المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب السابع (مسك الختام) من كتاب (مضامين بطرس) للأديب الباكستاني (بطرس بخاري)



إبراهيم محمد إبراهيم
19/11/2007, 09:30 AM
مسك الختام
المشهد :
" حجرة ضيقة مظلمة ، ليس بها من الأثاث سوى منضدة قديمة ، وكرسي متهالك ، وحصيرة مفروشة على أرضية الحجرة في أحد أركانها ، وعليها أكوام من الكتب لا حصر لها ، وعلى كعوب هذه الكتب تبدو أسماءٌ لمشـاهير الأدب من أمثـال " شيكسبير " و " تولستوي " و " وردز ورث " وغيرهم .
وفي الخارج كانت هناك بعض الكلاب لا تكفّ عن النباح ، وقد وصلت زفّة عروس لتوّها ، وما زالت الفرقة الموسيقية المصاحبة تعزف الموسيقى التي يبدو من صوتها أن العازفين مصابون بالسعال وضيق التنفس والسّل وغيرها من الأمراض ، اللّهمّ إلاّ الطبّال ، فقد بدا بصحة جيدة !.
وكان هناك معلّم مسكين يُدعى " بطرس " منهمك في عمله إلى المنضدة . كان في عمر الشباب ، لكن آثار الصحة لا تبدو إلاّ في أماكن قليلة من وجهـه ، وحول عينيه هالة من السـواد ، والذكـاء يتقاطـر من وجهـه في شكل حبّات عرق ، و " التقويم " المعلّق على الحائط يشير إلى آخر يوم في الشهر " .
يأتي من يطرق الباب ، فينهض " بطرس " ليفتحه ، حيث يدخل ثلاثة طلاب بملابس ثمينة :
* بطرس : تفضلوا بالداخل يا سادة ، كما ترون ، ليس عندي سوى كرسي واحد ، ولكن ما أسوأ التفكير في الجاه والثروة ، فالعلم نعمة كبرى ، ولذا فإن عليكم يا أبنائي أن تأخذوا بعض الكتب الضخمة من هذه الأكوام ، وترصّوها فوق بعضها ، ثم تجلسون عليها ، لأنه ينبغي أن يكون العلم ، والعلم فقط ، هو فراشكم وغطاءكم .
" ويسطع في الحجرة نورٌ غامضٌ ، حيث تتناهى إلى السمع رفرفة أجنحة الملائكة "
* الطلاب " الثلاثة معاً " : أيها العبد المقرّب إلى الله ، يا أستاذنا المبجّل ، نحن على أتم استعداد لتنفيذ ما تقول ، إذ ينبغي أن يكون العلم ، والعلم فقط ، هو فراشنا وغطاءنا .
" يضمون الكتب إلى جوار بعضها ، ويجلسون عليها "
* بطرس : أخبروني يا أبناء الهند ، أيّ علم جاءت بكم لهفتكم لتعلّمه حتى بيتي ؟!.
* الطالب الأول : أيها الإنسان الصالح ، لقد جئنا اليوم لنردّ لك الجميل !.
* الطالب الثاني : أيها الملاك ، جئنا نقدم إليك مقابل عطفك علينا !.
* الطالب الثالث : يا من أسرْتنا بإحسانك ، لقد جئنا بثمرة اجتهادك !.
* بطرس : لا تقولوا هذا ، لا تقولوا هذا ، إن اجتهادي هو نفسه ثمرة اجتهادي ، وقد وصلني مقابل ما كنت أدرّسه لكم خارج الأوقات المحدّدة في الكلية الآن حين رأيت في أعينكم بريق الذكاء ... آه ، هل تعرفون أن التعليم والتدريس مهنة سماوية ؟!. ومع ذلك فقد امتلأ قلبي بإحساس عجيب من السرور لكلامكم . ثقوا فيّ ولا تتردّدوا ، وحدّثوني بالتفصيل عمّا تريدون .
* الطالب الأول " منتصباً في وقفته ، عاقداً كفيه في احترام " : أيها المعلم المبجل ، لقد كنا محرومين من ثروة العلم التي لا تقدّر بثمن ، ولم تستطع الأوقات المقرّرة للدرس أن تطفئ ظمأنا إليه ، وامتحانات البوليس والوظائف المدنية بمثابة أزمة كبيرة ، ولقد عاونْتنا ، فأنارت عقولنا المظلمة ... أيها المعلم المتمكن ، كما تعلم ، فإن اليوم هو آخر أيام الشهر ، وقد جئنا لتقديم مقابل ضئيل لخدماتك لنا ، وإن كان أحد لا يستطيع أداء مقابل تبحّرِك العلمي ، وعطفك الأبويّ ، إلاّ أننا نقدم هذا المبلغ القليل في خدمتك للتعبير عن جزيل شكرنا لك ، ونرجو أن تقبله ، ونحن مدينون لك بالكثير !.
* بطرس : إنّ حديثك يشعرني بحالة عجيبة من التشوّق واللهفة .
" يقف الطالبان الآخران بإشارة من الطالب الأول ، وفجأة تعزف الفرقة الموسيقية بالخارج " .
* الطالب الأول " يتقدم إلى الأمام قليلاً " : أيها المحسن إلينا ، لتقبل هديتي الصغيرة " يقدّم نصف روبية بكل أدب واحترام " (1) .
* الطالب الثاني " يتقدم إلى الأمام قليلاً " : أيها الملاك ، أرجو أن تمنح هديتي شرف القبول " يقدم نصف روبية " .
* الطالب الثالث " يتقدم إلى الأمام قليلاً " : أيها الإنسان الصالح ، امنحني – أنا الضعيف – بعض الشرف " يقدم نصف روبية " .
* بطرس " في غير تحكم في عواطفه ، وبصوت متهدّج " : أبنائي ، ليُنزل الله عليكم رحماته . لقد تأثرت كثيراً بولائكم وتقديركم ، فليكتب الله لكم الرفاء في الدنيا ، والنجاة في الآخرة ، وليُنِر الله صدوركم بنور العلم " يضع الروبية والنصف على المنضدة " .
* الطلاب " الثلاثة معاً " : أيها العبد المقرّب إلى الله ، لقد أدينا واجبنا ، فاسمح لنا بالانصراف ، فإن والدينا ينتظرانا بلهفة في البيت .
* بطرس " يخرّ ساجداً في خلوته " : ألف ألف شكر لك يا رب ، إنك لم تدعني – أنا العبد الضعيف – أنتظر ثمرة اجتهادي لفترة طويلة . لا حدّ لرحمتك . ولكنّي أحتاج إليك دائماً ، إنه لمن فضلك وكرمك أن جعلتني سبباً في رزق الآخرين ، إذ جعلت مني كفيلاً بالخادم الذي يقوم على خدمتي . لا حدّ لرحمتك ، وعطاؤك لا يتوقّف .
" ومرة أخرى يسطع في الحجرة ضوء غامض ، وتتناهى إلى السمع رفرفة أجنحة الملائكة ، وبعد برهة يرفع بطرس رأسه من السجود ، وينادي على الخادم :
* بطرس : أيها الخادم المجتهد الأمين ، تعال هنا لحظة .
* الخادم " من خارج الحجرة " : يا سيدي ، يا ذا الخصال الحميدة ، سآتي بعد أن أطبخ الطعام ، فالعجلة من الشيطان .
" وبعد وقفة طويلة صار فيها ظلُّ الأشجار ضعف ما كان عليه طولاً "
* بطرس : آه ، كم هي لذيذة ساعات الانتظار !. كيف تلتقي أصوات نباح الكلاب مع صوت الفرقة الموسيقية في " تناغم " رائع .
" ثم يخرّ ساجداً "
وبعدها ينهض بطرس ، ويجلس إلى المنضدة ، وتقع عينه على الروبية والنصف ، فيمسك بها فوراً ، ويخبئها تحت أحد الكتب .
* بطرس : آه ، إنني أكره المال والثروة . إلهي ، لتحفظ قلبي طاهراً نقياً من أطماع الدنيا " يدخل العامل " .
* بطرس : أيها الإنسان العامل ، إنني أشفق عليك إذ لم يتسلّل شعاع نور العلـم إلى صدرك حتى الآن ، ومع ذلك فأنا وأنت سواء في حضرة الله تعالى . أنت تعلم أن اليوم هو آخر أيام الشهر ، ولقد حان وقت صرف مرتّبك ، فلتسعد ، لأنك ستحصل اليوم على أجر اجتهادك وعملك ، لتقبل هذه الروبية والنصف ، فيبقى لك ثماني عشـرة روبية ونصف ، انتظر مدداً من الغيب لتأخذها ... الحياة تقوم على الأمل ، واليأس كفر.
يلقي الخادم بالروبية والنصف على الأرض ، ويغادر الحجرة .
" وتعزف الفرقة الموسيقية في الخارج بشدة "
 بطرس : يا إلهي ، احفظنا جميعاً من خطيئة التكبّر ، وابعد عنا غرور أبناء الطبقة الدنيئة
" ثم ينشغل في عمله "
وتتسرّب من المطبخ رائحة خفيفة تدل على احتراق الطعام ......
" وقفة طويلة صار خلالها ظلّ الأشجار أضعاف أضعاف ما كان عليه طولاً ، ولا تزال الفرقة الموسيقية تعزف "
وفجأة سُمِع صوت وصول سيارات وتوقُّفِها في الشارع ..........
" وبعد فترة وجيزة يطرق شخصٌ الباب "
* بطرس " يرفع رأسه من العمل " : من أنت أيها الإنسان ؟!.
* صوت " من الخارج " : سيدي ، أنا خادم بسيط ، وأقف في الخارج ، فإن أذِنت لي دخلت ، وعرضت ما عندي .
* بطرس " في نفسه " : أنا لا أعرف هذا الصوت ، ولكن يبدو من لهجته أنه لشخص مهذب . من هذا يا إلهي " بصوت مرتفع " : تفضل بالدخول .
ينفتح الباب ، ويدخل منه شخص بملابس أنيقة . ومع أن الوقار كان يتقاطر من وجهه ، إلاّ أن بصره كان مصوّباً إلى أسفل وقد ضمّ يديه إلى بعضهما واقفاّ في احترام بالغ .
* بطرس : ليس عندي كما ترى سوى كرسي واحد ، ولكن ما أسوأ التفكير في الجاه والثروة ، إذ العلم نعمة كبرى ، ولهذا أيها الغريب الوقور ، خذ بعضاً من أكوام الكتب هذه ، ورصّها فوق بعضها ، واجلس عليها ، إذ ينبغي أن يكون العلم ، والعلم وحده ، هو فراشنا وغطاءنا .
* الغريب : أيها الإنسان المقرّب إلى الله ، إن وقوفي أمامك شرف كبير لي .
* بطرس : أيُّ علم جاء بك تشوُّقك إليه حتى بابي ؟!.
* الغريب : أيها العالِم المُبجّل ، مع أنك لا تعرف شكلي ، لكني مسئول كبير في الإدارة التعليمية ، وأنا في غاية الخجل لأني لم أمْثُل بين يديك قبْلاً لأنال بركاتك . أرجـو أن تغفر لي تقصيري وغفلتي بحق علمك وفضلك . " وتدمع عيناه " .
* بطرس : إلهي ، هل هذا وهم وخيال ؟!. هل تخدعني عيناي ؟!.
* الغريب : لا أعجب إذ اعتبرت قدومي إليك وهماً وخيالاً ، لأننا حتى اليوم ظللنا نتجاهل إنساناً مقرّباً إلى الله مثلك ، بحيث يبدو ذلك لي أمراً محيّراً ، لكن ثق بي ، أنا واقف هنـا في خدمتك حقيقـة ، وما تراه ليس من خداع بصرك ... أيها الإنسان الشريف البائس ، إن كنت لا تصدّق فاقرصني وتأكد بنفسك .
" بطرس يقرص الغريب ، والغريب يصرخ بشدة "
* بطرس : نعم ، لقد تأكدت الآن ، ولكن تشريفك لنا يا سيدي أمرٌ أفخر به إلى درجة أنني أخاف أن يصيبني جنون .
* الغريب : إنك بكلامك هذا كأنك تجرني فوق الأشواك ، وصدّقني ، فأنا نادم غاية الندم على أخطائي الماضية .
* بطرس : " في حالة من الدهشة الشديدة " : أنا تحت أمرك .
* الغريب : ومن أنا حتى آمُرك ، لكن لي رجاء إن حقّقته لي فسأعتبر نفسي أسعد إنسان في العالم .
* بطرس : تفضل ، كلّي آذانٌ صاغية ، رغم أني لست على يقين من أن كل هذا يحدث في عالم اليقظة .
" يصفق الغريب ، فيدخل ستة من الخدم يحملون صناديق ضخمة ، يضعونها على الأرض ، ثم يقدمون التحية ، ويغادرون الحجرة " .
* الغريب " وهو يفتـح أغطيـة الصناديق " : لقد أحضرت هذه الهدايـا بتوجيـه من " الملك المعظم " ، و " أمير ويلز " ، و " نائب الملك في الهند " ، و " القائد الأعلى للجيش " ، تقديراً لعلمك وفضلك . " في صوت متهدج : " أرجو أن تتفضل بقبولها ، ولا تردني خائباً ، وإلاّ تحطمت قلوب هؤلاء جميعاً .
* بطرس " وهو ينظر إلى الصناديق " : ذهب ... دنانير ... جواهر ... أنا لا أصدّق . " ويبدأ في قراءة آية الكرسي " .
* الغريب : تفضل بقبولها ، ولا تردّني خائباً .
" تتقاطر الدموع من عينيه ، ويغنّي : اليوم لم تغمض عيناي للحظة " .
* بطرس : أيها الغريب ، لماذا تتساقط دموعك ؟!. ولماذا تغنّي ؟!. يبدو أنك لا تتحكم في عواطفك ، وهذا ينمّ عن ضعف فيك ، أدعو الله أن يقوّيك ويمنحك الهمة والعزيمة . إنني في غاية السعادة ، لأنك أنت وأسيادك تحبون العلم وتقدّرونه ... اذهب الآن فقد حان وقت قراءتي ، وهناك عدة مئات من الأرواح عليّ أن أُوقِظهم من أحلام الجهل بمحاضرتي غداً في الكلية .
* الغريب " وهو يشهق باكياً " : إن أذنت لي أحضر أنا أيضاً ، وأستفيد من فكرك .
* بطرس : الله معك ، وليزِدْ الله في ظمئكم وشوقكم للعلم .
الغريب يغادر الحجرة ، ولا يزال بطرس ينظر إلى الصناديق بعيون مشدوهة ، ثم تنطلق منه – لسعادته – صرخةٌ مدوّية يسقط على أثرها على الأرض ويموت .
" وتسطع الحجـرة بنور غامض ، ويتناهى إلى السمع صوت رفرفة أجنحة الملائكة ، ولا تزال الفرقة الموسيقية تعزف بالخارج " .
هوامش
1 - الروبية هي عملة باكستان ، وعملة الهند وبعض الدول الأخرى بنفس المسمّى كذلك ، مع فارق في القيمة الشرائية لكل منها ، والروبية الباكستانية أو الهندية في عصرنا تساوي عشرة قروش مصرية تقريباً ، وبهذا يكون ما قدمه الطالب إلى المعلم " بطرس " ما يعادل خمسة قروش مصرية تقريباً .

إبراهيم محمد إبراهيم
19/11/2007, 09:30 AM
مسك الختام
المشهد :
" حجرة ضيقة مظلمة ، ليس بها من الأثاث سوى منضدة قديمة ، وكرسي متهالك ، وحصيرة مفروشة على أرضية الحجرة في أحد أركانها ، وعليها أكوام من الكتب لا حصر لها ، وعلى كعوب هذه الكتب تبدو أسماءٌ لمشـاهير الأدب من أمثـال " شيكسبير " و " تولستوي " و " وردز ورث " وغيرهم .
وفي الخارج كانت هناك بعض الكلاب لا تكفّ عن النباح ، وقد وصلت زفّة عروس لتوّها ، وما زالت الفرقة الموسيقية المصاحبة تعزف الموسيقى التي يبدو من صوتها أن العازفين مصابون بالسعال وضيق التنفس والسّل وغيرها من الأمراض ، اللّهمّ إلاّ الطبّال ، فقد بدا بصحة جيدة !.
وكان هناك معلّم مسكين يُدعى " بطرس " منهمك في عمله إلى المنضدة . كان في عمر الشباب ، لكن آثار الصحة لا تبدو إلاّ في أماكن قليلة من وجهـه ، وحول عينيه هالة من السـواد ، والذكـاء يتقاطـر من وجهـه في شكل حبّات عرق ، و " التقويم " المعلّق على الحائط يشير إلى آخر يوم في الشهر " .
يأتي من يطرق الباب ، فينهض " بطرس " ليفتحه ، حيث يدخل ثلاثة طلاب بملابس ثمينة :
* بطرس : تفضلوا بالداخل يا سادة ، كما ترون ، ليس عندي سوى كرسي واحد ، ولكن ما أسوأ التفكير في الجاه والثروة ، فالعلم نعمة كبرى ، ولذا فإن عليكم يا أبنائي أن تأخذوا بعض الكتب الضخمة من هذه الأكوام ، وترصّوها فوق بعضها ، ثم تجلسون عليها ، لأنه ينبغي أن يكون العلم ، والعلم فقط ، هو فراشكم وغطاءكم .
" ويسطع في الحجرة نورٌ غامضٌ ، حيث تتناهى إلى السمع رفرفة أجنحة الملائكة "
* الطلاب " الثلاثة معاً " : أيها العبد المقرّب إلى الله ، يا أستاذنا المبجّل ، نحن على أتم استعداد لتنفيذ ما تقول ، إذ ينبغي أن يكون العلم ، والعلم فقط ، هو فراشنا وغطاءنا .
" يضمون الكتب إلى جوار بعضها ، ويجلسون عليها "
* بطرس : أخبروني يا أبناء الهند ، أيّ علم جاءت بكم لهفتكم لتعلّمه حتى بيتي ؟!.
* الطالب الأول : أيها الإنسان الصالح ، لقد جئنا اليوم لنردّ لك الجميل !.
* الطالب الثاني : أيها الملاك ، جئنا نقدم إليك مقابل عطفك علينا !.
* الطالب الثالث : يا من أسرْتنا بإحسانك ، لقد جئنا بثمرة اجتهادك !.
* بطرس : لا تقولوا هذا ، لا تقولوا هذا ، إن اجتهادي هو نفسه ثمرة اجتهادي ، وقد وصلني مقابل ما كنت أدرّسه لكم خارج الأوقات المحدّدة في الكلية الآن حين رأيت في أعينكم بريق الذكاء ... آه ، هل تعرفون أن التعليم والتدريس مهنة سماوية ؟!. ومع ذلك فقد امتلأ قلبي بإحساس عجيب من السرور لكلامكم . ثقوا فيّ ولا تتردّدوا ، وحدّثوني بالتفصيل عمّا تريدون .
* الطالب الأول " منتصباً في وقفته ، عاقداً كفيه في احترام " : أيها المعلم المبجل ، لقد كنا محرومين من ثروة العلم التي لا تقدّر بثمن ، ولم تستطع الأوقات المقرّرة للدرس أن تطفئ ظمأنا إليه ، وامتحانات البوليس والوظائف المدنية بمثابة أزمة كبيرة ، ولقد عاونْتنا ، فأنارت عقولنا المظلمة ... أيها المعلم المتمكن ، كما تعلم ، فإن اليوم هو آخر أيام الشهر ، وقد جئنا لتقديم مقابل ضئيل لخدماتك لنا ، وإن كان أحد لا يستطيع أداء مقابل تبحّرِك العلمي ، وعطفك الأبويّ ، إلاّ أننا نقدم هذا المبلغ القليل في خدمتك للتعبير عن جزيل شكرنا لك ، ونرجو أن تقبله ، ونحن مدينون لك بالكثير !.
* بطرس : إنّ حديثك يشعرني بحالة عجيبة من التشوّق واللهفة .
" يقف الطالبان الآخران بإشارة من الطالب الأول ، وفجأة تعزف الفرقة الموسيقية بالخارج " .
* الطالب الأول " يتقدم إلى الأمام قليلاً " : أيها المحسن إلينا ، لتقبل هديتي الصغيرة " يقدّم نصف روبية بكل أدب واحترام " (1) .
* الطالب الثاني " يتقدم إلى الأمام قليلاً " : أيها الملاك ، أرجو أن تمنح هديتي شرف القبول " يقدم نصف روبية " .
* الطالب الثالث " يتقدم إلى الأمام قليلاً " : أيها الإنسان الصالح ، امنحني – أنا الضعيف – بعض الشرف " يقدم نصف روبية " .
* بطرس " في غير تحكم في عواطفه ، وبصوت متهدّج " : أبنائي ، ليُنزل الله عليكم رحماته . لقد تأثرت كثيراً بولائكم وتقديركم ، فليكتب الله لكم الرفاء في الدنيا ، والنجاة في الآخرة ، وليُنِر الله صدوركم بنور العلم " يضع الروبية والنصف على المنضدة " .
* الطلاب " الثلاثة معاً " : أيها العبد المقرّب إلى الله ، لقد أدينا واجبنا ، فاسمح لنا بالانصراف ، فإن والدينا ينتظرانا بلهفة في البيت .
* بطرس " يخرّ ساجداً في خلوته " : ألف ألف شكر لك يا رب ، إنك لم تدعني – أنا العبد الضعيف – أنتظر ثمرة اجتهادي لفترة طويلة . لا حدّ لرحمتك . ولكنّي أحتاج إليك دائماً ، إنه لمن فضلك وكرمك أن جعلتني سبباً في رزق الآخرين ، إذ جعلت مني كفيلاً بالخادم الذي يقوم على خدمتي . لا حدّ لرحمتك ، وعطاؤك لا يتوقّف .
" ومرة أخرى يسطع في الحجرة ضوء غامض ، وتتناهى إلى السمع رفرفة أجنحة الملائكة ، وبعد برهة يرفع بطرس رأسه من السجود ، وينادي على الخادم :
* بطرس : أيها الخادم المجتهد الأمين ، تعال هنا لحظة .
* الخادم " من خارج الحجرة " : يا سيدي ، يا ذا الخصال الحميدة ، سآتي بعد أن أطبخ الطعام ، فالعجلة من الشيطان .
" وبعد وقفة طويلة صار فيها ظلُّ الأشجار ضعف ما كان عليه طولاً "
* بطرس : آه ، كم هي لذيذة ساعات الانتظار !. كيف تلتقي أصوات نباح الكلاب مع صوت الفرقة الموسيقية في " تناغم " رائع .
" ثم يخرّ ساجداً "
وبعدها ينهض بطرس ، ويجلس إلى المنضدة ، وتقع عينه على الروبية والنصف ، فيمسك بها فوراً ، ويخبئها تحت أحد الكتب .
* بطرس : آه ، إنني أكره المال والثروة . إلهي ، لتحفظ قلبي طاهراً نقياً من أطماع الدنيا " يدخل العامل " .
* بطرس : أيها الإنسان العامل ، إنني أشفق عليك إذ لم يتسلّل شعاع نور العلـم إلى صدرك حتى الآن ، ومع ذلك فأنا وأنت سواء في حضرة الله تعالى . أنت تعلم أن اليوم هو آخر أيام الشهر ، ولقد حان وقت صرف مرتّبك ، فلتسعد ، لأنك ستحصل اليوم على أجر اجتهادك وعملك ، لتقبل هذه الروبية والنصف ، فيبقى لك ثماني عشـرة روبية ونصف ، انتظر مدداً من الغيب لتأخذها ... الحياة تقوم على الأمل ، واليأس كفر.
يلقي الخادم بالروبية والنصف على الأرض ، ويغادر الحجرة .
" وتعزف الفرقة الموسيقية في الخارج بشدة "
 بطرس : يا إلهي ، احفظنا جميعاً من خطيئة التكبّر ، وابعد عنا غرور أبناء الطبقة الدنيئة
" ثم ينشغل في عمله "
وتتسرّب من المطبخ رائحة خفيفة تدل على احتراق الطعام ......
" وقفة طويلة صار خلالها ظلّ الأشجار أضعاف أضعاف ما كان عليه طولاً ، ولا تزال الفرقة الموسيقية تعزف "
وفجأة سُمِع صوت وصول سيارات وتوقُّفِها في الشارع ..........
" وبعد فترة وجيزة يطرق شخصٌ الباب "
* بطرس " يرفع رأسه من العمل " : من أنت أيها الإنسان ؟!.
* صوت " من الخارج " : سيدي ، أنا خادم بسيط ، وأقف في الخارج ، فإن أذِنت لي دخلت ، وعرضت ما عندي .
* بطرس " في نفسه " : أنا لا أعرف هذا الصوت ، ولكن يبدو من لهجته أنه لشخص مهذب . من هذا يا إلهي " بصوت مرتفع " : تفضل بالدخول .
ينفتح الباب ، ويدخل منه شخص بملابس أنيقة . ومع أن الوقار كان يتقاطر من وجهه ، إلاّ أن بصره كان مصوّباً إلى أسفل وقد ضمّ يديه إلى بعضهما واقفاّ في احترام بالغ .
* بطرس : ليس عندي كما ترى سوى كرسي واحد ، ولكن ما أسوأ التفكير في الجاه والثروة ، إذ العلم نعمة كبرى ، ولهذا أيها الغريب الوقور ، خذ بعضاً من أكوام الكتب هذه ، ورصّها فوق بعضها ، واجلس عليها ، إذ ينبغي أن يكون العلم ، والعلم وحده ، هو فراشنا وغطاءنا .
* الغريب : أيها الإنسان المقرّب إلى الله ، إن وقوفي أمامك شرف كبير لي .
* بطرس : أيُّ علم جاء بك تشوُّقك إليه حتى بابي ؟!.
* الغريب : أيها العالِم المُبجّل ، مع أنك لا تعرف شكلي ، لكني مسئول كبير في الإدارة التعليمية ، وأنا في غاية الخجل لأني لم أمْثُل بين يديك قبْلاً لأنال بركاتك . أرجـو أن تغفر لي تقصيري وغفلتي بحق علمك وفضلك . " وتدمع عيناه " .
* بطرس : إلهي ، هل هذا وهم وخيال ؟!. هل تخدعني عيناي ؟!.
* الغريب : لا أعجب إذ اعتبرت قدومي إليك وهماً وخيالاً ، لأننا حتى اليوم ظللنا نتجاهل إنساناً مقرّباً إلى الله مثلك ، بحيث يبدو ذلك لي أمراً محيّراً ، لكن ثق بي ، أنا واقف هنـا في خدمتك حقيقـة ، وما تراه ليس من خداع بصرك ... أيها الإنسان الشريف البائس ، إن كنت لا تصدّق فاقرصني وتأكد بنفسك .
" بطرس يقرص الغريب ، والغريب يصرخ بشدة "
* بطرس : نعم ، لقد تأكدت الآن ، ولكن تشريفك لنا يا سيدي أمرٌ أفخر به إلى درجة أنني أخاف أن يصيبني جنون .
* الغريب : إنك بكلامك هذا كأنك تجرني فوق الأشواك ، وصدّقني ، فأنا نادم غاية الندم على أخطائي الماضية .
* بطرس : " في حالة من الدهشة الشديدة " : أنا تحت أمرك .
* الغريب : ومن أنا حتى آمُرك ، لكن لي رجاء إن حقّقته لي فسأعتبر نفسي أسعد إنسان في العالم .
* بطرس : تفضل ، كلّي آذانٌ صاغية ، رغم أني لست على يقين من أن كل هذا يحدث في عالم اليقظة .
" يصفق الغريب ، فيدخل ستة من الخدم يحملون صناديق ضخمة ، يضعونها على الأرض ، ثم يقدمون التحية ، ويغادرون الحجرة " .
* الغريب " وهو يفتـح أغطيـة الصناديق " : لقد أحضرت هذه الهدايـا بتوجيـه من " الملك المعظم " ، و " أمير ويلز " ، و " نائب الملك في الهند " ، و " القائد الأعلى للجيش " ، تقديراً لعلمك وفضلك . " في صوت متهدج : " أرجو أن تتفضل بقبولها ، ولا تردني خائباً ، وإلاّ تحطمت قلوب هؤلاء جميعاً .
* بطرس " وهو ينظر إلى الصناديق " : ذهب ... دنانير ... جواهر ... أنا لا أصدّق . " ويبدأ في قراءة آية الكرسي " .
* الغريب : تفضل بقبولها ، ولا تردّني خائباً .
" تتقاطر الدموع من عينيه ، ويغنّي : اليوم لم تغمض عيناي للحظة " .
* بطرس : أيها الغريب ، لماذا تتساقط دموعك ؟!. ولماذا تغنّي ؟!. يبدو أنك لا تتحكم في عواطفك ، وهذا ينمّ عن ضعف فيك ، أدعو الله أن يقوّيك ويمنحك الهمة والعزيمة . إنني في غاية السعادة ، لأنك أنت وأسيادك تحبون العلم وتقدّرونه ... اذهب الآن فقد حان وقت قراءتي ، وهناك عدة مئات من الأرواح عليّ أن أُوقِظهم من أحلام الجهل بمحاضرتي غداً في الكلية .
* الغريب " وهو يشهق باكياً " : إن أذنت لي أحضر أنا أيضاً ، وأستفيد من فكرك .
* بطرس : الله معك ، وليزِدْ الله في ظمئكم وشوقكم للعلم .
الغريب يغادر الحجرة ، ولا يزال بطرس ينظر إلى الصناديق بعيون مشدوهة ، ثم تنطلق منه – لسعادته – صرخةٌ مدوّية يسقط على أثرها على الأرض ويموت .
" وتسطع الحجـرة بنور غامض ، ويتناهى إلى السمع صوت رفرفة أجنحة الملائكة ، ولا تزال الفرقة الموسيقية تعزف بالخارج " .
هوامش
1 - الروبية هي عملة باكستان ، وعملة الهند وبعض الدول الأخرى بنفس المسمّى كذلك ، مع فارق في القيمة الشرائية لكل منها ، والروبية الباكستانية أو الهندية في عصرنا تساوي عشرة قروش مصرية تقريباً ، وبهذا يكون ما قدمه الطالب إلى المعلم " بطرس " ما يعادل خمسة قروش مصرية تقريباً .