المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الثاني من الباب الثامن من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
19/11/2007, 09:11 AM
الجزء الثاني من الباب الثامن
حيثما تكون كيزان العسل يتواجد النمل
الفخار والطعم :
ثم ضحك " محمد فاضل " وهو يقول : وهناك أمر آخر في أكلة " الطاجن" لا تجد له نظيراً ، لقد قلت لصاحب الفندق ذات مرة وقت أن كنت أعمل طباخاً لديه : يا سيدي ، أريد بعض الأواني للمطبخ ، فأجابني بدهشة : إن الأواني في المطبخ كلها جديدة ، ويوجد من كل شكل منها أربعة أطقم كاملة ، وليس هناك حاجة إلى أوان جديدة . قلت : نعم ، ليست هناك حاجة إلى أوان جديدة . فسـألني : أي نوع من الأواني تطالب بشرائه إذاً ؟. قلت : يا سيدي ، إنني أطلب آنية يتضاعف فيها مذاق الطعام أربعة أضعاف عما هو عليه الآن .
ولم يستوعب صاحب الفندق كلامي ، ورغم أن أهل الغرب يحبون من الطعام ما يكون خالصاً نفيساً ، ولا يعرفون معنى المذاق أو الطعم ، ومع ذلك وافق صاحب الفندق على ما أقول . ولكني عندما قلت له يا سيدي إنني أريد آنية من الفخار ، كاد يجنّ .
وأصابتني أنا الآخر حيرة ودهشة مما يقول " فاضل " ، فقلت له : وهل استطعت أن تعدّ آنية من الفخار هناك ؟!. قال فاضل : يا أخي ، إن المتعة واللذة التي تشعر بها في آنية الفخار لا يمكن أن تشعر بهـا في آنيـة أخـرى . تستطيـع أن تضع " الكـوارع " (18) في آنية الفخار " الطاجن " ، ثم تشعل تحتها ناراً هادئة ، ودعها تنضح على مهل طيلة الليل ، ثم تناوله عند الصباح ، وستجد له طعماً لا مثيل له ، لا أدري ، هل الفخار يتحكم في الحرارة ، أم ماذا ؟!. المهم أن مذاق الطعام فيه يكون رائعاً ، ولا يتوقف الأمر على اللحم فقط ، بل اطبخ فيـه عدساً إن أردت ، أو " حليم " (19) ، أو حمص ، أو حتى " كرشة وممبار " !! .
سألت " محمد فاضل " : ما الفرق الذي نتـج عن استخدامك لآنيـة الفخار في الفندق ؟!. قال : لقد جعلت الناس يدمنون الطعم ، وطبخت من " الطاجن " أنواعاً جعلت اللعاب يسيل في أفـواه الأوروبيين . لقد تعلمت هنـاك شيئـاً يا أستـاذ ، وهو أنه لا مثيل لـ " الطاجن " بين الأطعمة ، ولا مثيل لـ " الإسلام " بين الأديان !!.
قلت مندهشاً : ماذا تقول ؟!. ما العلاقة بين " الطاجن " و " الإسلام " ؟!. قال يا أستـاذ ، " الطاجن " طعـام متـوازن ، و " الإســلام " كذلك دين متوازن ، وكل ممـيزات " الطاجن " تجدها في " الإسلام " : الدنيا ، كذلك الله ، المخلوق والخدمة ، وكذلك السيادة ، والمحبة والجهاد كذلك ، والرحمة والعفو والانتقام كذلك . ما هذا التوازن في الدين يا أستاذ !!!. إنه يبقي على العلاقة مع الله ، ومع الدنيا أيضاً ، يقول لك اجمع من الثروة ما تشاء ، لكن اعط الآخرين أيضاً ، ابن لنفسك " فيللا " ، لكن ابن للفقير معك ولو " كوخاً " ، أعدّ لنفسك لباساً من الحرير ، ولكن أعدّ لمحتاج معك لباساً ولو من قماش " الدمّور " ، ادفع لابنك مصاريف مدرسته ، ولكن ادفع لطالب فقير مصاريفه أيضاً .
وازداد " فاضل " حماساً ، وقال : ما أعظم الدين الإسلامي !!. إنه يقول مهما كانت وفـرة المال ، عليك أن تنميه وتعمل على زيادته ، فإذا تعلّمنا أن نعطي ، فلن تقوم للرأسمالية قائمة !!.
وفي الطريق بعد أن انصرفت من عند " فاضل " ، كان ذهني يموج بالأفكار موجاً . قلت لنفسي : ما أبسط صورة الإسلام في ذهن " فاضل " !!. لكن أئمتنا عقّدوا هذا الدين بلا داع . ولما وصلت إلى البيت وجدت الدكتور " إبدال بيلا " في انتظاري ، وما أن رآني حتى صاح قائلاً : التّمرد بداخلك على أشدّه ، وأنت تقول لا شيء يحدث !!. قلت : كنت الآن في زيارة لطباخ يعمل في أحد فنـادق باريس . قـال لي : هنـاك شيئـان في الدنيا لا مثيل لهمـا ، " الطاجن " بين الأكلات ، و " الإسلام " بين الأديان !!.
وضحك الدكتور " بيلا " قائـلاً : نعـم ؟!. ماذا تعني بـ " الطاجن " ؟!!. قلت : " الطاجن " الذي عندنا ، " قدرة الفخار " التي نطبخ فيها اللحم والبطاطس ، واللحم والكوسة ، " القدرة " يا رجل !!. قال " بيلا " لم أفهم شيئاً . ولما أخبرته بما حدث تفصيلاً قال : يا أخي ، عندما كنا في كلية الطب ، كان عندنا أستاذ هو الدكتور " جدون " ، وكان من المغرمين بـ " آنية الفخار " ، ويستخدمها للطبـخ في بيتـه ، كمـا كان يشرب المـاء من " القلّة " ، كان يقول إن " قلّة الفخار " تمتص كل الشوائب من الماء ، كم كانت أفكاره عجيبـة !!. كان مثقفـاً كبيراً ، عاش في أوروبا وأمريكا خمسة عشر عاماً ، وكنا نسميه الأستاذ " جنون " بدلاً من الأستاذ " جدون " ، فقد كان يحدثنا بأحاديث عجب ، ويخبرنا بأشياء عجيبة أيضـاً . وضحك الدكتور " بيلا " قائلاً : لقد كنا نعتبره حينذاك مجنوناً . سألته : ماذا كان يقول ؟!!. قال : كان يقول لنا : إن كنتم تؤمنون بالله من أعماق قلوبكم ، فإنكم بذلك تجنّبون أنفسكم خمسين بالمائة من الأمراض ، بمعنى أنكم تصبحون في مأمن من خمسين بالمائة من الأمراض . كما كان يقول:إن أحسنتم علاقتكم بالله ازدادت مناعة أجسامكم بدرجة تحميكم من الأمراض حين تهاجمكم .
قلت : كلام محيّر فعلاً ، فقال " بيلا " : كان محيّراً إذ ذاك ، أما الآن فلا ، إذ اكتشفت حقيقة ما قال بعد أن دخلت إلى المجال التطبيقي للطب . ثم ضحك " بيلا " وقال : كان الأستاذ " جنون " يتحدث إلينا بقلب مفتوح عندما يكون في حالة نفسية مرتفعة ، كان يقول لنا : يا أولاد ، إننا في غاية الحمق ، بدليل أننا إلى الآن نعتقد أن الجسم ينشر الأمراض ، وهذه فكرة خاطئة ، لأن الذهن هو الذي ينشرها وليس الجسم ، إننا نهتم بالأعضاء والأجهزة الظاهرة فقط ؛ القلب ، الكبد ، الرئتين ، الكلى ، أما الأعضاء التي تنشط العواطف والأفكار والتصورات والأخيلة فإنها غير ظاهرة ، مثل الشعيرات الدموية والخلايا ، فهي تفرز نوعاً من الرطوبة عجيب ، يؤثر على صحتنا . كان الأستاذ يقول : لقد أصبح من الثابت طبقاً للعلم الحديث أن أكثر عواطف الإنسان تأثيراً فيه عاطفة الخوف ، ثم إن للخوف معاونيه وأشكاله المختلفة ، مثلما أن للشيطان معاونيه " وصبيانه " من الشياطين ، مثلاً الصراع الداخلي والتذبذب والوهم والوسوسة والتردد والاضطراب والقلق ، وكل هذه العواطف تؤثر على معدة الإنسان ، تولّد حموضة ، وتؤدي إلى قرحة ، فإذا آمن الإنسان بالله الواحد ، وزرع في قلبه يقيناً بأنه لا خوف ، وأنه ليس هناك قوة سوى الله ، فإنه يصبح في مأمن من المخاوف اللاشعورية لهذه الإثارة .
كان الأستاذ " جدون " يقول : الله كوسادة تضع عليها رأسك فتحرر من كل الضغوط والقلق والمخاوف ، وما هو الإسلام ؟!!. إن الإسلام يحمي الإنسان من الأفكار السلبية ، ينقذه من الشّر ، يجنبه مخاطر العواطف السلبية مثل الغضب والحقد والعداوة والانتقام والحسد ، إذ أن هذه العواطف السلبية تجعل الغدد في الجسم تفرز إفرازات سامة ، بينما في حالة العواطف الإيجابية كالمحبة والمساواة والشفقة وخدمة الآخرين تفرز إفرازات صحية .
أجبرني كلام الدكتور " بيلا " على مزيد من التفكير ، لماذا يخلق فينا أئمتنا عاطفة الخوف ؟!. لا أدري لماذا يركّزون دائماً على الأمور السلبية ، إنهم لم يحدثونا أبداً عن ذلك الجمال اللانهائي الذي يحيط بنا في الدنيا من كل جانب !!. لا يحدثوننا أبداً عن عاطفة الخير الكامنة في قلب الإنسان ، لا يحدثوننا عن تلك الرحمات ، وذلك السخـاء ، وتلك النعم التي منّ الله بها علينا ، لا يحدثوننا عن ذلك الشرف الذي منحه الله تعالى للإنسان .
أيها السادة ، يقول " الكبار " من أهل البصيرة عن القرآن أنه مثل الوردة البلدي ، إذا قطفت منها ورقة ظهرت مكانها ورقة أخرى ، وكلما أخذت واحدة ظهرت تحتها أخرى ، وهكذا ، ورقة تحت ورقة تحت ورقة ، وهكذا القرآن الكريم ، مفهوم داخل مفهوم ، ومعنى داخل معنى ، وكلما تأملت وصلت إلى مفهوم أعمق ، لكن أئمتنا يعتقدون أن المعنى الظاهر هو المعنى الذي لا معنى بعده ، ثم يدورون حول هذا المعنى .
يقول الله تعالى في مواضع متعددة من القرآن الكريم أن انظروا إلى كائناتنا ، لا تنظروا إليها نظرة عابرة ، وإنما أمعنوا النظر فيها ، ولا تتوقفوا عند النظر فقط ، وإنما فكروا وافهموا ، ثم انظروا وفكروا ، ثم انظروا وفكروا ، اقرأوه قراءة ليست عابرة ، وإنما بتمعن وتفكر وفهم ، ثم اقرأوه ثانية وافهموه ، وعندئذ سيأتي عليكم وقت تفهمـون فيه أسرار الكائنات من إشارات القرآن .
أما أئمتنا فليس بداخلهم رغبة في تأمل الكائنات والتفكر فيها ، ومعرفة أسرارها ، ليست لديهم رغبة في فهم القرآن ، إنهم يرغبون في تلاوة القرآن فقط ، لكي يحصلوا على الثواب ، ويستحقوا الجنة ، حيث تجري أنهار اللبن ، وتدنوا منهم أغصان الأشجار المثمرة بإشارة منهم ، وقبل كل هذا الحور العين ..
سادتي ، القرآن الكريم كتاب مدهش ومثير ، كتاب لا نجد له مثيلاً ، ومكتبات العالم في أيامنا هذه زاخرة بالكتب ، آلاف الكتب في كل فرع من فروع العلم ، كتب دينية ، وكتب علمية ، وكتب في الفن ، ولكن ليس من بين هذه الآلاف ، بل هذه الملايين من الكتب كتاب كالقرآن . إن أسلوب القرآن وطريقته فريدة ، وموضوعاته فريدة ، وإشاراته أيضاً فريدة .
نحن عامة المسلمين نعتقد أن القرآن كتاب إسلامي ، وأن الله تعالى يخاطب به المسلمين . كلا ، هذا ليس صحيح ، إذ أن هذا الكتاب يخاطب بني الإنسان جميعاً ، وكذلك شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً ، فهي ليست مثالاً يحتذيه المسلمون فقط ، وإنما هي شخصية مثالية لبني الإنسان جميعاً .
نحن عامة المسلمين نعتقد أن القرآن كتاب ديني ، وهذا قصور في الفهم لدينا ، إذ أن القرآن كتاب للكائنات كلها ، فيه إشارات لرموز وأسرار الكائنات ، وإشارات للبحث العلمي ، وهذه الإشارات ظاهرة واضحة ، وكامنة خفية في الوقت نفسه . وإشارات القرآن تحثنا على البحث عن طريق لمعرفة أسرار الكائنات ، إنها ترينا الطريق ، والقرآن كتاب تاريخي ، به من الأحداث ما وقع قبل التاريخ المكتوب ، والقرآن كتاب أخلاق ، به مبادئ الأخلاق والتعامل الإنساني ، والقرآن كتاب في الصحة العامة ، به ذكر للمبادئ والاشتراطات الصحية ، وذكر للأدوية والعلاجات التي ثبت أنها تمنح الشفاء الدائم .
وأذكر لكم أيها السادة على سبيل المثال خبراً نشر في جرائد اليوم (20) جاء فيه أن مريضة وصلت إلى إحدى المستشفيات مصابة بحروق شديدة ، حيث تشوّه وجهها تماماً بسبب انفجار موقد ، واحترق جسدها ، وباءت كل محاولات الأطباء لعلاجها بالفشل ، وأكدوا على أنها لا علاج لها ، وبعد ذلك جاءت سيدة من إحدى المدن تعالج بالأدوية القرآنية وقالت للأطباء : لقد يئستم من حياة المريضة ، والآن اسمحوا لي أن أعالجها .
وسمح لها الأطباء ، وغطّت السيدة جسم المريضة كله بطبقة من عسل النحل ، وظلت تكرر هذا لثلاثة أيام متتالية ، وحدث تحسّن مذهل في حالة المريضة ، ونجت من الموت ، والآن يتماثل وجهها وجسدها للشفاء . أيها السادة ، إن القرآن لا مثيل له ، وكيف يكون له مثيل وهو كلام الله القادر المطلق الذي لا شريك له .
والله كذلك لا مثيل له ، وهو عاشق ومعشوق في وقت واحد ، معشوق ومحبوب عظيم يقول انظروا إليّ ، تكلموا عني ، اذكروني ، أحبوني ، انتشوا بمحبتي .
وهو عاشق أيضاً ، يحب مخلوقاته ، يرعى كل ذي روح ويهتم به ويدلّله ، يطعمه ويسقيه لكي لا يتألم أحد ، ويتواصل رزقه وغيث نعمائه ، إنه عاشق متيّم بمخلوقاته ومن وراء ستار (21) .
سادتي ، أنا شاب من الجيل الجديد ، تربيت على الأدب الغربي ، متأثر بالغرب ، متيم بالموضات والتقاليد الغربية ، أنا علماني بطبعي ، لكني لم أكن أستوعب مفهوم العلمانية بشكل كامل ، وإنما أفهم المعنى السائد لها ، وهو أن الدين مجرد شيء ، لكن لا أهمية له ، ويمكن للإنسان أن يحيا بدونه أيضاً ، أعترف بالله ، ولو بمجرد الكلام ، فلا فرق يذكر ، وأتوسل إليكم يا علماء الدين أن لا ترفضوني ، أن لا تقرأوا عليّ " لا حول ولا قوة " ، لا تعتبروني ملحداً أو كافراً ، لا تنفروا مني ، وإنما فكروا بهدوء ، فأنا أستحق تعاطفكم واهتمامكم .
عاصفة الثقافة المتداخلة :
حضرات السادة ، أتظنون أن ثقافة " الكوكا كولا " ، و " الكلاشنكوف " ، و " موسيقى البوب " ، و " الأطباق الهوائية " المنتشرة الآن ، والتي تؤثر بشكل رهيب في شباب العالم كله ، ما هي إلا اختراع من أهل الغرب ، ومؤامرة مدبّرة منهم ضد الإسلام ؟!!!. إن كان هذا هو ظنكم فهو إذاً مبني على التعصب من أوله إلى آخره !!. إن أوروبا كلها تعاني معاناة شديدة من هذه الثقافة المرتبكة ، لأن أتربتها قد دفنت ثقافتهم الأصلية تحتها .
حضرات السادة ، أؤكد لكم أن شباب هذه الأيام الواقع تحت تأثير هذا الإعصار الثقافي مظلوم تماماً ، مثله مثل الفراشة التي تظهر لها أجنحة في فصل المطر ، وتضطر للطواف حول الشموع ، وربما يكون الله تعالى هو الذي سبب هذه الدوامة لمقصد يعلمه هو .
حضرات السادة ، إن الفطرة ذكية للغاية ، إنها إن لم تستطع استخراج السمن بأصبع مستقيم ، أخرجته بأصبع معوج (22) ، وإذا لم تستطع تحقيـق أمر مـا بـ " فعل " ، حققته بـ " ردّ فعل " . كان عندنا شاعر فكاهي يدعى " نذير شيخ " ، وهو عالم تجريبي بالأساس ، لكنه يكتب الفكاهة بأسلوب رائع ، وذلك في الحقيقة راجع إلى أنه من أهل البصيرة ، وقد كتب منظومة عن هذه الدوامة الثقافية سابقة الذكر ، منظومة رمزية بعنوان " العاصفة " ، يقول :
· يهتزّ " الشباك " اهتزازاً ، وتنزاح " الستائر " ، وتتراقص " النوافذ " .
· ويتحول البيت إلى صحراء قبل أن نتمكن من إغلاق منافذه .
· وتتحطم المظلات " التندات " ، وتختنق الأنفاس .
· وتتعلق " الخفافيش " بالأشجار ، ويتزايد حفيف الغاب .
· وترتفع مكانة " الكناسين " ، وتزداد الحاجة إليهم .
· ويرتفع صوت كالطبل من " علبة السمن " ، ويبدو " الغربال " وكأنه يرقص .
· وتتخذ " الصور " على الحائط أوضاعاً عجيبة .
· فتنقلب صورة " غالب " (23) رأساً على عقب ، بينما يخرّ " إقبال " في صورته ساجداً .
· ويكاد العقل يجنّ من مشهد " السرائر " التي وضعناها فوق سطح المنزل (24) .
· فالسرير يهتزّ كـ " بساط الريح " ، و " المرتبة " بدت في ركن بعيد كالفراشة .
· وجاءت " العاصفة " ففرقت أيدي الحبيب والحبيبة اللذان كانا يتعاهدان على الحياة معاً .
· وتترنّح " السيارة " على الطريق وإن حاولت أن تجعلها تسير مستقيمة .
· إن " العاصفة " مستقيمة في سيرها ، بينما تترنح الدنيا كلها وتتمايل من حولها .
· وتتلاشى معالم الطريق أمام الحصان في " الحنطور " ، و " الحـوذيّ " لا يعتـرف بذلك ، فيضرب الحصان ، والحصان لا يتوقف عن الركل بقدميه .
· وتطايرت " اللحى " ، وانتفشت " الشوارب " .
· وبقدر ما تخفي " الطيور " أذيالها أسفل منها بقدر ما تزيحها العاصفة أمامها .
· وسيـدة تحـاول السيطـرة على " الســاري " (25) ، وأخـرى تمسك بإزارهـا ، و " الغسال " يجمع الملابس المغسولة .
· فكأن هذه الأشياء كلها قد صنعت لنفسها " أجنحة " وشرعت تطير .
· والعشب اليابس يتطاير متعلقاً " بسراويل " المارة .
· وإلى أن يخلص الناس ملابسهم من العشب تكون " عمائمهم " قد طارت .
· وتصير الدنيا كلها مثل " العفريت " ، ويتساوى الأبيض والأسود .
· وإلى أن يزيد " العطار " ما يزن من " الكزبرة " الجافة تكون التوابل كلها قد اختلطت ببعضها البعض .
أئمتنا لا يعرفون كيف ينقذوننا :
صدقني ، نحن الشباب المتأثرين بالغرب وقعنا فريسة لهذا " الإعصار " ، ومن المفروض أن ينقذنا علماء الدين ، المشكلة أن علماء الدين لا يعرفون كيف يرفضوننا ، يعرفون كيف يتهموننا ، يعرفون كيف ينقدوننا ، لكنهم لا يعرفون كيف ينقذوننا ، ليس لديهم روح التبليغ والدعوة ، إذ أن روح التبليغ والدعوة لا تكون في مجرد الوعظ وإلقاء الخطب ، والعتاب واللوم ، إنما تكون في الخدمة بحب وتعاطف . سيقولون لي لكي ننقذك من هذه " العاصفة " عليك أن تترك هذه الملابس " الكفرية " ، وتطلق لحيتك ، وتصلي الفروض الخمسة بانتظام .
إلى هذا الحد يتسم أئمتنا بالسذاجة !!. إنهم يعتقدون أن كل شيء سيصير إلى ما يرام إذا أديت الصـلاة ، ونحن بطبيعة الحال نسلّم بعظمة الصلاة ، لكن أئمتنا حدّدوا الإسلام بالصلاة فقط ، مع أنك إذا طالعت سيرة حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعيش بالإسلام ، لعلمت أن هناك أشياء أخرى في الإسلام إضافة إلى الصلاة … أشياء كثيرة جداً . يقول علماء النفس أن الأئمة والخطباء يركّزون على الصلاة ، لأن الصلاة تركّز على المسجد ، والأئمة والخطباء يحكمون في المساجد ، فالهدف إذاً هو تقوية الـ " أنا " لديهم ، وتأكيد احتكارهم لهذا الأمر ، وهذا الرأي من علماء النفس له وجاهته . وإذا كنّا نريد فعلاً أن ننقذ شباب هذا العصر من هذه العاصفة ، فإن علينا أن نخلق بداخلنا تعاطفاً معهم أولاً .
الاعتزاز :
علينا أن نخلق بداخلهم الشعور بعظمة الإسلام ، نعلمهم الاعتزاز بالإسلام واليقين عليه ، نخبرهم كيف حكم الإسلام نصف العالم لقرون عديدة ، وأنه علّم أمم الغرب القراءة والكتابة ، وأرشدهم إلى طريق البحث والتحقيق ، ولقّنهم الدروس في عظمة العلـم ، وعلّمهم أسلوب الحكم ، وخلق فيهم الشعور بالعدل والإنصاف .
إن شباب هذا العصر غافلون ، يرون المسلمين أميين جهلة ، لا علم لديهم ، أحوالهم بائسة ، يضربون من كل جانب ، ولهذا فإن هذا الشباب يائس من الإسلام ، خجل منه ، نادم على كونه مسلماً .
ولماذا لا يكون خجلاً ونادماً وهو معدود من المطرودين من الرحمة !!. إن القـادة المرشدين ، الذين يفترض فيهم أن يرشدوه إلى الطريق الصحيـح ، ويقرّبـوه منهـم ، ويحترمـوه ، جعلـوا من أنفسهم " براهمة " ، ومن عامة المسلمين " منبوذين " ، يعتقدون أنهم هم المؤمنون ، بينما المسلم الذي ينطق بالشهادتين مجرد " محبّ للإسلام " ، وليس مسلماً ، لقد جعل أئمتنا من أنفسهم آلهة بتفاخرهم المتواصل بـ " علمهم " و " تقواهم " .
سادتي ، عليكم أن توقظوا الإسلام الكامن بداخل شباب هذا العصر ، أخبروهم أن الإسلام ليس ديناً فقط ، ليس طقوساً فقط ، ليس تركة وموروثاً ، الإسلام ثورة عظمى منحت الإنسان شرفاً لم يمنحه إياه أي دين آخر قبله ، ثورة أعطت الناس من الحقوق ما لم تعطها لهم أية حضارة أخرى حتى يومنا هذا . لقد ظهرت بفضل الإسلام شخصيات لا مثيل لها ولا نظير .
المساواة الإسلامية :
هوامش
18 - استخدم الكاتب لفظ " كهروريـ " ، وهو لفظ بنجابي يعني الكوارع كما ذكرنا في الترجمة ، أما اللفظ الأردي الذي يدل على هذا المعنى فهو " سري بائـ " .
19 - الحليم أكلة باكستانية تصنع من العدس ، ويضاف إليه اللحم لم أراد ، ويضربان معاً " يهرسان " ، وطعمه لذيذ ، ويشبه الكشك باللحم عندنا في مصر .
20 - طبعاً يوم أن كان المؤلف يكتب هذه السطور على وجه التحديد .
21 - لا أدري إن كان في الحديث عن الله بهذا الأسلوب ما يؤخذ عليه من قبل البشر أم لا ، لكن الله يقيناً أرحم الراحمين .
22 - تعبير باللغة الأردية يقول " تيرهي انكلي بغير كهي نهين نكلتا " وتعني أن السمن لا يستخرج من " قدرته " إلا بأصبع معوج ، أي أن الاستقامة في هذه الدنيا لا تحقق شيئاً ، وأن اللف والدوران يحقق أكثر مما تحققه الاستقامة .
انظر : فيروز اللغات – اردو جامع – ص 434 – لاهور – باكستان 1989م .
23 - شاعر الغزل الأردي المعروف ، ومن أعظم شعراء الأردية على الإطلاق ، وأكثر ما كتب كان بالفارسية شعراً ونثراً ، إلاّ أن شهرته كشاعر تأسست على الديوان الصغير الذي كتبه باللغة الأردية ، وتوفي غالب عام 1869م .
24 - السرائر المشار إليها هنا سرائر خشبية بدائية عبارة عن أربعة قطع عمودية من الخشب تمثل أرجل السرير ، وخيوط الدوبارة القوية تمثل " الملّة " ، وتوضع هذه السرائر أحياناً فوق أسطح المنازل ليستريح عليها الناس عند المساء وفي الليل في فصـل الصيف شديد الحرارة ، والذي تهب فيه العواصف أحياناً مما يتناوله الشاعر هنا بالوصف .
25 - اللباس الهندي المعروف ، وهو من القماش الفاخر ، تلفه السيدة على جسدها كله ما عدا البطن لدى الهندوسيات ، بينما تلبس السيدات المسلمات تحته قميصاً قصيراً ليغطي منطقة البطن .

إبراهيم محمد إبراهيم
19/11/2007, 09:11 AM
الجزء الثاني من الباب الثامن
حيثما تكون كيزان العسل يتواجد النمل
الفخار والطعم :
ثم ضحك " محمد فاضل " وهو يقول : وهناك أمر آخر في أكلة " الطاجن" لا تجد له نظيراً ، لقد قلت لصاحب الفندق ذات مرة وقت أن كنت أعمل طباخاً لديه : يا سيدي ، أريد بعض الأواني للمطبخ ، فأجابني بدهشة : إن الأواني في المطبخ كلها جديدة ، ويوجد من كل شكل منها أربعة أطقم كاملة ، وليس هناك حاجة إلى أوان جديدة . قلت : نعم ، ليست هناك حاجة إلى أوان جديدة . فسـألني : أي نوع من الأواني تطالب بشرائه إذاً ؟. قلت : يا سيدي ، إنني أطلب آنية يتضاعف فيها مذاق الطعام أربعة أضعاف عما هو عليه الآن .
ولم يستوعب صاحب الفندق كلامي ، ورغم أن أهل الغرب يحبون من الطعام ما يكون خالصاً نفيساً ، ولا يعرفون معنى المذاق أو الطعم ، ومع ذلك وافق صاحب الفندق على ما أقول . ولكني عندما قلت له يا سيدي إنني أريد آنية من الفخار ، كاد يجنّ .
وأصابتني أنا الآخر حيرة ودهشة مما يقول " فاضل " ، فقلت له : وهل استطعت أن تعدّ آنية من الفخار هناك ؟!. قال فاضل : يا أخي ، إن المتعة واللذة التي تشعر بها في آنية الفخار لا يمكن أن تشعر بهـا في آنيـة أخـرى . تستطيـع أن تضع " الكـوارع " (18) في آنية الفخار " الطاجن " ، ثم تشعل تحتها ناراً هادئة ، ودعها تنضح على مهل طيلة الليل ، ثم تناوله عند الصباح ، وستجد له طعماً لا مثيل له ، لا أدري ، هل الفخار يتحكم في الحرارة ، أم ماذا ؟!. المهم أن مذاق الطعام فيه يكون رائعاً ، ولا يتوقف الأمر على اللحم فقط ، بل اطبخ فيـه عدساً إن أردت ، أو " حليم " (19) ، أو حمص ، أو حتى " كرشة وممبار " !! .
سألت " محمد فاضل " : ما الفرق الذي نتـج عن استخدامك لآنيـة الفخار في الفندق ؟!. قال : لقد جعلت الناس يدمنون الطعم ، وطبخت من " الطاجن " أنواعاً جعلت اللعاب يسيل في أفـواه الأوروبيين . لقد تعلمت هنـاك شيئـاً يا أستـاذ ، وهو أنه لا مثيل لـ " الطاجن " بين الأطعمة ، ولا مثيل لـ " الإسلام " بين الأديان !!.
قلت مندهشاً : ماذا تقول ؟!. ما العلاقة بين " الطاجن " و " الإسلام " ؟!. قال يا أستـاذ ، " الطاجن " طعـام متـوازن ، و " الإســلام " كذلك دين متوازن ، وكل ممـيزات " الطاجن " تجدها في " الإسلام " : الدنيا ، كذلك الله ، المخلوق والخدمة ، وكذلك السيادة ، والمحبة والجهاد كذلك ، والرحمة والعفو والانتقام كذلك . ما هذا التوازن في الدين يا أستاذ !!!. إنه يبقي على العلاقة مع الله ، ومع الدنيا أيضاً ، يقول لك اجمع من الثروة ما تشاء ، لكن اعط الآخرين أيضاً ، ابن لنفسك " فيللا " ، لكن ابن للفقير معك ولو " كوخاً " ، أعدّ لنفسك لباساً من الحرير ، ولكن أعدّ لمحتاج معك لباساً ولو من قماش " الدمّور " ، ادفع لابنك مصاريف مدرسته ، ولكن ادفع لطالب فقير مصاريفه أيضاً .
وازداد " فاضل " حماساً ، وقال : ما أعظم الدين الإسلامي !!. إنه يقول مهما كانت وفـرة المال ، عليك أن تنميه وتعمل على زيادته ، فإذا تعلّمنا أن نعطي ، فلن تقوم للرأسمالية قائمة !!.
وفي الطريق بعد أن انصرفت من عند " فاضل " ، كان ذهني يموج بالأفكار موجاً . قلت لنفسي : ما أبسط صورة الإسلام في ذهن " فاضل " !!. لكن أئمتنا عقّدوا هذا الدين بلا داع . ولما وصلت إلى البيت وجدت الدكتور " إبدال بيلا " في انتظاري ، وما أن رآني حتى صاح قائلاً : التّمرد بداخلك على أشدّه ، وأنت تقول لا شيء يحدث !!. قلت : كنت الآن في زيارة لطباخ يعمل في أحد فنـادق باريس . قـال لي : هنـاك شيئـان في الدنيا لا مثيل لهمـا ، " الطاجن " بين الأكلات ، و " الإسلام " بين الأديان !!.
وضحك الدكتور " بيلا " قائـلاً : نعـم ؟!. ماذا تعني بـ " الطاجن " ؟!!. قلت : " الطاجن " الذي عندنا ، " قدرة الفخار " التي نطبخ فيها اللحم والبطاطس ، واللحم والكوسة ، " القدرة " يا رجل !!. قال " بيلا " لم أفهم شيئاً . ولما أخبرته بما حدث تفصيلاً قال : يا أخي ، عندما كنا في كلية الطب ، كان عندنا أستاذ هو الدكتور " جدون " ، وكان من المغرمين بـ " آنية الفخار " ، ويستخدمها للطبـخ في بيتـه ، كمـا كان يشرب المـاء من " القلّة " ، كان يقول إن " قلّة الفخار " تمتص كل الشوائب من الماء ، كم كانت أفكاره عجيبـة !!. كان مثقفـاً كبيراً ، عاش في أوروبا وأمريكا خمسة عشر عاماً ، وكنا نسميه الأستاذ " جنون " بدلاً من الأستاذ " جدون " ، فقد كان يحدثنا بأحاديث عجب ، ويخبرنا بأشياء عجيبة أيضـاً . وضحك الدكتور " بيلا " قائلاً : لقد كنا نعتبره حينذاك مجنوناً . سألته : ماذا كان يقول ؟!!. قال : كان يقول لنا : إن كنتم تؤمنون بالله من أعماق قلوبكم ، فإنكم بذلك تجنّبون أنفسكم خمسين بالمائة من الأمراض ، بمعنى أنكم تصبحون في مأمن من خمسين بالمائة من الأمراض . كما كان يقول:إن أحسنتم علاقتكم بالله ازدادت مناعة أجسامكم بدرجة تحميكم من الأمراض حين تهاجمكم .
قلت : كلام محيّر فعلاً ، فقال " بيلا " : كان محيّراً إذ ذاك ، أما الآن فلا ، إذ اكتشفت حقيقة ما قال بعد أن دخلت إلى المجال التطبيقي للطب . ثم ضحك " بيلا " وقال : كان الأستاذ " جنون " يتحدث إلينا بقلب مفتوح عندما يكون في حالة نفسية مرتفعة ، كان يقول لنا : يا أولاد ، إننا في غاية الحمق ، بدليل أننا إلى الآن نعتقد أن الجسم ينشر الأمراض ، وهذه فكرة خاطئة ، لأن الذهن هو الذي ينشرها وليس الجسم ، إننا نهتم بالأعضاء والأجهزة الظاهرة فقط ؛ القلب ، الكبد ، الرئتين ، الكلى ، أما الأعضاء التي تنشط العواطف والأفكار والتصورات والأخيلة فإنها غير ظاهرة ، مثل الشعيرات الدموية والخلايا ، فهي تفرز نوعاً من الرطوبة عجيب ، يؤثر على صحتنا . كان الأستاذ يقول : لقد أصبح من الثابت طبقاً للعلم الحديث أن أكثر عواطف الإنسان تأثيراً فيه عاطفة الخوف ، ثم إن للخوف معاونيه وأشكاله المختلفة ، مثلما أن للشيطان معاونيه " وصبيانه " من الشياطين ، مثلاً الصراع الداخلي والتذبذب والوهم والوسوسة والتردد والاضطراب والقلق ، وكل هذه العواطف تؤثر على معدة الإنسان ، تولّد حموضة ، وتؤدي إلى قرحة ، فإذا آمن الإنسان بالله الواحد ، وزرع في قلبه يقيناً بأنه لا خوف ، وأنه ليس هناك قوة سوى الله ، فإنه يصبح في مأمن من المخاوف اللاشعورية لهذه الإثارة .
كان الأستاذ " جدون " يقول : الله كوسادة تضع عليها رأسك فتحرر من كل الضغوط والقلق والمخاوف ، وما هو الإسلام ؟!!. إن الإسلام يحمي الإنسان من الأفكار السلبية ، ينقذه من الشّر ، يجنبه مخاطر العواطف السلبية مثل الغضب والحقد والعداوة والانتقام والحسد ، إذ أن هذه العواطف السلبية تجعل الغدد في الجسم تفرز إفرازات سامة ، بينما في حالة العواطف الإيجابية كالمحبة والمساواة والشفقة وخدمة الآخرين تفرز إفرازات صحية .
أجبرني كلام الدكتور " بيلا " على مزيد من التفكير ، لماذا يخلق فينا أئمتنا عاطفة الخوف ؟!. لا أدري لماذا يركّزون دائماً على الأمور السلبية ، إنهم لم يحدثونا أبداً عن ذلك الجمال اللانهائي الذي يحيط بنا في الدنيا من كل جانب !!. لا يحدثوننا أبداً عن عاطفة الخير الكامنة في قلب الإنسان ، لا يحدثوننا عن تلك الرحمات ، وذلك السخـاء ، وتلك النعم التي منّ الله بها علينا ، لا يحدثوننا عن ذلك الشرف الذي منحه الله تعالى للإنسان .
أيها السادة ، يقول " الكبار " من أهل البصيرة عن القرآن أنه مثل الوردة البلدي ، إذا قطفت منها ورقة ظهرت مكانها ورقة أخرى ، وكلما أخذت واحدة ظهرت تحتها أخرى ، وهكذا ، ورقة تحت ورقة تحت ورقة ، وهكذا القرآن الكريم ، مفهوم داخل مفهوم ، ومعنى داخل معنى ، وكلما تأملت وصلت إلى مفهوم أعمق ، لكن أئمتنا يعتقدون أن المعنى الظاهر هو المعنى الذي لا معنى بعده ، ثم يدورون حول هذا المعنى .
يقول الله تعالى في مواضع متعددة من القرآن الكريم أن انظروا إلى كائناتنا ، لا تنظروا إليها نظرة عابرة ، وإنما أمعنوا النظر فيها ، ولا تتوقفوا عند النظر فقط ، وإنما فكروا وافهموا ، ثم انظروا وفكروا ، ثم انظروا وفكروا ، اقرأوه قراءة ليست عابرة ، وإنما بتمعن وتفكر وفهم ، ثم اقرأوه ثانية وافهموه ، وعندئذ سيأتي عليكم وقت تفهمـون فيه أسرار الكائنات من إشارات القرآن .
أما أئمتنا فليس بداخلهم رغبة في تأمل الكائنات والتفكر فيها ، ومعرفة أسرارها ، ليست لديهم رغبة في فهم القرآن ، إنهم يرغبون في تلاوة القرآن فقط ، لكي يحصلوا على الثواب ، ويستحقوا الجنة ، حيث تجري أنهار اللبن ، وتدنوا منهم أغصان الأشجار المثمرة بإشارة منهم ، وقبل كل هذا الحور العين ..
سادتي ، القرآن الكريم كتاب مدهش ومثير ، كتاب لا نجد له مثيلاً ، ومكتبات العالم في أيامنا هذه زاخرة بالكتب ، آلاف الكتب في كل فرع من فروع العلم ، كتب دينية ، وكتب علمية ، وكتب في الفن ، ولكن ليس من بين هذه الآلاف ، بل هذه الملايين من الكتب كتاب كالقرآن . إن أسلوب القرآن وطريقته فريدة ، وموضوعاته فريدة ، وإشاراته أيضاً فريدة .
نحن عامة المسلمين نعتقد أن القرآن كتاب إسلامي ، وأن الله تعالى يخاطب به المسلمين . كلا ، هذا ليس صحيح ، إذ أن هذا الكتاب يخاطب بني الإنسان جميعاً ، وكذلك شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً ، فهي ليست مثالاً يحتذيه المسلمون فقط ، وإنما هي شخصية مثالية لبني الإنسان جميعاً .
نحن عامة المسلمين نعتقد أن القرآن كتاب ديني ، وهذا قصور في الفهم لدينا ، إذ أن القرآن كتاب للكائنات كلها ، فيه إشارات لرموز وأسرار الكائنات ، وإشارات للبحث العلمي ، وهذه الإشارات ظاهرة واضحة ، وكامنة خفية في الوقت نفسه . وإشارات القرآن تحثنا على البحث عن طريق لمعرفة أسرار الكائنات ، إنها ترينا الطريق ، والقرآن كتاب تاريخي ، به من الأحداث ما وقع قبل التاريخ المكتوب ، والقرآن كتاب أخلاق ، به مبادئ الأخلاق والتعامل الإنساني ، والقرآن كتاب في الصحة العامة ، به ذكر للمبادئ والاشتراطات الصحية ، وذكر للأدوية والعلاجات التي ثبت أنها تمنح الشفاء الدائم .
وأذكر لكم أيها السادة على سبيل المثال خبراً نشر في جرائد اليوم (20) جاء فيه أن مريضة وصلت إلى إحدى المستشفيات مصابة بحروق شديدة ، حيث تشوّه وجهها تماماً بسبب انفجار موقد ، واحترق جسدها ، وباءت كل محاولات الأطباء لعلاجها بالفشل ، وأكدوا على أنها لا علاج لها ، وبعد ذلك جاءت سيدة من إحدى المدن تعالج بالأدوية القرآنية وقالت للأطباء : لقد يئستم من حياة المريضة ، والآن اسمحوا لي أن أعالجها .
وسمح لها الأطباء ، وغطّت السيدة جسم المريضة كله بطبقة من عسل النحل ، وظلت تكرر هذا لثلاثة أيام متتالية ، وحدث تحسّن مذهل في حالة المريضة ، ونجت من الموت ، والآن يتماثل وجهها وجسدها للشفاء . أيها السادة ، إن القرآن لا مثيل له ، وكيف يكون له مثيل وهو كلام الله القادر المطلق الذي لا شريك له .
والله كذلك لا مثيل له ، وهو عاشق ومعشوق في وقت واحد ، معشوق ومحبوب عظيم يقول انظروا إليّ ، تكلموا عني ، اذكروني ، أحبوني ، انتشوا بمحبتي .
وهو عاشق أيضاً ، يحب مخلوقاته ، يرعى كل ذي روح ويهتم به ويدلّله ، يطعمه ويسقيه لكي لا يتألم أحد ، ويتواصل رزقه وغيث نعمائه ، إنه عاشق متيّم بمخلوقاته ومن وراء ستار (21) .
سادتي ، أنا شاب من الجيل الجديد ، تربيت على الأدب الغربي ، متأثر بالغرب ، متيم بالموضات والتقاليد الغربية ، أنا علماني بطبعي ، لكني لم أكن أستوعب مفهوم العلمانية بشكل كامل ، وإنما أفهم المعنى السائد لها ، وهو أن الدين مجرد شيء ، لكن لا أهمية له ، ويمكن للإنسان أن يحيا بدونه أيضاً ، أعترف بالله ، ولو بمجرد الكلام ، فلا فرق يذكر ، وأتوسل إليكم يا علماء الدين أن لا ترفضوني ، أن لا تقرأوا عليّ " لا حول ولا قوة " ، لا تعتبروني ملحداً أو كافراً ، لا تنفروا مني ، وإنما فكروا بهدوء ، فأنا أستحق تعاطفكم واهتمامكم .
عاصفة الثقافة المتداخلة :
حضرات السادة ، أتظنون أن ثقافة " الكوكا كولا " ، و " الكلاشنكوف " ، و " موسيقى البوب " ، و " الأطباق الهوائية " المنتشرة الآن ، والتي تؤثر بشكل رهيب في شباب العالم كله ، ما هي إلا اختراع من أهل الغرب ، ومؤامرة مدبّرة منهم ضد الإسلام ؟!!!. إن كان هذا هو ظنكم فهو إذاً مبني على التعصب من أوله إلى آخره !!. إن أوروبا كلها تعاني معاناة شديدة من هذه الثقافة المرتبكة ، لأن أتربتها قد دفنت ثقافتهم الأصلية تحتها .
حضرات السادة ، أؤكد لكم أن شباب هذه الأيام الواقع تحت تأثير هذا الإعصار الثقافي مظلوم تماماً ، مثله مثل الفراشة التي تظهر لها أجنحة في فصل المطر ، وتضطر للطواف حول الشموع ، وربما يكون الله تعالى هو الذي سبب هذه الدوامة لمقصد يعلمه هو .
حضرات السادة ، إن الفطرة ذكية للغاية ، إنها إن لم تستطع استخراج السمن بأصبع مستقيم ، أخرجته بأصبع معوج (22) ، وإذا لم تستطع تحقيـق أمر مـا بـ " فعل " ، حققته بـ " ردّ فعل " . كان عندنا شاعر فكاهي يدعى " نذير شيخ " ، وهو عالم تجريبي بالأساس ، لكنه يكتب الفكاهة بأسلوب رائع ، وذلك في الحقيقة راجع إلى أنه من أهل البصيرة ، وقد كتب منظومة عن هذه الدوامة الثقافية سابقة الذكر ، منظومة رمزية بعنوان " العاصفة " ، يقول :
· يهتزّ " الشباك " اهتزازاً ، وتنزاح " الستائر " ، وتتراقص " النوافذ " .
· ويتحول البيت إلى صحراء قبل أن نتمكن من إغلاق منافذه .
· وتتحطم المظلات " التندات " ، وتختنق الأنفاس .
· وتتعلق " الخفافيش " بالأشجار ، ويتزايد حفيف الغاب .
· وترتفع مكانة " الكناسين " ، وتزداد الحاجة إليهم .
· ويرتفع صوت كالطبل من " علبة السمن " ، ويبدو " الغربال " وكأنه يرقص .
· وتتخذ " الصور " على الحائط أوضاعاً عجيبة .
· فتنقلب صورة " غالب " (23) رأساً على عقب ، بينما يخرّ " إقبال " في صورته ساجداً .
· ويكاد العقل يجنّ من مشهد " السرائر " التي وضعناها فوق سطح المنزل (24) .
· فالسرير يهتزّ كـ " بساط الريح " ، و " المرتبة " بدت في ركن بعيد كالفراشة .
· وجاءت " العاصفة " ففرقت أيدي الحبيب والحبيبة اللذان كانا يتعاهدان على الحياة معاً .
· وتترنّح " السيارة " على الطريق وإن حاولت أن تجعلها تسير مستقيمة .
· إن " العاصفة " مستقيمة في سيرها ، بينما تترنح الدنيا كلها وتتمايل من حولها .
· وتتلاشى معالم الطريق أمام الحصان في " الحنطور " ، و " الحـوذيّ " لا يعتـرف بذلك ، فيضرب الحصان ، والحصان لا يتوقف عن الركل بقدميه .
· وتطايرت " اللحى " ، وانتفشت " الشوارب " .
· وبقدر ما تخفي " الطيور " أذيالها أسفل منها بقدر ما تزيحها العاصفة أمامها .
· وسيـدة تحـاول السيطـرة على " الســاري " (25) ، وأخـرى تمسك بإزارهـا ، و " الغسال " يجمع الملابس المغسولة .
· فكأن هذه الأشياء كلها قد صنعت لنفسها " أجنحة " وشرعت تطير .
· والعشب اليابس يتطاير متعلقاً " بسراويل " المارة .
· وإلى أن يخلص الناس ملابسهم من العشب تكون " عمائمهم " قد طارت .
· وتصير الدنيا كلها مثل " العفريت " ، ويتساوى الأبيض والأسود .
· وإلى أن يزيد " العطار " ما يزن من " الكزبرة " الجافة تكون التوابل كلها قد اختلطت ببعضها البعض .
أئمتنا لا يعرفون كيف ينقذوننا :
صدقني ، نحن الشباب المتأثرين بالغرب وقعنا فريسة لهذا " الإعصار " ، ومن المفروض أن ينقذنا علماء الدين ، المشكلة أن علماء الدين لا يعرفون كيف يرفضوننا ، يعرفون كيف يتهموننا ، يعرفون كيف ينقدوننا ، لكنهم لا يعرفون كيف ينقذوننا ، ليس لديهم روح التبليغ والدعوة ، إذ أن روح التبليغ والدعوة لا تكون في مجرد الوعظ وإلقاء الخطب ، والعتاب واللوم ، إنما تكون في الخدمة بحب وتعاطف . سيقولون لي لكي ننقذك من هذه " العاصفة " عليك أن تترك هذه الملابس " الكفرية " ، وتطلق لحيتك ، وتصلي الفروض الخمسة بانتظام .
إلى هذا الحد يتسم أئمتنا بالسذاجة !!. إنهم يعتقدون أن كل شيء سيصير إلى ما يرام إذا أديت الصـلاة ، ونحن بطبيعة الحال نسلّم بعظمة الصلاة ، لكن أئمتنا حدّدوا الإسلام بالصلاة فقط ، مع أنك إذا طالعت سيرة حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعيش بالإسلام ، لعلمت أن هناك أشياء أخرى في الإسلام إضافة إلى الصلاة … أشياء كثيرة جداً . يقول علماء النفس أن الأئمة والخطباء يركّزون على الصلاة ، لأن الصلاة تركّز على المسجد ، والأئمة والخطباء يحكمون في المساجد ، فالهدف إذاً هو تقوية الـ " أنا " لديهم ، وتأكيد احتكارهم لهذا الأمر ، وهذا الرأي من علماء النفس له وجاهته . وإذا كنّا نريد فعلاً أن ننقذ شباب هذا العصر من هذه العاصفة ، فإن علينا أن نخلق بداخلنا تعاطفاً معهم أولاً .
الاعتزاز :
علينا أن نخلق بداخلهم الشعور بعظمة الإسلام ، نعلمهم الاعتزاز بالإسلام واليقين عليه ، نخبرهم كيف حكم الإسلام نصف العالم لقرون عديدة ، وأنه علّم أمم الغرب القراءة والكتابة ، وأرشدهم إلى طريق البحث والتحقيق ، ولقّنهم الدروس في عظمة العلـم ، وعلّمهم أسلوب الحكم ، وخلق فيهم الشعور بالعدل والإنصاف .
إن شباب هذا العصر غافلون ، يرون المسلمين أميين جهلة ، لا علم لديهم ، أحوالهم بائسة ، يضربون من كل جانب ، ولهذا فإن هذا الشباب يائس من الإسلام ، خجل منه ، نادم على كونه مسلماً .
ولماذا لا يكون خجلاً ونادماً وهو معدود من المطرودين من الرحمة !!. إن القـادة المرشدين ، الذين يفترض فيهم أن يرشدوه إلى الطريق الصحيـح ، ويقرّبـوه منهـم ، ويحترمـوه ، جعلـوا من أنفسهم " براهمة " ، ومن عامة المسلمين " منبوذين " ، يعتقدون أنهم هم المؤمنون ، بينما المسلم الذي ينطق بالشهادتين مجرد " محبّ للإسلام " ، وليس مسلماً ، لقد جعل أئمتنا من أنفسهم آلهة بتفاخرهم المتواصل بـ " علمهم " و " تقواهم " .
سادتي ، عليكم أن توقظوا الإسلام الكامن بداخل شباب هذا العصر ، أخبروهم أن الإسلام ليس ديناً فقط ، ليس طقوساً فقط ، ليس تركة وموروثاً ، الإسلام ثورة عظمى منحت الإنسان شرفاً لم يمنحه إياه أي دين آخر قبله ، ثورة أعطت الناس من الحقوق ما لم تعطها لهم أية حضارة أخرى حتى يومنا هذا . لقد ظهرت بفضل الإسلام شخصيات لا مثيل لها ولا نظير .
المساواة الإسلامية :
هوامش
18 - استخدم الكاتب لفظ " كهروريـ " ، وهو لفظ بنجابي يعني الكوارع كما ذكرنا في الترجمة ، أما اللفظ الأردي الذي يدل على هذا المعنى فهو " سري بائـ " .
19 - الحليم أكلة باكستانية تصنع من العدس ، ويضاف إليه اللحم لم أراد ، ويضربان معاً " يهرسان " ، وطعمه لذيذ ، ويشبه الكشك باللحم عندنا في مصر .
20 - طبعاً يوم أن كان المؤلف يكتب هذه السطور على وجه التحديد .
21 - لا أدري إن كان في الحديث عن الله بهذا الأسلوب ما يؤخذ عليه من قبل البشر أم لا ، لكن الله يقيناً أرحم الراحمين .
22 - تعبير باللغة الأردية يقول " تيرهي انكلي بغير كهي نهين نكلتا " وتعني أن السمن لا يستخرج من " قدرته " إلا بأصبع معوج ، أي أن الاستقامة في هذه الدنيا لا تحقق شيئاً ، وأن اللف والدوران يحقق أكثر مما تحققه الاستقامة .
انظر : فيروز اللغات – اردو جامع – ص 434 – لاهور – باكستان 1989م .
23 - شاعر الغزل الأردي المعروف ، ومن أعظم شعراء الأردية على الإطلاق ، وأكثر ما كتب كان بالفارسية شعراً ونثراً ، إلاّ أن شهرته كشاعر تأسست على الديوان الصغير الذي كتبه باللغة الأردية ، وتوفي غالب عام 1869م .
24 - السرائر المشار إليها هنا سرائر خشبية بدائية عبارة عن أربعة قطع عمودية من الخشب تمثل أرجل السرير ، وخيوط الدوبارة القوية تمثل " الملّة " ، وتوضع هذه السرائر أحياناً فوق أسطح المنازل ليستريح عليها الناس عند المساء وفي الليل في فصـل الصيف شديد الحرارة ، والذي تهب فيه العواصف أحياناً مما يتناوله الشاعر هنا بالوصف .
25 - اللباس الهندي المعروف ، وهو من القماش الفاخر ، تلفه السيدة على جسدها كله ما عدا البطن لدى الهندوسيات ، بينما تلبس السيدات المسلمات تحته قميصاً قصيراً ليغطي منطقة البطن .