المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الثاني من الباب التاسع من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
20/11/2007, 09:02 AM
الجزء الثاني من الباب التاسع
الحضارة المنهارة
العلم والبحث :
وتغيرت حياة أهل البادية العرب كلية برسالة القرآن وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقدموا في مختلف مناحي الحياة بفضل قيادة القرآن ، وفتح عشّاق العلم والعمل أكثر من نصـف العالم في أقل من نصف قرن ، فأخضعوا إمبراطوريات عظيمة مثل إمبراطورية " فارس " و " الروم " ، وخلقوا في العالم كله بيئة صالحة للعلم والفكر ، وبفضل هذه البيئة الصالحة ظهر مئات من المفكرين العرب ، وبدأوا البحث في مختلف العلوم ، وكانت النتيجة أن ظهرت اختراعات كثـيرة على أيديهم مثـل " الترمـوميتر " و " الأصطـرلاب " و " الساعـة ذات البندول " و " البوصلة " وغيرها .
ومن الطبيعي أن تكون هناك صناعة وإنتاج حيث تكون المخترعات ، فتأسست المصانع ، وامتلأت " بغداد " في تلك الأيام بها ، وهذا يعني أن القرآن خلق في الناس حب العلم ، والميل إلى البحث والرغبة فيه ، بل وخلق في الناس الروح العلمية ، وبذا بدأت الثورة الصناعية .
سادتي ، أقول لكم شيئاً ، شيئاً مراً غير مقبول ، لكنه حقيقة ، وهو أن أحداً منا جميعاً لم يفهم عظمة القرآن الكريم ، فنحن نعتقد أن القرآن الكريم كتاب ديني ، وهو لهذا يستحق الاحترام ، فإذا ما قرأ علماء الدين والدعاة القرآن كان لتحقيق دقائق ونكات دينية ، ولتأكيد أفكارهم وتصوراتهم ، ولإخافة الناس من غضب الله وعذابه ، وحفّـاظ القرآن لا يعرفون غير لفظه ، وقرّاؤه لا يهتمون بغير جمال القراءة .
القرآن والعلوم التجريبية :
يقول المهتمون بجمع الإحصاءات حول القرآن الكريم :
1 – يوجد في القرآن الكريم مائة وثلاث وتسعون آية تتعلق بحقوق الله .
2 – يوجد في القرآن الكريم ستمائة وثلاث وسبعون آية تتعلق بحقوق العباد .
3 – يوجـد في القرآن الكريم سبعمائة وخمسون آية تتعلق بالكائنات والعلوم التجريبية والتطبيقية ، وقد ألقى القرآن الكريم في هذه الآيات الضوء على الموضوعات التالية :
أ – خلق الدنيا والسماء والتفكير فيها .
ب – خلق الشمس والتفكير في حكمة خلقها .
جـ - خلق القمر ، وبيان حكمة خلقه .
د – خلق الأرض وبيان حكمة خلقها .
هـ - خلق البحر وبيان حكمة خلقه .
و – خلق الماء وبيان حكمة خلقه .
ز – خلق الهواء وبيان حكمة خلقه .
ح – خلق النار وبيان حكمة خلقها .
ط – خلق الإنسان وبيان حكمة خلقه .
وهذه كلها موضوعات تتعلق بالكائنات ، والقرآن الكريم يدعونا إلى التفكير فيها والتأمل في خلقها ، والقـرآن في هذا لا يخبرنا بكل موضوع من أوله إلى آخره ، وإنما يعطينا الإشارات اللازمة ، ويرشـدنا إلى الطريق ، ويحثنا على البحث ، مثلما يقول المثل البنجابي " بلا يطفئ المصباح ، ويتحدث بإشارات العيون " (8) ، وهذا أمر لا يخفى على أحد ، فالقرآن يقول صراحة أن يا أيها الناس انظروا وأمعنوا النظر ، تفكروا وافهموا ، انظروا ماذا خلقنا ، اعلموا أننا خلقنا هذه الكائنات لتسخروها (9) .
المعجزات :
الإسلام دين أولئك الذين يتأملون مظاهر الفطرة ويتفكرون فيها ، أما أولئك الذين يحتاجـون إلى " معجـزات " ليصدقـوا ويؤمنـوا فهـم الذين حرمـوا من الفكـر والتأمل . " تولستوي " مفكر روسيّ ، التقى ذات مرة في سفره بأحد القساوسة ، وجلسا معاً . أخذ القسيس يحدث " تولستوي " كما كان سائداً في تلك الفتـرة عن عظمـة المسيحيـة ، وظل " تولستوي " يستمع إلى ما يقوله ، وفي النهاية قال القسيس : المسيحية هي الدين الوحيد الذي يقدم " معجزة " لإثبات ذات الله تعالى ، فسأله " تولستوي " : ما هي هذه المعجزة ؟. قال القسيس : المعجزة هي أن سيدنا المسيح ولد بغير أب . فقال " تولستوي " : أيها القسيس المحترم ، أنا لا أعترف بوجـود الله لمجـرد أن المسيـح ولـد بغير أب ، إنني في غاية الدهشة من " المعجزات " التي لا تنتهي في أمر الولادة هذا ، إذ كيف ينتج عن التقاء نطفتين مهينتين من رجل وامرأة مولد طفل ؟!. أليست الولادة العادية في ذاتها معجزة محيرة ؟!.
وبالإضافة إلى الآيات الواردة في القرآن الكريم عن الموضوعات التي تتعلق بالكائنات ، هناك أيضاً آيات تتعلق بعلوم الأرض ، وهي على سبيل المثال كالتالي :
ي – خلق الطيور وبيان حكمة خلقها .
كـ - خلق الأنعام وبيان حكمة خلقها .
ل – خلق النحل وبيان حكمة خلقه .
م – خلق الأسماك وبيان حكمة خلقه .
ن – خلق النباتات وبيان حكمة خلقها .
إن تسع " واحد على تسعة " من القرآن الكريم يدور حول العلوم التجريبية والتطبيقية ، لكننا لسوء الطالع لم نعط أهمية لتلك الموضوعات التي تتعلق بالعقل والفهم والعلوم التطبيقية ، ولم يتطرق إليها أئمتنا في خطبهم أبداً ، وهم في الحقيقة معذورون ، لأنهم في الأصل لا يعرفون عنها شيئاً ، فهم يعتقدون أن علم الدين كاف ، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن عندئذ : هل الدين علم ؟. يقول الحكماء : إن الدين دستور للحياة يتعلق بالعمل ، وبالإيمان ، وليس بالعلم .
الدين والعلم :
ولأن القرآن الكريم اهتم بالعلم ، فإن القائمين على أمر الدين أذعوا أن المراد بالعلم في القرآن الكريم هو علم الدين ، وأن علم الدين هو العلم الوحيد الصادق ، بينما تقود باقي العلوم الإنسان إلى الكفر (10) !!. كم يتفنّن الإنسان من أجل الإبقاء على أهميته ومكانته الشخصية !!. في حين أن الحقيقة هي أن أولئك الذين يعرفون العلوم التطبيقية هم فقط الذين يشعرون بعظمة القرآن ، وكل ما ظهر من العلمـاء التجريبيين في عصر الخلفاء الراشدين كان بفضل عظمة القرآن ، ولهذا نجد الإشارة إلى القرآن الكريم بكثرة في ثنايا مؤلفاتهم .
علماء الغرب :
وعلماء الغرب لا يعرفون القرآن ، ولهذا فإن أبحاثهم لا ضالة لها ، والقرآن الكريم يقول أن يا أيها الناس تأملوا في رموز ومظاهر الفطرة ، واستوعبوها ، ولكن حذار أن تحاولوا فهمها على غير ما نريد نحن ، فإنكم عندئذ ستضلون ، ولن تهتدوا إلى الطريق ، ولن تصلوا إلى الحقيقة أبداً . ولهذا فإن علماء الغرب لم يتمكنوا من الوصول إلى الحقيقة حتى اليوم ، بالغم من اجتهادهم وإخلاصهم وتشوّقهم ، لأنهم بحثوا عن الحقيقة على غير ما يريد الله تعالى ، إنهم يعتقدون أن الكائنات مجرد أشياء تلقائية ظهرت إلى الوجود مصادفة ، وأنه لا بداية لها ولا نهاية ، ولا خطة لها ولا هدف .
سادتي ، إننا لا نفهم القرآن أصلاً ، والدليل على ذلك أنه إذا قرأنا منه آيات تتحدث عن العقل والحكمة قرأناها دون اهتمام كاف ، بينما ننتبه غاية الاهتمام إذا قرأنا آياته التي تتحدث عن الثواب والعقاب ، نقرأها بتركيز شديد ، أما الآيات التي تتعلق بحياتنا هذه فننظر إليها على أنها " جملة اعتراضية " ، ولا نركز اهتمامنا إلا على الآيات التي تتحدث عن الآخرة .
احصلوا على الثواب :
لقد اتخذ أئمتنا موقفاً فحواه أن هذه الحياة فانية ، تافهة ، لا قيمة لها ، مجرد سراب ، أما الحياة الحقيقية فهي الآخرة ، بينما الحقيقة عكس ذلك ، لأن الحياة الآخرة حياة الثواب والعقاب ، إنها ثمرة معلقة بأغصان الحياة الدنيا ، أما الأهمية القصوى فهي لهذه الحياة الدنيا . لقد جعل أئمتنا ودعاتنا من الدين تجارة ، فأن تصلي هنا صلاة يكون لك بها أجر سبعين صلاة (11) ، وأن تطعم جائعاً هنا رغيفاً يكون لك في مقابله عشرة أرغفة . كان أحد الخطباء يلقي الضوء على هذه المسألة في خطبته ، فقصّ علينا قصة في هذا الخصوص تقول :
نزل أحد الصالحين ذات يوم ضيفاً في مسجد من المساجد ، فجلس في الحجرة الملحقة بالمسجد ، وكان على السمّاط (12) حينذاك رغيفان فقط قدّمناهما له ، ولما بدأ يأكل طرق أحد عابري السبيل باب الحجرة ، وكان جائعاً ، فأعطاه الشيخ رغيفاً ، ثم طوى السماط ، ووضعه جانباً . وبعد برهة دقّ الباب . فسألنا : من بالخارج ؟. قال : يا أخي ، لقد جئت بخبز من الذي أعددناه لـ " ختم القرآن " . فسأله الشيخ : كم عدد الأرغفة التي أتيت بها ؟. أجاب : خمسة عشر رغيفاً يا سيدي . قال الشيخ : كلا يا أخي ، هذه ليست لنا ، خذها واذهب .
وبعد قليل طرق رجل آخر الباب وقال : يا سيدي ، لقد أرسل " العمدة " إليكم خمسة أرغفة . فقال الشيخ : كلا يا أخي ، هذه ليست لنا ، اعطها لمحتاج .
وبعد قليل طرق رجل آخر الباب قائلاً : يا سيدي ، لقد أرسل أهل البيت المنعقد فيه حفل الزواج خبزاً لكم . سأله الشيخ : كم رغيفاً أرسلوا ؟!. قال : عشرة أرغفة يا سيدي . فقال الشيخ : حسناً ، هاتها ، إنها لنا ، فلقد وعد الله تعالى من تصدق برغيـف أن يبدلـه بعشـرة أمثاله (13).
أربعون صلاة :
سافرت للحج عام 1968م ، وبقيت في " المدينة المنورة " لفترة بعد فراغي من أداء المناسك ، وكان بعض الباكستانيين يقيمون معنا في " دار الضيافة الباكستانية " هناك ، وكان تحدث بينهم يومياً مناقشات حـادة ، فيقـول أحدهـم : يا أخوة ، لقد صلينا في " المدينة " ستاً وثلاثين صلاة . ويقول الثاني : كلا ، أنت لم تعدّ جيداً ، لقد صلينا في أربعاً وثلاثين فقط ، وبقي علينا ست صلوات . وأنا لا أدري لماذا كل هذا ، ولكن هناك تصور عام بأنه من الضروري للإنسان أن يؤدي أربعين صلاة حال قيامه بـ " المدينة المنورة " ، ولهذا ينتبه زائرو " المدينة " إلى عدد الصلوات التي أدوها ، ويحسبون ما بقي عليهم . لقد كان مجرد وجود الزائر في " المدينة المنورة " ، وخاصة في أيام أداء المناسك يسحره ويخلب لبّه ، وتدريجيـاً تظهر الرغبة في العودة إلى البيت ، فيودّ القلب لو يطير الإنسان فيصل إلى البيت من فوره ، ويخفت الإحساس بالوجود في " المدينة المنورة " بعض الشيء ، وتحول الصلوات الأربعون – تلك التي يضيع بدونها ثواب الحج أو العمرة - بيننا وبين العودة ، ولهذا يتركز الذهن على هذه الصلوات ، وينسى الزائرون أين هم جالسون ، وبين يدي من هم ماثلون ، ومن ذلك الذي نالوا شرف الجلوس عند أقدامه . إنهم يريدون أن ينتهوا من الفرائض سريعاً وفقط ، ويعودون إلى بيوتهم ليقولوا لأصدقائهم وأحبّائهم أن قلوبهم لم تكن ترغب في العودة من هذا المكان المقدس ، وأن القلب كان يودّ لو تعلّق بأستار الكعبة وبقي هناك أبد الدهر .
طقوس :
لقد جعل أئمتنا من الصلاة مجرد طقوس ، فنحن لا نصلي لأننا ننفذ أوامر الله ، ولا نصلي لأننا نحاول أن نصلح من علاقتنا بالله . فلقد صاغنا أئمتنا بطريقة جعلت تفكيرنا مقصوراً على الثواب والعقاب فقط ، إننا نصلي للحصول على الثواب فقط .
أئمتنا يظهرون في التلفزيون ليقولوا لنا إن الصلاة مفتاح الجنة ، يقولون أقيموا الصلاة وسوف تتحسن كل الأمور من تلقاء نفسها ، سيتحسن السلوك ، وتتحسن الأخلاق ، سيتحسن التعامل فيما بين الناس ، المهم أن تعترفوا بالمسجد مركزاً لكم ، وسوف يصبح كل شيء عندها على ما يرام ، وذلك لأن الله يعمره .
هوامش
8 - ذكر الكاتب ترجمة المثل إلى الأردية هكذا " بلا مار كر ديا بجهاتا هـ ، اور آنكهـ كـ اشاريـ سـ بات كرتا هـ " ، وترجمته كما ذكرنا في المتن ، ولم يذكر الكاتب أصل المثل بالبنجابية ، والمثل بالبنجابية هو "
9 - راجع الآيات الكريمة من سورة النحل ( 5 – 18 ) ، وسورة إبراهيم ( 31 ، 32 ، 33 " . وقد أثبتنا هذه الآيات الكريمة في مواضع كثيرة من الكتاب .
10 - لم أسمع بهذا من قبل ، ولا أدري إن كان هناك من يقول بهذا فعلاً ، أم أنه من نسج خيال الكاتب !.
11 - ترى ما هو مصير الأحاديث التي تقول بأن صلاة في مسجدي هذا – مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم – خير من ألف صلاة في غيره ؟.
12 - السماط مفرش من القماش أو ما شابه يوضع على الأرض ثم يقدم الطعام عليه .
13 - الإشارة إلى الآية الكريمة " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ... "