المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الثاني من الباب السابع من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
15/11/2007, 07:24 AM
الجزء الثاني من الباب السابع
( كوب اللبن )
أهمية مكة :
في تلك الفترة كان يعيش بمكة رؤساء القبائل المختلفة وسادتها ، وكانت " مكة " عبارة عن معبد للأصنام ، فيها أصنام خاصة بكل قبيلة ، ومن هنا كانت " مكة " بمثابة المركز الديني المقدس ، وكانت أهمية سادة القبائل مستمدة من أهمية أصنام آلهتهم .
كان الناس يفدون إلى " مكة " من أماكن بعيـدة ، يعبدون أصنامهم ، ويؤدون طقوسهم ، ويقيمون فيها ، يبيعون ويشترون ، وهكذا تحولت مكة إلى مركز للتجارة . ثم إن هناك أمراً آخر وهو أنه لم يكن هناك طريق يؤدي إلى مناطق شبه الجزيرة العربية إلاّ طريق واحد يمرّ بالقرب من مكة ، ولهذا كانت القوافل التجارية تجتمع بمكة قبل بداية رحلتها ، تمكث فيها لفترة ، وبالتالي ازدادت الأهمية التجارية لـ " مكة " .
شخصية النبي صلى الله عليه وسلم :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الكلام ، ولم يكن يهوى الاختلاط ، وإنما كان يميل إلى الاختلاء والوحدة ، ولم يكن غنياً ، وكان يرعى الغنم ، وكان أهل مكة يجلّونه ويحترمونه بسبب سلوكه وأخلاقه ، ولقّبوه بـ " الأمين " . الجميع يعترف بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكذب أبداً ، ولم ينافق أبداً . ثم عمل صلى الله عليه وسلم بالتجارة ، واشتهرت أمانته في معاملاته التجارية ، وأغلب الظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الوحيد بين أهل مكة الذي احترمه الآخرون بسبب صدقه وأمانته ، وفي مثل هذه الأحوال يمكن أن نقول بكل ثقة واطمئنان أنه عندما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم نبوته ، أيقن أهل مكة بصدقه من داخلهم ، فلماذا أصبحوا أعداءاً له إذاً ؟. والإجابة ستكون أنهم إن حطموا أصنـامهم انتهت معها أهميتهم وسلطتهم ، وتراجعت معها المكانة الاقتصادية لـ " مكة " ، ولهذا خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم ، حفاظاً على مكانتهم ومكانة مدينتهم .
الجزء والكل :
أيها السادة ، كلما فكرت في رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثّلت في ذهني صورة لإنسان عظيم ، لا لمسئول أو صاحب منصب ، صورة إنسان . ذات يوم سألت " قدرت الله شهاب " قائلاً : أخبرني ، أي العبادات أفضل ؟. فقال : أفضل العبادات أن تعيش " محمداً " . قلت : ولكن كيف ؟. قال : ضع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تحت وسادتك ، واقرأ جزءاً منها كل يوم ، ثم تخيل كيف كانت أحاسيس النبي صلى الله عليه وسلم وعواطفه في تلك الفترة ، وبعدما تعرف عواطفه صلى الله عليه وسلم تمام المعرفة ، عليك أن تسأل نفسك كلما قابلك موقف ما : ماذا يكون ردّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف .
ولقد تبنينا هذا المبدأ العظيم " عش محمداً " إلى درجة أننا تركنا " الكل " ، وأصبح تركيزنا على " الجزء " ، تجاهلنا " اللبن " ، وأصبح اهتمامنا بـ " الكوب " فقط : من أي شيء صنع ؟!. وكيف شكله ؟!. وما هو المنقوش عليه ؟!. أخذنا نفكر : كيف كانت لحية النبي صلى الله عليه وسلـم ، وكم كان طولها ، وبأي قدم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الحجرة ، وبأي يد كان يمسك بالإناء عندما يشرب الماء ، وماذا كان صلى الله عليه وسلم يلبس .
لقـد تغاضينـا عن " اللبن " ، وأعطينـا الأهميـة لـ " الكـوب " ، تغاضينا عن " الشخصية والسلوك " ، وأعطينا الأهمية لـ " الشكل الجسماني " ، وأطلقنا على هذا الاهتمام بالجزء اسم " السنة " .
معذرة :
سادتي ، أرجو منكم المعذرة ، فإن هذه المقـالات التي أقدمهـا إلى حضـراتكم بعنوان " بحث " ليس لها أهمية من الناحية العلمية ، والحمد لله أنني لست عالماً ، صحيح أن القرآن أكد مراراً على تحصيل العلم ، لكنه قرن ذلك بشرط ، وهو أن نحصّل العلم ، وفي نفس الوقت لا نفلت ذيل التواضع من أيدينا .
سادتي ، العلم يولّد التفاخر ، ويلقي بالإنسان فيما يعرف بالـ " أنا " ، والحكماء يقولون : الأسياد وحوش " (21) ، وانظروا إلى علماء الدين لدينا ، انظروا إلى الأساتذة في المعاهد العلمية ، إنني كلما رأيتهم تذكرت تلك الطفلة التي تأتي في إعلانات التلفزيون تشرح للأطفال كيف ينظّفون أسنانهم ، وفي نهاية شرحها تقول : هل فهمتم ؟!. برافو .
ومقـالاتي هذه لا تحمل أهمية فلسفية أو فكرية ، والحمد لله أنني لست مفكراً ولا فيلسوفاً ، فأنا لا أزال أتخبّط في بحثي ، لا علم لي بالهدف ، أو بالطريق إليه .
نصيحة :
كما أن كتاباتي هذه لا تحتل مكانة النصيحة ، إذ بماذا أنصح أنا ؟!!. فأنـا نفسي أكلت " كيزان العسل " (22) ، فكيف أقـول " أنا لم أفعل ، وحذار أن تفعل أنت " (23) ، ولقد نصحني مرشدي نصيحة واحدة فقال : يا " مفتي " ، خذ نصيحتي هذه ، واجعلها حلقة في أذنك ، ونصيحتي هي ألاّ تنصح أحداً أبداً ، فالنصيحة ليست كلاماً يخرج من فمنا ، إنما النصيحة عمل نفعله ، فإذا كانت النصيحة كلاماً من الفم دار المغزل عكس ما ينبغي أن يدور ، وتولّد ردّ فعل معاكس .
وبمناسبة الكلام عن النصيحة تحضرني قصة أعتبرها من أعظم قصص الدنيا ، والقصة تقول أنه كان هناك دكان لأحد الذين يعملون بالحكمة (24) ، وكان الوقت وقت المساء ، وحدث أن ترك الحكيم " برطمان " عسل النحل دون أن يحكم غطاءه قبل أن يغلق الدكان ، فجاءت ذبابة وحطّت على " البرطمان " ، ثم تسللت من الغطاء إلى داخل " البرطمان " ، وأخذت تلعق العسل بنهم .
وحين شبعت الذبابة ، أرادت أن تطير ، لكنها لم تستطع ، لأن قدميها غاصتا في العسل والتصقتا به ، وظلت الذبابة تحاول تخليص قدميها من العسل لفترة طويلة ، وأخيراً نجحت الذبابة في تخليص قدميها ، لكنها كانت قد تعبت ، فجلست لتستريح .
وفي تلك الأثناء تسللت إلى الدكان فراشة ، وظلت تنظر إلى الذبابة . وبعد فترة تقدمت الذبابة ناحية العسل مرة أخرى ، فقالت الفراشة : يا سيدتي ، منذ قليل خرجت من العسل بصعوبة بالغة ، والآن تتقدمين إليه مرة أخرى !!!. كوني عاقلة يا سيدتي ولا تفعلي ، لماذا تلقين بنفسك إلى التهلكة !!. فخجلت الذبابة مما قالته الفراشة وتراجعت عما أرادت .
وبعد قليل جاء خادم الحكيم ومعه مصباح أضاءه ، ووضعه في الدكان ، ثم عاد من حيث جاء ، فلما رأت الفراشة المصباح أخذت تطوف حوله بجنون ، وفي لحظات أصابتها نار المصباح ، فاحترقت وسقطت على الأرض ، عندئذ ابتسمت الذبابة قائلة : ها هي الفراشة التي كانت توجّه إليّ النصيحة ، وتعلمني التعقل .
أيها السادة ، إنني في الحقيقة أتحدث إليكم من وراء كتاباتي هذه ، حديث عن جمال المحبوب " الله " ، وعن سوء فهمي ، وسوء تصرفاتي ، وتفكيري المتخبط ، وقصص حقيقية سمعتها .
عندما بدأ الإنجليز البث الإذاعي في شبه القارة الهندية ، أدخلوا ضمن برامجه برنامجاً بعنوان " تحدّث " ، ومثل هذا البرنامج " تحدّث " لم ينجح في إذاعاتنا ، لأن المذيع يعطيه شكل التقرير الإذاعي ، أو شكل خطبة دينية ، أو شكل مقال جاد ، ومقالاتي هذه في الحقيقة ليست إلاّ نوعاً من " التحدّث " . لقد قدمت إليكـم عـام 1975م رحلـة الحـج التي قمت بها بعنوان " لبيك " ، وما أن نشرت " لبيك " هذه حتى توالت خطابات القراء ، إلى أن وصلت إلى ألفي خطاب تقريباً ، والمدهش أن مضمون معظم هذه الخطابات كان واحداً . قالوا إن الآراء والتصورات التي أبديتها حول هذا الموضوع في كتابك " لبيك " تكاد تتطابق تماماً مع آرائنا وتصوراتنا حوله ، وكأنك لم تفعل سوى أن صغت آرائنا في شكل جمل وألفاظ ، وأخرجتها في كتاب أسميته " لبيك " ، والآن وأنا أكتب هذا الكتاب " بحث " أشعر أحياناً وكأني أصوغ أفكاركم وتصوراتكم أنتم .

هوامش
20 - ومن ثقافة الإسلام أيضاً إطعام الطعام وإكرام الضيف .
21 - تعبير باللغة الإنجليزية " Masters are monsters " .
22 - سبق أن استخدم الكاتب هذا التعبير في ثنايا ما سبق رمزاً لمن يحلّل شيئاً لنفسه ، ويحرّمه على الآخرين ، أي أنه قد اقترف مما لا يجوز محلّلاً إياه لنفسه مع علمه بعدم جوازه .
23 - هذا مثل بالفارسية ، وقد سبـق أن ترجمنا مثلما هو مثبت بالمتن ، ويضرب لمن ينصح بعمل ولا يقوم هو به . " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " البقرة : 44 .
24 - المعالجون بالحكمة والأعشاب فيما كان قديماً .

إبراهيم محمد إبراهيم
15/11/2007, 07:24 AM
الجزء الثاني من الباب السابع
( كوب اللبن )
أهمية مكة :
في تلك الفترة كان يعيش بمكة رؤساء القبائل المختلفة وسادتها ، وكانت " مكة " عبارة عن معبد للأصنام ، فيها أصنام خاصة بكل قبيلة ، ومن هنا كانت " مكة " بمثابة المركز الديني المقدس ، وكانت أهمية سادة القبائل مستمدة من أهمية أصنام آلهتهم .
كان الناس يفدون إلى " مكة " من أماكن بعيـدة ، يعبدون أصنامهم ، ويؤدون طقوسهم ، ويقيمون فيها ، يبيعون ويشترون ، وهكذا تحولت مكة إلى مركز للتجارة . ثم إن هناك أمراً آخر وهو أنه لم يكن هناك طريق يؤدي إلى مناطق شبه الجزيرة العربية إلاّ طريق واحد يمرّ بالقرب من مكة ، ولهذا كانت القوافل التجارية تجتمع بمكة قبل بداية رحلتها ، تمكث فيها لفترة ، وبالتالي ازدادت الأهمية التجارية لـ " مكة " .
شخصية النبي صلى الله عليه وسلم :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الكلام ، ولم يكن يهوى الاختلاط ، وإنما كان يميل إلى الاختلاء والوحدة ، ولم يكن غنياً ، وكان يرعى الغنم ، وكان أهل مكة يجلّونه ويحترمونه بسبب سلوكه وأخلاقه ، ولقّبوه بـ " الأمين " . الجميع يعترف بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكذب أبداً ، ولم ينافق أبداً . ثم عمل صلى الله عليه وسلم بالتجارة ، واشتهرت أمانته في معاملاته التجارية ، وأغلب الظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الوحيد بين أهل مكة الذي احترمه الآخرون بسبب صدقه وأمانته ، وفي مثل هذه الأحوال يمكن أن نقول بكل ثقة واطمئنان أنه عندما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم نبوته ، أيقن أهل مكة بصدقه من داخلهم ، فلماذا أصبحوا أعداءاً له إذاً ؟. والإجابة ستكون أنهم إن حطموا أصنـامهم انتهت معها أهميتهم وسلطتهم ، وتراجعت معها المكانة الاقتصادية لـ " مكة " ، ولهذا خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم ، حفاظاً على مكانتهم ومكانة مدينتهم .
الجزء والكل :
أيها السادة ، كلما فكرت في رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثّلت في ذهني صورة لإنسان عظيم ، لا لمسئول أو صاحب منصب ، صورة إنسان . ذات يوم سألت " قدرت الله شهاب " قائلاً : أخبرني ، أي العبادات أفضل ؟. فقال : أفضل العبادات أن تعيش " محمداً " . قلت : ولكن كيف ؟. قال : ضع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تحت وسادتك ، واقرأ جزءاً منها كل يوم ، ثم تخيل كيف كانت أحاسيس النبي صلى الله عليه وسلم وعواطفه في تلك الفترة ، وبعدما تعرف عواطفه صلى الله عليه وسلم تمام المعرفة ، عليك أن تسأل نفسك كلما قابلك موقف ما : ماذا يكون ردّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف .
ولقد تبنينا هذا المبدأ العظيم " عش محمداً " إلى درجة أننا تركنا " الكل " ، وأصبح تركيزنا على " الجزء " ، تجاهلنا " اللبن " ، وأصبح اهتمامنا بـ " الكوب " فقط : من أي شيء صنع ؟!. وكيف شكله ؟!. وما هو المنقوش عليه ؟!. أخذنا نفكر : كيف كانت لحية النبي صلى الله عليه وسلـم ، وكم كان طولها ، وبأي قدم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الحجرة ، وبأي يد كان يمسك بالإناء عندما يشرب الماء ، وماذا كان صلى الله عليه وسلم يلبس .
لقـد تغاضينـا عن " اللبن " ، وأعطينـا الأهميـة لـ " الكـوب " ، تغاضينا عن " الشخصية والسلوك " ، وأعطينا الأهمية لـ " الشكل الجسماني " ، وأطلقنا على هذا الاهتمام بالجزء اسم " السنة " .
معذرة :
سادتي ، أرجو منكم المعذرة ، فإن هذه المقـالات التي أقدمهـا إلى حضـراتكم بعنوان " بحث " ليس لها أهمية من الناحية العلمية ، والحمد لله أنني لست عالماً ، صحيح أن القرآن أكد مراراً على تحصيل العلم ، لكنه قرن ذلك بشرط ، وهو أن نحصّل العلم ، وفي نفس الوقت لا نفلت ذيل التواضع من أيدينا .
سادتي ، العلم يولّد التفاخر ، ويلقي بالإنسان فيما يعرف بالـ " أنا " ، والحكماء يقولون : الأسياد وحوش " (21) ، وانظروا إلى علماء الدين لدينا ، انظروا إلى الأساتذة في المعاهد العلمية ، إنني كلما رأيتهم تذكرت تلك الطفلة التي تأتي في إعلانات التلفزيون تشرح للأطفال كيف ينظّفون أسنانهم ، وفي نهاية شرحها تقول : هل فهمتم ؟!. برافو .
ومقـالاتي هذه لا تحمل أهمية فلسفية أو فكرية ، والحمد لله أنني لست مفكراً ولا فيلسوفاً ، فأنا لا أزال أتخبّط في بحثي ، لا علم لي بالهدف ، أو بالطريق إليه .
نصيحة :
كما أن كتاباتي هذه لا تحتل مكانة النصيحة ، إذ بماذا أنصح أنا ؟!!. فأنـا نفسي أكلت " كيزان العسل " (22) ، فكيف أقـول " أنا لم أفعل ، وحذار أن تفعل أنت " (23) ، ولقد نصحني مرشدي نصيحة واحدة فقال : يا " مفتي " ، خذ نصيحتي هذه ، واجعلها حلقة في أذنك ، ونصيحتي هي ألاّ تنصح أحداً أبداً ، فالنصيحة ليست كلاماً يخرج من فمنا ، إنما النصيحة عمل نفعله ، فإذا كانت النصيحة كلاماً من الفم دار المغزل عكس ما ينبغي أن يدور ، وتولّد ردّ فعل معاكس .
وبمناسبة الكلام عن النصيحة تحضرني قصة أعتبرها من أعظم قصص الدنيا ، والقصة تقول أنه كان هناك دكان لأحد الذين يعملون بالحكمة (24) ، وكان الوقت وقت المساء ، وحدث أن ترك الحكيم " برطمان " عسل النحل دون أن يحكم غطاءه قبل أن يغلق الدكان ، فجاءت ذبابة وحطّت على " البرطمان " ، ثم تسللت من الغطاء إلى داخل " البرطمان " ، وأخذت تلعق العسل بنهم .
وحين شبعت الذبابة ، أرادت أن تطير ، لكنها لم تستطع ، لأن قدميها غاصتا في العسل والتصقتا به ، وظلت الذبابة تحاول تخليص قدميها من العسل لفترة طويلة ، وأخيراً نجحت الذبابة في تخليص قدميها ، لكنها كانت قد تعبت ، فجلست لتستريح .
وفي تلك الأثناء تسللت إلى الدكان فراشة ، وظلت تنظر إلى الذبابة . وبعد فترة تقدمت الذبابة ناحية العسل مرة أخرى ، فقالت الفراشة : يا سيدتي ، منذ قليل خرجت من العسل بصعوبة بالغة ، والآن تتقدمين إليه مرة أخرى !!!. كوني عاقلة يا سيدتي ولا تفعلي ، لماذا تلقين بنفسك إلى التهلكة !!. فخجلت الذبابة مما قالته الفراشة وتراجعت عما أرادت .
وبعد قليل جاء خادم الحكيم ومعه مصباح أضاءه ، ووضعه في الدكان ، ثم عاد من حيث جاء ، فلما رأت الفراشة المصباح أخذت تطوف حوله بجنون ، وفي لحظات أصابتها نار المصباح ، فاحترقت وسقطت على الأرض ، عندئذ ابتسمت الذبابة قائلة : ها هي الفراشة التي كانت توجّه إليّ النصيحة ، وتعلمني التعقل .
أيها السادة ، إنني في الحقيقة أتحدث إليكم من وراء كتاباتي هذه ، حديث عن جمال المحبوب " الله " ، وعن سوء فهمي ، وسوء تصرفاتي ، وتفكيري المتخبط ، وقصص حقيقية سمعتها .
عندما بدأ الإنجليز البث الإذاعي في شبه القارة الهندية ، أدخلوا ضمن برامجه برنامجاً بعنوان " تحدّث " ، ومثل هذا البرنامج " تحدّث " لم ينجح في إذاعاتنا ، لأن المذيع يعطيه شكل التقرير الإذاعي ، أو شكل خطبة دينية ، أو شكل مقال جاد ، ومقالاتي هذه في الحقيقة ليست إلاّ نوعاً من " التحدّث " . لقد قدمت إليكـم عـام 1975م رحلـة الحـج التي قمت بها بعنوان " لبيك " ، وما أن نشرت " لبيك " هذه حتى توالت خطابات القراء ، إلى أن وصلت إلى ألفي خطاب تقريباً ، والمدهش أن مضمون معظم هذه الخطابات كان واحداً . قالوا إن الآراء والتصورات التي أبديتها حول هذا الموضوع في كتابك " لبيك " تكاد تتطابق تماماً مع آرائنا وتصوراتنا حوله ، وكأنك لم تفعل سوى أن صغت آرائنا في شكل جمل وألفاظ ، وأخرجتها في كتاب أسميته " لبيك " ، والآن وأنا أكتب هذا الكتاب " بحث " أشعر أحياناً وكأني أصوغ أفكاركم وتصوراتكم أنتم .

هوامش
20 - ومن ثقافة الإسلام أيضاً إطعام الطعام وإكرام الضيف .
21 - تعبير باللغة الإنجليزية " Masters are monsters " .
22 - سبق أن استخدم الكاتب هذا التعبير في ثنايا ما سبق رمزاً لمن يحلّل شيئاً لنفسه ، ويحرّمه على الآخرين ، أي أنه قد اقترف مما لا يجوز محلّلاً إياه لنفسه مع علمه بعدم جوازه .
23 - هذا مثل بالفارسية ، وقد سبـق أن ترجمنا مثلما هو مثبت بالمتن ، ويضرب لمن ينصح بعمل ولا يقوم هو به . " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " البقرة : 44 .
24 - المعالجون بالحكمة والأعشاب فيما كان قديماً .