المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من القصص الأردي المعاصر ( الدجال الأعور ) للأديب الباكستاني ( انتظار حسين )



إبراهيم محمد إبراهيم
15/11/2007, 08:39 AM
الدجال الأعور
انتظار حسين (1)

وضع سماعة التليفون ، واتجه إلى الشرّفة ، وألقى بنفسه على كرسي موضوع أمام كرسي أبيه . نظر الأب إليه وهو ينفث نرجيلته قائلاً :
· هل عرفت شيئاً ؟!.
· كلا يا أبي ، لم يتضح شئ حتى الآن ... أخبار كثيرة متناقضة .
ثم انحنى على المذياع الموضوع على المنضـدة أمامه ، وأخذ يدير مفتاحه ، ثم أغلق المذياع وهو يقول :
· ستتضح الأمور في الثانية عشرة ... أعتقد يا أبي أنك تفهم اللغة العربية .
· يا بني ، لقد طفت في تلك البلاد كثيراً ، فكيف لا أفهم اللغة العربية ! .
وواصل الأب تدخين النرجيلة ، وبعد لحظة وضع المبسم جانباً وقال :
· كانت هذه هي المحطة الأخيرة في رحلة الأرض .
· نعم .
ونظر إليه " محسن " مستفسراً ، فتريث الأب قليلاً ، ثم قال :
· حينما اتجه نبينا صلى الله عليه وسلم إلى المعراج ........
وانفجرت الأم التي كانت تجلس على السرير تقشر " الفوفل " باكيـة ، ثم وضعت الكسارة في الصينية ، ومسحت دموعها بذيل طرحتها ، بينما اغرورقت عينا الأب بالدموع ، لكنه تماسك ، وواصل حديثه بلهجة وقورة قائلاً :
· سافر النبي صلى الله عليه وسلم عابراً أنهاراً وجبالاً وصحارى إلى أن وصل إلى المسجد الأقصى ودخله ، فقال له " جبريل " عليه السلام : هيا بنا يا سيدي . فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام : إلى أين ؟. فقال : يا سيدي ، انتهت رحلة الأرض ، وهنا محطتها الأخيرة ، والآن أمامنا رحلة إلى العالم العلوي . عندئذ ارتفع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وظل يرتفع ويرتقي ...... السماء الأولى ..... السماء الثانية ...... الثالثة ...... الرابعة ....... وهناك صافح سيدنا عيسى عليه السلام ، ثم ظل يرتفع ويرتقى حتى وصل في نهاية المطاف قرب العرش الإلهي ، ولم يبق بينهما سوى مسافة قوسين ......
صمت الأب ، وتناول مبسم النرجيلة في فمه ثانية ، بينما كانت الأم لا تزال تبكي . مسحت الأم دموعها بذيل طرحتها ، وصمتت للحظة ، ثم قالت :
· حينما اشتعلت الحرب في " طرابلس " (2) كان ذلك في مثل هذه الأيام ، أيام الحرّ الشديد .......
ثم وجهت الأم كلامها إلى ابنها " محسن " :
· كان هذا يا بني قبل أن تولد أنت ، كنت في الشهر الثالث ، وكانت جدتك لأبيك رحمها الله قد اشترت لي أسورة ذهبية كبيرة . وعندما بدأت الحرب في " طرابلس " ثار المسلمون جميعاً ..... وجاء إلينا الشيخ " ظفر علي " (3) ، ثم جاء شيخ " حركة الخلافة " (4) ، وقالا لنا : أيتها الأمهات ، أيتها الأخـوات ، لقد حل بالمسلمين وقت عصيب ..... تبرعوا بحليّكم ..... فخلعت أسورتي والدموع تنساب من عيني وناولتها للشيخ ، وبعدها ظللت شهراً كاملاً مستلقية على بطني على السرير ......
تنهدت الأم الصعداء ، ولاذت بالصمت ، ثم نظرت إلى الأب الذي كان لا يزال يدخن النرجيلة في صمت ، وعندما نظر إليها عرف أنها شعرت بالراحة ، وأنها لن تتحدث ثانية ، لكن الأم تحدثت مرة أخرى :
· ما أعظم البركة في اسم الله ورسوله ، في العام التالي مباشرة ، وقبل أن تحل شهور الصيف ، التحق أبوك بوظيفة ، واشترى لي أسورة أكبر من الأولى .
ثم نظرت الأم إلى معصمها وهي تقـول :
· هذه الأسـورة !.
ثم تناولت الكسـارة وأخذت تقشر " الفوفل " ثانية وهي تقول :
· يا بني محسن ، أين الشيخ ظفر علي الآن ؟!.
· لقد مات يا أمي .
· وشيخ حركة الخلافة ؟!.
· مات هو الآخر .
· الأمر هكذا إذاً ......
ونظرت إلى ملابسها وهي تقول :
· وأنا أقول لنفسي : لم يأت إلينا أحد هذه المرة .
أطلق الأب زفرة حارة وقال :
· لقد تركنا خلفنا في الهند بعض القبور (5) ، وكان من بينها قبر انفصلنا عنه هو الآخر .... محسن ... هل رأيت " رئيس الأحرار " (6) ؟!.
· رئيس الأحرار !!! . كلا ....
واستغرق " محسن " في التفكير .
· نعم ، أين عساك تراه .... ذلك الشيخ أيضاً مدفون هناك ...
ثم أردف وقد علت وجهه مسحة من التفكير :
· يعلم الله كم من العظماء دفنوا هناك .... بلد عجيب ... حينما ذهبت هناك بدا لي وكأني أسير بين الأنبياء ...... ثم ذهبت إلى " المدينة المنورة " ... سبحان الله ... ما أعظمه من مكان !!!.
نظر محسن إلى أبيـه ، ثم إلى أمه ... كانت الدموع تتراقص في عينيهما ، وواصل الأب حديثه قائلاً :
· أعداد لا تحصى من الحمـائم على القبة الشريفة .. بيضاء ... لامعة ... بلا روث . سبحان الله ، حتى الطيور تجلّه .
تعجب " محسن " إلى حد ما مما قاله الأب :
· فأين تخرج تلك الحمائم روثها إذاً يا أبي ؟!.
· لا روث لها أصلاً .
· لا روث لها أصلاً !!! . كيف هذا ؟!.
وبدأ الشك يعتري قلبه فقال :
· ولماذا إذن ترابط كل هذه الأعداد من الحمائم هناك ؟!.
· لماذا ترابط هناك ؟!. ألا تعرف لماذا ؟!. الدنيا مقر الفتن ... منزل الشياطين ... الشياطين في كل جانب ، وهذا هو المكان الوحيد الآمن .
قالت الأم وهي تقشر " الفوفل " :
· انظر إلى القبة الشريفة ولا حمائم عليها !. كيف يكون منظرها ؟!!.
تريث الأب قليلاً ثم أردف :
· قصّي علينا الحلم كله .
بدت الأم وكأنها تحاول تذكر الحلم . قالت :
· لا أتذكر الحلم كله ، ولكن بقي بعض منه في الذاكرة ..... رأيت وكأنني ذهبت للزيارة معك ، وكأن الخلائق كلها تجمعت هناك ، والحمائم البيضاء ترابط في صحن المسجد الطاهر ، وعلى الجدار الطاهر ، وفوق القبة الطاهرة ... ثم لا أدري ماذا حدث ؟!..... لا أتذكر شيـئاً ... أذكر فقط أنني كنت وحيدة أنادي : أيتها الحمائم ، أين ذهبت ؟!... لا توجد حتى حمامة واحدة ..... لا في الصحن الطاهر ، ولا على الجدار الطاهـر ، ولا فوق القبة الطاهرة ..... ثم رأيت وكأنني أبحث عنك ..... وعندها استيقظت .
وكفت الأم عن الحـديث ، وقـرب الأب النرجيـلة إليـه ، واستغرق في تفكير عميق ، وشعر " محسن " أن أباه صمت ، ولن يتكلم ثانية ، لكنه قال وهو يدخن نرجيلته :
· يا ولدي محسن ، هل صحيح أن قائدهم له عين واحدة ؟!.
قال " محسن " :
· نعم ، صحيح .
· وهل صحيح أنه يضع غطاءً أخضر على عينه العوراء ؟!.
· نعم .
أطلق الأب زفرة حارة وقال :
· كلها علامات الدجال .
ارتسم الخوف على وجه الأم وقالت :
· لا قدر الله ، لماذا تقول هكذا ؟!.
· ليس أنا فقط ، الناس كلهم يقولون هذا .... كلها نفس العلامات .
· كيف ؟!. إنه سيظهر عندما تقترب الساعة !.
عندئذ أزاح الأب مبسم النرجيلة جانباً وقال بلهجة يملؤها الألم :
· يا أم محسن ، وماذا بقي الآن حتى تقوم الساعة ؟!!.
أحدثت هذه الجملة أثراً عجيباً في الأم حتى أنها انفجرت باكية ، ثم مسحت دموعها ، ووجهت حديثها إلى " محسن " :
· يا محسن ، أتذكر جدتك أم أبيك ؟!.
· نعم ، أذكرها تماماً .
· عندما كان موكب عروس هندوسية يمر من الحارة ، كنت تهرول لمشاهدته ، وكانت جدتك تصرخ فيك قائلة : لا تذهب يا بني ، إنه موكب الدجال . وكنت أنا أقول لها : يا جدة ، إنها زفة عروس هندوسية . فكانت تقول : يا زوجة ابني ، سيأتي الدجال يوماً ما بنفس الطريقة . ستكون معه المزامير والصاجات ، وسيكون هو نفسه راكباً حماراً ، وسينجذب الناس إلى مزاميره فيتبعونه بلا إرادة . وكنت أقول : كيف هذا يا جـدة ، هل هذا كلام يعقل ؟!. هل هناك من تجذبه المزامير إلى هذا الحد ؟!. فكانت تقول : يا زوجة ابني ، سيكون معه الكثير من أسباب الطمع ، سيحل بالناس قحط في تلك السنة ، قحط يجعل الناس يستغيثون ، وخبز كثير محمل على ظهر حماره ، وسيأتي بالرغيف ويضع عليه بعضاً من قذارة أذنه ، ويظن الناس ذلك حلوى ، وهكذا يتبعونه طمعاً في الخبز والحلوى !!!.
انفجر " محسن " ضاحكاً عندما سمع هذا ، لكن الأم غضبت من ضحكه وقالت :
· يا بني ، هذا ليس كلامي أنا ، كنت دائماً تسخر مما أقول ، ولكن هذا ما كانت تقوله جدتك ، ولا بد أنها تقول في قبرها : ما هذا الحفيد السعيد الذي يضحك على جدته المتوفاة .
شعر " محسن " بالخجل فقال :
· يا أمي ، أنا أضحك على أمر آخر ، حكاية أن الناس سيظنون قذارة الأذن حلوى تبدو لي عجيبة .
كان الأب لا يزال يدخن النرجيلة في صمت ، فلما سمع ما قال " محسن " وضع مبسم النرجيلة جانباً وقال في لهجة واثقة :
· يا بني ، هذا الكلام مضحك لكم أنتم المتعلمين ، ولكن إن دققت فيه ستجد عبرة كامنة . إن رسولنا صلى الله عليه وسلم والأئمة كانوا يعلمون ماذا سيحدث في المستقبل ، وما زلت أشعر بحيرة كبيرة عندما أرى كم ضاقت الأرزاق هذه الأيام بينما كانت حتى وقت قريب وفيرة ....... أتذكرين يا " أم محسن " ، كم كان سعر القمح عندما كان أبي على قيد الحياة ؟!.
فأجابت الأم على الفور :
· نعم ، لا زلت أذكر أن الجد كان يذهب إلى سوق الغلال أول كل شهر ومعه روبيتان ونصف ، ويعود ومعه عامل يحمل على رأسه جوال قمح .
عندئذ قال الأب :
· يا بني ، كان هذا إلى وقت قريب ، واليوم – وبلا مبالغة – لا تشتري الروبيتان ونصف أكثر من ملء الكف قمحاً ، وصرنا لا نستطيع تلبية احتياجاتنا حتى يأتينا القمح من أمريكا ، وما تعطيه لنا أمريكا ما هو إلاّ قذارة أذنها .
وداخلت لهجة الأب بعض المرارة ، ولهذا لم يجرؤ " محسن " على الحديث ، وإلاّ فإنه لا يستسيغ أن يربط الأب أمراً بآخر لا علاقة له به ؛ الحديث كان عن الدجال الأعور ، وربطه الأب بالمساعدات الأمريكية !!!. ولكن كيف يقول هذا وأبوه منفعل الآن ؟!. ثم طرأت على لهجة الأب مسحة من الحزن وهو يقول :
· هذا وقت عصيب على المسلمين .
وصمت الأب ، ثم قال :
· جاء في الروايات أنه عندما يخرج الدجال الأعور سيقتل المسلمين واحداً واحداً ، وسيبقى في النهاية ثلاثمائة وثلاثة عشر مسلماً .
سأله " محسن " بتعجب :
· ثلاثمائة وثلاثة عشر ؟!!.
فأجاب :
· نعم ، ثلاثمائة وثلاثة عشر ، سيقتل الكثيرون ، والكثيرون سيتبعون الدجال على حماره ، وسيبقى ثلاثمائة وثلاثة عشر فقط .
وأطلق الأب زفرة حارة وهو يقول :
· ليرحم الله المسلمين .
ثم أخذ يدخن النرجيلة ، وظل جالساً لبرهة كأنه مقيد في مكانه ، ثم نهض في هدوء واتجه إلى الشرفة ، ونادت الأم على " محسن " قائلة :
· يا بني ، اتصل بمكتب الجريدة ثانية .
وتقدم " محسن " إلى التليفون وأدار قرصه :
· ألو .
وتحدث لدقائق قليلـة ، ثم عاد وجلس على الكرسي في صمت . نظر الأب إلى وجهه بتمعن وسأله :
· هل هناك أخبار ؟!.
· نعم ، توقف إطلاق النار .
· هل استسلم المسلمون ؟!.
· اعتبر الأمر هكذا .
وانحنت رأس الأب ، وظل " محسن " ينظر إلى رأس أبيه المنحنية . أطلق الأب زفرة حارة وقال :
· في المكان الذي ارتفـع فيه نبينا صلى الله عليه وسلم وارتقى ، انحدرنا نحن .
ثم صمت ، وغطى حجر النرجيلة بالغطاء المخصص له ، ووضعها جانباً ، ثم رتب السرير الموضوع بجانبهم قليلاً وتمدّد فوقه .
كانت الأم لا تزال مستغرقة في تقشير وتكسير " الفوفل " بالكسارة ، وأدهش " محسن " أنها هذه المرة لم تبك ، ولم تنطق بكلمـة . ثم وضعت الأم الكسارة في الصينية ، ووضعت الصينية في صندوق " البان " (7) وأغلقته عليها ، ثم أخذت الصندوق إلى الشرفة ووضعته بجانب سجادة الصلاة على " الدّكة " (8) ، ثم وقفت وسط فناء البيت وتمتمت بشيء ، ثم نفثت بفمها يمنة ويسرة ، وصفقت بيديها ثلاث مرات ، ثم اتجهت إلى سريرها واستلقت فوقه على جانبها .

لم يكن النعاس يغالب " محسن " ، كان جالساً كأنه كومة سوف تنفرط إذا تحرك من مكانه . أخذ يدير مفتاح المذياع الموضوع على المنضدة أمامه ، وظل يديره ويديره ، وجاء المؤشر على إحدى الإذاعات .... جاءته منها بعض الأصوات ، لكنه وبغير أن يسمع أو يفهم ، أخذ يدير المفتاح ثانية حتى جاءت إذاعة أخرى ...... ربما لم يكن في ذهنه إذاعة بعينها ، ولهذا أصابه الملل من كثرة البحث بين الإذاعات ، فأغلق المذياع ، واستلقى على سريره .

لم يقترب النوم من عيني " محسن " ، أغلق عينيه مرات عديدة ، ثم احتفظ بها مغلقة . ولما أصابه الملل فتحهما ، وظل يحدق في السماء التي تعج بالنجوم ، وبدا له وهو يحدق في السماء ونجومها كأن هناك طريقاً ضيقاً متعرجاً يمتد بعيداً في السماء ، والنجوم محطمة وملقاة على قارعته . هذه هي المجرّة . ذكّره تصوره للمجرّة بجدته ..... كان طفلاً عندما كانت جدته على قيد الحياة . كانت تقول له :
· يا بني ، هذا غبار سنابك فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاهر .
· هل ذهب الفرس إلى السماء ؟!.
· نعم يا بني ، أليس المعراج الشريف فوق السماء السابعة ، والرسول صلى الله عليه وسلم امتطى الفرس واخترق السماوات ......
ثم تذكر الجملة التي قالها أبوه : " حيث ارتفع نبينا صلى الله عليه وسلم وارتقى ، انحدرنا نحن " ، ثم نسي جدته ، وأخذ يسترجع ما قاله أبـوه كلمة كلمة ...... الدجال الأعور ..... قذارة الأذن ..... الحمار ...... القمح ....... أمريكا ....... حجـر على الطريق ...... حصاة في حارة . إن أبي يفعل ما يفعله الحواة (9) ..... يربط بين أطراف لا تشبه بعضها ؛ الحديث عن الزمن الحاضر ، لكنه يخلطه بالزمن الماضي . وبالرغم من هذا الإحساس فإن ظل أبيه بقي يحوم حوله ، واختلط الماضي بالحاضر في ذهنه .
استطاع " محسن " بصعوبة شديدة أن يفصل بين الماضي والحاضر ، وقرر : إن المعركة معركة الزمن الحاضر ، وأنا لا أعيش بين الأنبياء الكرام ، وإنما بين الناس في هذه الأيام .... أنا في الحاضر ، وأبي وأمي في الماضي . الدجال الأعور هو المستقبل المخيف لذلك الماضي الذي يعيش فيه أبي وأمي ، وهو كذلك مستقبل زماني !!. وأصابه بعض الحيرة ، لكنه قرر ثانية : بما أن الحال مشوش ، لذا فإن المستقبل أيضاً مشوش . وبعد التفكير بهذه الطرقة القاطعة رأى أن الليل كاد ينقضي كله ، وعليه أن ينام الآن ..... و أغلق عينيه .
ظل " محسن " مستلقياً مغمضاً عينيه لفترة طويلة وهو يظن أنه الآن قد نام . سعل الأب سعلة خفيفة ، ثم أطلق زفرة حارة . وفكر " محسن " مندهشاً ، ألم ينم أبوه إلى الآن ؟!. لقد كان متمدداً كأن النوم استغرقه . وأما أمه فقد لاحظ بأنها تململت عدة مرات في سريرها . وأخذت الذكريات تندفع إلى خياله :
· يقـول أبي كلاماً عجيباً .... كيف يربط هذه الأمور المتباعدة ببعضـها ؟!...... قذارة الأذن ...... الدجال الأعور ....... الحمار ....... القمح ...... أمريكا .
ثم تداخل الزمن في تصوره .... محسن : لا بد أنك تذكرت جدتك !!!... فكّر في حيرة ، كم من الأعوام قد مرّ وانقضى !!... لكنه يتذكر جدته وجده وطفولته ... يتذكر كل صغيرة وكبيرة ، كم من مواكب الأعراس كان يقيمها الهندوس ؟!. بمجرد أن يقترب الموكب كان هو يسرع لمشاهدتها بينما كان الارتباك يصيب جدته فتمسك به وهو على وشك الخروج من الباب ، وتغلق الباب وتعود به إلى الداخل وهب تقول :
· أيها التعس ، هل تريد أن تكون من جنود الدجال ؟!.
وكان جده بجسده الممتلئ ولحيته البيضاء يجلس على " الدكة " ، فأجلسه بجانبه برفق ، وأخذ يشرح له علامات الدجال واحدة واحدة :
· ...... ثم إن إمامنا .......
وأحنى رأسه ، وأحنت الجدة رأسها احتراماً متمتمة بالصلاة على رسول الله ، وانحنى هو حتى كاد جبينه يلامس الأرض :
· ثم يخرج صلى الله عليه وسلم ...
واغرورقت عيناه بالدموع .
· وسيعلن الحق ، ولن يشهد المسلمون بالحق ، إلا قليل منهم . جاء في الروايات أنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
قالت الجدة :
· كيف هذا ؟!. إنهم مئات الألوف ، بل الملايين من المسلمين ، فكيف لن يسمعوا صوت الإمام إذن ؟!.
· سيسمعونه جميعاً ، سيسمع صوته في العالم كله ، لكن أين المسلمون حينئذ ؟!. الكثيرون منهم سيكونون قد استشهدوا ، والكثيرون سيكونون قد اتبعوا الدجال ، وسيبقى فقط ثلاثمائة وثلاثة عشر هم الذين يجيبون الدعوة ، وهؤلاء هم الذين سيخرج بهم .
تقلب " محسن " في سريره وأخذ يفكر : هل أنا في الماضي ، أم في المستقبل ؟!. لقد اختلطت عليه كل الأمور ... الماضي ... الحال ... المستقبل ... اليقظة ... الحلم ... كل شئ . كان كأنه مستيقظ ، وكأنه نائم كذلك ... كأنه موزع بين مناطق الماضي والحال والمستقبل ... ثلاثمائة وثلاثة عشر !!!... أهذا هو ماضينا ، أم مستقبلنا ؟!. أتكون النهاية هي نفس ما كانت عليه البداية ... أن ننحدر ونتخلف حيثما ارتفعنا وارتقينا سابقاً ... سيأتي الدجال الأعور بالمزامير والصاجات ... الدجال الأعور ... قذارة الأذن ... الحمار ... القمح ... أمريكا ... أنا في الماضي أم في الحال ... كان نائماً ومستيقظاً في نفس الوقت ...... وحين استيقظ أخذ يفكر : هل كان نائماً فعلاً .
نظر " محسن " إلى السماء . كانت السماء أكثر صفاءً ، واختفى أكثر النجوم ، ولم يبق منها إلا القليل يتلألأ ، وذلك الطريق الضيق المتعرج والذي تناثر فوق قارعته غبار النجوم ؟!. قال لنفسه : ربما تضئ المجرة ليلاً وتأفل مع طلـوع الصبـح !!!. هل يعني هذا أن أذان الصبح قد رفع ... إنه لا يدري هل رفع الأذان أم لم يرفع بعد ؟!!. ولكن تناهى إلى سمعه من بعيد صوت صيـاح ديك في أحـد البيـوت ، وحينما تقلب في منامه رأى أباه مفترشاً سجادة الصلاة على " الدكة " وقد خرّ ساجداً ، بينما كان سرير الأم مقلوباً في جانب ، وهي تجلس على سجادة الصلاة مغمضة عينيها وفي يدها مسبحة .




هوامش


1 - من كبار أدباء الأردية الباكستانيين الرمزيين في القرن العشرين ، ولد في ديسمبر من عام 1925م بإقليم " اتربرديش : الهند حالياً " ، وحصل على الماجستير في اللغة الأردية عام 1946م من كلية " ميرتهـ " ، وعمل بالصحافة ، ومن أشهر مجموعاته القصصية : " كلى كوجـ : الحارات والأزقة " – " كنكرى : الحصى " – " آخري آدمى : آخر البشر " – " شهر أفسوس : مدينة الأسف "
2 - الإشارة هنا إلى هجوم إيطاليا على ليبيا عام 1911م .
3 - الإشارة هنا إلى الشيخ ظفر علي خان الشاعر المشهور ، ولد في مدينة " كوت مهرتهـ " مركز " سيالكوت : باكستان حالياً " عام 1873م ، وحصل على الليسانس من جامعة " عليكرهـ " ، ، وتولى إدارة مجلة " زميندار " الأسبوعية التي أسسها والده بعد وفاته . ومن أهم مجموعات ظفر علي خان الشعرية : " بهارستان – جمنستان – نكارستان " وغيرها . وكان له دور كبير في حركة التحرير في شبه القارة الهندو باكستانية في تلك الفترة .
4 - الإشارة هنا إلى الشيخ محمد علي جوهر من كبار مؤسسي حركة " الخلافة " التي تم تأسيسها في شبه القارة الهندو باكستانية " 1919م – 1924م " تأييداً للخلافة العثمانية في تركيا ، وكان من بين ما أدته هذه الحركة للمسلمين في تركيا هو جمع التبرعات وإرسالها إليهم ، وقد بلغت هذه التبرعات مليونا ونصف من الجنيهات الإسترلينية .
5 - يقصد بعد قيام باكستان كدولة مستقلة ، واستقلال الهند عن الاحتلال البريطاني عام 1947م .
6 - الإشارة هنا إلى الشاعر الكبير " حسرت موهاني " ، وهو من كبار شعراء الأردية في القرن العشرين . ولد حسرت موهاني في 25 يناير 1875م بولاية " اتر برديش : الهند حالياً " ، وحصل على الليسانس عام 1910م من كلية التجارة بـ " عليكرهـ " . هذا وقد كان لحسرت موهاني دور كبير في حركة التحرير في تلك الفترة أدى إلى دخوله السجون والمعتقلات .
7 - البان عبارة عن ورق التمباك محشو ببعض المواد التي تعطيه نكهة خاصة به ، ثم يمضغه الناس ، ويعطي أثر الدخان ، وهو أقسام عديدة .
8 - الدكة " الأريكة " مصنوعة من الخشب وهي تشبه ما كان مغروفاً عندنا بنفس الاسم ، وتفترش السيدة سجادة الصلاة فوقها ثم تصلي عليها .
9 - في الأصل مثل بالأردية يقول : " بهان متى نـ كنبه جورا كهين كى اينت كهين كا رورا " بمعنى أن الحاوي بنى بيت عائلته بحجر من هنا وحصاة من هناك ، أي يربط أشياء ببعضها ليس بينها رابط مثلما يتصور " محسن " عن أبيه من أنه يربط بين أشياء ليس بينها رابط .

إبراهيم محمد إبراهيم
15/11/2007, 08:39 AM
الدجال الأعور
انتظار حسين (1)

وضع سماعة التليفون ، واتجه إلى الشرّفة ، وألقى بنفسه على كرسي موضوع أمام كرسي أبيه . نظر الأب إليه وهو ينفث نرجيلته قائلاً :
· هل عرفت شيئاً ؟!.
· كلا يا أبي ، لم يتضح شئ حتى الآن ... أخبار كثيرة متناقضة .
ثم انحنى على المذياع الموضوع على المنضـدة أمامه ، وأخذ يدير مفتاحه ، ثم أغلق المذياع وهو يقول :
· ستتضح الأمور في الثانية عشرة ... أعتقد يا أبي أنك تفهم اللغة العربية .
· يا بني ، لقد طفت في تلك البلاد كثيراً ، فكيف لا أفهم اللغة العربية ! .
وواصل الأب تدخين النرجيلة ، وبعد لحظة وضع المبسم جانباً وقال :
· كانت هذه هي المحطة الأخيرة في رحلة الأرض .
· نعم .
ونظر إليه " محسن " مستفسراً ، فتريث الأب قليلاً ، ثم قال :
· حينما اتجه نبينا صلى الله عليه وسلم إلى المعراج ........
وانفجرت الأم التي كانت تجلس على السرير تقشر " الفوفل " باكيـة ، ثم وضعت الكسارة في الصينية ، ومسحت دموعها بذيل طرحتها ، بينما اغرورقت عينا الأب بالدموع ، لكنه تماسك ، وواصل حديثه بلهجة وقورة قائلاً :
· سافر النبي صلى الله عليه وسلم عابراً أنهاراً وجبالاً وصحارى إلى أن وصل إلى المسجد الأقصى ودخله ، فقال له " جبريل " عليه السلام : هيا بنا يا سيدي . فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام : إلى أين ؟. فقال : يا سيدي ، انتهت رحلة الأرض ، وهنا محطتها الأخيرة ، والآن أمامنا رحلة إلى العالم العلوي . عندئذ ارتفع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وظل يرتفع ويرتقي ...... السماء الأولى ..... السماء الثانية ...... الثالثة ...... الرابعة ....... وهناك صافح سيدنا عيسى عليه السلام ، ثم ظل يرتفع ويرتقى حتى وصل في نهاية المطاف قرب العرش الإلهي ، ولم يبق بينهما سوى مسافة قوسين ......
صمت الأب ، وتناول مبسم النرجيلة في فمه ثانية ، بينما كانت الأم لا تزال تبكي . مسحت الأم دموعها بذيل طرحتها ، وصمتت للحظة ، ثم قالت :
· حينما اشتعلت الحرب في " طرابلس " (2) كان ذلك في مثل هذه الأيام ، أيام الحرّ الشديد .......
ثم وجهت الأم كلامها إلى ابنها " محسن " :
· كان هذا يا بني قبل أن تولد أنت ، كنت في الشهر الثالث ، وكانت جدتك لأبيك رحمها الله قد اشترت لي أسورة ذهبية كبيرة . وعندما بدأت الحرب في " طرابلس " ثار المسلمون جميعاً ..... وجاء إلينا الشيخ " ظفر علي " (3) ، ثم جاء شيخ " حركة الخلافة " (4) ، وقالا لنا : أيتها الأمهات ، أيتها الأخـوات ، لقد حل بالمسلمين وقت عصيب ..... تبرعوا بحليّكم ..... فخلعت أسورتي والدموع تنساب من عيني وناولتها للشيخ ، وبعدها ظللت شهراً كاملاً مستلقية على بطني على السرير ......
تنهدت الأم الصعداء ، ولاذت بالصمت ، ثم نظرت إلى الأب الذي كان لا يزال يدخن النرجيلة في صمت ، وعندما نظر إليها عرف أنها شعرت بالراحة ، وأنها لن تتحدث ثانية ، لكن الأم تحدثت مرة أخرى :
· ما أعظم البركة في اسم الله ورسوله ، في العام التالي مباشرة ، وقبل أن تحل شهور الصيف ، التحق أبوك بوظيفة ، واشترى لي أسورة أكبر من الأولى .
ثم نظرت الأم إلى معصمها وهي تقـول :
· هذه الأسـورة !.
ثم تناولت الكسـارة وأخذت تقشر " الفوفل " ثانية وهي تقول :
· يا بني محسن ، أين الشيخ ظفر علي الآن ؟!.
· لقد مات يا أمي .
· وشيخ حركة الخلافة ؟!.
· مات هو الآخر .
· الأمر هكذا إذاً ......
ونظرت إلى ملابسها وهي تقول :
· وأنا أقول لنفسي : لم يأت إلينا أحد هذه المرة .
أطلق الأب زفرة حارة وقال :
· لقد تركنا خلفنا في الهند بعض القبور (5) ، وكان من بينها قبر انفصلنا عنه هو الآخر .... محسن ... هل رأيت " رئيس الأحرار " (6) ؟!.
· رئيس الأحرار !!! . كلا ....
واستغرق " محسن " في التفكير .
· نعم ، أين عساك تراه .... ذلك الشيخ أيضاً مدفون هناك ...
ثم أردف وقد علت وجهه مسحة من التفكير :
· يعلم الله كم من العظماء دفنوا هناك .... بلد عجيب ... حينما ذهبت هناك بدا لي وكأني أسير بين الأنبياء ...... ثم ذهبت إلى " المدينة المنورة " ... سبحان الله ... ما أعظمه من مكان !!!.
نظر محسن إلى أبيـه ، ثم إلى أمه ... كانت الدموع تتراقص في عينيهما ، وواصل الأب حديثه قائلاً :
· أعداد لا تحصى من الحمـائم على القبة الشريفة .. بيضاء ... لامعة ... بلا روث . سبحان الله ، حتى الطيور تجلّه .
تعجب " محسن " إلى حد ما مما قاله الأب :
· فأين تخرج تلك الحمائم روثها إذاً يا أبي ؟!.
· لا روث لها أصلاً .
· لا روث لها أصلاً !!! . كيف هذا ؟!.
وبدأ الشك يعتري قلبه فقال :
· ولماذا إذن ترابط كل هذه الأعداد من الحمائم هناك ؟!.
· لماذا ترابط هناك ؟!. ألا تعرف لماذا ؟!. الدنيا مقر الفتن ... منزل الشياطين ... الشياطين في كل جانب ، وهذا هو المكان الوحيد الآمن .
قالت الأم وهي تقشر " الفوفل " :
· انظر إلى القبة الشريفة ولا حمائم عليها !. كيف يكون منظرها ؟!!.
تريث الأب قليلاً ثم أردف :
· قصّي علينا الحلم كله .
بدت الأم وكأنها تحاول تذكر الحلم . قالت :
· لا أتذكر الحلم كله ، ولكن بقي بعض منه في الذاكرة ..... رأيت وكأنني ذهبت للزيارة معك ، وكأن الخلائق كلها تجمعت هناك ، والحمائم البيضاء ترابط في صحن المسجد الطاهر ، وعلى الجدار الطاهر ، وفوق القبة الطاهرة ... ثم لا أدري ماذا حدث ؟!..... لا أتذكر شيـئاً ... أذكر فقط أنني كنت وحيدة أنادي : أيتها الحمائم ، أين ذهبت ؟!... لا توجد حتى حمامة واحدة ..... لا في الصحن الطاهر ، ولا على الجدار الطاهـر ، ولا فوق القبة الطاهرة ..... ثم رأيت وكأنني أبحث عنك ..... وعندها استيقظت .
وكفت الأم عن الحـديث ، وقـرب الأب النرجيـلة إليـه ، واستغرق في تفكير عميق ، وشعر " محسن " أن أباه صمت ، ولن يتكلم ثانية ، لكنه قال وهو يدخن نرجيلته :
· يا ولدي محسن ، هل صحيح أن قائدهم له عين واحدة ؟!.
قال " محسن " :
· نعم ، صحيح .
· وهل صحيح أنه يضع غطاءً أخضر على عينه العوراء ؟!.
· نعم .
أطلق الأب زفرة حارة وقال :
· كلها علامات الدجال .
ارتسم الخوف على وجه الأم وقالت :
· لا قدر الله ، لماذا تقول هكذا ؟!.
· ليس أنا فقط ، الناس كلهم يقولون هذا .... كلها نفس العلامات .
· كيف ؟!. إنه سيظهر عندما تقترب الساعة !.
عندئذ أزاح الأب مبسم النرجيلة جانباً وقال بلهجة يملؤها الألم :
· يا أم محسن ، وماذا بقي الآن حتى تقوم الساعة ؟!!.
أحدثت هذه الجملة أثراً عجيباً في الأم حتى أنها انفجرت باكية ، ثم مسحت دموعها ، ووجهت حديثها إلى " محسن " :
· يا محسن ، أتذكر جدتك أم أبيك ؟!.
· نعم ، أذكرها تماماً .
· عندما كان موكب عروس هندوسية يمر من الحارة ، كنت تهرول لمشاهدته ، وكانت جدتك تصرخ فيك قائلة : لا تذهب يا بني ، إنه موكب الدجال . وكنت أنا أقول لها : يا جدة ، إنها زفة عروس هندوسية . فكانت تقول : يا زوجة ابني ، سيأتي الدجال يوماً ما بنفس الطريقة . ستكون معه المزامير والصاجات ، وسيكون هو نفسه راكباً حماراً ، وسينجذب الناس إلى مزاميره فيتبعونه بلا إرادة . وكنت أقول : كيف هذا يا جـدة ، هل هذا كلام يعقل ؟!. هل هناك من تجذبه المزامير إلى هذا الحد ؟!. فكانت تقول : يا زوجة ابني ، سيكون معه الكثير من أسباب الطمع ، سيحل بالناس قحط في تلك السنة ، قحط يجعل الناس يستغيثون ، وخبز كثير محمل على ظهر حماره ، وسيأتي بالرغيف ويضع عليه بعضاً من قذارة أذنه ، ويظن الناس ذلك حلوى ، وهكذا يتبعونه طمعاً في الخبز والحلوى !!!.
انفجر " محسن " ضاحكاً عندما سمع هذا ، لكن الأم غضبت من ضحكه وقالت :
· يا بني ، هذا ليس كلامي أنا ، كنت دائماً تسخر مما أقول ، ولكن هذا ما كانت تقوله جدتك ، ولا بد أنها تقول في قبرها : ما هذا الحفيد السعيد الذي يضحك على جدته المتوفاة .
شعر " محسن " بالخجل فقال :
· يا أمي ، أنا أضحك على أمر آخر ، حكاية أن الناس سيظنون قذارة الأذن حلوى تبدو لي عجيبة .
كان الأب لا يزال يدخن النرجيلة في صمت ، فلما سمع ما قال " محسن " وضع مبسم النرجيلة جانباً وقال في لهجة واثقة :
· يا بني ، هذا الكلام مضحك لكم أنتم المتعلمين ، ولكن إن دققت فيه ستجد عبرة كامنة . إن رسولنا صلى الله عليه وسلم والأئمة كانوا يعلمون ماذا سيحدث في المستقبل ، وما زلت أشعر بحيرة كبيرة عندما أرى كم ضاقت الأرزاق هذه الأيام بينما كانت حتى وقت قريب وفيرة ....... أتذكرين يا " أم محسن " ، كم كان سعر القمح عندما كان أبي على قيد الحياة ؟!.
فأجابت الأم على الفور :
· نعم ، لا زلت أذكر أن الجد كان يذهب إلى سوق الغلال أول كل شهر ومعه روبيتان ونصف ، ويعود ومعه عامل يحمل على رأسه جوال قمح .
عندئذ قال الأب :
· يا بني ، كان هذا إلى وقت قريب ، واليوم – وبلا مبالغة – لا تشتري الروبيتان ونصف أكثر من ملء الكف قمحاً ، وصرنا لا نستطيع تلبية احتياجاتنا حتى يأتينا القمح من أمريكا ، وما تعطيه لنا أمريكا ما هو إلاّ قذارة أذنها .
وداخلت لهجة الأب بعض المرارة ، ولهذا لم يجرؤ " محسن " على الحديث ، وإلاّ فإنه لا يستسيغ أن يربط الأب أمراً بآخر لا علاقة له به ؛ الحديث كان عن الدجال الأعور ، وربطه الأب بالمساعدات الأمريكية !!!. ولكن كيف يقول هذا وأبوه منفعل الآن ؟!. ثم طرأت على لهجة الأب مسحة من الحزن وهو يقول :
· هذا وقت عصيب على المسلمين .
وصمت الأب ، ثم قال :
· جاء في الروايات أنه عندما يخرج الدجال الأعور سيقتل المسلمين واحداً واحداً ، وسيبقى في النهاية ثلاثمائة وثلاثة عشر مسلماً .
سأله " محسن " بتعجب :
· ثلاثمائة وثلاثة عشر ؟!!.
فأجاب :
· نعم ، ثلاثمائة وثلاثة عشر ، سيقتل الكثيرون ، والكثيرون سيتبعون الدجال على حماره ، وسيبقى ثلاثمائة وثلاثة عشر فقط .
وأطلق الأب زفرة حارة وهو يقول :
· ليرحم الله المسلمين .
ثم أخذ يدخن النرجيلة ، وظل جالساً لبرهة كأنه مقيد في مكانه ، ثم نهض في هدوء واتجه إلى الشرفة ، ونادت الأم على " محسن " قائلة :
· يا بني ، اتصل بمكتب الجريدة ثانية .
وتقدم " محسن " إلى التليفون وأدار قرصه :
· ألو .
وتحدث لدقائق قليلـة ، ثم عاد وجلس على الكرسي في صمت . نظر الأب إلى وجهه بتمعن وسأله :
· هل هناك أخبار ؟!.
· نعم ، توقف إطلاق النار .
· هل استسلم المسلمون ؟!.
· اعتبر الأمر هكذا .
وانحنت رأس الأب ، وظل " محسن " ينظر إلى رأس أبيه المنحنية . أطلق الأب زفرة حارة وقال :
· في المكان الذي ارتفـع فيه نبينا صلى الله عليه وسلم وارتقى ، انحدرنا نحن .
ثم صمت ، وغطى حجر النرجيلة بالغطاء المخصص له ، ووضعها جانباً ، ثم رتب السرير الموضوع بجانبهم قليلاً وتمدّد فوقه .
كانت الأم لا تزال مستغرقة في تقشير وتكسير " الفوفل " بالكسارة ، وأدهش " محسن " أنها هذه المرة لم تبك ، ولم تنطق بكلمـة . ثم وضعت الأم الكسارة في الصينية ، ووضعت الصينية في صندوق " البان " (7) وأغلقته عليها ، ثم أخذت الصندوق إلى الشرفة ووضعته بجانب سجادة الصلاة على " الدّكة " (8) ، ثم وقفت وسط فناء البيت وتمتمت بشيء ، ثم نفثت بفمها يمنة ويسرة ، وصفقت بيديها ثلاث مرات ، ثم اتجهت إلى سريرها واستلقت فوقه على جانبها .

لم يكن النعاس يغالب " محسن " ، كان جالساً كأنه كومة سوف تنفرط إذا تحرك من مكانه . أخذ يدير مفتاح المذياع الموضوع على المنضدة أمامه ، وظل يديره ويديره ، وجاء المؤشر على إحدى الإذاعات .... جاءته منها بعض الأصوات ، لكنه وبغير أن يسمع أو يفهم ، أخذ يدير المفتاح ثانية حتى جاءت إذاعة أخرى ...... ربما لم يكن في ذهنه إذاعة بعينها ، ولهذا أصابه الملل من كثرة البحث بين الإذاعات ، فأغلق المذياع ، واستلقى على سريره .

لم يقترب النوم من عيني " محسن " ، أغلق عينيه مرات عديدة ، ثم احتفظ بها مغلقة . ولما أصابه الملل فتحهما ، وظل يحدق في السماء التي تعج بالنجوم ، وبدا له وهو يحدق في السماء ونجومها كأن هناك طريقاً ضيقاً متعرجاً يمتد بعيداً في السماء ، والنجوم محطمة وملقاة على قارعته . هذه هي المجرّة . ذكّره تصوره للمجرّة بجدته ..... كان طفلاً عندما كانت جدته على قيد الحياة . كانت تقول له :
· يا بني ، هذا غبار سنابك فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاهر .
· هل ذهب الفرس إلى السماء ؟!.
· نعم يا بني ، أليس المعراج الشريف فوق السماء السابعة ، والرسول صلى الله عليه وسلم امتطى الفرس واخترق السماوات ......
ثم تذكر الجملة التي قالها أبوه : " حيث ارتفع نبينا صلى الله عليه وسلم وارتقى ، انحدرنا نحن " ، ثم نسي جدته ، وأخذ يسترجع ما قاله أبـوه كلمة كلمة ...... الدجال الأعور ..... قذارة الأذن ..... الحمار ...... القمح ....... أمريكا ....... حجـر على الطريق ...... حصاة في حارة . إن أبي يفعل ما يفعله الحواة (9) ..... يربط بين أطراف لا تشبه بعضها ؛ الحديث عن الزمن الحاضر ، لكنه يخلطه بالزمن الماضي . وبالرغم من هذا الإحساس فإن ظل أبيه بقي يحوم حوله ، واختلط الماضي بالحاضر في ذهنه .
استطاع " محسن " بصعوبة شديدة أن يفصل بين الماضي والحاضر ، وقرر : إن المعركة معركة الزمن الحاضر ، وأنا لا أعيش بين الأنبياء الكرام ، وإنما بين الناس في هذه الأيام .... أنا في الحاضر ، وأبي وأمي في الماضي . الدجال الأعور هو المستقبل المخيف لذلك الماضي الذي يعيش فيه أبي وأمي ، وهو كذلك مستقبل زماني !!. وأصابه بعض الحيرة ، لكنه قرر ثانية : بما أن الحال مشوش ، لذا فإن المستقبل أيضاً مشوش . وبعد التفكير بهذه الطرقة القاطعة رأى أن الليل كاد ينقضي كله ، وعليه أن ينام الآن ..... و أغلق عينيه .
ظل " محسن " مستلقياً مغمضاً عينيه لفترة طويلة وهو يظن أنه الآن قد نام . سعل الأب سعلة خفيفة ، ثم أطلق زفرة حارة . وفكر " محسن " مندهشاً ، ألم ينم أبوه إلى الآن ؟!. لقد كان متمدداً كأن النوم استغرقه . وأما أمه فقد لاحظ بأنها تململت عدة مرات في سريرها . وأخذت الذكريات تندفع إلى خياله :
· يقـول أبي كلاماً عجيباً .... كيف يربط هذه الأمور المتباعدة ببعضـها ؟!...... قذارة الأذن ...... الدجال الأعور ....... الحمار ....... القمح ...... أمريكا .
ثم تداخل الزمن في تصوره .... محسن : لا بد أنك تذكرت جدتك !!!... فكّر في حيرة ، كم من الأعوام قد مرّ وانقضى !!... لكنه يتذكر جدته وجده وطفولته ... يتذكر كل صغيرة وكبيرة ، كم من مواكب الأعراس كان يقيمها الهندوس ؟!. بمجرد أن يقترب الموكب كان هو يسرع لمشاهدتها بينما كان الارتباك يصيب جدته فتمسك به وهو على وشك الخروج من الباب ، وتغلق الباب وتعود به إلى الداخل وهب تقول :
· أيها التعس ، هل تريد أن تكون من جنود الدجال ؟!.
وكان جده بجسده الممتلئ ولحيته البيضاء يجلس على " الدكة " ، فأجلسه بجانبه برفق ، وأخذ يشرح له علامات الدجال واحدة واحدة :
· ...... ثم إن إمامنا .......
وأحنى رأسه ، وأحنت الجدة رأسها احتراماً متمتمة بالصلاة على رسول الله ، وانحنى هو حتى كاد جبينه يلامس الأرض :
· ثم يخرج صلى الله عليه وسلم ...
واغرورقت عيناه بالدموع .
· وسيعلن الحق ، ولن يشهد المسلمون بالحق ، إلا قليل منهم . جاء في الروايات أنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
قالت الجدة :
· كيف هذا ؟!. إنهم مئات الألوف ، بل الملايين من المسلمين ، فكيف لن يسمعوا صوت الإمام إذن ؟!.
· سيسمعونه جميعاً ، سيسمع صوته في العالم كله ، لكن أين المسلمون حينئذ ؟!. الكثيرون منهم سيكونون قد استشهدوا ، والكثيرون سيكونون قد اتبعوا الدجال ، وسيبقى فقط ثلاثمائة وثلاثة عشر هم الذين يجيبون الدعوة ، وهؤلاء هم الذين سيخرج بهم .
تقلب " محسن " في سريره وأخذ يفكر : هل أنا في الماضي ، أم في المستقبل ؟!. لقد اختلطت عليه كل الأمور ... الماضي ... الحال ... المستقبل ... اليقظة ... الحلم ... كل شئ . كان كأنه مستيقظ ، وكأنه نائم كذلك ... كأنه موزع بين مناطق الماضي والحال والمستقبل ... ثلاثمائة وثلاثة عشر !!!... أهذا هو ماضينا ، أم مستقبلنا ؟!. أتكون النهاية هي نفس ما كانت عليه البداية ... أن ننحدر ونتخلف حيثما ارتفعنا وارتقينا سابقاً ... سيأتي الدجال الأعور بالمزامير والصاجات ... الدجال الأعور ... قذارة الأذن ... الحمار ... القمح ... أمريكا ... أنا في الماضي أم في الحال ... كان نائماً ومستيقظاً في نفس الوقت ...... وحين استيقظ أخذ يفكر : هل كان نائماً فعلاً .
نظر " محسن " إلى السماء . كانت السماء أكثر صفاءً ، واختفى أكثر النجوم ، ولم يبق منها إلا القليل يتلألأ ، وذلك الطريق الضيق المتعرج والذي تناثر فوق قارعته غبار النجوم ؟!. قال لنفسه : ربما تضئ المجرة ليلاً وتأفل مع طلـوع الصبـح !!!. هل يعني هذا أن أذان الصبح قد رفع ... إنه لا يدري هل رفع الأذان أم لم يرفع بعد ؟!!. ولكن تناهى إلى سمعه من بعيد صوت صيـاح ديك في أحـد البيـوت ، وحينما تقلب في منامه رأى أباه مفترشاً سجادة الصلاة على " الدكة " وقد خرّ ساجداً ، بينما كان سرير الأم مقلوباً في جانب ، وهي تجلس على سجادة الصلاة مغمضة عينيها وفي يدها مسبحة .




هوامش


1 - من كبار أدباء الأردية الباكستانيين الرمزيين في القرن العشرين ، ولد في ديسمبر من عام 1925م بإقليم " اتربرديش : الهند حالياً " ، وحصل على الماجستير في اللغة الأردية عام 1946م من كلية " ميرتهـ " ، وعمل بالصحافة ، ومن أشهر مجموعاته القصصية : " كلى كوجـ : الحارات والأزقة " – " كنكرى : الحصى " – " آخري آدمى : آخر البشر " – " شهر أفسوس : مدينة الأسف "
2 - الإشارة هنا إلى هجوم إيطاليا على ليبيا عام 1911م .
3 - الإشارة هنا إلى الشيخ ظفر علي خان الشاعر المشهور ، ولد في مدينة " كوت مهرتهـ " مركز " سيالكوت : باكستان حالياً " عام 1873م ، وحصل على الليسانس من جامعة " عليكرهـ " ، ، وتولى إدارة مجلة " زميندار " الأسبوعية التي أسسها والده بعد وفاته . ومن أهم مجموعات ظفر علي خان الشعرية : " بهارستان – جمنستان – نكارستان " وغيرها . وكان له دور كبير في حركة التحرير في شبه القارة الهندو باكستانية في تلك الفترة .
4 - الإشارة هنا إلى الشيخ محمد علي جوهر من كبار مؤسسي حركة " الخلافة " التي تم تأسيسها في شبه القارة الهندو باكستانية " 1919م – 1924م " تأييداً للخلافة العثمانية في تركيا ، وكان من بين ما أدته هذه الحركة للمسلمين في تركيا هو جمع التبرعات وإرسالها إليهم ، وقد بلغت هذه التبرعات مليونا ونصف من الجنيهات الإسترلينية .
5 - يقصد بعد قيام باكستان كدولة مستقلة ، واستقلال الهند عن الاحتلال البريطاني عام 1947م .
6 - الإشارة هنا إلى الشاعر الكبير " حسرت موهاني " ، وهو من كبار شعراء الأردية في القرن العشرين . ولد حسرت موهاني في 25 يناير 1875م بولاية " اتر برديش : الهند حالياً " ، وحصل على الليسانس عام 1910م من كلية التجارة بـ " عليكرهـ " . هذا وقد كان لحسرت موهاني دور كبير في حركة التحرير في تلك الفترة أدى إلى دخوله السجون والمعتقلات .
7 - البان عبارة عن ورق التمباك محشو ببعض المواد التي تعطيه نكهة خاصة به ، ثم يمضغه الناس ، ويعطي أثر الدخان ، وهو أقسام عديدة .
8 - الدكة " الأريكة " مصنوعة من الخشب وهي تشبه ما كان مغروفاً عندنا بنفس الاسم ، وتفترش السيدة سجادة الصلاة فوقها ثم تصلي عليها .
9 - في الأصل مثل بالأردية يقول : " بهان متى نـ كنبه جورا كهين كى اينت كهين كا رورا " بمعنى أن الحاوي بنى بيت عائلته بحجر من هنا وحصاة من هناك ، أي يربط أشياء ببعضها ليس بينها رابط مثلما يتصور " محسن " عن أبيه من أنه يربط بين أشياء ليس بينها رابط .