المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب السادس (شيخ مريد بور)من(مقالات بطرس)للأديب الباكستاني (بطرس بخاري)



إبراهيم محمد إبراهيم
15/11/2007, 08:17 AM
الباب السادس
شيخ " مريد بور "
كثيراً ما يتعجب البعض من أنني لا أذكر مسقط رأسي أبداً ، والبعض الآخر يقع في حيرة من أنني لا أزور بلدتي أبداً ، وعندما يسألني الناس عن السبب في هذا أماطلهم في الإجابة دائماً ، مما يزرع فيهم شكوكاً عديدة ، فيقول أحدهم : إنّه مُتّهمٌ في إحدى القضايا هناك ، وهو لهذا يعيش متخفياً . ويقول آخر : لقد كان موظفاً في بلدته ، واتُّهم في قضية اختلاس ، فهاجر منها . ويقول ثالث : لقد طرده والده من البيت بسبب تصرفاته المشينة . المهم كثُر الكلام بكثرة قائليه ، وأنا اليوم سأصحح هذا الفهم الخاطئ ، وأدعو الله أن يوفقكم أيها القراء إلى الإنصاف في الحكم .
القصة تبدأ من ابن أخي ، فابن أخي هذا يبدو في الظاهر كأيّ ابن أخ عاديّ ، وقد أخذ عني كل ميزاتي ، إضافة إلى بعض الصفات الأخرى التي اكتسبها باعتباره من جيل مختلف ، ولكن ظهرت فيه صفة لم تظهر أبداً في أحد من عائلتي حتى اليوم بهذه الحدّة ، وهي احترام الكبار !. أما أنا فأمثّل إله العلم والفن في نظره !!. كيف تسلل هذا الخبل إلى دماغه ؟!. ربما يكون السبب في هذا أن مثل هذا الأمر يحدث في أعظم العائلات ، فلقد رأيت بنفسي أبناء كبار العلماء يحترمون الكبار لدرجة تظن معها أنهم من عائلات محتقرة !!.
في سنة من السنين شاركت في أحد اجتماعات " حزب المؤتمر " (1) ، وإن شئت الحق فإن اجتماع الحزب هو الذي جاء إليّ ، بمعنى أن أعضاءه قرروا عقد جلستهم السنوية في نفس المدينة التي كنت أعيش بها . لقد أعلنت سابقاً في أكثر من مناسبة ، وما زلت حتى الآن مستعداً للإعلان بأعلى صوتي أنه لم يكن لي ذنب فيما حدث . قد يظن البعض أنني عملت على أن يعقد هذا الاجتماع عندي إرضاءً لغروري ، لكن هذا في الحقيقة طبيعة الحسّاد ليس إلاّ . لقد استقدمت فرق المهرجين كثيراً إلى المدينة ، بل وجّهتُ الدعوة إلى بعض الفرق المسرحية عدة مرات ، لكن اهتمامي فيا يخص " حزب المؤتمر " ظل فقط في حدود المواطن العادي الذي يعيش في الظل ، ولن أطيل في هذا الموضوع كثيراً . وعندما تكون الجلسة السنوية لـ " حزب المؤتمر " منعقدة على بُعد عدة أقدام ، فمن ذلك التّقيّ الذي يتجنب الاشتراك فيها !!... لقد كان ذلك أيام الإجازات ، والوقت موجود ، ولهذا فقد سمعت كل الخُطب التي أُلقيت في هذه الجلسة خطبة خطبة على سبيل تمضية وقت الفراغ ... كنت أبقى في الجلسة اليوم بطوله ، وفي الليل أعود إلى البيت ، وأكتب موجزاً لأحداث اليوم كله ، ثم أُرسلها إلى ابن أخي باعتبارهـا وثيقة يمكن الانتفاع بها وقت الحاجة !!.
وعلمت مما حدث فيما بعد أن ابن أخي كان يفتح خطاباتي هذه بكل أدب واحترام ، بل بدا من بعض ما سمعت أنه كان يتوضأ بانتظام قبل أن يؤدي مراسم افتتاح الخطابات ... يقرأها لنفسه أولاً ... ثم يقرأها لأصدقائه ... وبعدها ينضم إلى بعض الحمقى في مكتب وكيل إحدى الجرائد المحلية ، ويُضخّم في محتوى الخطابات ويبالغ فيه ، ثم يسلمها لأحد المحررين الأكثر محليّة من جريدته ، فيقوم هو الآخر بنشرها وباهتمام واضح . وكان اسم هذه الجريدة هو " جريدة مريد بور " (2) ، ولا يوجد لها ملفّ كامل عند أحد ، إذ كانت تصدر لمدة شهرين ثم تتوقف بسبب بعض المصاعب المالية . أما رئيس تحريرها فيتسم بالآتي : لونٌ قمحيٌ ، وكلامٌ فلسفيٌ ، وشكلٌ كاللصوص ، ونرجو ممن يستطيع التوصل إلى عنوانـه الاتصـال بمكتب " لجنة الخلافة " (3) بـ " مريد بور " وله الأجر والثواب عند الله ، كما نرجو ألاّ يقدم إليه أيّ نوع من التبرعات ، وإلاّ فإن " لجنة الخلافة " غير مسئولة عما يحدث .
كما سمعت أن هذه الجريدة قد أصدرت عدداً خاصاً بـ " حزب المؤتمر " معتمدة على خطاباتي ، ونشرتها بأعداد كبيرة لدرجة أن بعضها لا يزال يُرى في محلاّت البقالة . على أية حال فإن أطفال " مريد بور " قد أثنوا على كفاءتي وأسلوب كتاباتي وقوة تفكيري وحماسي الوطني ، وتمّ تنصيبي – وبدون علمي – بطلاً قومياً لـ " مريد بور " ، بل إن شاعرين من الشعراء قد نظمـا قصيدتين في شأني طُبِعتا مرات عديدة في جريدة " مريد بور " .
لم يكن لديّ أدنى فكرة عن هذا التكريم لي – فعلاً يُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء – لم أكن أدري أنني صنعت لنفسي مكاناً في قلوب أبناء بلدتي ببعض الخطابات القليلة التي أرسلتها لابن أخي ، ولم يكن يدري أحد أن هذا الشخص العادي الذي يمر كل يوم من السوق محنيّ الرأس سيحظى بهذه المكانة في " مريد بور " . لقد نسيت بالتأكيد " حزب المؤتمـر " وكل ما يتعلـق بـ " حزب المؤتمر " بعـد كتابـة الخطـابات ، ولم أكن من الذين يشترون جريدة " مريد بور " ، ولم يجرؤ ابن أخي – بدافع من الاحترام – على إطلاعي بأنني أصبحت بطلاً ولو على سبيل العلم بالشيء ... أعـرف أنه لو كان قد أطلعني على ذلك فما كنت لأفهم ما يقول لسنوات عديدة ، لكن على الأقل كنت سأعرف إلى أي مدى وصلت في تطوري وارتقائي .
وبعد فترة بدأت المظاهرات تخرج في أنحاء متفرقة من البلاد بسبب الصراع المسلح (4) ، وكل من استطاع الحصـول على " كرسي ومنضدة وزهرية " أعلن عن خروج مظاهرة ، وفي فصل المظاهرات هذا وصلني خطاب من " جمعية شباب الهند بمريد بور " مضمونه أن " أهل مدينة مريد بور يتشوقون للقائك ، وينتظرون بفارغ الصبر فرصة إلقاء نظرة على وجهك المنير ، والاستفادة من أفكارك النزيهة . ورغم أن البلاد كلها في حاجة إلى ذاتك المباركة ، لكن مسقط رأسك أولى ، لأنه كما قال الشاعر :
" أشواك الوطن أفضل من السنبل والريحان "
وهكذا بعد الاستشهاد بعدد من الأدلة المماثلة طُلِب مني الحضور لأُعلِّم الناس درساً في الوحدة بين المسلمين والهندوس (5) .
لقد أصابتني دهشة عظيمة بعد قراءة هذا الخطاب ، ولكن حين فكرت في الموضوع بهدوء اقتنعت تدريجياً بموهبة أهل " مريد بور " في معرفة الرجال ، فأنا إنسان ضعيف ، ثم إن نشوة " الزعامة " تسلطت عليّ فوراً ... بدأت أشعر بداخلي بحب شديد لوطني ، وأشفقت عليه كثيراً من لامبالاة أبنائه ... صوت من داخلي هتف بي : أنت الآن بالذات المسئول عن قيادة ورفاهية هؤلاء المساكين ، ولقد منحك الله قوة في التدبير والتفكير ، وهناك ألوف من البشر في انتظارك ، هيا انهض ، فهناك مئـات من النـاس ينتظرونك " بكل ما يملكون "،وهكذا قبلت دعوة " مريد بور " ، وأرسلت إليهم تلغرافاً بلهجة قيادية أُطلعهم فيه بموعد وصولي إلى " مريد بور " بعد خمسة عشر يوماً في أحد القطارات ، وطلبت منهم أن لا يستقبلني أحد على المحطة ، وأن على كل واحد منهم أن يشغل نفسه بعمله ، فالهند كلها في حاجة ماسة إلى العمل في هذه الأيام !!!.....
وكرّستُ كل لحظة من وقتي منذ ذلك الحين وحتى موعد الجلسة في إعداد الخطبة التي سألقيها في جموع الناس ، وأخذت أردّد فقرات مختلفة من الخطاب صباح مساء : الهندوس والمسلمون أخوة ... المسلمون والهندوس ممتزجون كالسكر واللبن ... الهند سيارة بإطارين ، وهذان الإطاران يا أصدقائي هما الهندوس والمسلمون ... إن الأمم التي اعتصمت بحبل الوحدة هي التي تمسك بزمام الحضارة الآن ... أما الذين اتخذوا من النفاق والاختلاف مبدءاً ومرجعاً فإن التاريخ قد أدار لهم ظهره ... وما شابه ذلك .
لقد قرأت في طفولتي في أحد الكتب الدراسية قصة بعنوان " سمعت أن هناك ثورين يعيشان معاً " ، بحثت عن هذه القصة وقرأتها مرة أخرى ، ودرست كل تفاصيلها ، ثم تذكرت أنني قرأت قصة أخرى عن شخص يستدعي أولاده عندما أشرف على الموت ، ووضع أمامهم حزمة من الخشب وقال لهم : حطموا هذه الحزمة من الخشب ، فلم يستطيعوا ، فقام بفكّ هذه الحزمة ، وأعطاهم إياها عوداً عوداً ، فحطموها بسهولة ، وبذلك أعطى هذا الرجل أبناءه درساً في الاتحاد ، أضفت هذه القصة أيضاً إلى خطبتي ، وفكرت كيف أبدأ الخطبة ، فرأيت أنه من المناسب أن أبدأها هكذا : -
أبناء وطني الأعزّاء :
إن سحب الإدبار تُظلّل الرؤوس ، والفقر يُظهر كراماته ، والنحس يطوف حولنا ... وصوت ينادي من كل جانب : ماذا كنتم بالأمس ، واليوم كيف أصبحتم ... كنتم متيقّظين ولتوّكم ، ثم نمتم من فوركم (6) .
إن الشاعر الهندي العظيم الشيخ " ألطاف حسين حالي " ، والذي كتب هذه الأشعار منذ سنوات مضت لم يكن يدري أن ألفاظه المؤلمة هذه بمرور الزمن تُثبت صحتها يوماً بعد يوم ... فهذه هي حال الهند اليوم ... وهكذا .
ثم فكرت بعد ذلك أن أرسم خريطة للحال البائسة للهند ، وأشير إلى الإفلاس والفقر والحقد وغيرها ، ثم أتساءل : ما السبب في كل هذا ؟!. وأذكر كل الأسباب التي اعتاد الناس أن يذكروها إجابة لهذا السؤال ، فمثلاً : الحكومة الأجنبية ... الطقس ... الحضارة الغربية ... لكني سأؤكد خطأ كل هذه الأسباب ، وسأذكر السبب الأصلي وهو النفاق الذي أصاب المسلمين والهندوس على السواء ، وفي النهاية أنصح بالاتحاد ، ثم أختم خطبتي بالأشعار التالية :
أقْبِل أيها العندليب لننوح سويّاً
تنعى أنت الوردة ، وأنعى أنا القلب
وبعد تفكير متواصل استغرق أياماً عديدة وضعت تصوراً للخطبة ، وكتبت هذا التصور على ورقة حتى أضعها أمامي أثناء الجلسة ، وكان التصور الذي وضعته تقريباً كالتالي :
1 – تمهيد : أشعار ألطاف حسين حالي ( نقرأ بصوت مرتفع ) .
2 – الوضع الراهن في الهند : -
أ – الإفلاس .
ب – الحقد والكراهية .
3 – أنانية زعماء الأمة .
3 – الأسباب : -
أ – هل الحكومة الأجنبية ؟!. كلاّ .
ب – هل هو الطقس ؟!. كلاّ .
ج – هل هو المدنية الغربية ؟!. كلاّ .
د – فما هو السبب إذاً ؟!. ( وقفة بسيطة أمرّ خلالها ببصري على وجه الحاضرين جميعاً وعلى وجهي ابتسامة ) .
4 – ثم أوضّح أن السبب هو نفاق الهندوس والمسلمين ( أتوقّفُ لأعطي فرصة للهتافات ) ، ثم أقدّم تصوراً للصراع وما شابه ذلك بصوت يبعث على الأسى ، وبعدها ربما ترتفع بعض الهتافات فأتوقف لأجلها .
5 – الخاتمة : نصائح عامة ، والتركيز على الاتحاد خصوصاً ( شعر ) ، وبعدها أعود لأجلس على الكرسي بكل تواضع ، وأردّ على إعجاب الحاضرين بتحيتهم بين الفينة والفينة .
ومنذ إعداد هذا التصور وحتى اليوم الذي ستعقد فيه الجلسة كنت ألقي على الخطبة نظرة كل يوم ، وأقف أمـام المرآة أتدرب على بعض فقراتها المؤثرة ، وتدرّبت كثيراً على الابتسامة التي تأتي بعد رقم ( 3 ) في التصور السابق ، وعوّدت نفسي على التمايل يمنة ويسرة في الوضع واقفاً حتى يصل صوتي أثناء الخطبة إلى كل مكان في الجلسة ، ويستطيع الحضور بسهولة ويسر الاستماع إلى كل لفظة أنطق بها .
استغرق السفر إلى " مريد بور " ثمان ساعات ، وكان عليّ أن أغير القطار في الطريق عند محطة " سانكا " ، وكان في استقبالي على المحطة بعض الشباب المتحمسين من " جمعية شباب الهند " قاموا بتطويق عنقي بعقـود الورد ، وقدموا إليّ بعض الفاكهـة والمرطبـات . وقطعت المسافة من " سانكا " إلى " مريد بور " في نقاش حول أدقّ القضايا السياسيـة ، وعندما وصل القطار إلى " مريد بور " كان هنـاك أكثر من ثلاثة آلاف فرد في استقبالي خارج المحطة ، وكانوا يهتفون بلا توقف . عندهـا قال أحد المتطوعين الذين كانوا معي : الناس يريدون رؤيتك ، فلتُطِلّ برأسك من الشباك . نفذت ما قال . كانت عقود الورد لا تزال معلقة في رقبتي ، وفي يدي برتقالة ، فلما رآني الناس هكذا زاد هتافهم وحماسهم ، وبصعـوبة شديدة شققتُ طريقي وسطهم ، ثم أركبوني في سيارة ، واتجهنا إلى مقر الجلسة .
وعندما دخلت مقر الجلسة كان عدد الحضور يتجاوز الخمسة أو الستة آلاف هتفوا باسمي في صوت واحد ، وكانت هناك أعلام ولافتات حمراء في كل جانب كُتِبتْ عليها بعض الكلمات في مدحي مثل :
خلاص الهند في يديك ........
مرحباً بابن " مريد بور " ...
الهند في أمسّ الحاجة إلى العمل في الوقت الراهن ...
وغيرها ... واستُدعيت إلى المنصة ... وصافحت رئيس الجلسة مرة أخرى أمام الحاضرين ، وقبّل يدي ، ثم بدأ كلمته الافتتاحية كالتالي :
حضرات السادة ، إن الزعيم الهندي ذائع الصيت والذي وُجِّهتْ الدعوة إليه ليخطب فيكم ...
عندما سمعت لفظ " يخطب " حاولت أن أتذكر الفقرات التمهيدية في خطبتي ، ولكن ذهني في ذلك الوقت كان يموج بانفعالات متباينة بحيث شعرت أنني بحاجة إلى مراجعة ورقة التصور التي كتبتها ... ودسست يدي في جيبي فلم أجد الورقة ... فأحسستُ عندئذ ببرودة خفيفة تسري في أوصالي فجأة ... طمأنت قلبي قائلاً : لا تضطرب ، فإني لا بد سأجدها في جيب آخر ، وفتشت جميع جيوبي وأنا أرتعش ، ولكني لم أجد الورقة ... وبدأت القاعة كلها تتأرجح أمام عيوني ، وبدأ قلبي يدق بشدة ، وشعرت بأن شفتيّ قد يبستا ، فتحسست جيوبي مرة بعد أخرى ، ومع ذلك لم أعثر على شيء ... وددت وقتها أن أبكي بشدة ، وأخذت أقضم شفتي في حالة من العجز وقلة الحيلة ، وكان رئيس الجلسة لا يزال يلقي كلمته : -
" ...إن مدينة " مير بور " مهما افتخرت بسيادته فلن توفيه حقه ، ففي كل بلدة ، وفي كل عصر نقابل قليلاً من الرجال الذين يُعدُّون لبني الإنسان جميعاً ..... " .
ماذا أفعل الآن يا إلهي ؟!. أظن أنني لا بد أن أقدم في البداية وصفاً تفصيلياً للوضع الراهن في الهند ... كلاّ كلاّ ... عليّ أن أثبت لهم إلى أي مدى نحن لسنا على قدر المسئولية ... إن جملة " لسنا على قدر المسئولية " ستكون غير مناسبة ... الأفضل أن أقول : جهلاء ... وهذه أيضاً غير مناسبة ، بل غير مهذبة .
" ... ومن منا لا يعرف عن إلمام سيادته الواسع بالسياسة وحماسه الوطني وتعاطفه المخلص . بالطبع أنتم جميعاً تعرفون كل هذا عنه ، ولكن موهبته في الخطابة ... " .
تُرى من أين أبدأ خطبتي ... من الحديث عن الوحدة بين الهندوس والمسلمين ... ببعض النصائح ... ولكن النصائح هذه تكون في النهاية ... أين موضع الابتسامة في منتصف الخطبة ؟!.
" ..... إنني أؤكد لحضراتكم أن سيادته سيهز قلوبكم هزّاً ، وسيبكيكم بدل الدموع دماً ... " .
وغطت الهتافات على صـوت رئيس الجلسة ، وبدأت الدنيا تظلم أمام عينيّ ... وفي تلك الأثناء وجّه رئيس الجلسة حديثه إليّ ، ولكني لم أسمع من ألفاظه شيئاً ... شعرت بالكاد أن موعد إلقاء خطبتي قد حان ، وعليّ أن أنهض من مقعدي ... وهكذا نهضت بتأثير قوة خفية ... ترنحتُ قليلاً ، ثم تمالكت نفسي . كانت يدي ترتعش ، والضجيج يملأ القاعة ... كنت على وشك السقـوط مغشيّاً عليّ ، وكان دويّ الهتافات يبدو لي كصوت الأمواج التي تمرّ من فوق رأس غريق ... من أين أبدأ خطبتي ؟!. ... سأتحدث عن أنانية رجال السياسة ... وماذا أيضاً ؟!.. كانت هناك قصة في الخطبة ... قصة البجعة والثعلب ؟!... كلاّ كلاّ ... حسنٌ حسنٌ ... قصة الثورين ...
في تلك الأثناء عمّ الصمت القاعة بأكملها ... كان الجميع مصوّبين أنظارهم ناحيتي ... أغلقت عيني ... وأمسكت بالكرسي لأستند إليه ... كانت يدي الأخرى ترتعش ، فوضعتها هي الأخرى فوق الكرسي ... شعرت وقتها بأن المنضدة على وشك الهروب من أمامي ... وجفّ حلقي ... وبصعوبة شديدة قلت :
أيها المواطنون الأعزّاء ...
خرج صوتي على غير المتوقع ضعيفاً وكأنه مُنحنياً ... فضحك بعض الموجودين ... عندئذ سعلت لأنظف حلقي ، فضحك مزيد من الحضور ... استجمعت شجاعتي ، وبدأت أتحدث بصوت مرتفع . ولأنني ضغطتُ فجأة على رئتي ، فقد خرج صوتي غاية في الارتفاع والشدة مما جعل الحاضرين ينفجرون ضحكاً . وبعد أن توقف الضحك قلت :
أيها المواطنون الأعزاء ...
ثم التقطت أنفاسي وقلت :
أيها المواطنون الأعزاء ...
وعبثاً حاولت أن أتذكر ماذا أقول بعد ذلك ... كان هناك كلام كثير يدور في ذهني ، لكن لم يصل منه شيء إلى لساني ...
أيها المواطنون الأعزاء ...
وبدأت أتضايق من ضحكات الناس ، غضبت بشدة للإهانة التي شعرت بها ، قررت أن أقـول ما يأتي في ذهني حتى أبدأ الخطبة ، وبعدها لن تكون هناك مشكلة :
" ... أيها المواطنون الأعزاء ... يقول بعض الناس أن الطقس في الهند ليس طيباً ، بمعنى أن في الهند عيوباً ونقائص عدة.. ... هل فهمتم ؟! ( وقفة ) ... نقائص عـدة ... لكن هذا الكلام ، أو بمعنى آخر هذا الأمر الذي أشرت إليه ... ليس صحيحاً بالمرة ... ( قهقهة ) .
وبدأت حواسي تختل ، ولم أستطع التذكر كيف كان ترتيب الخطبة ؟!!!!. وفجأة تذكرت قصة الثورين ، وشعـرت بأن الطـريق صـار ممهداً بعض الشيء ...
" ... نعم ، حقيقة الأمر أنه كان هناك ثورين يعيشان معاً ، وكانا على الرغم من الحكومة الأجنبية والطقس السيئ ... ( قهقهات عالية ) .
وهنا شعرت أن كلامي يفتقد الربط ، فقلت : لا بأس ، فلأبدأ بقصة حزمة الخشب : -
" ... خذوا على سبيل المثال حزمة الخشب ، فالخشب غالباً غالي الثمن ، والسبب في ذلك أن في الهند فقراً مدقعاً ، ولأن أكثر السكان من الفقراء ، لهذا ... وكأن حزمة الخشب ... بمعنى أنه إذا نظرنا إلى ... ( قهقهة مرتفعة وطويلة ) .
" ... حضرات السادة ، إن لم تستعملوا عقولكم فسوف تفنى أمتّكًم ، فالنحس يحوم حولكم ( قهقهات وضجيج ) : أخرجوه من القاعة ... لا نريد أن نسمع ...
" ... يقول سعدي رحمه الله (7) :
كالذي خدع شعباً ذات مرة .
وارتفعت الأصوات ... ما هذا الذي يهذي به ...
" ... فلتتركوا هذا جانباً ، على أية حال ليس هناك شك في أن ...
أقبل أيها العندليب لننوح سوياً
تنعى أنت الوردة ، وأنعى أنا القلب .
زاد هذا البيت من الشعر من جريان الدم في العروق ، وارتفعت أصوات الحضور معه ، ولذا قلت في حماس شديد :
" ... إن حياة الأمم التي في قمة نهضتها تُعدُّ طريقاً يحتذيه البشر ، وحكوماتها تهز أركان العالم ... ( وزاد ضجيج الناس ) ... وهناك ضمادة من الأنانية على أذُنِ زعمائكم ، ويشهد تاريخ العالم على أن كل جوانب الحياة ...
ولكن قهقهات الموجودين وضجيجهم كان قد ارتفع إلى الحد الذي لم أعد أنا نفسي أسمع صوتي ، وهبّ كثير من الناس واقفين ، كانوا يقولون شيئاً بصوت مرتفع ... وفي خضمّ زحام الحضور استجمع شخصٌ شجاعته وقذفني بعلبة سجائر خالية ، وكأن هذه كانت القطرة الأولى للمطر ، فبعدها انطلقت عدة رصاصات ورقية ، وسقطت حولي على المنصة ، لكني واصلت خطبتي :
" ... حضرات السادة ... تذكّروا ، سوف يُقضى عليكم ...
أنتم مثل الثورين ...
ولكن عندما زاد وابل القذائف ناحيتي ، رأيت أنه من الأفضل أن أعتزل هذا الجمع اللامعقول ، وقفزت من على المنصـة ، ووصـلت إلى الباب في خطوة واحدة ... كانت الجموع تلاحقني ، ولم أنظـر خلفي ، بل واصلت عدْوِي ... كانت بعض الألفاظ الجارحة تصل إلى مسامعي من وقت لآخر ، فكنت أزيد في سرعتي كلما سمعتها .
واتجهت مباشرة إلى محطة القطار ... كان هناك قطار منتظراً على أحد الأرصفة ، فتسللت إليه بسرعة ، وبعد لحظة تحرك القطار ...
ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم لم تصلني دعوة من " مريد بور " ، ولم أتمنّى أنا نفسي زيارتها أبداً .


هوامش


1 - حزب المؤتمر هو الحزب الذي أسسه الهنود عام 1885م بينما كانت شبه القارة الهندو باكستانية محتلة من قِبلِ الإنجليز ، وكان الهدف الذي تأسس عليه هذا الحزب هو أن يكون وسيلة لرفع مطالب الهنود جميعاً – مسلمين وغير مسلمين – إلى الحكومة الإنجليزية ، ولكن هذا لم يحدث على أرض الواقع ، وإنما انحاز الحزب إلى جانب الهندوس ، وتجاهل مطالب المسلمـين مما دفعهم إلى تأسيس حزب خاص بهم هو حزب الرابطة الإسلامية عام 1906م .
2 - مدينة صغيرة ، وبالتالي فإن الجريدة التي تصدر باسم مدينة محلية صغيرة ستكون محلية بنفس القدر . وكما هو واضح فإن هذه المدينة هي مسقط رأس الشخصية محل الحديث هنا .
3 - وهي لجنة كان منوط بها جمع التبرعات تأييداً للخلافة العثمانية التي تم إلغاؤها عام 1924م في عهد " كمال أتاتورك " ، وذلك ضمن حركة عرفت بـ " حركة الخلافة " استمرت من عام 1919م وحتى عام 1923م .
4 - الصراع المسلح بين المسلمين والهندوس ، والذي ظهر على السطح بتخطيط من الإحتلال الإنجليزي ، وراح ضحيته الألوف من الجانبين ، ولذا كان قيام باكستان عام 1947م كوطن للمسلمين بمثابة الحل الوحيد لحماية مسلمي شبه القارة الهندو باكستانية – وهم أقلية ، وإن كانت أقلية كبيرة – قياساً بالأغلبية الهندوسية التي يدعمها الاحتلال البريطاني .
5 - كان هناك عدد من الزعماء – مسلمين وغير مسلمين – يدعون إلى الوحدة الوطنية بين المسلمين والهندوس ليعيشوا في ظل وطن واحد هو الهند الأم ، ومن بين هؤلاء كان مؤسس باكستان وقائدها الكبير " محمد علي جناح : توفي في 11 / 9 / 1948م " الذي اعتقد في بداية الأمر بإمكانية هذا التعايش ، إلاّ أن التعصب الهندوسي ضد كل ما يمُتُّ إلى الإسلام بصلة حطّم هذا الأمل وقضى عليه .
6 من شعر ألطاف حسين حـالي شاعر الأردية الكبير الذي دعا إلى ثورة في الشعر الأردي ، ومن أشهر ما كتب " مقدمه شعر وشاعرى " ، وتوفي عام 1914م .
7 - الشاعر الفارسي المشهور سعدي الشيرازي صاحب البوستان والكلستان .

إبراهيم محمد إبراهيم
15/11/2007, 08:17 AM
الباب السادس
شيخ " مريد بور "
كثيراً ما يتعجب البعض من أنني لا أذكر مسقط رأسي أبداً ، والبعض الآخر يقع في حيرة من أنني لا أزور بلدتي أبداً ، وعندما يسألني الناس عن السبب في هذا أماطلهم في الإجابة دائماً ، مما يزرع فيهم شكوكاً عديدة ، فيقول أحدهم : إنّه مُتّهمٌ في إحدى القضايا هناك ، وهو لهذا يعيش متخفياً . ويقول آخر : لقد كان موظفاً في بلدته ، واتُّهم في قضية اختلاس ، فهاجر منها . ويقول ثالث : لقد طرده والده من البيت بسبب تصرفاته المشينة . المهم كثُر الكلام بكثرة قائليه ، وأنا اليوم سأصحح هذا الفهم الخاطئ ، وأدعو الله أن يوفقكم أيها القراء إلى الإنصاف في الحكم .
القصة تبدأ من ابن أخي ، فابن أخي هذا يبدو في الظاهر كأيّ ابن أخ عاديّ ، وقد أخذ عني كل ميزاتي ، إضافة إلى بعض الصفات الأخرى التي اكتسبها باعتباره من جيل مختلف ، ولكن ظهرت فيه صفة لم تظهر أبداً في أحد من عائلتي حتى اليوم بهذه الحدّة ، وهي احترام الكبار !. أما أنا فأمثّل إله العلم والفن في نظره !!. كيف تسلل هذا الخبل إلى دماغه ؟!. ربما يكون السبب في هذا أن مثل هذا الأمر يحدث في أعظم العائلات ، فلقد رأيت بنفسي أبناء كبار العلماء يحترمون الكبار لدرجة تظن معها أنهم من عائلات محتقرة !!.
في سنة من السنين شاركت في أحد اجتماعات " حزب المؤتمر " (1) ، وإن شئت الحق فإن اجتماع الحزب هو الذي جاء إليّ ، بمعنى أن أعضاءه قرروا عقد جلستهم السنوية في نفس المدينة التي كنت أعيش بها . لقد أعلنت سابقاً في أكثر من مناسبة ، وما زلت حتى الآن مستعداً للإعلان بأعلى صوتي أنه لم يكن لي ذنب فيما حدث . قد يظن البعض أنني عملت على أن يعقد هذا الاجتماع عندي إرضاءً لغروري ، لكن هذا في الحقيقة طبيعة الحسّاد ليس إلاّ . لقد استقدمت فرق المهرجين كثيراً إلى المدينة ، بل وجّهتُ الدعوة إلى بعض الفرق المسرحية عدة مرات ، لكن اهتمامي فيا يخص " حزب المؤتمر " ظل فقط في حدود المواطن العادي الذي يعيش في الظل ، ولن أطيل في هذا الموضوع كثيراً . وعندما تكون الجلسة السنوية لـ " حزب المؤتمر " منعقدة على بُعد عدة أقدام ، فمن ذلك التّقيّ الذي يتجنب الاشتراك فيها !!... لقد كان ذلك أيام الإجازات ، والوقت موجود ، ولهذا فقد سمعت كل الخُطب التي أُلقيت في هذه الجلسة خطبة خطبة على سبيل تمضية وقت الفراغ ... كنت أبقى في الجلسة اليوم بطوله ، وفي الليل أعود إلى البيت ، وأكتب موجزاً لأحداث اليوم كله ، ثم أُرسلها إلى ابن أخي باعتبارهـا وثيقة يمكن الانتفاع بها وقت الحاجة !!.
وعلمت مما حدث فيما بعد أن ابن أخي كان يفتح خطاباتي هذه بكل أدب واحترام ، بل بدا من بعض ما سمعت أنه كان يتوضأ بانتظام قبل أن يؤدي مراسم افتتاح الخطابات ... يقرأها لنفسه أولاً ... ثم يقرأها لأصدقائه ... وبعدها ينضم إلى بعض الحمقى في مكتب وكيل إحدى الجرائد المحلية ، ويُضخّم في محتوى الخطابات ويبالغ فيه ، ثم يسلمها لأحد المحررين الأكثر محليّة من جريدته ، فيقوم هو الآخر بنشرها وباهتمام واضح . وكان اسم هذه الجريدة هو " جريدة مريد بور " (2) ، ولا يوجد لها ملفّ كامل عند أحد ، إذ كانت تصدر لمدة شهرين ثم تتوقف بسبب بعض المصاعب المالية . أما رئيس تحريرها فيتسم بالآتي : لونٌ قمحيٌ ، وكلامٌ فلسفيٌ ، وشكلٌ كاللصوص ، ونرجو ممن يستطيع التوصل إلى عنوانـه الاتصـال بمكتب " لجنة الخلافة " (3) بـ " مريد بور " وله الأجر والثواب عند الله ، كما نرجو ألاّ يقدم إليه أيّ نوع من التبرعات ، وإلاّ فإن " لجنة الخلافة " غير مسئولة عما يحدث .
كما سمعت أن هذه الجريدة قد أصدرت عدداً خاصاً بـ " حزب المؤتمر " معتمدة على خطاباتي ، ونشرتها بأعداد كبيرة لدرجة أن بعضها لا يزال يُرى في محلاّت البقالة . على أية حال فإن أطفال " مريد بور " قد أثنوا على كفاءتي وأسلوب كتاباتي وقوة تفكيري وحماسي الوطني ، وتمّ تنصيبي – وبدون علمي – بطلاً قومياً لـ " مريد بور " ، بل إن شاعرين من الشعراء قد نظمـا قصيدتين في شأني طُبِعتا مرات عديدة في جريدة " مريد بور " .
لم يكن لديّ أدنى فكرة عن هذا التكريم لي – فعلاً يُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء – لم أكن أدري أنني صنعت لنفسي مكاناً في قلوب أبناء بلدتي ببعض الخطابات القليلة التي أرسلتها لابن أخي ، ولم يكن يدري أحد أن هذا الشخص العادي الذي يمر كل يوم من السوق محنيّ الرأس سيحظى بهذه المكانة في " مريد بور " . لقد نسيت بالتأكيد " حزب المؤتمـر " وكل ما يتعلـق بـ " حزب المؤتمر " بعـد كتابـة الخطـابات ، ولم أكن من الذين يشترون جريدة " مريد بور " ، ولم يجرؤ ابن أخي – بدافع من الاحترام – على إطلاعي بأنني أصبحت بطلاً ولو على سبيل العلم بالشيء ... أعـرف أنه لو كان قد أطلعني على ذلك فما كنت لأفهم ما يقول لسنوات عديدة ، لكن على الأقل كنت سأعرف إلى أي مدى وصلت في تطوري وارتقائي .
وبعد فترة بدأت المظاهرات تخرج في أنحاء متفرقة من البلاد بسبب الصراع المسلح (4) ، وكل من استطاع الحصـول على " كرسي ومنضدة وزهرية " أعلن عن خروج مظاهرة ، وفي فصل المظاهرات هذا وصلني خطاب من " جمعية شباب الهند بمريد بور " مضمونه أن " أهل مدينة مريد بور يتشوقون للقائك ، وينتظرون بفارغ الصبر فرصة إلقاء نظرة على وجهك المنير ، والاستفادة من أفكارك النزيهة . ورغم أن البلاد كلها في حاجة إلى ذاتك المباركة ، لكن مسقط رأسك أولى ، لأنه كما قال الشاعر :
" أشواك الوطن أفضل من السنبل والريحان "
وهكذا بعد الاستشهاد بعدد من الأدلة المماثلة طُلِب مني الحضور لأُعلِّم الناس درساً في الوحدة بين المسلمين والهندوس (5) .
لقد أصابتني دهشة عظيمة بعد قراءة هذا الخطاب ، ولكن حين فكرت في الموضوع بهدوء اقتنعت تدريجياً بموهبة أهل " مريد بور " في معرفة الرجال ، فأنا إنسان ضعيف ، ثم إن نشوة " الزعامة " تسلطت عليّ فوراً ... بدأت أشعر بداخلي بحب شديد لوطني ، وأشفقت عليه كثيراً من لامبالاة أبنائه ... صوت من داخلي هتف بي : أنت الآن بالذات المسئول عن قيادة ورفاهية هؤلاء المساكين ، ولقد منحك الله قوة في التدبير والتفكير ، وهناك ألوف من البشر في انتظارك ، هيا انهض ، فهناك مئـات من النـاس ينتظرونك " بكل ما يملكون "،وهكذا قبلت دعوة " مريد بور " ، وأرسلت إليهم تلغرافاً بلهجة قيادية أُطلعهم فيه بموعد وصولي إلى " مريد بور " بعد خمسة عشر يوماً في أحد القطارات ، وطلبت منهم أن لا يستقبلني أحد على المحطة ، وأن على كل واحد منهم أن يشغل نفسه بعمله ، فالهند كلها في حاجة ماسة إلى العمل في هذه الأيام !!!.....
وكرّستُ كل لحظة من وقتي منذ ذلك الحين وحتى موعد الجلسة في إعداد الخطبة التي سألقيها في جموع الناس ، وأخذت أردّد فقرات مختلفة من الخطاب صباح مساء : الهندوس والمسلمون أخوة ... المسلمون والهندوس ممتزجون كالسكر واللبن ... الهند سيارة بإطارين ، وهذان الإطاران يا أصدقائي هما الهندوس والمسلمون ... إن الأمم التي اعتصمت بحبل الوحدة هي التي تمسك بزمام الحضارة الآن ... أما الذين اتخذوا من النفاق والاختلاف مبدءاً ومرجعاً فإن التاريخ قد أدار لهم ظهره ... وما شابه ذلك .
لقد قرأت في طفولتي في أحد الكتب الدراسية قصة بعنوان " سمعت أن هناك ثورين يعيشان معاً " ، بحثت عن هذه القصة وقرأتها مرة أخرى ، ودرست كل تفاصيلها ، ثم تذكرت أنني قرأت قصة أخرى عن شخص يستدعي أولاده عندما أشرف على الموت ، ووضع أمامهم حزمة من الخشب وقال لهم : حطموا هذه الحزمة من الخشب ، فلم يستطيعوا ، فقام بفكّ هذه الحزمة ، وأعطاهم إياها عوداً عوداً ، فحطموها بسهولة ، وبذلك أعطى هذا الرجل أبناءه درساً في الاتحاد ، أضفت هذه القصة أيضاً إلى خطبتي ، وفكرت كيف أبدأ الخطبة ، فرأيت أنه من المناسب أن أبدأها هكذا : -
أبناء وطني الأعزّاء :
إن سحب الإدبار تُظلّل الرؤوس ، والفقر يُظهر كراماته ، والنحس يطوف حولنا ... وصوت ينادي من كل جانب : ماذا كنتم بالأمس ، واليوم كيف أصبحتم ... كنتم متيقّظين ولتوّكم ، ثم نمتم من فوركم (6) .
إن الشاعر الهندي العظيم الشيخ " ألطاف حسين حالي " ، والذي كتب هذه الأشعار منذ سنوات مضت لم يكن يدري أن ألفاظه المؤلمة هذه بمرور الزمن تُثبت صحتها يوماً بعد يوم ... فهذه هي حال الهند اليوم ... وهكذا .
ثم فكرت بعد ذلك أن أرسم خريطة للحال البائسة للهند ، وأشير إلى الإفلاس والفقر والحقد وغيرها ، ثم أتساءل : ما السبب في كل هذا ؟!. وأذكر كل الأسباب التي اعتاد الناس أن يذكروها إجابة لهذا السؤال ، فمثلاً : الحكومة الأجنبية ... الطقس ... الحضارة الغربية ... لكني سأؤكد خطأ كل هذه الأسباب ، وسأذكر السبب الأصلي وهو النفاق الذي أصاب المسلمين والهندوس على السواء ، وفي النهاية أنصح بالاتحاد ، ثم أختم خطبتي بالأشعار التالية :
أقْبِل أيها العندليب لننوح سويّاً
تنعى أنت الوردة ، وأنعى أنا القلب
وبعد تفكير متواصل استغرق أياماً عديدة وضعت تصوراً للخطبة ، وكتبت هذا التصور على ورقة حتى أضعها أمامي أثناء الجلسة ، وكان التصور الذي وضعته تقريباً كالتالي :
1 – تمهيد : أشعار ألطاف حسين حالي ( نقرأ بصوت مرتفع ) .
2 – الوضع الراهن في الهند : -
أ – الإفلاس .
ب – الحقد والكراهية .
3 – أنانية زعماء الأمة .
3 – الأسباب : -
أ – هل الحكومة الأجنبية ؟!. كلاّ .
ب – هل هو الطقس ؟!. كلاّ .
ج – هل هو المدنية الغربية ؟!. كلاّ .
د – فما هو السبب إذاً ؟!. ( وقفة بسيطة أمرّ خلالها ببصري على وجه الحاضرين جميعاً وعلى وجهي ابتسامة ) .
4 – ثم أوضّح أن السبب هو نفاق الهندوس والمسلمين ( أتوقّفُ لأعطي فرصة للهتافات ) ، ثم أقدّم تصوراً للصراع وما شابه ذلك بصوت يبعث على الأسى ، وبعدها ربما ترتفع بعض الهتافات فأتوقف لأجلها .
5 – الخاتمة : نصائح عامة ، والتركيز على الاتحاد خصوصاً ( شعر ) ، وبعدها أعود لأجلس على الكرسي بكل تواضع ، وأردّ على إعجاب الحاضرين بتحيتهم بين الفينة والفينة .
ومنذ إعداد هذا التصور وحتى اليوم الذي ستعقد فيه الجلسة كنت ألقي على الخطبة نظرة كل يوم ، وأقف أمـام المرآة أتدرب على بعض فقراتها المؤثرة ، وتدرّبت كثيراً على الابتسامة التي تأتي بعد رقم ( 3 ) في التصور السابق ، وعوّدت نفسي على التمايل يمنة ويسرة في الوضع واقفاً حتى يصل صوتي أثناء الخطبة إلى كل مكان في الجلسة ، ويستطيع الحضور بسهولة ويسر الاستماع إلى كل لفظة أنطق بها .
استغرق السفر إلى " مريد بور " ثمان ساعات ، وكان عليّ أن أغير القطار في الطريق عند محطة " سانكا " ، وكان في استقبالي على المحطة بعض الشباب المتحمسين من " جمعية شباب الهند " قاموا بتطويق عنقي بعقـود الورد ، وقدموا إليّ بعض الفاكهـة والمرطبـات . وقطعت المسافة من " سانكا " إلى " مريد بور " في نقاش حول أدقّ القضايا السياسيـة ، وعندما وصل القطار إلى " مريد بور " كان هنـاك أكثر من ثلاثة آلاف فرد في استقبالي خارج المحطة ، وكانوا يهتفون بلا توقف . عندهـا قال أحد المتطوعين الذين كانوا معي : الناس يريدون رؤيتك ، فلتُطِلّ برأسك من الشباك . نفذت ما قال . كانت عقود الورد لا تزال معلقة في رقبتي ، وفي يدي برتقالة ، فلما رآني الناس هكذا زاد هتافهم وحماسهم ، وبصعـوبة شديدة شققتُ طريقي وسطهم ، ثم أركبوني في سيارة ، واتجهنا إلى مقر الجلسة .
وعندما دخلت مقر الجلسة كان عدد الحضور يتجاوز الخمسة أو الستة آلاف هتفوا باسمي في صوت واحد ، وكانت هناك أعلام ولافتات حمراء في كل جانب كُتِبتْ عليها بعض الكلمات في مدحي مثل :
خلاص الهند في يديك ........
مرحباً بابن " مريد بور " ...
الهند في أمسّ الحاجة إلى العمل في الوقت الراهن ...
وغيرها ... واستُدعيت إلى المنصة ... وصافحت رئيس الجلسة مرة أخرى أمام الحاضرين ، وقبّل يدي ، ثم بدأ كلمته الافتتاحية كالتالي :
حضرات السادة ، إن الزعيم الهندي ذائع الصيت والذي وُجِّهتْ الدعوة إليه ليخطب فيكم ...
عندما سمعت لفظ " يخطب " حاولت أن أتذكر الفقرات التمهيدية في خطبتي ، ولكن ذهني في ذلك الوقت كان يموج بانفعالات متباينة بحيث شعرت أنني بحاجة إلى مراجعة ورقة التصور التي كتبتها ... ودسست يدي في جيبي فلم أجد الورقة ... فأحسستُ عندئذ ببرودة خفيفة تسري في أوصالي فجأة ... طمأنت قلبي قائلاً : لا تضطرب ، فإني لا بد سأجدها في جيب آخر ، وفتشت جميع جيوبي وأنا أرتعش ، ولكني لم أجد الورقة ... وبدأت القاعة كلها تتأرجح أمام عيوني ، وبدأ قلبي يدق بشدة ، وشعرت بأن شفتيّ قد يبستا ، فتحسست جيوبي مرة بعد أخرى ، ومع ذلك لم أعثر على شيء ... وددت وقتها أن أبكي بشدة ، وأخذت أقضم شفتي في حالة من العجز وقلة الحيلة ، وكان رئيس الجلسة لا يزال يلقي كلمته : -
" ...إن مدينة " مير بور " مهما افتخرت بسيادته فلن توفيه حقه ، ففي كل بلدة ، وفي كل عصر نقابل قليلاً من الرجال الذين يُعدُّون لبني الإنسان جميعاً ..... " .
ماذا أفعل الآن يا إلهي ؟!. أظن أنني لا بد أن أقدم في البداية وصفاً تفصيلياً للوضع الراهن في الهند ... كلاّ كلاّ ... عليّ أن أثبت لهم إلى أي مدى نحن لسنا على قدر المسئولية ... إن جملة " لسنا على قدر المسئولية " ستكون غير مناسبة ... الأفضل أن أقول : جهلاء ... وهذه أيضاً غير مناسبة ، بل غير مهذبة .
" ... ومن منا لا يعرف عن إلمام سيادته الواسع بالسياسة وحماسه الوطني وتعاطفه المخلص . بالطبع أنتم جميعاً تعرفون كل هذا عنه ، ولكن موهبته في الخطابة ... " .
تُرى من أين أبدأ خطبتي ... من الحديث عن الوحدة بين الهندوس والمسلمين ... ببعض النصائح ... ولكن النصائح هذه تكون في النهاية ... أين موضع الابتسامة في منتصف الخطبة ؟!.
" ..... إنني أؤكد لحضراتكم أن سيادته سيهز قلوبكم هزّاً ، وسيبكيكم بدل الدموع دماً ... " .
وغطت الهتافات على صـوت رئيس الجلسة ، وبدأت الدنيا تظلم أمام عينيّ ... وفي تلك الأثناء وجّه رئيس الجلسة حديثه إليّ ، ولكني لم أسمع من ألفاظه شيئاً ... شعرت بالكاد أن موعد إلقاء خطبتي قد حان ، وعليّ أن أنهض من مقعدي ... وهكذا نهضت بتأثير قوة خفية ... ترنحتُ قليلاً ، ثم تمالكت نفسي . كانت يدي ترتعش ، والضجيج يملأ القاعة ... كنت على وشك السقـوط مغشيّاً عليّ ، وكان دويّ الهتافات يبدو لي كصوت الأمواج التي تمرّ من فوق رأس غريق ... من أين أبدأ خطبتي ؟!. ... سأتحدث عن أنانية رجال السياسة ... وماذا أيضاً ؟!.. كانت هناك قصة في الخطبة ... قصة البجعة والثعلب ؟!... كلاّ كلاّ ... حسنٌ حسنٌ ... قصة الثورين ...
في تلك الأثناء عمّ الصمت القاعة بأكملها ... كان الجميع مصوّبين أنظارهم ناحيتي ... أغلقت عيني ... وأمسكت بالكرسي لأستند إليه ... كانت يدي الأخرى ترتعش ، فوضعتها هي الأخرى فوق الكرسي ... شعرت وقتها بأن المنضدة على وشك الهروب من أمامي ... وجفّ حلقي ... وبصعوبة شديدة قلت :
أيها المواطنون الأعزّاء ...
خرج صوتي على غير المتوقع ضعيفاً وكأنه مُنحنياً ... فضحك بعض الموجودين ... عندئذ سعلت لأنظف حلقي ، فضحك مزيد من الحضور ... استجمعت شجاعتي ، وبدأت أتحدث بصوت مرتفع . ولأنني ضغطتُ فجأة على رئتي ، فقد خرج صوتي غاية في الارتفاع والشدة مما جعل الحاضرين ينفجرون ضحكاً . وبعد أن توقف الضحك قلت :
أيها المواطنون الأعزاء ...
ثم التقطت أنفاسي وقلت :
أيها المواطنون الأعزاء ...
وعبثاً حاولت أن أتذكر ماذا أقول بعد ذلك ... كان هناك كلام كثير يدور في ذهني ، لكن لم يصل منه شيء إلى لساني ...
أيها المواطنون الأعزاء ...
وبدأت أتضايق من ضحكات الناس ، غضبت بشدة للإهانة التي شعرت بها ، قررت أن أقـول ما يأتي في ذهني حتى أبدأ الخطبة ، وبعدها لن تكون هناك مشكلة :
" ... أيها المواطنون الأعزاء ... يقول بعض الناس أن الطقس في الهند ليس طيباً ، بمعنى أن في الهند عيوباً ونقائص عدة.. ... هل فهمتم ؟! ( وقفة ) ... نقائص عـدة ... لكن هذا الكلام ، أو بمعنى آخر هذا الأمر الذي أشرت إليه ... ليس صحيحاً بالمرة ... ( قهقهة ) .
وبدأت حواسي تختل ، ولم أستطع التذكر كيف كان ترتيب الخطبة ؟!!!!. وفجأة تذكرت قصة الثورين ، وشعـرت بأن الطـريق صـار ممهداً بعض الشيء ...
" ... نعم ، حقيقة الأمر أنه كان هناك ثورين يعيشان معاً ، وكانا على الرغم من الحكومة الأجنبية والطقس السيئ ... ( قهقهات عالية ) .
وهنا شعرت أن كلامي يفتقد الربط ، فقلت : لا بأس ، فلأبدأ بقصة حزمة الخشب : -
" ... خذوا على سبيل المثال حزمة الخشب ، فالخشب غالباً غالي الثمن ، والسبب في ذلك أن في الهند فقراً مدقعاً ، ولأن أكثر السكان من الفقراء ، لهذا ... وكأن حزمة الخشب ... بمعنى أنه إذا نظرنا إلى ... ( قهقهة مرتفعة وطويلة ) .
" ... حضرات السادة ، إن لم تستعملوا عقولكم فسوف تفنى أمتّكًم ، فالنحس يحوم حولكم ( قهقهات وضجيج ) : أخرجوه من القاعة ... لا نريد أن نسمع ...
" ... يقول سعدي رحمه الله (7) :
كالذي خدع شعباً ذات مرة .
وارتفعت الأصوات ... ما هذا الذي يهذي به ...
" ... فلتتركوا هذا جانباً ، على أية حال ليس هناك شك في أن ...
أقبل أيها العندليب لننوح سوياً
تنعى أنت الوردة ، وأنعى أنا القلب .
زاد هذا البيت من الشعر من جريان الدم في العروق ، وارتفعت أصوات الحضور معه ، ولذا قلت في حماس شديد :
" ... إن حياة الأمم التي في قمة نهضتها تُعدُّ طريقاً يحتذيه البشر ، وحكوماتها تهز أركان العالم ... ( وزاد ضجيج الناس ) ... وهناك ضمادة من الأنانية على أذُنِ زعمائكم ، ويشهد تاريخ العالم على أن كل جوانب الحياة ...
ولكن قهقهات الموجودين وضجيجهم كان قد ارتفع إلى الحد الذي لم أعد أنا نفسي أسمع صوتي ، وهبّ كثير من الناس واقفين ، كانوا يقولون شيئاً بصوت مرتفع ... وفي خضمّ زحام الحضور استجمع شخصٌ شجاعته وقذفني بعلبة سجائر خالية ، وكأن هذه كانت القطرة الأولى للمطر ، فبعدها انطلقت عدة رصاصات ورقية ، وسقطت حولي على المنصة ، لكني واصلت خطبتي :
" ... حضرات السادة ... تذكّروا ، سوف يُقضى عليكم ...
أنتم مثل الثورين ...
ولكن عندما زاد وابل القذائف ناحيتي ، رأيت أنه من الأفضل أن أعتزل هذا الجمع اللامعقول ، وقفزت من على المنصـة ، ووصـلت إلى الباب في خطوة واحدة ... كانت الجموع تلاحقني ، ولم أنظـر خلفي ، بل واصلت عدْوِي ... كانت بعض الألفاظ الجارحة تصل إلى مسامعي من وقت لآخر ، فكنت أزيد في سرعتي كلما سمعتها .
واتجهت مباشرة إلى محطة القطار ... كان هناك قطار منتظراً على أحد الأرصفة ، فتسللت إليه بسرعة ، وبعد لحظة تحرك القطار ...
ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم لم تصلني دعوة من " مريد بور " ، ولم أتمنّى أنا نفسي زيارتها أبداً .


هوامش


1 - حزب المؤتمر هو الحزب الذي أسسه الهنود عام 1885م بينما كانت شبه القارة الهندو باكستانية محتلة من قِبلِ الإنجليز ، وكان الهدف الذي تأسس عليه هذا الحزب هو أن يكون وسيلة لرفع مطالب الهنود جميعاً – مسلمين وغير مسلمين – إلى الحكومة الإنجليزية ، ولكن هذا لم يحدث على أرض الواقع ، وإنما انحاز الحزب إلى جانب الهندوس ، وتجاهل مطالب المسلمـين مما دفعهم إلى تأسيس حزب خاص بهم هو حزب الرابطة الإسلامية عام 1906م .
2 - مدينة صغيرة ، وبالتالي فإن الجريدة التي تصدر باسم مدينة محلية صغيرة ستكون محلية بنفس القدر . وكما هو واضح فإن هذه المدينة هي مسقط رأس الشخصية محل الحديث هنا .
3 - وهي لجنة كان منوط بها جمع التبرعات تأييداً للخلافة العثمانية التي تم إلغاؤها عام 1924م في عهد " كمال أتاتورك " ، وذلك ضمن حركة عرفت بـ " حركة الخلافة " استمرت من عام 1919م وحتى عام 1923م .
4 - الصراع المسلح بين المسلمين والهندوس ، والذي ظهر على السطح بتخطيط من الإحتلال الإنجليزي ، وراح ضحيته الألوف من الجانبين ، ولذا كان قيام باكستان عام 1947م كوطن للمسلمين بمثابة الحل الوحيد لحماية مسلمي شبه القارة الهندو باكستانية – وهم أقلية ، وإن كانت أقلية كبيرة – قياساً بالأغلبية الهندوسية التي يدعمها الاحتلال البريطاني .
5 - كان هناك عدد من الزعماء – مسلمين وغير مسلمين – يدعون إلى الوحدة الوطنية بين المسلمين والهندوس ليعيشوا في ظل وطن واحد هو الهند الأم ، ومن بين هؤلاء كان مؤسس باكستان وقائدها الكبير " محمد علي جناح : توفي في 11 / 9 / 1948م " الذي اعتقد في بداية الأمر بإمكانية هذا التعايش ، إلاّ أن التعصب الهندوسي ضد كل ما يمُتُّ إلى الإسلام بصلة حطّم هذا الأمل وقضى عليه .
6 من شعر ألطاف حسين حـالي شاعر الأردية الكبير الذي دعا إلى ثورة في الشعر الأردي ، ومن أشهر ما كتب " مقدمه شعر وشاعرى " ، وتوفي عام 1914م .
7 - الشاعر الفارسي المشهور سعدي الشيرازي صاحب البوستان والكلستان .