاهين – الطبعة الأولى – مصر 1992م أن " البدلاء هم سبعة رجال يسافر أحدهم عن موضع ويترك جسداً على صورته فيه بحيث لا يعرف بأنه فقد ، وذلك معنى " البدل " لا غير " ص 62 . وفي ص 23 ، 25 من معجم ألفاظ الصوفية للدكتور حسن الشرقاوي – الطبعـة الأولى – مصـر 1987م جاء أهم " أهل فضل وكمال واستقامة واعتدال ، تخلصوا من الوهم والخيال ، ولهم أربعة مظاهر : الصمت والجوع والسهر والعزلة ، والأبدال لا ينقصون ولا يزيدون " . وقال أيضاً : " الأبدال إحدى المراتب في الترتيب الطبقي للأولياء عند الصوفيـة لا يعرفهم عامة الناس – أهل الغيب – وهم يشاركون بما لهم من اقتدار له أثره في حفظ نظام الكون " .
5- جـاء فيما روي عن إبراهيم بن أدهم في كتاب طبقات الصوفية ص 32 – 33 " .. فقال عند ذلك : يا غلام ، إياك إذا صحبت الأخيار ، أو حادثت الأبرار أن تغضبهم عليك ، فإن الله يغضب لغضبهم ، ويرضى لرضاهم ، وذلك أن الحكماء هم العلماء ، وهم الراضون عن الله عز وجل إذا سخط الناس ، وهم جلسـاء الله غداً بعد النبيين والصديقين " .
6 - الـ " أومار " أو الـ " عمار " هم الذين يعمرون المساجد والخنقاوات ، ولهذا سموا بهذا الاسم .
7 - النقباء هم المطلعون على خفايا الضمائر ، لانكشاف الستائر لهم عن وجوه السرائر ، وهم ثلاثمائة في كل زمان . انظر : معجم مصطلحات الصوفية – د . عبد المنعم الحفني – بيروت – الطبعة الثانية 1978م .
8 - القطب رجل واحد هو موضع نظر الله تعالى من العالم في كل زمان ، ويسمى بالغوث أيضاً ، باعتبار التجاء الملهوف إليه ، وخلق على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسمى أيضاً بقطب العالم ، وقطب الأقطاب ، والقطب الأكبر ، وقطب الإرشاد ، وقطب المدار ، وأما مسمى الغوث فهو للقطب حين يلجأ إليه ، ولا يسمى في غير ذلك الوقت " غوثاً " . انظر المرجع السابق ص 197 ، 217 ، 218 .
9 - مهاراج " مها – راج " تعني الحاكم العظيم أو الملك ، ويكون هندوسياً .
10 - الكهـ نكرى أحد مؤلفات ممتاز مفتي وأشهرها .
11 - تعارف واصطلاح صوفي ، لأن الشيخ الهجويري يعدّ من كبار المتصوفة ، ووليّ من أولياء الله الكرام ، ويقع ضريحة في مدينة لاهور ، فهو إذاً سلطانها ، وهذا هو المقصود .
12 - هكذا في الأصل .
13 - " فعّال لما يريد " – البروج : 16 .
14 - الإشارة إلى قوله تعالى " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون " – سورة النحل – آيات رقم : 66 ، 67 ، 68
15 - قال تعالى " وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " – الرعد – آية رقم 4 .
16 - الإشارة إلى الشاعر العظيم العلامة " محمد إقبال : توفي عام 1938م " ، والذي نادى بقيام وطن مستقل للمسلمين في شبه القارة الهندية ، وقد تحقق ما نادى به عام 1947م بقيام دولة باكستان بقيادة الزعيم " محمد علي جناح " .
17 - هذا هو المصرع الثاني من البيت الأخير في غزلية من غزليات العلامة إقبال في ديوانه " جناح جبريل " ، والبيت هو :
تو نــ يه كيا غضب كيا ! مجهـ كو بهى فاش كر ديا ** مين هى تو ايكـ راز تها سينهء كائنات مين !
_ ما هذا الذي فعلت ! لقد أظهرتني أنا أيضاً ، وقد كنت سراً كامناً في صدر الكائنات !
انظر : كليات إقبال اردو – بال جبريل – ص 297 – لاهور – باكستان 1977م .
18 - الإشارة إلى الشيخ معين الدين جشتي ، الذي يعد أشهر رجال التصوف على مستوى الهند كلها ، والذي يوجد ضريحه في مدينة " أجمير " الهندية ، ويطلق أهل شبه القارة الهندو باكستانية على هذه المدينة اسم " اجمير شريف " أي " أجمير الشريفة " احتراماً لها وتعظيماً ، وذلك لتشرفهـا بوجـود ضريح الشيـخ بها ، مثلما نطلق نحن اسم " الأزهر الشريف " على ذلك الصرح العلمي المعروف ، تعظيماً واحتراماً واعترافاً بشرف ما يدرس فيد من علوم
19 - مدينة " باكبتن " تقع بالهند ، وبها أضرحة عدد كبير من المتصوفة الكرام .
20 - ومن ثقافة الإسلام أيضاً إطعام الطعام وإكرام الضيف .