المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الأول من الباب العاشر من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
22/11/2007, 07:49 AM
الجزء الأول من الباب العاشر
الورد البلدي
سادتي ، الأمر ليس بالكلام ، ولكن لا مفر من الكلام أيضاً ، كلام مرّ للغاية ، لكنه صادق للغاية أيضاً ، إنه حقيقة غاية في المرارة لدرجة أن القلب لا يكاد يصدقها ، وهي أن عدد الذين يقرأون القرآن منا قليلون للغاية ، ويمكن حصر هذا العدد على الأصابع ، قليلون جداً ، أما الباقون ، أنتم ، وأنا ، فنحن لا نقرأ القرآن ، وإنما نستخدمه ونوظفه ، فأكثر الناس يتلون القرآن للحصول على الثواب ، وبعض الناس يقرأونه ليهبوا موتاهم من الأقارب والأعزاء ثواب قراءته ، والبعض يستخدم آياته كتعاويذ ، والبعض يقرأون منه الأوراد لتحقيق رغبات شخصية ، ويجتمع المتصوفة على الذكر ليصلوا إلى حالة " الوجد " ، و " الوجد " هو الآخر نوع من اللذة ، ومرشدونا يقرأون القرآن ليؤيدوا نظرياتهم ، وليحكموا سيطرتهم على الناس ، وليضفوا قدراً من العظمة على أنفسهم ، ولكن لا أحد يقرأ القرآن الكريم بغرض فهمه ومعرفته .
يقول الحكماء إن القرآن مثل " الوردة البلدي " ، ورقة فوق ورقة فوق ورقة ، وهكذا ، فإذا ما أخذت ورقة ظهرت تحتها أخرى ، وإذا ما تناولت هذه ظهرت تحتها أخرى ، وهكذا . إنه معنى في معنى في معنى ، ومفهـوم في مفهوم في مفهوم ، فإذا ما تناولت مفهوماً ظهر تحته مفهوم آخر ، المفهوم العلوي بسيط ، والمفهوم الذي أدناه أعمق وأشمل ، وأكثر الناس يكتفون بالورقة الأولى من الوردة ، أي يكتفون بالمفهوم العلوي ، ويعتقـدون أنهم بذلك وصلوا إلى المطلوب !!.
يذكرني هذا الكلام عن القرآن بطائر " الدراج " الذي غرّد ، فقال " المفكر " حين سمعه إنه يقول : " سبحانك ، جلّت قدرتك " . فردّ عليه " التاجر " قائلاً : يا سيدي ، لماذا تخلط الأمور ببعضها بغير سبب ، إنه يقول : " ملح ، زيت ، زنجبيل " ، أما " المصارع " فقد دّ عليهما قائلاً : أنتما مخطئـان ، إنه يقـول : " كل سمناً ، وقم بالتمارين الرياضية " .
بينما لسان حال القرآن يقول أن اقرأوني أيها الناس ، افهموني ، استوعبوني ، فكروا فيّ وتأملوني ، وعندئذ ستجدون بين سطوري من العقل والحكمة ما تحتار فيه عقولكم ، وستنكشف أمامكم الحجب ، وستعرفون من الأسرار ما يمكّنكم من تسخير الكائنات .


الطفل والكبير :
سادتي ، إن بداخل كل منا طفلاً ، طفلاً بريئاً ، ينظر إلى الأشياء المحيطة به مندهشاً وهو يصيـح : ما هذا ؟!!. وكيف هذا ؟!!. ولماذا هذا ؟!!. وهذه الدنيـا في الحقيقة " أرض العجائب " ، والطفل الذي بداخلنا هو " إيليس " ، وكل ما تحقق في هذه الدنيا من تقدم علمي كان بسبب هذا " الطفل " بداخلنا ، والذي ينظر إلى العالم من حوله بدهشة ، وليس بنظرة عابرة .
ثم إن بداخلنا " رجلاً كبيراً " أيضاً ، رجلاً يعرف أنه يفهم كل شيء ، ويفتقد عاطفة الاندهاش ، ويظل هذا " الكبير " بداخلنا ينهر هذا الطفل الصغير قائلاً : إنك تندهش بسبب وبغير سبب ، يا أخي ، إن هذه ورقة ، وهذه وردة ، وهذه ذرات التراب ، ما المدهش المحير في هذا !!. ولا يشعر هذا " الكبير " أننا نعيش في " أرض العجائب " ، وكل ذرة في هذه الأرض تمتلئ حسناً وجمالاً .
والقرآن يقول أن انظروا أيها الناس إلى ما حولكم بعيون هذا " الطفل " ، ثم انظروا ماذا سيبدو لكم ، ولكن إذا نظرتم بعيون هذا " الكبير" فسيبدو كل شيء لا طعم له ، والحقيقة أن من لم ير تنـوع المخلوقات لم يستطع معرفة عظمة الخالق . إن الله يقول أن يا أيها الناس ، لقد جعلنا من هذه الكائنات " أرضاً للعجائب " ، بشرط أن يكون لديكم الاستعداد للنظر فيها . انظروا بعيون هذا " الصغير " ، ولا تنظروا بعيون ذلك " الكبير " الذي لا يرى إلا مصلحته فقط ، ويتغاضى عما لا مصلحة له فيه . إن أعظم خصوصية في القرآن الكريم هي روحه العلمية ، وأسلوبه ليس تحكمياً ، وبه تسامح ، ويعلّم التعقل والتفكر .
أما أئمتنا فإنهم لم يتبنوا أسلوب القرآن في دعوتهم ، وإنما تبنوا أسلوباً مغايراً تماماً ، لقد أغلظوا القول لـ " الطفل " بداخلهم ، وأسكتوه للأبد . يقولون إن هذا " الطفل " يظل ينقب في الأمور ، وينقدها بسبب وبغير سبب ، إنه يعقد الأمور المستقيمة ، وينشر الكفر .

زوجان :
إن الذين يرشدوننا إلى الطريق يعتبرون أنفسهم " كباراً " ، ومن ناحية أخرى فإن من خصال الله تعالى أن يقول كلاماً عظيماً هكذا على سبيل التذكرة ، ويظل الإنسان يتفكر فيه طيلة العمر ، ومع ذلك لا يدرك كنهه . إن لكلام الله جوانب وطيات عديدة ، فلقد قال الله تعالى في القرآن الكـريم على سبيـل التذكـرة لقد خلقنـا كل شيء في الأرض من زوجين (1) ، ويقول " كبراؤنا " ، والذين يعتقدون أنهم يعرفون : هذا كلام بسيط وواضح ، فهو يعني أن الله خلق الأحياء أزواجاً ، فالرجل والمرأة في الإنسان ، والذكر والأنثى في باقي الأحياء .
وصاح " الطفل " بداخلنا : كلا ، إن كلام الله ليس سطحياً ، إنه عميق ، فركزوا انتباهكم ، وتفكروا ، وتأملوا ، لا بد أن في الأمر سراً . وقال " الكبير " : اصمت يا ولد ، لا تخلط الأمور بغير داع ، ولا تربكنا في أفكارنا . وعندئذ قال بعض المغرمين بالبحث : إن هذا يعني أن النبات أيضاً أزواج ، وكان هذا الكلام جديداً في حينه ، والقرآن أول من كشف عنه .
المغناطيسية :
ثم عندما اكتشف العلماء بعد قرون سر " المغناطيسية " ، وظهرت الأزواج غير المادية ، عرفنا عندئذ أزواج الطاقة (2) ، واتضح سرّ قوى " الجذب " و " الطرد " (3) ، وعندئذ صاح العلماء في دهشة قائلين إن القرآن الكريم أخبرنا بهذا كله قبل أربعة عشر قرناً من الزمان ، لقد تحدث القرآن عن هذا الموضوع بشكل واضح ، وأكثر من هذا أنه قال إن هناك أزواجاً لا تعرفونها (4) .
سادتي ، الحمد لله أننا لا نعرف أموراً كثيرة من أمور مخلوقات الله وكائناته ، لأننا – لا سمح الله – لو عرفنا كل شيء لظللنا ننظر إلى السماء فاغرين أفواهنا من شدة الحيرة والعجب لعظمة الله تعالى حتى لا نكاد نصلح بعدها للقيام بأي شيء .
دعك من الأمور الكبيرة ، وانظر كيف أننا نعيش بين حركتين متضادتين هما " حركة الجاذبية " و " حركة الدوران " ، ولو حدث أي خلل في التوازن بين هاتين القوتين لتحطم كل شيء !!. تخيلوا أيها السادة أن كوكب الأرض يدور حول أربعة محاور مختلفة في وقت واحد في محاولة منه لحفظ التوازن بين قوى الجذب والطرد ، سفر متواصل على أربعة طرق مختلفة ، واليوم يعجب الباحثون أشد العجب كيف أن القرآن الكريم قد أخبرنا قبل أربعة عشر قرناً من الزمان عن الأزواج .


المقاولون :
ولكن لسوء طالعنا لم يعد في داخلنا ذلك " الطفل " الذي يعشـق التفكير في " ما " و " ماذا " و " كيف " و " لماذا " . لقد كان ذلك " الطفل " عالماً ، ولقد أنجب المسلمون بعد نزول القرآن الكريم كثيراً من العلماء الذين فهموا روح القرآن ، وساروا على هديه ، فصاروا علماء .
ثم لا ندري ماذا حدث !!. قفز المدّعون إلى الميدان ، ودائماً ما يقفز المدّعون إلى الميدان . قالوا : أيها الناس ، إن القرآن جاء ليهدينا إلى الطريق المستقيم ، وليس لحل ألغاز العلم ، الإسلام ليس أحد " الحواة " ، وما الكائنات إلا عرضاً مسرحياً ومهرجاناً أقيم لإغوائكم ، هذه الدنيا فانية فارفضوها ، وسيروا على الطريق المستقيم مرددين : الله ، الله ، واحجزوا لأنفسكم مكاناً في الدار الآخرة ، واعلموا أن مفتاح الجنة في يدنا ، ولهذا نحن أئمتكم ، وقد جئنا لنرشدكم إلى الطريق . لا أدري ، لماذا يحـدث هذا ، ولكنه يحدث ، وينتصر المدّعون دائماً ، ودائماً تنهزم العامة ، وهناك سبب آخر أيضاً .
جارية بالميلاد :
قبل الإسلام كانت المسيحية ضد العلم تماماً ، وقد أعطت المسيحية للرهبانية اهتماماً كبيراً ، وبالتالي كان هناك " مقاولان " قويان . يقول أحد المفكرين : يبدو لي أن الأرض كروية ، فيصدر القساوسة فتواهم بأن هذا الشخص يتكلم بالإلحاد ، ويخلق بيئة معادية للدين ، اقبضوا عليه وارجموه .
وكان هناك تصور عام قبل نزول القرآن ، وهو أن العلم والدين شيئان متناقضان ، كانت هناك عداوة قائمة بينهما ، وكان القساوسة يخافون إن تم الاعتراف بمكانة العلم وعظمته فإن " هيلمانهم " سينتهي ، و " سلطتهم " ستزول . ثم جاء القرآن وقال أن يا أيها الناس ، هذا الذي تسمونه " العلم " ليس شيئاً غريباً ، ولا غير معروف ، إنه " جارية " ولدت ونشأت في كنفنا ، إنه " الأسمنت " الذي وصلنا به بين " أحجار " الكائنات في خلقها ، إنه " الأصول " و " المبادئ " التي طبقنـاها في خلق الكائنات ، فلا تعتبروه غريباً عنكم ، ولا تعتبروه عدواً لكم ، بل على العكس تقربوا منه ، وقربوه منكم ، ابحثوا فيه ، واعرفوا أسراره ، حتى تصبحوا أنتم أيضاً مبدعين .
وأئمتنا خائفون من العلم مثلما كان القساوسة كذلك خائفين منه ، فقد أطلقوا الدعايات ضد العلم حفاظـاً على مكانتهـم ونفوذهم ، واليوم ينظرون إلى العلم على أنه فتنة صنعها أهل الغرب (5) .
الذّرة :
وعلى العكس من كل هذا فإن القرآن الكريم مليء بالإشارات العلمية ، والأمر المدهش هو أن العلماء يكتشفون كل يوم اكتشافاً علمياً جديداً ، فإذا ما نظروا في القرآن وجدوه فيه ، ويعجبون كيف أن هذا الكتاب الذي يعود تاريخ نزوله إلى أكثر من ألف وأربعمائة عام ، لا يبدو عليه أبداً أنه قديم انتهى زمنه ، فكل أمر جديد ، وكل اكتشاف ظهر موجـود فيه . خذ موضوع " الذرة " على سبيل المثال ، فقد قال مفكرو اليونان قبل ثلاثة وعشرين قرناً أن أصغر جزء في المادة هو " الذرة " ، وهي التي لا يمكن أن تنقسم ، لأنها هي الأصغر . وبعد قرون عديدة اكتشف العلماء أن " الذرة " ليست هي أصغر جزء في المادة ، وأنه يمكن تقسيمها وشقها ، وكان هذا أمراً عظيماً ، أمراً جديداً ، أمراً عجيباً ، اكتشافاً جديداً . ولما نظروا في القرآن أصابتهم دهشة لا حد لها ، إذ أن هذا الاكتشاف موجود في القرآن من قبل أن يعرفوه ، وموجود في ألفاظ واضحة وصريحة ، فالله تعالى يقول إننا نعلم كل ذرة في الكائنات ونعرفها ، بل ونعلم الأجزاء الأصغر من الذرة (6) .
والسؤال هو إن كان القرآن الكريم يحوي مثل هذه الحقائق العلمية العظيمة ، فلماذا لا يتجه الباحثون إلى القرآن ؟!. والإجابة : لأن العلماء المسيحيين لا علم لهم بالقرآن !!. لقد أطلق القساوسة المسيحيون أيام الحروب الصليبية دعايات كاذبة كثيرة ضد المسلمين جعلت الناس يظنون أن المسلمين أمة همجية تعشق العنف ، ويتعاملون مع غير المسلمين بظلم وإجحاف ، ولا يتحملون اختلاف الآخرين معهم في الرأي . ومن العجب أن ينجح القساوسة في دعاياتهم هذه ، مع أن المسلمين حكموا نصف العالم لسبعة قرون كاملة ، والتاريخ شاهد على أنهم حكموا بعدل وإنصاف حير العالم وأثار إعجابه .
إنسان أم جن :
لكن كان هناك أمر يدعم ادعاءات القساوسة ويقويها ، وهو أن المسلمين كانوا يقاتلون في حروبهم تلك وهم منتشون بشوقهم إلى الشهادة ، وكان نتيجة ذلك أن جندياً مسلماً واحداً يتغلب على عشرة من جنود الأعداء ، فعلق القساوسة هذا الأمر على " راية " ، ورفعوها عالية قائلين : أيها الناس ، هؤلاء المسلمين ليسوا من البشر ، وإنما هم من " الجن " ، ولهذا إذا كنا نريد أن نعيش في هذه الدنيا بسلام فإن علينا أن نطهرها من هؤلاء " الجن " . وبالإضافة إلى هذا فقد كان من سوء الطالع أن " مقاولي الإسلام ومحتكريه " رأوا أن العلماء التجريبيين سادوا الدنيا ، وأصبحت لهم مكانة عظمى ، بينما لا يعير أحد " مرشدي الأمة " اهتماماً ، عندئذ بدأوا – من أجل تثبيت مكانتهم – بنشر دعايات تقول إن المسلمين تخلّوا عن دينهم ، وانشغلوا بالدنيا ، وأنهم تركوا العبادات ، وهذه كلها من علامات الزوال والتراجع والانحدار ، وكان من نتيجة هذه الدعايات أن تراجع المسلمون عن دراسة العلوم ، ومواصلة البحث فيها ، وانشغلوا بالعبادات .
وراجت عدة طرق للعبـادات ، ونزل التصوف إلى الميدان ، واتخذ أشكالاً عدة ، ونشأت له فرق وطرق وسلاسل ، وكان من أعظم هذه السلاسـل " الطريقة النقشبندية " ، و " الطريقة القادرية " ، و " السهروردية " ، و " الجشتية " ، ولكن النتيجة لم تكن مرضية ، إذ تفرق المسلمـون بين هذه الطـرق ، وظهرت في الحرم المكي " سجادات " عديدة (7) .
أيها السادة ، إنني أحترم المتصوفة ، وأحترم كل المشايخ ، فقد كانوا جميعاً عظماء عشاقاً لله ، لكن عشق الله من تخصص الأفراد ، وليس من تخصص الأمم . أيها السادة ، إن عشق سيدة يفقد الفرد عقله ، ويدعه لا يصلح لشيء ، ، فكيف يكون عشق الله إذاً !!!. يقول الشاعر :
 جمال مخلوق ترابيّ يذهب العقل ، فكيف يكون جمال ذلك الذي يعيد إليه العقل (8) !!.
فإذا ما عشق مسلم عادي – مثلي – الله تعالى فسوف ينتهي أمره ، ويفقد عقله ، ولن يبقى دينه ولا دنياه ، ولن يبقى إسلامه ، فلا ثواب ولا عقاب ، ولا شيء البتة .
يقول الحكماء : إن تقدمت إلى الله خطوة تقدم هو إليك عشر خطـوات (9) . أيها السادة ، هذه مشورة مخلصة مني ، لا تتقدموا إلى الله أكثر من خطوة ، وإلا فإن عانقكم ذهبت عقولكم !!.
الرفيق والمحبوب :
اتخذوه بلا شك حبيباً ، اتخذوه رفيقاً ، لكن لا تتوغلوا إلى عشقه ، فإنه صديق رائع ، ورفيق محب للغاية . سلموا عليه خمس مرات تنفيذاً لحكمه ، امثلوا بين يديه ، لكن مجرد المثول فقط ، فإنه لن يكون رفيقكم لمجرد أنكم تمثلون بين يديه خمس مرات في اليوم والليلة ، وإن أردتم اتخاذه رفيقاً فكونوا معه دائماً ، تعلقوا بإصبعه ، وسيروا معه حيث سار ، وإذا رأيتم الوردة قولوا " سبحان الله ، ما أجمل ما صنعت " ، وإن رأيتم البقرة فلا تنظروا إليها كبقرة ، ولكن انظروا كيف خلق الله لكم " عيناً " تفور باللبن الخالص ، وتسير وتتحرك . وإذا ما شرعتم في تناول الطعام أجلسوه معكم ، واثنوا عليه قائلين " كم من النعم أنعمت بها علينا " ، المهم أن يبقى الإحساس بوجوده متصلاً ، أن يبقى الإحساس بنعمه وعطاياه متصلاً ، ويمكن أن تعاتبوه أيضاً ، ولكن باعتباره رفيقاً وحبيباً قريباً ، وليس باعتباره غريباً عنكم ، فإذا اعتبرتموه غريباً عنكم فسيكون " هو " كذلك ، وإذا اعتبرتموه لكم فسيكون " هو " كذلك (10) ، فهو كالماء حيث تضعونه ، في " سلطانية " أو في " كوب " أو في " طبق " ، ولكن فكروا جيداً قبل أن تتخذوه حبيباً ، فإن فعلتم فسوف يظهر شـأن " محبوبيته " ، وسيختبركم ، ويتمنع عليكم ، ويثيركم ، والعظماء جداً من الأولياء هم الذين يستطيعون تحمل شأن " محبوبيته " وعظمتها ، أما عامة الناس فلا .
هوامش

1 - الإشارة إلى قوله تعالى " ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " . سورة الذاريات – آية قم 49 .
2 - الموجب ، ويقابله السالب .
3 - باعتبارهما زوجان ، كل منهما عكس الآخر .
4 - " ويخلق ما لا تعلمون " – النحل : 8 .
5 - لا أدري عمن يتحدث السيد مفتي ، هل هناك بالفعل من العلماء ورجال الدين والدعاة وأئمة المساجد والوعاظ من يقول مثل هذا الكلام !!. على أية حال أنا لم أسمع بمثل هذا ، ولا أنكر أن يكون قد سمع ، لكني أعجب أشد العجب .
6 - الإشارة إلى الآية الكريمة " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ، فتكن في صخرة ، أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ، إن الله لطيف خبير " – سورة لقمان – آية رقم 16 . وقوله تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " – الأتعام – آية رقم 59 .
7 - يقصد طرقاً عديدة ، وكل منتم إلى طريقة يصلي بطريقته منفرداً بعيداً عن الآخرين ، فصارت في المسجد الواحد سجادات عديدة بعدد الطرق المختلفة ، بدلاً من أن تكون سجادة واحدة لهذا الدين الواحد .
8 - البيت بالأردية هو :
هوش ارا ديتا هـ اكـ خاك كـ بتلـ كا حمال ** خود وه كيا هوكا اسـ هوش مين لانـ والا .
9 - قال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : " … ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ، ومن أتاني مشياً أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً أتيته بمثلها مغفرة " – البخاري : 6/342 ، مسلم ( 28 ) .
10 - " أنا عند ظن عبدي بي إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر " .

إبراهيم محمد إبراهيم
22/11/2007, 07:49 AM
الجزء الأول من الباب العاشر
الورد البلدي
سادتي ، الأمر ليس بالكلام ، ولكن لا مفر من الكلام أيضاً ، كلام مرّ للغاية ، لكنه صادق للغاية أيضاً ، إنه حقيقة غاية في المرارة لدرجة أن القلب لا يكاد يصدقها ، وهي أن عدد الذين يقرأون القرآن منا قليلون للغاية ، ويمكن حصر هذا العدد على الأصابع ، قليلون جداً ، أما الباقون ، أنتم ، وأنا ، فنحن لا نقرأ القرآن ، وإنما نستخدمه ونوظفه ، فأكثر الناس يتلون القرآن للحصول على الثواب ، وبعض الناس يقرأونه ليهبوا موتاهم من الأقارب والأعزاء ثواب قراءته ، والبعض يستخدم آياته كتعاويذ ، والبعض يقرأون منه الأوراد لتحقيق رغبات شخصية ، ويجتمع المتصوفة على الذكر ليصلوا إلى حالة " الوجد " ، و " الوجد " هو الآخر نوع من اللذة ، ومرشدونا يقرأون القرآن ليؤيدوا نظرياتهم ، وليحكموا سيطرتهم على الناس ، وليضفوا قدراً من العظمة على أنفسهم ، ولكن لا أحد يقرأ القرآن الكريم بغرض فهمه ومعرفته .
يقول الحكماء إن القرآن مثل " الوردة البلدي " ، ورقة فوق ورقة فوق ورقة ، وهكذا ، فإذا ما أخذت ورقة ظهرت تحتها أخرى ، وإذا ما تناولت هذه ظهرت تحتها أخرى ، وهكذا . إنه معنى في معنى في معنى ، ومفهـوم في مفهوم في مفهوم ، فإذا ما تناولت مفهوماً ظهر تحته مفهوم آخر ، المفهوم العلوي بسيط ، والمفهوم الذي أدناه أعمق وأشمل ، وأكثر الناس يكتفون بالورقة الأولى من الوردة ، أي يكتفون بالمفهوم العلوي ، ويعتقـدون أنهم بذلك وصلوا إلى المطلوب !!.
يذكرني هذا الكلام عن القرآن بطائر " الدراج " الذي غرّد ، فقال " المفكر " حين سمعه إنه يقول : " سبحانك ، جلّت قدرتك " . فردّ عليه " التاجر " قائلاً : يا سيدي ، لماذا تخلط الأمور ببعضها بغير سبب ، إنه يقول : " ملح ، زيت ، زنجبيل " ، أما " المصارع " فقد دّ عليهما قائلاً : أنتما مخطئـان ، إنه يقـول : " كل سمناً ، وقم بالتمارين الرياضية " .
بينما لسان حال القرآن يقول أن اقرأوني أيها الناس ، افهموني ، استوعبوني ، فكروا فيّ وتأملوني ، وعندئذ ستجدون بين سطوري من العقل والحكمة ما تحتار فيه عقولكم ، وستنكشف أمامكم الحجب ، وستعرفون من الأسرار ما يمكّنكم من تسخير الكائنات .


الطفل والكبير :
سادتي ، إن بداخل كل منا طفلاً ، طفلاً بريئاً ، ينظر إلى الأشياء المحيطة به مندهشاً وهو يصيـح : ما هذا ؟!!. وكيف هذا ؟!!. ولماذا هذا ؟!!. وهذه الدنيـا في الحقيقة " أرض العجائب " ، والطفل الذي بداخلنا هو " إيليس " ، وكل ما تحقق في هذه الدنيا من تقدم علمي كان بسبب هذا " الطفل " بداخلنا ، والذي ينظر إلى العالم من حوله بدهشة ، وليس بنظرة عابرة .
ثم إن بداخلنا " رجلاً كبيراً " أيضاً ، رجلاً يعرف أنه يفهم كل شيء ، ويفتقد عاطفة الاندهاش ، ويظل هذا " الكبير " بداخلنا ينهر هذا الطفل الصغير قائلاً : إنك تندهش بسبب وبغير سبب ، يا أخي ، إن هذه ورقة ، وهذه وردة ، وهذه ذرات التراب ، ما المدهش المحير في هذا !!. ولا يشعر هذا " الكبير " أننا نعيش في " أرض العجائب " ، وكل ذرة في هذه الأرض تمتلئ حسناً وجمالاً .
والقرآن يقول أن انظروا أيها الناس إلى ما حولكم بعيون هذا " الطفل " ، ثم انظروا ماذا سيبدو لكم ، ولكن إذا نظرتم بعيون هذا " الكبير" فسيبدو كل شيء لا طعم له ، والحقيقة أن من لم ير تنـوع المخلوقات لم يستطع معرفة عظمة الخالق . إن الله يقول أن يا أيها الناس ، لقد جعلنا من هذه الكائنات " أرضاً للعجائب " ، بشرط أن يكون لديكم الاستعداد للنظر فيها . انظروا بعيون هذا " الصغير " ، ولا تنظروا بعيون ذلك " الكبير " الذي لا يرى إلا مصلحته فقط ، ويتغاضى عما لا مصلحة له فيه . إن أعظم خصوصية في القرآن الكريم هي روحه العلمية ، وأسلوبه ليس تحكمياً ، وبه تسامح ، ويعلّم التعقل والتفكر .
أما أئمتنا فإنهم لم يتبنوا أسلوب القرآن في دعوتهم ، وإنما تبنوا أسلوباً مغايراً تماماً ، لقد أغلظوا القول لـ " الطفل " بداخلهم ، وأسكتوه للأبد . يقولون إن هذا " الطفل " يظل ينقب في الأمور ، وينقدها بسبب وبغير سبب ، إنه يعقد الأمور المستقيمة ، وينشر الكفر .

زوجان :
إن الذين يرشدوننا إلى الطريق يعتبرون أنفسهم " كباراً " ، ومن ناحية أخرى فإن من خصال الله تعالى أن يقول كلاماً عظيماً هكذا على سبيل التذكرة ، ويظل الإنسان يتفكر فيه طيلة العمر ، ومع ذلك لا يدرك كنهه . إن لكلام الله جوانب وطيات عديدة ، فلقد قال الله تعالى في القرآن الكـريم على سبيـل التذكـرة لقد خلقنـا كل شيء في الأرض من زوجين (1) ، ويقول " كبراؤنا " ، والذين يعتقدون أنهم يعرفون : هذا كلام بسيط وواضح ، فهو يعني أن الله خلق الأحياء أزواجاً ، فالرجل والمرأة في الإنسان ، والذكر والأنثى في باقي الأحياء .
وصاح " الطفل " بداخلنا : كلا ، إن كلام الله ليس سطحياً ، إنه عميق ، فركزوا انتباهكم ، وتفكروا ، وتأملوا ، لا بد أن في الأمر سراً . وقال " الكبير " : اصمت يا ولد ، لا تخلط الأمور بغير داع ، ولا تربكنا في أفكارنا . وعندئذ قال بعض المغرمين بالبحث : إن هذا يعني أن النبات أيضاً أزواج ، وكان هذا الكلام جديداً في حينه ، والقرآن أول من كشف عنه .
المغناطيسية :
ثم عندما اكتشف العلماء بعد قرون سر " المغناطيسية " ، وظهرت الأزواج غير المادية ، عرفنا عندئذ أزواج الطاقة (2) ، واتضح سرّ قوى " الجذب " و " الطرد " (3) ، وعندئذ صاح العلماء في دهشة قائلين إن القرآن الكريم أخبرنا بهذا كله قبل أربعة عشر قرناً من الزمان ، لقد تحدث القرآن عن هذا الموضوع بشكل واضح ، وأكثر من هذا أنه قال إن هناك أزواجاً لا تعرفونها (4) .
سادتي ، الحمد لله أننا لا نعرف أموراً كثيرة من أمور مخلوقات الله وكائناته ، لأننا – لا سمح الله – لو عرفنا كل شيء لظللنا ننظر إلى السماء فاغرين أفواهنا من شدة الحيرة والعجب لعظمة الله تعالى حتى لا نكاد نصلح بعدها للقيام بأي شيء .
دعك من الأمور الكبيرة ، وانظر كيف أننا نعيش بين حركتين متضادتين هما " حركة الجاذبية " و " حركة الدوران " ، ولو حدث أي خلل في التوازن بين هاتين القوتين لتحطم كل شيء !!. تخيلوا أيها السادة أن كوكب الأرض يدور حول أربعة محاور مختلفة في وقت واحد في محاولة منه لحفظ التوازن بين قوى الجذب والطرد ، سفر متواصل على أربعة طرق مختلفة ، واليوم يعجب الباحثون أشد العجب كيف أن القرآن الكريم قد أخبرنا قبل أربعة عشر قرناً من الزمان عن الأزواج .


المقاولون :
ولكن لسوء طالعنا لم يعد في داخلنا ذلك " الطفل " الذي يعشـق التفكير في " ما " و " ماذا " و " كيف " و " لماذا " . لقد كان ذلك " الطفل " عالماً ، ولقد أنجب المسلمون بعد نزول القرآن الكريم كثيراً من العلماء الذين فهموا روح القرآن ، وساروا على هديه ، فصاروا علماء .
ثم لا ندري ماذا حدث !!. قفز المدّعون إلى الميدان ، ودائماً ما يقفز المدّعون إلى الميدان . قالوا : أيها الناس ، إن القرآن جاء ليهدينا إلى الطريق المستقيم ، وليس لحل ألغاز العلم ، الإسلام ليس أحد " الحواة " ، وما الكائنات إلا عرضاً مسرحياً ومهرجاناً أقيم لإغوائكم ، هذه الدنيا فانية فارفضوها ، وسيروا على الطريق المستقيم مرددين : الله ، الله ، واحجزوا لأنفسكم مكاناً في الدار الآخرة ، واعلموا أن مفتاح الجنة في يدنا ، ولهذا نحن أئمتكم ، وقد جئنا لنرشدكم إلى الطريق . لا أدري ، لماذا يحـدث هذا ، ولكنه يحدث ، وينتصر المدّعون دائماً ، ودائماً تنهزم العامة ، وهناك سبب آخر أيضاً .
جارية بالميلاد :
قبل الإسلام كانت المسيحية ضد العلم تماماً ، وقد أعطت المسيحية للرهبانية اهتماماً كبيراً ، وبالتالي كان هناك " مقاولان " قويان . يقول أحد المفكرين : يبدو لي أن الأرض كروية ، فيصدر القساوسة فتواهم بأن هذا الشخص يتكلم بالإلحاد ، ويخلق بيئة معادية للدين ، اقبضوا عليه وارجموه .
وكان هناك تصور عام قبل نزول القرآن ، وهو أن العلم والدين شيئان متناقضان ، كانت هناك عداوة قائمة بينهما ، وكان القساوسة يخافون إن تم الاعتراف بمكانة العلم وعظمته فإن " هيلمانهم " سينتهي ، و " سلطتهم " ستزول . ثم جاء القرآن وقال أن يا أيها الناس ، هذا الذي تسمونه " العلم " ليس شيئاً غريباً ، ولا غير معروف ، إنه " جارية " ولدت ونشأت في كنفنا ، إنه " الأسمنت " الذي وصلنا به بين " أحجار " الكائنات في خلقها ، إنه " الأصول " و " المبادئ " التي طبقنـاها في خلق الكائنات ، فلا تعتبروه غريباً عنكم ، ولا تعتبروه عدواً لكم ، بل على العكس تقربوا منه ، وقربوه منكم ، ابحثوا فيه ، واعرفوا أسراره ، حتى تصبحوا أنتم أيضاً مبدعين .
وأئمتنا خائفون من العلم مثلما كان القساوسة كذلك خائفين منه ، فقد أطلقوا الدعايات ضد العلم حفاظـاً على مكانتهـم ونفوذهم ، واليوم ينظرون إلى العلم على أنه فتنة صنعها أهل الغرب (5) .
الذّرة :
وعلى العكس من كل هذا فإن القرآن الكريم مليء بالإشارات العلمية ، والأمر المدهش هو أن العلماء يكتشفون كل يوم اكتشافاً علمياً جديداً ، فإذا ما نظروا في القرآن وجدوه فيه ، ويعجبون كيف أن هذا الكتاب الذي يعود تاريخ نزوله إلى أكثر من ألف وأربعمائة عام ، لا يبدو عليه أبداً أنه قديم انتهى زمنه ، فكل أمر جديد ، وكل اكتشاف ظهر موجـود فيه . خذ موضوع " الذرة " على سبيل المثال ، فقد قال مفكرو اليونان قبل ثلاثة وعشرين قرناً أن أصغر جزء في المادة هو " الذرة " ، وهي التي لا يمكن أن تنقسم ، لأنها هي الأصغر . وبعد قرون عديدة اكتشف العلماء أن " الذرة " ليست هي أصغر جزء في المادة ، وأنه يمكن تقسيمها وشقها ، وكان هذا أمراً عظيماً ، أمراً جديداً ، أمراً عجيباً ، اكتشافاً جديداً . ولما نظروا في القرآن أصابتهم دهشة لا حد لها ، إذ أن هذا الاكتشاف موجود في القرآن من قبل أن يعرفوه ، وموجود في ألفاظ واضحة وصريحة ، فالله تعالى يقول إننا نعلم كل ذرة في الكائنات ونعرفها ، بل ونعلم الأجزاء الأصغر من الذرة (6) .
والسؤال هو إن كان القرآن الكريم يحوي مثل هذه الحقائق العلمية العظيمة ، فلماذا لا يتجه الباحثون إلى القرآن ؟!. والإجابة : لأن العلماء المسيحيين لا علم لهم بالقرآن !!. لقد أطلق القساوسة المسيحيون أيام الحروب الصليبية دعايات كاذبة كثيرة ضد المسلمين جعلت الناس يظنون أن المسلمين أمة همجية تعشق العنف ، ويتعاملون مع غير المسلمين بظلم وإجحاف ، ولا يتحملون اختلاف الآخرين معهم في الرأي . ومن العجب أن ينجح القساوسة في دعاياتهم هذه ، مع أن المسلمين حكموا نصف العالم لسبعة قرون كاملة ، والتاريخ شاهد على أنهم حكموا بعدل وإنصاف حير العالم وأثار إعجابه .
إنسان أم جن :
لكن كان هناك أمر يدعم ادعاءات القساوسة ويقويها ، وهو أن المسلمين كانوا يقاتلون في حروبهم تلك وهم منتشون بشوقهم إلى الشهادة ، وكان نتيجة ذلك أن جندياً مسلماً واحداً يتغلب على عشرة من جنود الأعداء ، فعلق القساوسة هذا الأمر على " راية " ، ورفعوها عالية قائلين : أيها الناس ، هؤلاء المسلمين ليسوا من البشر ، وإنما هم من " الجن " ، ولهذا إذا كنا نريد أن نعيش في هذه الدنيا بسلام فإن علينا أن نطهرها من هؤلاء " الجن " . وبالإضافة إلى هذا فقد كان من سوء الطالع أن " مقاولي الإسلام ومحتكريه " رأوا أن العلماء التجريبيين سادوا الدنيا ، وأصبحت لهم مكانة عظمى ، بينما لا يعير أحد " مرشدي الأمة " اهتماماً ، عندئذ بدأوا – من أجل تثبيت مكانتهم – بنشر دعايات تقول إن المسلمين تخلّوا عن دينهم ، وانشغلوا بالدنيا ، وأنهم تركوا العبادات ، وهذه كلها من علامات الزوال والتراجع والانحدار ، وكان من نتيجة هذه الدعايات أن تراجع المسلمون عن دراسة العلوم ، ومواصلة البحث فيها ، وانشغلوا بالعبادات .
وراجت عدة طرق للعبـادات ، ونزل التصوف إلى الميدان ، واتخذ أشكالاً عدة ، ونشأت له فرق وطرق وسلاسل ، وكان من أعظم هذه السلاسـل " الطريقة النقشبندية " ، و " الطريقة القادرية " ، و " السهروردية " ، و " الجشتية " ، ولكن النتيجة لم تكن مرضية ، إذ تفرق المسلمـون بين هذه الطـرق ، وظهرت في الحرم المكي " سجادات " عديدة (7) .
أيها السادة ، إنني أحترم المتصوفة ، وأحترم كل المشايخ ، فقد كانوا جميعاً عظماء عشاقاً لله ، لكن عشق الله من تخصص الأفراد ، وليس من تخصص الأمم . أيها السادة ، إن عشق سيدة يفقد الفرد عقله ، ويدعه لا يصلح لشيء ، ، فكيف يكون عشق الله إذاً !!!. يقول الشاعر :
 جمال مخلوق ترابيّ يذهب العقل ، فكيف يكون جمال ذلك الذي يعيد إليه العقل (8) !!.
فإذا ما عشق مسلم عادي – مثلي – الله تعالى فسوف ينتهي أمره ، ويفقد عقله ، ولن يبقى دينه ولا دنياه ، ولن يبقى إسلامه ، فلا ثواب ولا عقاب ، ولا شيء البتة .
يقول الحكماء : إن تقدمت إلى الله خطوة تقدم هو إليك عشر خطـوات (9) . أيها السادة ، هذه مشورة مخلصة مني ، لا تتقدموا إلى الله أكثر من خطوة ، وإلا فإن عانقكم ذهبت عقولكم !!.
الرفيق والمحبوب :
اتخذوه بلا شك حبيباً ، اتخذوه رفيقاً ، لكن لا تتوغلوا إلى عشقه ، فإنه صديق رائع ، ورفيق محب للغاية . سلموا عليه خمس مرات تنفيذاً لحكمه ، امثلوا بين يديه ، لكن مجرد المثول فقط ، فإنه لن يكون رفيقكم لمجرد أنكم تمثلون بين يديه خمس مرات في اليوم والليلة ، وإن أردتم اتخاذه رفيقاً فكونوا معه دائماً ، تعلقوا بإصبعه ، وسيروا معه حيث سار ، وإذا رأيتم الوردة قولوا " سبحان الله ، ما أجمل ما صنعت " ، وإن رأيتم البقرة فلا تنظروا إليها كبقرة ، ولكن انظروا كيف خلق الله لكم " عيناً " تفور باللبن الخالص ، وتسير وتتحرك . وإذا ما شرعتم في تناول الطعام أجلسوه معكم ، واثنوا عليه قائلين " كم من النعم أنعمت بها علينا " ، المهم أن يبقى الإحساس بوجوده متصلاً ، أن يبقى الإحساس بنعمه وعطاياه متصلاً ، ويمكن أن تعاتبوه أيضاً ، ولكن باعتباره رفيقاً وحبيباً قريباً ، وليس باعتباره غريباً عنكم ، فإذا اعتبرتموه غريباً عنكم فسيكون " هو " كذلك ، وإذا اعتبرتموه لكم فسيكون " هو " كذلك (10) ، فهو كالماء حيث تضعونه ، في " سلطانية " أو في " كوب " أو في " طبق " ، ولكن فكروا جيداً قبل أن تتخذوه حبيباً ، فإن فعلتم فسوف يظهر شـأن " محبوبيته " ، وسيختبركم ، ويتمنع عليكم ، ويثيركم ، والعظماء جداً من الأولياء هم الذين يستطيعون تحمل شأن " محبوبيته " وعظمتها ، أما عامة الناس فلا .
هوامش

1 - الإشارة إلى قوله تعالى " ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " . سورة الذاريات – آية قم 49 .
2 - الموجب ، ويقابله السالب .
3 - باعتبارهما زوجان ، كل منهما عكس الآخر .
4 - " ويخلق ما لا تعلمون " – النحل : 8 .
5 - لا أدري عمن يتحدث السيد مفتي ، هل هناك بالفعل من العلماء ورجال الدين والدعاة وأئمة المساجد والوعاظ من يقول مثل هذا الكلام !!. على أية حال أنا لم أسمع بمثل هذا ، ولا أنكر أن يكون قد سمع ، لكني أعجب أشد العجب .
6 - الإشارة إلى الآية الكريمة " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ، فتكن في صخرة ، أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ، إن الله لطيف خبير " – سورة لقمان – آية رقم 16 . وقوله تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " – الأتعام – آية رقم 59 .
7 - يقصد طرقاً عديدة ، وكل منتم إلى طريقة يصلي بطريقته منفرداً بعيداً عن الآخرين ، فصارت في المسجد الواحد سجادات عديدة بعدد الطرق المختلفة ، بدلاً من أن تكون سجادة واحدة لهذا الدين الواحد .
8 - البيت بالأردية هو :
هوش ارا ديتا هـ اكـ خاك كـ بتلـ كا حمال ** خود وه كيا هوكا اسـ هوش مين لانـ والا .
9 - قال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : " … ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ، ومن أتاني مشياً أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً أتيته بمثلها مغفرة " – البخاري : 6/342 ، مسلم ( 28 ) .
10 - " أنا عند ظن عبدي بي إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر " .