المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الثالث من الباب الثامن من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
19/11/2007, 09:18 AM
الجزء الثالث من الباب الثامن
حيثما تكون كيزان العسل يتواجد النمل
المساواة الإسلامية :
أصدقائي الأعزاء من الشباب ، اسمحوا لي أن أقدم بين أيديكم بعض الأمثلة من التاريخ :
أحد السلاطين المسلمين كان يحكم نصف العالم ، خرج مع غلامه في سفر ، ولم يكن معهما سوى جمل واحد ، فكان السلطان يتناوب مع الغلام ركوب الجمل ؛ يركب السلطان الجمل ، ويمسك الغلام بخطامه ، ويسير أمامه ، فإذا ما جاء دور الغلام في الركوب ركب ، وأمسك السلطان بخطام الجمل وسار أمامه .
ما رأيكم أيها الشباب الأعزاء ، هل صادفت مثالاً لهذه المساواة في تاريخ العالم كله ، هذه المساواة هدية من الإسلام وفضل منه .
ويحكي لنا التاريخ مثالاً آخر لسلطان مسلم ، كان هذا السلطان يعتبر أن أخذ أي شيء من خزانة الدولة لمصاريفه الشخصية يعدّ ذنباً ، ولهذا كان بعد أن يفرغ من أمور الحكم يعمل بكتابة الآيات القرآنية بخط جميل ، ويعطيها لمن يبيعها له ، ثم يشتري بحصيلة البيع هذه طعاماً لنفسه وأهله ومن تقع على عاتقه مسئولياتهم .
ما رأيكم أيها الأعزاء ، هل هناك حضارة من الحضارات في أي بلد من العالم قدمت لنا هذا المثال من الأمانة والتعفف ؟!!. ألا يحق لنا أن نفخر بانتمائنا إلى هذا الدين الذي خلق لنا مثل هذه الشخصيات العظيمة !!.
الفتاة كجري :
ذكّرني هذا الأمر بالفتاة " كجري " ، وكان ذلك قبل قيام باكستان (26) . في تلك الفترة كان الإنجليز يحكموننا ، و " كجري " هذه كانت خادمة تنظف البيت عندنا ، لكني لم أكن على علم أنها مسيحية . ذات يوم سألتها : يا " كجري " ، من أي قبيلـة أنت ؟. عندئذ وضعت " كجري " سلة كانت في يدها على الأرض ، وألقت بالمقشة بعيداً ، ثم انتصبت واقفة ، ومالت بعنقها قليلاً ما زادها وقاراً ، ثم قالت : إنني من القبيلة التي ينتمي إليها " السيد " (27) .
سادتي ، كنت أودّ أنا الآخر أن أضع سلتي على الأرض ، وألقي بالمقشة بعيداً ، ثم انتصب واقفاً ، وأقول في فخر : أيها الناس ، وأنا الآخر من القبيلة التي منها سيد الدنيا والآخرة ، على أية حال كانت هذه جملة معترضة . لقد خلق الإسلام شخصيات عظيمة لا نجد لها مثيلاً في تاريخ الدنيا .
ولتقصّ على شباب هذا العصر المولع بالغرب قصة ذلك السلطان المسلم كمثال ، ذلك السلطان الذي علّق في قصره سلسلة العدل (28) ، وأعلن أن من يقع عليه أي ظلم من الرعايا ، عليه أن يجذب سلسـلة العدل هذه ، فإذا ما جذب المستغيث من الظلم السلسلة ، دقّت الأجراس ، فيخرج السلطان بنفسه إلى الشرفة ، ويسأل المستغيث عن الظلم الذي وقع عليه .
أنا مجرم :
ثم قص عليهم تلك القصة التاريخية التي تنعش الإحساس بالعظمة داخل قلوب المسلمين حين يسمعونها . ذات مرة حاصر جيش المسلمين مدينة من مدن أفريقيا ، ورأى المسئولون عن المدينة أنهم لا قبل لهم بمواجهة هذا الجيش الضخم ، فاستسلموا ، وطلبوا الصلح ، وأمر القائد المسلم جنوده أن يدخلوا المدينة ، وألاّ يتعرضوا لأي فرد من أهلها ، وألاّ يتلفوا شيئاً مما بها . قال القائد : أيها الجنود ، لقد أصبحتم الفاتحين لهذه المدينة ، ولا يليق بفاتح أن يبدأ عمله فيما فتح بالسلب والنهب ، وإنما بالحفاظ على ما فتح .
وفي اليوم التالي جاء المسئولون عن المدينة إلى القائد وقالوا : لقد أخذت على عاتقك مسئولية الحفاظ على المدينة ، لكن في مقابل ذلك أذلّنا جنودك ، فقد كان هناك تمثال لقائدنا المحبوب ، نصبناه في ميدان من أكبر ميادين المدينة ، وقام أحد المخربين بكسر أنف التمثال ليلاً ، ولا يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل مواطن من أهل المدينة ، وبالتالي لا بد أن يكون أحد جنودك هو الذي قام به ، ولا بد أن يعاقب المجرم هذا بأشد العقاب .
وأمر القائد المسلم جنوده بالتجمع في الميدان الكبير بالمدينة ، وخطب القائد فيهم قائلاً : لقد أخذنا على عاتقنا مسئولية الحفاظ على المدينة وحمايتها ، وأهل المدينة يطالبوننا بالعدل والإنصاف ، فالأمر إذاً يتعلق بكرامة الإسلام وعزّته ، ولهذا فإني آمر من ارتكب هذا العمل أن يقف ، ويعترف بجرمه .
وكرّر القائد المسلم ما قال ثلاث مرات ، لكن أحـداً من الجند لم يعترف بارتكاب الجريمة ، عندئذ قال القائد لسادة المدينة : أما والحـال هكذا ، فلكم الحق في مطالبتنا بتعويض مادي ، وسوف نعطيكم ما تطلبون ، لكن سادة المدينـة أصروا على أن العين بالعين ، والسن بالسن ، والأنف بالأنف . وحاول القائد كثيراً إقناعهم ، لكنهم لم يقتنعـوا . وفي النهاية قال القائد : بما أن مسئولية الحفاظ على المدينة تقع على عاتقي أنا ، لهذا فأنا أقدم لكم أنفي بدلاً من أنف التمثال . ولما سمع الجنود المسلمون قرار القائد هذا صاحوا واحتجوا ، وعندئذ وقف واحد منهم قائلاً : يا سيدي ، كان عليّ أن اعترف بجريمتي قبل ذلك ، لكني لذت بالصمت خوفاً ، والآن أنا أعترف بارتكابي لهذا الجرم ، فاقطعوا أنفي .
ولم يكد الجندي يكمل حديثه حتى وقف جندي آخر قائلاً : يا سيدي ، هذا الرجل كاذب ، الحقيقة أن المجرم هو أنا ، فأنا الذي حطم أنف التمثال . ووقف جندي ثالث يقول : يا سيدي ، هذان الاثنان كاذبان .....
ولما رأى أهل المدينة عاطفة الإيثار هذه لدى الجنود المسلمين تأثروا كثيراً ، لدرجة جعلتهم يتنازلون عن مطالبهم .
كانت هذه عظمة أسلافنا ، ليس في السّلم فقط ، وإنما في الحرب أيضاً ، حيث اتسموا بالتسامح الشديد مع غير المسلمين ، كان هذا هو سيف الإيثار والتضحية والتسامح والعدل ، والذي انتشر الإسلام بقوته .
فتح مكة :
ثم قصّ على شباب هذا العصر - الذي يعتقد بصحة ما يدّعيه أهل الغرب عن الإسلام من أنه دين متعصب متشدّد – قصة " فتح مكة " ، فقد فتحها المسلمون بغير حرب ، واستسلم أهل " مكة " لهم ، وألقوا بأسلحتهم ، و " مكة " هذه هي تلك المدينة التي ظلّ كفارها يشتطون غاية الشطط إلى ما قبل الفتح مباشرة في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعلوا خروجه من بيته أمراً مستحيلاً ، فإذا خرج من بيته سخروا منه ، وأسمعوه ما لا يليق ، وقذفوه بالحجارة ، بل وتآمروا على قتله . لقد اشتد إيذاء كفار مكة له صلى الله عليه وسلم حتى اضطر إلى الهجرة منها مع بعض أصحابه ، ومع ذلك فقد تعقّبوه .
واليوم يدخل محمد صلى الله عليه وسلم هذا نفسه ، فاتحاً " مكة " نفسها ، ويتيقن أهل " مكة " أنه صلى الله عليه وسلم لا بد قاتلهم ، فهذا هو العرف في الحرب ، ولكن انظر إلى عظمة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم إذ أعلن :
1 – أن لا يتعرض أحد للنساء ، ولا للأطفال .
2 – لا يتعرض أحد لمريض أو جريح أو معوّق .
3 – لا يتعقّب أحد من فرّ وهرب .
4 – لا يقتل من دخل بيته وأغلق عليه بابه .
5 – لا يقتل أسير .
6 – أن يؤمّن على روحه من ألقى سلاحه .
7 – لا يتعرض أحد لمن لاذ بالكعبة .
8 – لا يتعرض أحـد لمن لاذ ببيت " أبي سفيـان " ، أو بيت " حكيم بن حـزام " ، وكان هذا من ألدّ أعداء الإسلام (29) .
إن أفضل الطرق في الدعوة الإسلامية أن نعرّف شبابنا بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم ، نخبرهم أن غير المسلمين ، بل وأعداء الإسلام أيضاً يعترفون بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ، نعلّم شبابنا أن يثقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويؤمنوا بشخصيته ، واعلموا أيها السادة أن من زرع في قلبه الثقة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فد صار على جادّة الإسلام . أخبروا شبابنا أن القرآن الكريم ليس كتاباً دينياً ، ولا يخاطب المسلمين فقط ، إنما هو كتاب يخاطب بني الإنسان جميعاً .
كتاب ثوري :
أيها السادة ، إن القرآن الكريم كتاب ثوري ، وهو هكذا منذ أن نزل قبل ألف وأربعمائة عام ، ولا يزال هذا الكتاب ثوري حتى يومنا هذا برغم مرور أربعة عشر قرناً . لقد أحدث القرآن طوفاناً ، طوفاناً ليس تخريبياً ، وإنما طوفاناً تعميرياً بناءاً ، طوفاناً من الأفكار في الأذهان ، وطوفاناً من العواطف في القلوب .
عندما نزل القرآن كان أهل أوروبا لا يزالون يتعلّمون مبادئ الحياة ، لم يكونوا قد ثبتوا أقدامهم ككيانات في هذا العالم ، لم تكن هناك إلاّ دولة أوروبية واحدة من دول أوروبا كلها ، وهي " اليونان " ، تفجـرت فيهـا عيـون الفكر ، وظهر فيها كثير من المفكرين الكبار مثل " أرسطو " و " أفلاطون " و " بطليموس " ، لكن كل مفكري " اليونان " كانوا فلاسفة ، مولعين بالتفكير ، مغرمين برؤية الأحلام ، مستغرقين في أحلامهم ، ولهين بنظرياتهم ، وذاع صيت هذه النظريات في أماكن بعيدة .
ثم جاء القرآن وقال كفى يا سادة ، كفى ، لقد رأيتم أحلاماً بما فيه الكفاية ، وغنّيتم لنظرياتكم كثيراً ، دعوكم من هذا التشتت الفكري ، واتركوا الأحلام ، وافتحوا عيونكم ، وانظروا إلى الحقائق ، فلقد ملأنا المكان من حولكم بالحقائق ، لكي تنظروا وتتفكروا وتستوعبوا ، لكن عليكم ألاّ تنسـوا شيئاً واحداً ، وهو أن كل شيء ممهور بخاتمنا ، وفي كل قطرة وضعنا حكمتنا ، فلا تنظروا إلى شيء إلاّ من خلالنا ، وإن لم تفعلوا ضللتم ، وضاع الطريق منكم ، ولن تصلوا إلى الهدف مهما فعلتم .
لقد دعا القرآن الكريم إلى فتح العيون المغلقة ، وأخرج الأفكار من دوامة التشتت ، وحدّد لها اتجاهها ، ومنحها أهدافها . حرّرها من الجمود ، وبثّ فيها الحركة . لقد أثّر القرآن الكريم على العقول تأثيراً مثل ذلك التأثير الذي تحدثه ذرات " الملح " في زجاجة " الصودا " ، تجعلها تفور فوراناً ، تمتلئ حركة ، حركة هادفة ، وقد أحدث القرآن الكريم هذه الثورة في العواطف الإنسانية عندما عرّفها بفكرتين جديدتين ، وكل منهمـا غايـة في الخطورة ، وهمـا : " فكرة التوحيد " ، و " فكرة المساواة " .
سادتي ، كان نزول القرآن الكريم بمثابة الانفجار للذهن الإنساني ، انفجار مثل ذلك الذي حدث عند خلق الكائنات (30) ، ولا يزال أثر هذا الانفجار قائماً حتى يومنا هذا ، وقد شرح المفكرون العظام شكل هذا الانفجار ووضحوه ، هذا الانفجار حدث في ذهن الإنسان . كانت بداية القرآن بقوله تعالى يا محمد ، اقرأ ، اقرأ باسمنا ، نحن الكرماء الرحماء ، نحن الذين أعطينا الإنسان القلم ، وقلنا له تعلّم كيف تستخدمه ، وأعطيناه العلم (31) .
لقد دعا القرآن الكرم الإنسان إلى التفكير قائلاً له : تفكّر ، وتأمل في مظاهر الفطرة ، كيف خلقت الأرض والسمـاء ، وكيف تتبدّل المواسم والفصـول ، وكيف يتعاقب الليل والنهار !!!. تفكر ، كيف يكون الخلق ، وما هو الموت ، تخضرّ الأغصان وتينع ، ثم بعد ذلك تجفّ وتيبس !!!. تفكر كيف يكون الغروب والشروق ، كيف تقف الجبال منتصبة ، وكيف تجري الأنهار ، وكيف تسير الفلك في البحار ، وكيف تتلألأ النجوم في السماء !!!. تفكر ، لماذا تكون لطائف الأرواح أفضل لذّات الأجساد !!! (32) .
أخبرنا القرآن إن العلم أقسام ثلاثة ، أحدها هو الذي يـجري على الناس وتشاهده عيونك ، والثاني هو الذي يجري عليك أنت ، والثالث هو الذي يعرف بالتجربة . ويقول أحد الألمان " DUTSCH " عن القرآن أنه كتاب ثوري ، جاء المسلمون إلى أوروبا ، وأضاءوا من خلاله مصابيح العلم فيها ، وعرّفوا أهل الغرب بأساليب البحث واتجاهات العلم ، وهكذا كانوا هم الذين وضعوا أساس العلم الحديث .
وقد قال صلى الله عليه وسلم عن العقل والعلم فيما معناه أن أول شيء خلقه الله تعالى هو العقل ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً أفضل من العقل. وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه إن الشخص الذي يخرج من بيته طلباً للعلم وبحثاً عنه هو في الحقيقة يسير على طريق الله (33) . وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه تعلموا العلم حتى تميزوا بين الصحّ والخطأ ، فالعلم نور في الطريق إلى الجنة ، والعلم يرشد إلى طريق الراحة والسعادة ، ويمنح الصبر في الأوقات العصيبة . العلم رفيقنا ومؤنسنا في الصحراء ، والعلم زينة في السلم ، وفي الحرب عربات مدرّعة . العلم رفيق في الوحدة . وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه إن الشخص الذي يذكر العلم هو في الحقيقة يحمد الله ويثني عليه ، والذي يعمل جاهداً على تحصيل العلم شخص يحب الله تعالى ، والذي ينشر العلم كأنه يتصدق ، ومن يعلم العلم يعبد الله (34) . وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه أن سماع العلم وصحبة العلماء خير من العبادة . وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه أن من يحترم العلماء ويقدرهم فإنما يقدرني ويحترمني ، وأن حبر دواة العالم أكثر بركة من دم مجاهد. لقد اهتم القرآن الكريم بالعقل والعلم والبحث ، وأحدث ثورة هائلة في العقول والأذهان .
أيها العلماء الأجلاء في بلادنا ، لا تفهموا الأمور خطأ من أن المقصود بالعلم في القرآن هو علم الدين . كلا أيها السادة ، الأمر ليس هكذا ، لأن الدين ليس علماً ، الدين عمل ، والقرآن يقصد بالعلم " العلوم الطبيعية " (35) .
ولم يهتم دين قبل الإسلام بالعقل والفهم والحياة والكائنات مثلما اهتم بها الإسلام ، فقد تأسست المذاهب السابقة كلها على فرضيات وتصورات ، وكان مشهوراً أن الدين والعقل اتجاهان متناقضان ، كل الأديان كان تعتبر الحياة والكائنات سراباً ، وأن الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة .
أبو العلم الحديث :
لقد كان من نتائج الثورة التي أحدثها الإسلام أن أصبحت للعقل والفهم أهمية كبرى ، وظهر عشرات المفكرين من العرب ، وبدأت سلسلة البحث في العلوم الكونية ، وحدّد هؤلاء الوجهـة الأساسية للبحث العلمي ، ووضعوا مبادئ العلوم كلها بعد أن بحثوا في حقائقها الأساسية . واليوم يعترف الباحثون في ميدان العلوم ، وكذا المؤرخون ، بحقيقة أن العلماء العرب هم الذين وضعوا أساس العلوم الحديثة . على سبيل المثال يكتب " فيليب كي هتي " قائلاً أن العرب طوروا " الصفر " في علم الرياضة ، وأوصلوه إلى مكانة لا يزال يستفيد منها الرياضيون حتى اليوم ، وأقامـوا علم الطب على أسس علميـة ، وأنشـأوا المعاهـد التي تدرّسه ، حتى أن " بغداد " وحدها كان يعمل بها من الأطباء المؤهلين علمياً حوالي ثمانمائة وستـون طبيباً . ويقول " درير " : لقد اخترع العرب كل ما نظن الآن أنه من اختراعنا ، فهم الذين اخترعوا المراصد ، والاصطرلاب ، ووضعوا خريطـة للنجوم ، ووضعوا أسس علم الجبر والمقابلة والهندسة ، ووضعوا أساس علم الكيمياء ، وحددوا أوقات ومواعيد خسوف الشمس وكسوف القمر .
ويقول الـ " بانديت نهرو " (36) في كتابه " ومضات من تاريخ العلم أنه لم يكن هناك علم تجريبي قبل العرب ، سواء في الهند أو في الصين أو في مصر أو في أي مكان آخر ، والعرب هم الذين وضعوا أساس العلوم التجريبية ، ويستحقون أن يطلق عليهم " رواد العلم الحديث " .
هوامش
26 - 1947م .
27 - تقصد السيد المسيح ،بمعنى أن قبيلتها هي المسيحية .
28 - السلطان هو أنوشيروان العادل ، وأما السلسلة فيكون طرفها داخل القصر حيث يجلس الملك ، ومثبت في هذا الطرف جرس ، أما الطرف الآخر من السلسلة فيكون خارج سور القصر ، ليكون في متناول من يحتاج إليه .
29 - بعد فتح مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً في أهلها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أقول كما قال أخي يوسف عليه السلام لا تثريب عليكم اليوم فغفر لكم ، وقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن .
وورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته هذه : يا معشر قريش ما تقولون . قالوا : نقول ابن أخ وابن عم رحيم كريم ، ثم أعاد عليهم القول فقالوا مثل ذلك ، فقال : إني أقول لكم كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم وهو أرحم الراحمين . اللمع – ص 14 ، 589 ، 590 .
30 - الإشارة إلى الرأي الذي يقول إن الكائنات خلقت بعد انفجار كوني رهيب فتّت الذرات ، وفصل الأجرام السماوية والكواكب والمجرات ، وأنتج الهيدروجين والأكسوجين الذي كون الماء ، ومنه الخلق .
31 - الإشارة إلى قوله تعـالى في سورة العلق " اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم " 1 – 5 .
32 - " هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ، وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ، وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون ، وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون " – النحل : 10 – 15 .
33 - الحديث : " من خرج في طلب علم كان في سبيل الله حتى يرجع " – الترمذي ( 2686 ) .
34 - هناك أحاديث كثيرة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل العلم والعلماء ، ومنها : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " ( مسلم – 2699 ) . ومنها " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ، ثم قال : إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير " – ( الترذي – 2686 ) .
35 - أشرنا في موضع سابق إلى أنه ليس هناك ما يقطع بأن المقصود بالعلم في القرآن الكريم هو العلوم الطبيعية لا غير ، ونحن نعتقد أن المقصود هو العلم على إطلاقه ، إلاّ أن يكون علماً ضاراً .
36 - البانديت نهرو أول رئيس لوزراء الهند بعد استقلالها عام 1947م ، وهو والد السيدة اندرا غاندي رئيسة وزراء الهند السابقة .

إبراهيم محمد إبراهيم
19/11/2007, 09:18 AM
الجزء الثالث من الباب الثامن
حيثما تكون كيزان العسل يتواجد النمل
المساواة الإسلامية :
أصدقائي الأعزاء من الشباب ، اسمحوا لي أن أقدم بين أيديكم بعض الأمثلة من التاريخ :
أحد السلاطين المسلمين كان يحكم نصف العالم ، خرج مع غلامه في سفر ، ولم يكن معهما سوى جمل واحد ، فكان السلطان يتناوب مع الغلام ركوب الجمل ؛ يركب السلطان الجمل ، ويمسك الغلام بخطامه ، ويسير أمامه ، فإذا ما جاء دور الغلام في الركوب ركب ، وأمسك السلطان بخطام الجمل وسار أمامه .
ما رأيكم أيها الشباب الأعزاء ، هل صادفت مثالاً لهذه المساواة في تاريخ العالم كله ، هذه المساواة هدية من الإسلام وفضل منه .
ويحكي لنا التاريخ مثالاً آخر لسلطان مسلم ، كان هذا السلطان يعتبر أن أخذ أي شيء من خزانة الدولة لمصاريفه الشخصية يعدّ ذنباً ، ولهذا كان بعد أن يفرغ من أمور الحكم يعمل بكتابة الآيات القرآنية بخط جميل ، ويعطيها لمن يبيعها له ، ثم يشتري بحصيلة البيع هذه طعاماً لنفسه وأهله ومن تقع على عاتقه مسئولياتهم .
ما رأيكم أيها الأعزاء ، هل هناك حضارة من الحضارات في أي بلد من العالم قدمت لنا هذا المثال من الأمانة والتعفف ؟!!. ألا يحق لنا أن نفخر بانتمائنا إلى هذا الدين الذي خلق لنا مثل هذه الشخصيات العظيمة !!.
الفتاة كجري :
ذكّرني هذا الأمر بالفتاة " كجري " ، وكان ذلك قبل قيام باكستان (26) . في تلك الفترة كان الإنجليز يحكموننا ، و " كجري " هذه كانت خادمة تنظف البيت عندنا ، لكني لم أكن على علم أنها مسيحية . ذات يوم سألتها : يا " كجري " ، من أي قبيلـة أنت ؟. عندئذ وضعت " كجري " سلة كانت في يدها على الأرض ، وألقت بالمقشة بعيداً ، ثم انتصبت واقفة ، ومالت بعنقها قليلاً ما زادها وقاراً ، ثم قالت : إنني من القبيلة التي ينتمي إليها " السيد " (27) .
سادتي ، كنت أودّ أنا الآخر أن أضع سلتي على الأرض ، وألقي بالمقشة بعيداً ، ثم انتصب واقفاً ، وأقول في فخر : أيها الناس ، وأنا الآخر من القبيلة التي منها سيد الدنيا والآخرة ، على أية حال كانت هذه جملة معترضة . لقد خلق الإسلام شخصيات عظيمة لا نجد لها مثيلاً في تاريخ الدنيا .
ولتقصّ على شباب هذا العصر المولع بالغرب قصة ذلك السلطان المسلم كمثال ، ذلك السلطان الذي علّق في قصره سلسلة العدل (28) ، وأعلن أن من يقع عليه أي ظلم من الرعايا ، عليه أن يجذب سلسـلة العدل هذه ، فإذا ما جذب المستغيث من الظلم السلسلة ، دقّت الأجراس ، فيخرج السلطان بنفسه إلى الشرفة ، ويسأل المستغيث عن الظلم الذي وقع عليه .
أنا مجرم :
ثم قص عليهم تلك القصة التاريخية التي تنعش الإحساس بالعظمة داخل قلوب المسلمين حين يسمعونها . ذات مرة حاصر جيش المسلمين مدينة من مدن أفريقيا ، ورأى المسئولون عن المدينة أنهم لا قبل لهم بمواجهة هذا الجيش الضخم ، فاستسلموا ، وطلبوا الصلح ، وأمر القائد المسلم جنوده أن يدخلوا المدينة ، وألاّ يتعرضوا لأي فرد من أهلها ، وألاّ يتلفوا شيئاً مما بها . قال القائد : أيها الجنود ، لقد أصبحتم الفاتحين لهذه المدينة ، ولا يليق بفاتح أن يبدأ عمله فيما فتح بالسلب والنهب ، وإنما بالحفاظ على ما فتح .
وفي اليوم التالي جاء المسئولون عن المدينة إلى القائد وقالوا : لقد أخذت على عاتقك مسئولية الحفاظ على المدينة ، لكن في مقابل ذلك أذلّنا جنودك ، فقد كان هناك تمثال لقائدنا المحبوب ، نصبناه في ميدان من أكبر ميادين المدينة ، وقام أحد المخربين بكسر أنف التمثال ليلاً ، ولا يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل مواطن من أهل المدينة ، وبالتالي لا بد أن يكون أحد جنودك هو الذي قام به ، ولا بد أن يعاقب المجرم هذا بأشد العقاب .
وأمر القائد المسلم جنوده بالتجمع في الميدان الكبير بالمدينة ، وخطب القائد فيهم قائلاً : لقد أخذنا على عاتقنا مسئولية الحفاظ على المدينة وحمايتها ، وأهل المدينة يطالبوننا بالعدل والإنصاف ، فالأمر إذاً يتعلق بكرامة الإسلام وعزّته ، ولهذا فإني آمر من ارتكب هذا العمل أن يقف ، ويعترف بجرمه .
وكرّر القائد المسلم ما قال ثلاث مرات ، لكن أحـداً من الجند لم يعترف بارتكاب الجريمة ، عندئذ قال القائد لسادة المدينة : أما والحـال هكذا ، فلكم الحق في مطالبتنا بتعويض مادي ، وسوف نعطيكم ما تطلبون ، لكن سادة المدينـة أصروا على أن العين بالعين ، والسن بالسن ، والأنف بالأنف . وحاول القائد كثيراً إقناعهم ، لكنهم لم يقتنعـوا . وفي النهاية قال القائد : بما أن مسئولية الحفاظ على المدينة تقع على عاتقي أنا ، لهذا فأنا أقدم لكم أنفي بدلاً من أنف التمثال . ولما سمع الجنود المسلمون قرار القائد هذا صاحوا واحتجوا ، وعندئذ وقف واحد منهم قائلاً : يا سيدي ، كان عليّ أن اعترف بجريمتي قبل ذلك ، لكني لذت بالصمت خوفاً ، والآن أنا أعترف بارتكابي لهذا الجرم ، فاقطعوا أنفي .
ولم يكد الجندي يكمل حديثه حتى وقف جندي آخر قائلاً : يا سيدي ، هذا الرجل كاذب ، الحقيقة أن المجرم هو أنا ، فأنا الذي حطم أنف التمثال . ووقف جندي ثالث يقول : يا سيدي ، هذان الاثنان كاذبان .....
ولما رأى أهل المدينة عاطفة الإيثار هذه لدى الجنود المسلمين تأثروا كثيراً ، لدرجة جعلتهم يتنازلون عن مطالبهم .
كانت هذه عظمة أسلافنا ، ليس في السّلم فقط ، وإنما في الحرب أيضاً ، حيث اتسموا بالتسامح الشديد مع غير المسلمين ، كان هذا هو سيف الإيثار والتضحية والتسامح والعدل ، والذي انتشر الإسلام بقوته .
فتح مكة :
ثم قصّ على شباب هذا العصر - الذي يعتقد بصحة ما يدّعيه أهل الغرب عن الإسلام من أنه دين متعصب متشدّد – قصة " فتح مكة " ، فقد فتحها المسلمون بغير حرب ، واستسلم أهل " مكة " لهم ، وألقوا بأسلحتهم ، و " مكة " هذه هي تلك المدينة التي ظلّ كفارها يشتطون غاية الشطط إلى ما قبل الفتح مباشرة في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعلوا خروجه من بيته أمراً مستحيلاً ، فإذا خرج من بيته سخروا منه ، وأسمعوه ما لا يليق ، وقذفوه بالحجارة ، بل وتآمروا على قتله . لقد اشتد إيذاء كفار مكة له صلى الله عليه وسلم حتى اضطر إلى الهجرة منها مع بعض أصحابه ، ومع ذلك فقد تعقّبوه .
واليوم يدخل محمد صلى الله عليه وسلم هذا نفسه ، فاتحاً " مكة " نفسها ، ويتيقن أهل " مكة " أنه صلى الله عليه وسلم لا بد قاتلهم ، فهذا هو العرف في الحرب ، ولكن انظر إلى عظمة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم إذ أعلن :
1 – أن لا يتعرض أحد للنساء ، ولا للأطفال .
2 – لا يتعرض أحد لمريض أو جريح أو معوّق .
3 – لا يتعقّب أحد من فرّ وهرب .
4 – لا يقتل من دخل بيته وأغلق عليه بابه .
5 – لا يقتل أسير .
6 – أن يؤمّن على روحه من ألقى سلاحه .
7 – لا يتعرض أحد لمن لاذ بالكعبة .
8 – لا يتعرض أحـد لمن لاذ ببيت " أبي سفيـان " ، أو بيت " حكيم بن حـزام " ، وكان هذا من ألدّ أعداء الإسلام (29) .
إن أفضل الطرق في الدعوة الإسلامية أن نعرّف شبابنا بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم ، نخبرهم أن غير المسلمين ، بل وأعداء الإسلام أيضاً يعترفون بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ، نعلّم شبابنا أن يثقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويؤمنوا بشخصيته ، واعلموا أيها السادة أن من زرع في قلبه الثقة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فد صار على جادّة الإسلام . أخبروا شبابنا أن القرآن الكريم ليس كتاباً دينياً ، ولا يخاطب المسلمين فقط ، إنما هو كتاب يخاطب بني الإنسان جميعاً .
كتاب ثوري :
أيها السادة ، إن القرآن الكريم كتاب ثوري ، وهو هكذا منذ أن نزل قبل ألف وأربعمائة عام ، ولا يزال هذا الكتاب ثوري حتى يومنا هذا برغم مرور أربعة عشر قرناً . لقد أحدث القرآن طوفاناً ، طوفاناً ليس تخريبياً ، وإنما طوفاناً تعميرياً بناءاً ، طوفاناً من الأفكار في الأذهان ، وطوفاناً من العواطف في القلوب .
عندما نزل القرآن كان أهل أوروبا لا يزالون يتعلّمون مبادئ الحياة ، لم يكونوا قد ثبتوا أقدامهم ككيانات في هذا العالم ، لم تكن هناك إلاّ دولة أوروبية واحدة من دول أوروبا كلها ، وهي " اليونان " ، تفجـرت فيهـا عيـون الفكر ، وظهر فيها كثير من المفكرين الكبار مثل " أرسطو " و " أفلاطون " و " بطليموس " ، لكن كل مفكري " اليونان " كانوا فلاسفة ، مولعين بالتفكير ، مغرمين برؤية الأحلام ، مستغرقين في أحلامهم ، ولهين بنظرياتهم ، وذاع صيت هذه النظريات في أماكن بعيدة .
ثم جاء القرآن وقال كفى يا سادة ، كفى ، لقد رأيتم أحلاماً بما فيه الكفاية ، وغنّيتم لنظرياتكم كثيراً ، دعوكم من هذا التشتت الفكري ، واتركوا الأحلام ، وافتحوا عيونكم ، وانظروا إلى الحقائق ، فلقد ملأنا المكان من حولكم بالحقائق ، لكي تنظروا وتتفكروا وتستوعبوا ، لكن عليكم ألاّ تنسـوا شيئاً واحداً ، وهو أن كل شيء ممهور بخاتمنا ، وفي كل قطرة وضعنا حكمتنا ، فلا تنظروا إلى شيء إلاّ من خلالنا ، وإن لم تفعلوا ضللتم ، وضاع الطريق منكم ، ولن تصلوا إلى الهدف مهما فعلتم .
لقد دعا القرآن الكريم إلى فتح العيون المغلقة ، وأخرج الأفكار من دوامة التشتت ، وحدّد لها اتجاهها ، ومنحها أهدافها . حرّرها من الجمود ، وبثّ فيها الحركة . لقد أثّر القرآن الكريم على العقول تأثيراً مثل ذلك التأثير الذي تحدثه ذرات " الملح " في زجاجة " الصودا " ، تجعلها تفور فوراناً ، تمتلئ حركة ، حركة هادفة ، وقد أحدث القرآن الكريم هذه الثورة في العواطف الإنسانية عندما عرّفها بفكرتين جديدتين ، وكل منهمـا غايـة في الخطورة ، وهمـا : " فكرة التوحيد " ، و " فكرة المساواة " .
سادتي ، كان نزول القرآن الكريم بمثابة الانفجار للذهن الإنساني ، انفجار مثل ذلك الذي حدث عند خلق الكائنات (30) ، ولا يزال أثر هذا الانفجار قائماً حتى يومنا هذا ، وقد شرح المفكرون العظام شكل هذا الانفجار ووضحوه ، هذا الانفجار حدث في ذهن الإنسان . كانت بداية القرآن بقوله تعالى يا محمد ، اقرأ ، اقرأ باسمنا ، نحن الكرماء الرحماء ، نحن الذين أعطينا الإنسان القلم ، وقلنا له تعلّم كيف تستخدمه ، وأعطيناه العلم (31) .
لقد دعا القرآن الكرم الإنسان إلى التفكير قائلاً له : تفكّر ، وتأمل في مظاهر الفطرة ، كيف خلقت الأرض والسمـاء ، وكيف تتبدّل المواسم والفصـول ، وكيف يتعاقب الليل والنهار !!!. تفكر ، كيف يكون الخلق ، وما هو الموت ، تخضرّ الأغصان وتينع ، ثم بعد ذلك تجفّ وتيبس !!!. تفكر كيف يكون الغروب والشروق ، كيف تقف الجبال منتصبة ، وكيف تجري الأنهار ، وكيف تسير الفلك في البحار ، وكيف تتلألأ النجوم في السماء !!!. تفكر ، لماذا تكون لطائف الأرواح أفضل لذّات الأجساد !!! (32) .
أخبرنا القرآن إن العلم أقسام ثلاثة ، أحدها هو الذي يـجري على الناس وتشاهده عيونك ، والثاني هو الذي يجري عليك أنت ، والثالث هو الذي يعرف بالتجربة . ويقول أحد الألمان " DUTSCH " عن القرآن أنه كتاب ثوري ، جاء المسلمون إلى أوروبا ، وأضاءوا من خلاله مصابيح العلم فيها ، وعرّفوا أهل الغرب بأساليب البحث واتجاهات العلم ، وهكذا كانوا هم الذين وضعوا أساس العلم الحديث .
وقد قال صلى الله عليه وسلم عن العقل والعلم فيما معناه أن أول شيء خلقه الله تعالى هو العقل ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً أفضل من العقل. وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه إن الشخص الذي يخرج من بيته طلباً للعلم وبحثاً عنه هو في الحقيقة يسير على طريق الله (33) . وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه تعلموا العلم حتى تميزوا بين الصحّ والخطأ ، فالعلم نور في الطريق إلى الجنة ، والعلم يرشد إلى طريق الراحة والسعادة ، ويمنح الصبر في الأوقات العصيبة . العلم رفيقنا ومؤنسنا في الصحراء ، والعلم زينة في السلم ، وفي الحرب عربات مدرّعة . العلم رفيق في الوحدة . وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه إن الشخص الذي يذكر العلم هو في الحقيقة يحمد الله ويثني عليه ، والذي يعمل جاهداً على تحصيل العلم شخص يحب الله تعالى ، والذي ينشر العلم كأنه يتصدق ، ومن يعلم العلم يعبد الله (34) . وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه أن سماع العلم وصحبة العلماء خير من العبادة . وقال صلى الله عليه وسلم فيما معناه أن من يحترم العلماء ويقدرهم فإنما يقدرني ويحترمني ، وأن حبر دواة العالم أكثر بركة من دم مجاهد. لقد اهتم القرآن الكريم بالعقل والعلم والبحث ، وأحدث ثورة هائلة في العقول والأذهان .
أيها العلماء الأجلاء في بلادنا ، لا تفهموا الأمور خطأ من أن المقصود بالعلم في القرآن هو علم الدين . كلا أيها السادة ، الأمر ليس هكذا ، لأن الدين ليس علماً ، الدين عمل ، والقرآن يقصد بالعلم " العلوم الطبيعية " (35) .
ولم يهتم دين قبل الإسلام بالعقل والفهم والحياة والكائنات مثلما اهتم بها الإسلام ، فقد تأسست المذاهب السابقة كلها على فرضيات وتصورات ، وكان مشهوراً أن الدين والعقل اتجاهان متناقضان ، كل الأديان كان تعتبر الحياة والكائنات سراباً ، وأن الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة .
أبو العلم الحديث :
لقد كان من نتائج الثورة التي أحدثها الإسلام أن أصبحت للعقل والفهم أهمية كبرى ، وظهر عشرات المفكرين من العرب ، وبدأت سلسلة البحث في العلوم الكونية ، وحدّد هؤلاء الوجهـة الأساسية للبحث العلمي ، ووضعوا مبادئ العلوم كلها بعد أن بحثوا في حقائقها الأساسية . واليوم يعترف الباحثون في ميدان العلوم ، وكذا المؤرخون ، بحقيقة أن العلماء العرب هم الذين وضعوا أساس العلوم الحديثة . على سبيل المثال يكتب " فيليب كي هتي " قائلاً أن العرب طوروا " الصفر " في علم الرياضة ، وأوصلوه إلى مكانة لا يزال يستفيد منها الرياضيون حتى اليوم ، وأقامـوا علم الطب على أسس علميـة ، وأنشـأوا المعاهـد التي تدرّسه ، حتى أن " بغداد " وحدها كان يعمل بها من الأطباء المؤهلين علمياً حوالي ثمانمائة وستـون طبيباً . ويقول " درير " : لقد اخترع العرب كل ما نظن الآن أنه من اختراعنا ، فهم الذين اخترعوا المراصد ، والاصطرلاب ، ووضعوا خريطـة للنجوم ، ووضعوا أسس علم الجبر والمقابلة والهندسة ، ووضعوا أساس علم الكيمياء ، وحددوا أوقات ومواعيد خسوف الشمس وكسوف القمر .
ويقول الـ " بانديت نهرو " (36) في كتابه " ومضات من تاريخ العلم أنه لم يكن هناك علم تجريبي قبل العرب ، سواء في الهند أو في الصين أو في مصر أو في أي مكان آخر ، والعرب هم الذين وضعوا أساس العلوم التجريبية ، ويستحقون أن يطلق عليهم " رواد العلم الحديث " .
هوامش
26 - 1947م .
27 - تقصد السيد المسيح ،بمعنى أن قبيلتها هي المسيحية .
28 - السلطان هو أنوشيروان العادل ، وأما السلسلة فيكون طرفها داخل القصر حيث يجلس الملك ، ومثبت في هذا الطرف جرس ، أما الطرف الآخر من السلسلة فيكون خارج سور القصر ، ليكون في متناول من يحتاج إليه .
29 - بعد فتح مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً في أهلها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أقول كما قال أخي يوسف عليه السلام لا تثريب عليكم اليوم فغفر لكم ، وقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن .
وورد أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته هذه : يا معشر قريش ما تقولون . قالوا : نقول ابن أخ وابن عم رحيم كريم ، ثم أعاد عليهم القول فقالوا مثل ذلك ، فقال : إني أقول لكم كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم وهو أرحم الراحمين . اللمع – ص 14 ، 589 ، 590 .
30 - الإشارة إلى الرأي الذي يقول إن الكائنات خلقت بعد انفجار كوني رهيب فتّت الذرات ، وفصل الأجرام السماوية والكواكب والمجرات ، وأنتج الهيدروجين والأكسوجين الذي كون الماء ، ومنه الخلق .
31 - الإشارة إلى قوله تعـالى في سورة العلق " اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم " 1 – 5 .
32 - " هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ، وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ، وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون ، وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون " – النحل : 10 – 15 .
33 - الحديث : " من خرج في طلب علم كان في سبيل الله حتى يرجع " – الترمذي ( 2686 ) .
34 - هناك أحاديث كثيرة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل العلم والعلماء ، ومنها : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " ( مسلم – 2699 ) . ومنها " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ، ثم قال : إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير " – ( الترذي – 2686 ) .
35 - أشرنا في موضع سابق إلى أنه ليس هناك ما يقطع بأن المقصود بالعلم في القرآن الكريم هو العلوم الطبيعية لا غير ، ونحن نعتقد أن المقصود هو العلم على إطلاقه ، إلاّ أن يكون علماً ضاراً .
36 - البانديت نهرو أول رئيس لوزراء الهند بعد استقلالها عام 1947م ، وهو والد السيدة اندرا غاندي رئيسة وزراء الهند السابقة .