إبراهيم محمد إبراهيم
22/11/2007, 08:09 AM
" ميبل " و أنا
كانت " ميبل " تدرس في كلية البنات ، ولكن فيما بعد ، كنت أدرس أنا وهي في تخصص واحد في جامعة " كيمبردج " ، ولذا فقد كنا نلتقي كثيراً في المحاضرات ، كما كنا أصدقاء كذلك ، ولنا هوايات كثيرة مشتركة . كانت هي تحب الموسيقى والرسم ، وكنت أنا أدّعي معرفة كل ذلك ، ولذا فقد كنا نجتمع كثيراً في معارض الرسم وحفلات الموسيقى . كنا ندرس الأدب الإنجليزي ، ونتناقش دائماً حول الكتب ، فإذا وجد أحدنا كتاباً جديداً ، أو مؤلِّفاً حديثاً ، كان لا بدّ أن يحيط الآخر به علماً ، ثم نقرأه سوياً ، ثم نصدر حكمنا ضده ، أو لصالحه !!!.
لكن كان هنا – تأكيداً – شيء ما في اتفاقنا وتناغمنا هذا ، فقد نشـأنا في القرن العشرين ، حيث تؤمن المرأة بالمساواة مع الرجل ، لكننا أحياناً كنا نُكذِّب هذا بتصرفاتنا . فقد كانت " ميبل " في بعض الأحيان تعتبر بعض التسهيلات حقاً مكتسباً لها ، ولا يجب أن يحظى بها سوى أحد أفراد الجنس " الضعيف " . وكنت أنا في بعض الأحيان أتخذ سلوكاً ينمّ عن تحكم وسيطرة ، فحواه أن هذا واجبي باعتباري " رجلاً " . وكان هذا الإحساس يؤلمني بشدة ، خاصة وأن قراءات " ميبل " كانت أكثر اتساعاً مني ، مما كان يجرح وقار " رجولتي " . أحياناً كان دمُ آبائي وأجدادي الأسيويين يفور في عروقي ، ويتمرد قلبي على الحضارة الحديثة قائلاً لي : " إن الرجل هو أشرف المخلوقات " ، وعلى الجانب الآخر كانت " ميبل " تبالغ في التعبير عن مساواة المرأة بالرجل ، حتى كان يبدو أنها تعتبر أن المرأة هي مرشدة الكائنات ، وأن الرجل لا يزيد عن كونه " حشرة " من حشرات الأرض .
لكني كنت أتغاضى عن كل هذا عندما تشتري " ميبل " ذات يوم مجموعة من الكتب ، وبعد أسبوع تُلقي بها في حجرتي وهي تقول :
لقد قرأتها كلها . اقرأها أنت أيضاً ، وسوف نتناقش حولها فيما بعد .
فلقد كان من المستحيل عليّ أن أقرأ كل هذه المجموعة في أسبوع واحد ، ولكن على فرض أنني – إنقاذاً لكرامتي – سأحرم نفسي من النوم ، وأقرأها جميعاً ، فقد كان من بينها بعض الكتب الفلسفية والنقدية أحتاج لفهمها إلى فترات طويلة ، ولذا فقد كنت بعد مُضِيّ أسبوع كامل من العمل المضني أضطر إلى الاعتراف بهزيمتي في هذا السباق أمام امرأة ، وكنت أستمع إلى ما تقول بانكماش طالما كانت جالسة في حجرتي ، بينما كانت هي تتحدث بطريقة العلماء ، رافعة حواجبها إلى أعلى من حين إلى آخر ، وعندما كنت أفتح لها الباب ، أو أشعل لها سيجارتها ، أو حتى أتخلى لها عن أكثر الكراسي راحة لديّ لتجلس هي عليه ، كانت هي لا تعتبر هذه الخدمات مراعاة لكونها " أنثى " ، بل تنظر إليها على أنها حق " الأستاذية " .
وبعد أن تغادر " ميبل " حجرتي ، كان ندمي وأسفي يتحول تدريجياً إلى غضب شديد ، فما أسهل التضحية بالنفس أو المال ، ولكن نظراً لطريقتها ، فإن أكثر الناس طيبة وتقوى كان لا بدّ أن يلجأ ذات مرة إلى استعمال الوسائل غير المشروعة معها . ربما تظن أن هذا انحطاط أخلاقي مني ، ولكن هذا هو موقفي على أية حال . وعندما التقيت بـ " ميبل " في المرة التالية ، عمدت إلى إبداء رأيي حتى في تلك الكتب التي لم أقرأها ، ولكن بحذر شديد فيما أقول ... لم أكن أنبث ببنت شفة فيما يتعلق بالتفاصيل ... أنقد بشكل عام ، وأضفي على رأيي نوعاً ما من " الجدية " باحتياط وحرص شديدين .
ذات مرة سألتني " ميبل " عن رأيي في إحدى الروايات ، فأجبتها بغير اكتراث :
* إنها " جيدة " ، لكن ليس إلى هذا " الحد " ، ولم يستطع الكاتب إبـراز " وجهة نظر العصر الحديث " ، ومع ذلك فإن لديه بعض الجوانب " الفريدة " ... ليست سيئة ..... ليست سيئة ......
وجعلت أنظر إلى " ميبل " من طرف عيني ، ولم تنتبه هي مطلقاً إلى اختلاقاتي هذه .... مرة أخرى قلت لها فيما يخص إحدى المسرحيات :
* نعم قرأتها ، لكني لم أستطع إلى الآن أن " أجزم " عما إذا كان ما يحسّه " القارئ للمسرحية يبقى كما هو بعد " مشاهدته " لها على خشبة المسرح أم لا ؟!! . ما رأيك أنت ؟!.
وهكذا كنت أحفظ كرامتي ، وفي نفس الوقت ألقي بالكرة في ملعب " ميبل " . أما فيما يتعلق بكتب النقد فكنت أقول :
* يبدو أن هناك " تأثيراً " لنقاد القرن الثامن عشر على هذا الناقد ، وإن كان " بسيطاً " ، وحديثه عن الشعر " جذاب " .... " جذاب " للغاية ...
وتدريجياً أصبحت ماهراً في هذا الفن ، حتى أنني كنت أندهش كثيراً من مقدرتي على الحديث بانسيابية وتمكُّن عن كتب لم أقراها ... كانت نفسي تستريح لهذا الأمر كثيراً .
والآن لم أعد أخشى " ميبل " ، بل لقد اضطرت هي للاعتراف بعلمي وفضلي ، فإن كانت هي تقرأ عشرة كتب في أسبوع واحد ، فإنني أستطيع أن أبدي رأيي فيها كلها في يومين فقط ... ولم أعد أشعر أمامها بالند وتعذيب الضمير ، وانتاب " رجولتي " شعور ما من الرضا بهذا الانتصار ... والآن عندما أُقدّم لها الكرسي ، أو أشعل لها السيجارة ، يصحب ذلك كله إحساس بالعظمة والتفوق ، كأني شاب قويّ مُحنّك ، يقوم بحماية طفلة صغيرة لا خبرة لها .
وسواء امتدح فعلي هذا المستقيمون من الناس أم استنكروه ، فإنني على الأقل أستحق الثنـاء من جنس " الرجـال " ، ورغم أن اللعنـات ستنزل على رأسي واحـدة تلو الأخرى من " النساء " بسبب تصرفي هذا ، باعتبار أنني أتعامل بدهاء وزيف ، ومن ناحية أخرى لخداعي امرأة من جنسهن ، إلا أني أطمئنهم بأنني حقيقة لمت نفسي أكثر من مرة كلما اختليت بنفسي ، وفي بعض الأحيان كنت أحتقر نفسي بسبب هذا الأمر ، لكن كان من الصعب كذلك أن أنسى أنني كنت أفخر بعلمي دون قراءة أو اطلاع ، فإن " ميبل " كانت – على أية حال – تتفوق عليّ حين تتحدث إليّ بعد قراءة الكتب ، وجهلي ثابت ، إن لم يكن لديها فعلى الأقل لديّ أنا ... لهذا السبب لم يكن قلبي ينعم بالراحة أبداً ، وكنت أبدو لنفسي حقيراً للغاية قياساً بامرأة . في البداية كنت أعتبر " ميبل " سيدة ذات علم فقط ، والآن أصبحت في نظري – قياساً بنفسي – مثالاً للعفة والصدق .
عندما أمرض يصير قلبي أكثر رقة ، فإذا تصادف أن قرأت أثناء مرضي بالحمى رواية ولو هابطة ، فإن الدموع تقفز من عيني في بعض الأحيان ، فإذا استعدت صحتي سخرت من نقطة ضعفي هذه ، لكني لم أكن أشعر بهذا الأمر في ذلك الوقت ، ولسوء حظي فقد أصبت في تلك الأيام بزكام بسيط . لم يكن الأمر خطيراً ، ولا حتى مؤلماً ، إلاّ أن أخطائي السابقة كانت تتجسد أمامي كأنها كبائر الذنوب ... تذكرت " ميبل " ، فأنبني ضميري كثيراً ، وظللت أتململ في فراشي وقتاً طويلاً ، وفي المسـاء حضرت " ميبل " ومعها باقة ورد ، وسألت عن صحتي ، وأعطتني الدواء ، ثم وضعت يدها على جبيني . عندئذ انهمرت دموعي بشدة ... قلت وصوتي تخنقه الدموع :
* أرجوك ، سامحيني يا ميبل .
ثم اعترفت لها بخطئي ، وعقاباً لنفسي شرحت لها تفصيلاً ما قمت به معها من مكر وخداع ، وذكرت لها حتى أسماء الكتب التي كنت ألقي عليها الخطب العلمية الطويلة بشأنها دون أن أقرأها ، وقلت :
* ميبل ، كم ناقشتك حول الكتب الثلاثة التي أعطيتني إياها الأسبوع الماضي ، لكني في الحقيقة لم أقرأ لفظاً واحداً منها ، لا بدّ أن بعض الكلمات صدرت مني – أثناء المناقشة – كشفت لك كذبي وزيفي ...
فقالت " ميبل " :
* أبداً .
قلت :
* على سبيل المثال أنا لم أقرأ تلك الرواية أبداً ، كل ما هذيت به عن شخصياتها كان محض اختراع ليس إلاّ .
فقالت :
* لكن ما قلته لم يكن خطئاً كذلك .
قلت :
* لقد قلت عن قصة الرواية أنها ينقصها الحبكة قليلاً ... هل كان صحيحاً أيضاً ؟!.
قالت :
* نعم ، لقد كانت كذلك في بعض المواضع .
وظللت أنا وهي نضحك على افتراءاتي السابقة . وعندما همّت " ميبل " بالرحيل قالت :
* هل آخذ الكتب معي ؟.
قلت :
* امنحي هذا الإنسان التائب فرصةً لإصلاح نفسه ، فأنا لم أقرأ هذه الكتب حتى هذه اللحظة ، لكني مصمم على قراءتها الآن . دعيها هنا فأنتِ قد قرأتِها .
قالت :
* نعم ، لقد قرأتها ، حسن ، سأتركها هنا .
وبعد رحيلها فتحت الكتب لأول مرة ، وفوجئت بأن أوراقها جميعاً لا تزال متلاصقة لم يفتحها أحد ... إن " ميبل " هي الأخرى لم تقرأها حتى الآن ... ولم يعد لديّ شك في أن المرأة والرجل متساويان !!!!!!!.
كانت " ميبل " تدرس في كلية البنات ، ولكن فيما بعد ، كنت أدرس أنا وهي في تخصص واحد في جامعة " كيمبردج " ، ولذا فقد كنا نلتقي كثيراً في المحاضرات ، كما كنا أصدقاء كذلك ، ولنا هوايات كثيرة مشتركة . كانت هي تحب الموسيقى والرسم ، وكنت أنا أدّعي معرفة كل ذلك ، ولذا فقد كنا نجتمع كثيراً في معارض الرسم وحفلات الموسيقى . كنا ندرس الأدب الإنجليزي ، ونتناقش دائماً حول الكتب ، فإذا وجد أحدنا كتاباً جديداً ، أو مؤلِّفاً حديثاً ، كان لا بدّ أن يحيط الآخر به علماً ، ثم نقرأه سوياً ، ثم نصدر حكمنا ضده ، أو لصالحه !!!.
لكن كان هنا – تأكيداً – شيء ما في اتفاقنا وتناغمنا هذا ، فقد نشـأنا في القرن العشرين ، حيث تؤمن المرأة بالمساواة مع الرجل ، لكننا أحياناً كنا نُكذِّب هذا بتصرفاتنا . فقد كانت " ميبل " في بعض الأحيان تعتبر بعض التسهيلات حقاً مكتسباً لها ، ولا يجب أن يحظى بها سوى أحد أفراد الجنس " الضعيف " . وكنت أنا في بعض الأحيان أتخذ سلوكاً ينمّ عن تحكم وسيطرة ، فحواه أن هذا واجبي باعتباري " رجلاً " . وكان هذا الإحساس يؤلمني بشدة ، خاصة وأن قراءات " ميبل " كانت أكثر اتساعاً مني ، مما كان يجرح وقار " رجولتي " . أحياناً كان دمُ آبائي وأجدادي الأسيويين يفور في عروقي ، ويتمرد قلبي على الحضارة الحديثة قائلاً لي : " إن الرجل هو أشرف المخلوقات " ، وعلى الجانب الآخر كانت " ميبل " تبالغ في التعبير عن مساواة المرأة بالرجل ، حتى كان يبدو أنها تعتبر أن المرأة هي مرشدة الكائنات ، وأن الرجل لا يزيد عن كونه " حشرة " من حشرات الأرض .
لكني كنت أتغاضى عن كل هذا عندما تشتري " ميبل " ذات يوم مجموعة من الكتب ، وبعد أسبوع تُلقي بها في حجرتي وهي تقول :
لقد قرأتها كلها . اقرأها أنت أيضاً ، وسوف نتناقش حولها فيما بعد .
فلقد كان من المستحيل عليّ أن أقرأ كل هذه المجموعة في أسبوع واحد ، ولكن على فرض أنني – إنقاذاً لكرامتي – سأحرم نفسي من النوم ، وأقرأها جميعاً ، فقد كان من بينها بعض الكتب الفلسفية والنقدية أحتاج لفهمها إلى فترات طويلة ، ولذا فقد كنت بعد مُضِيّ أسبوع كامل من العمل المضني أضطر إلى الاعتراف بهزيمتي في هذا السباق أمام امرأة ، وكنت أستمع إلى ما تقول بانكماش طالما كانت جالسة في حجرتي ، بينما كانت هي تتحدث بطريقة العلماء ، رافعة حواجبها إلى أعلى من حين إلى آخر ، وعندما كنت أفتح لها الباب ، أو أشعل لها سيجارتها ، أو حتى أتخلى لها عن أكثر الكراسي راحة لديّ لتجلس هي عليه ، كانت هي لا تعتبر هذه الخدمات مراعاة لكونها " أنثى " ، بل تنظر إليها على أنها حق " الأستاذية " .
وبعد أن تغادر " ميبل " حجرتي ، كان ندمي وأسفي يتحول تدريجياً إلى غضب شديد ، فما أسهل التضحية بالنفس أو المال ، ولكن نظراً لطريقتها ، فإن أكثر الناس طيبة وتقوى كان لا بدّ أن يلجأ ذات مرة إلى استعمال الوسائل غير المشروعة معها . ربما تظن أن هذا انحطاط أخلاقي مني ، ولكن هذا هو موقفي على أية حال . وعندما التقيت بـ " ميبل " في المرة التالية ، عمدت إلى إبداء رأيي حتى في تلك الكتب التي لم أقرأها ، ولكن بحذر شديد فيما أقول ... لم أكن أنبث ببنت شفة فيما يتعلق بالتفاصيل ... أنقد بشكل عام ، وأضفي على رأيي نوعاً ما من " الجدية " باحتياط وحرص شديدين .
ذات مرة سألتني " ميبل " عن رأيي في إحدى الروايات ، فأجبتها بغير اكتراث :
* إنها " جيدة " ، لكن ليس إلى هذا " الحد " ، ولم يستطع الكاتب إبـراز " وجهة نظر العصر الحديث " ، ومع ذلك فإن لديه بعض الجوانب " الفريدة " ... ليست سيئة ..... ليست سيئة ......
وجعلت أنظر إلى " ميبل " من طرف عيني ، ولم تنتبه هي مطلقاً إلى اختلاقاتي هذه .... مرة أخرى قلت لها فيما يخص إحدى المسرحيات :
* نعم قرأتها ، لكني لم أستطع إلى الآن أن " أجزم " عما إذا كان ما يحسّه " القارئ للمسرحية يبقى كما هو بعد " مشاهدته " لها على خشبة المسرح أم لا ؟!! . ما رأيك أنت ؟!.
وهكذا كنت أحفظ كرامتي ، وفي نفس الوقت ألقي بالكرة في ملعب " ميبل " . أما فيما يتعلق بكتب النقد فكنت أقول :
* يبدو أن هناك " تأثيراً " لنقاد القرن الثامن عشر على هذا الناقد ، وإن كان " بسيطاً " ، وحديثه عن الشعر " جذاب " .... " جذاب " للغاية ...
وتدريجياً أصبحت ماهراً في هذا الفن ، حتى أنني كنت أندهش كثيراً من مقدرتي على الحديث بانسيابية وتمكُّن عن كتب لم أقراها ... كانت نفسي تستريح لهذا الأمر كثيراً .
والآن لم أعد أخشى " ميبل " ، بل لقد اضطرت هي للاعتراف بعلمي وفضلي ، فإن كانت هي تقرأ عشرة كتب في أسبوع واحد ، فإنني أستطيع أن أبدي رأيي فيها كلها في يومين فقط ... ولم أعد أشعر أمامها بالند وتعذيب الضمير ، وانتاب " رجولتي " شعور ما من الرضا بهذا الانتصار ... والآن عندما أُقدّم لها الكرسي ، أو أشعل لها السيجارة ، يصحب ذلك كله إحساس بالعظمة والتفوق ، كأني شاب قويّ مُحنّك ، يقوم بحماية طفلة صغيرة لا خبرة لها .
وسواء امتدح فعلي هذا المستقيمون من الناس أم استنكروه ، فإنني على الأقل أستحق الثنـاء من جنس " الرجـال " ، ورغم أن اللعنـات ستنزل على رأسي واحـدة تلو الأخرى من " النساء " بسبب تصرفي هذا ، باعتبار أنني أتعامل بدهاء وزيف ، ومن ناحية أخرى لخداعي امرأة من جنسهن ، إلا أني أطمئنهم بأنني حقيقة لمت نفسي أكثر من مرة كلما اختليت بنفسي ، وفي بعض الأحيان كنت أحتقر نفسي بسبب هذا الأمر ، لكن كان من الصعب كذلك أن أنسى أنني كنت أفخر بعلمي دون قراءة أو اطلاع ، فإن " ميبل " كانت – على أية حال – تتفوق عليّ حين تتحدث إليّ بعد قراءة الكتب ، وجهلي ثابت ، إن لم يكن لديها فعلى الأقل لديّ أنا ... لهذا السبب لم يكن قلبي ينعم بالراحة أبداً ، وكنت أبدو لنفسي حقيراً للغاية قياساً بامرأة . في البداية كنت أعتبر " ميبل " سيدة ذات علم فقط ، والآن أصبحت في نظري – قياساً بنفسي – مثالاً للعفة والصدق .
عندما أمرض يصير قلبي أكثر رقة ، فإذا تصادف أن قرأت أثناء مرضي بالحمى رواية ولو هابطة ، فإن الدموع تقفز من عيني في بعض الأحيان ، فإذا استعدت صحتي سخرت من نقطة ضعفي هذه ، لكني لم أكن أشعر بهذا الأمر في ذلك الوقت ، ولسوء حظي فقد أصبت في تلك الأيام بزكام بسيط . لم يكن الأمر خطيراً ، ولا حتى مؤلماً ، إلاّ أن أخطائي السابقة كانت تتجسد أمامي كأنها كبائر الذنوب ... تذكرت " ميبل " ، فأنبني ضميري كثيراً ، وظللت أتململ في فراشي وقتاً طويلاً ، وفي المسـاء حضرت " ميبل " ومعها باقة ورد ، وسألت عن صحتي ، وأعطتني الدواء ، ثم وضعت يدها على جبيني . عندئذ انهمرت دموعي بشدة ... قلت وصوتي تخنقه الدموع :
* أرجوك ، سامحيني يا ميبل .
ثم اعترفت لها بخطئي ، وعقاباً لنفسي شرحت لها تفصيلاً ما قمت به معها من مكر وخداع ، وذكرت لها حتى أسماء الكتب التي كنت ألقي عليها الخطب العلمية الطويلة بشأنها دون أن أقرأها ، وقلت :
* ميبل ، كم ناقشتك حول الكتب الثلاثة التي أعطيتني إياها الأسبوع الماضي ، لكني في الحقيقة لم أقرأ لفظاً واحداً منها ، لا بدّ أن بعض الكلمات صدرت مني – أثناء المناقشة – كشفت لك كذبي وزيفي ...
فقالت " ميبل " :
* أبداً .
قلت :
* على سبيل المثال أنا لم أقرأ تلك الرواية أبداً ، كل ما هذيت به عن شخصياتها كان محض اختراع ليس إلاّ .
فقالت :
* لكن ما قلته لم يكن خطئاً كذلك .
قلت :
* لقد قلت عن قصة الرواية أنها ينقصها الحبكة قليلاً ... هل كان صحيحاً أيضاً ؟!.
قالت :
* نعم ، لقد كانت كذلك في بعض المواضع .
وظللت أنا وهي نضحك على افتراءاتي السابقة . وعندما همّت " ميبل " بالرحيل قالت :
* هل آخذ الكتب معي ؟.
قلت :
* امنحي هذا الإنسان التائب فرصةً لإصلاح نفسه ، فأنا لم أقرأ هذه الكتب حتى هذه اللحظة ، لكني مصمم على قراءتها الآن . دعيها هنا فأنتِ قد قرأتِها .
قالت :
* نعم ، لقد قرأتها ، حسن ، سأتركها هنا .
وبعد رحيلها فتحت الكتب لأول مرة ، وفوجئت بأن أوراقها جميعاً لا تزال متلاصقة لم يفتحها أحد ... إن " ميبل " هي الأخرى لم تقرأها حتى الآن ... ولم يعد لديّ شك في أن المرأة والرجل متساويان !!!!!!!.