المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن العولمة ومجتمع المعرفة وأزمة المجتمعات العربية



التجاني بولعوالي
23/11/2007, 08:51 PM
عن العولمة ومجتمع المعرفة وأزمة المجتمعات العربية
من خلال كتاب عالم المستقبليات المغربي د.المهدي المنجرة (عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري)


بقلم/التجاني بولعوالي
باحث مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl


توطئة
ليس سهلا على القاريء أن يلم بما كتبه العالم المستقبلي د. المهدي المنجرة، وبما يطرحه من أفكار ووجهات نظر حول مختلف قضايا العالم، السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتربوية وغير ذلك، ومرد ذلك إلى سببين:
 أولهما أن د. المهدي المنجرة يملك نظرة شمولية إلى العالم والتاريخ والإنسان وغيرها من القضايا، حيث لا ينبغي للباحث أثناء تناوله الفصل بين قضية وأخرى، أو نصب الحواجز النظرية والإجرائية بين أبعاد الموضوع ومستوياته، باختصار، إنه يرفض الرؤية التجزيئية للأشياء والوجود والمجتمع، وإلا أودى الباحث بالترابط القائم بين مكونات الحياة، مما سوف يوقع رؤيته في الإسقاط والانتقاء والابتسار.
 أما السبب الثاني، فيتعلق بالمرجعية التي يبني عليها تفسيراته وتقديراته وتوقعاته، وهي كذلك مرجعية شمولية، تستثمر مختلف ما أنجزه الفكر العالمي؛ غربيه وشرقيه، قديمه وحديثه، مما يكسبها بعدا إنسانيا، قلما نعثر عليه عند غيره من المفكرين والمحللين والمستقبليين.
لذلك يتحتم على القاريء أن يتحلى ولو بجانب من المعرفة العامة، بشتى القضايا التي تشكل المادة الأولية لفكر المنجرة، تاريخية كانت أو واقعية، سياسية أو اقتصادية، ثقافية أو تكنولوجية، حتى يتسنى له استيعاب الرؤية الاستشرافية التي تكمن في كتابات وتحليلات المنجرة، وهي رؤية موحدة في العمق، لكنها على صعيد التناول متعددة الصيغ والزوايا والاتجاهات.
وقد تنوعت قراءتي لفكر د. المهدي المنجرة، لاسيما من خلال كتبه المشهورة: الحرب الحضارية الأولى، حوار التواصل، قيمة القيم، عولمة العولمة، ثم العديد من الحوارات والتصريحات الموزعة عبر مختلف المنابر الإعلامية الورقية والرقمية، لكنها كانت قراءة عادية ومرحلية وأحيانا سطحية، وكنت أتوخى دوما أن يأتي اليوم، الذي أتفرغ فيه ولو لجانب مما كتبه أستاذنا القدير د. المهدي المنجرة، فأقرأه بتأن وتمعن وتفحص.
وقد تأتى لي اليوم ذلك، فاخترت أن أتناول كتابه (عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري)، فهو رغم أنه صغير الحجم، فإنه عظيم الفائدة، وعميق الرؤية، وقد صدر عن منشورات الزمن في سبتمبر من عام 2000، ويتركب من مقدمة وخمسة محاور، موزعة على حوالي 110 صفحة من الحجم الصغير (كتاب الجيب)، أول تلك المحاور عبارة عن محاضرة بعنوان: تحرير العولمة، ألقاها المنجرة ضمن أعمال الملتقى الذي تشرف عليه جمعية الدراسات السياسية بالمملكة المتحدة، وذلك في 3 يونيو 1999 بشعبة الأنثروبولوجيا والتاريخ بجامعة هوكايدو باليابان، وما يليه من المحاور هي بمثابة حوارات أجرتها مع المنجرة مختلف المنابر الإعلامية المغربية والعربية، كالغد العربي ومجلة الآداب البيروتية وجريدة العلم ومجلة فكر ونقد.

1- العولمة من منظور مغاير
إن ما قد يستغربه القاريء هو ندرة ما كتبه د. المهدي المنجرة عن العولمة، رغم أن تحليلاته وتوقعاته وأنشطته الفكرية والعلمية تندرج في الفضاء نفسه، الذي أنتج ظاهرة العولمة، التي أضحت حديث الأقلام والنوادي ووسائط الإعلام، ترى كيف يمكن تفسير هذا الغياب أو التغييب؟ إن ذلك الاستغراب يزول بالتدريج من ذهن القاريء، بمجرد ما يطلع على موقف المنجرة المتردد من خوض موضوعة العولمة، فهو يقول: "لقد كنت مترددا في المشاركة في النقاشات حول "العولمة"، وما يزال تحفظي قائما إلى الآن. وكانت آخر الدعوات الموجهة إلي في هذا الإطار، وهي الدعوة التي رفضتها، قد وصلتني من المنتدى الاقتصادي الدولي، بخصوص الاجتماع بدافوس لسنة 1998"،(1) وقد أشارت الدعوة إلى أن المنجرة باعتباره من أولئك المتحدثين باسم العالم الثالث، فهو مدعو ليشاطره الآخرون وجهة نظره. ويبرر رفضه هذا، من خلال تساؤله الاستنكاري الذي يقول فيه: "لكن كيف يمكنكم القيام بتبادل لوجهات النظر مع أناس ذوي آراء قطعية ونهائية، أناس عقدوا العزم على استخدام كل الوسائل الممكنة لجعل أولئك الذين يفكرون بطريقة مغايرة يبدلون رأيهم؟".(2)
وما يلاحظ أن د. المهدي المنجرة يرفض فكر العولمة جملة وتفصيلا، لاسيما كما هو سائد ومستوعب في حاضر البشرية، ويدعم رفضه هذا بمجموعة من الأدلة العلمية والواقعية، التي يتقرر من خلالها أن العولمة لا تعدو أن تكون إلا أداة استعمارية جديدة، تتلبس بما هو اقتصادي أو إعلامي أو لغوي، ما دام أنها في واقع الأمر ما هي إلا عملية يتم بواسطتها، بمساعدة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، "تنظيم" نزع ملكية الشعوب بمباركة الزعامة المحلية التي لا يفوتها الاغتناء بالمناسبة.(3)
وعلى هذا النهج الرافض لظاهرة العولمة، والمتشائم من نتائجها وخلفياتها الوخيمة، يمضي د. المهدي المنجرة وهو يطعم رأيه بمختلف المواقف والوقائع والتفسيرات.

عولمة الفقر!
استنادا إلى جملة من المعطيات والإحصائيات العلمية والواقعية، التي يبدو فيها أن 17% فقط من سكان العالم هم المسيطرون على 80% من موارد الأرض، وأن الفارق بين الشمال والجنوب يتعمق أكثر، يرى المنجرة "أن ما تمت "عولمته" حاليا هو، بكل تأكيد، الفقر والظلم الاجتماعي والرشوة والاستلاب الثقافي، وهو أيضا التضييق على الحريات والحقوق المدنية. فما هو الحيز المتبقي للديموقراطية داخل مجال غير ملائم، مجال تم تشكيله ورعايته من لدن "القوة العظمى الوحيدة" وأتباعها؟ ذلك هو السؤال الحقيقي والشمولي الذي يحتاج إلى العولمة؟".(4)

العولمة توتاليتارية جديدة!
بعد قراءة المنجرة لأغلب أدبيات فكر العولمة، وتفحصه لمختلف تفسيرات المفكرين والمثقفين الغربيين بخصوص هذه الظاهرة، أمثال هانز مورغنتاو ومورغان كبلان وغونار ميردال وأورن ويونغ وغيرهم، يميط اللثام عن مدى قصورها المعرفي أو المنهجي، وعن أنها تنظر لعولمة مفصلة على مقاس السلطة، حيث "إن الحرية والتقدم العلمي، كما يعتقد، سيعانيان بشكل كبير، أثناء كل عملية مراقبة، مباشرة أو غير مباشرة، لسيرورة البحث عن الحقيقة. وفي الواقع، فإن هذه العملية هي أفضل وسيلة لتمهيد الطريق أمام الديكتاتورية والتوتاليتارية. "فالعولمة" تشكل بقدر كبير، توتاليتارية جديدة لا تعلن عن اسمها".(5)

العولمة والعجرفة الثقافية
يعتقد د. المهدي المنجرة أن إعلان بوش الحرب على العراق، يحيل في نظره (أي بوش) على أن الخطر الأكبر على الأمة (الأمريكية) وأصدقائها وحلفائها المقربين، ليس من طبيعة سياسية واقتصادية واستراتيجية فحسب، وإنما هناك مخاطر كبيرة تتربص بنسق القيم الخاصة بتلك الأمة، وتفاديا لهذه المخاطر يتحتم عليه الإبقاء على مراقبة إنتاج وتسويق البترول.(6) مما سوف يجعل من العولمة بمثابة مجهر توضع الكرة الأرضية تحت عدساته، لمراقبة أي حركة أو تحول يهدد مصالح الرجل الأبيض، إلى درجة أصبحت فيها العولمة تعني "أن صواريخ طوما هاوك وأنواع أخرى من الصواريخ أصبحت مستعدة للتدخل من أجل دعم وبقاء نسق من القيم و"أسلوب في الحياة" بأي ثمن كان، باستقلال عن انعكاسات ذلك التدخل على الآخرين".(7) هكذا يتأكد أن هدف العولمة هو الحفاظ على مصالح الأقوياء، ولو كان ذلك على حساب قيم الآخرين، مما ينجم عنه تصاعد نزعة ثقافية تسلطية، لا تعترف بالخصوصيات الجهوية والإقليمية، ثقافية كانت أو سياسية أو اجتماعية، التي تنفرد بها كل مجموعة بشرية على حدة، وهذا ما يطلق عليه د. المهدي المنجرة العجرفة الثقافية، حيث يرى أن العولمة تتغذى من العجرفة الثقافية التي تمتح أصلها من الجهل واللامبالاة تجاه أنساق قيم أخرى وتجاه حقها في الوجود.(8) وهذا ما دعاه إلى الاستشهاد بتصريح الوزير الأول الفرنسي الأسبق، ليونيل جوسبان، الذي فحواه؛ أن العولمة تحمل في أحشائها خطر التنميط الثقافي.(9)

العولمة "طائفة" جديدة
بعدما تطرق المنجرة إلى أزمة منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها، التي أصبحت مجرد آلية في يد الأقوياء، يحركونها حسب ما تشتهيه رغائبهم الذاتية، وينفذون بنودها الجافة والجوفاء وفق ما تقتضيه مطامحهم السياسية، يخلص إلى أنه "لم يعد بالإمكان إصلاح هذا النظام ولا إنقاذه، بل يجب أن يخضع إلى إعادة صهر كلية، تجعل منه ترياقا للعولمة"(10)، لكن هذا لن يتحقق مطلقا في ظل المعطيات العالمية الراهنة، المحكومة بالنظرة السياسية والثقافية والاقتصادية والاستراتيجية الأحادية، التي هي نظرة الولايات المتحدة الأمريكية ومن يسبح في فلكها. مما يجعل العولمة بمثابة "طائفة" جديدة لها مذاهبها الخاصة وأنصارها وطقوسها ومتصوفتها ومستثمروها وكبرى الشركات المتعددة الجنسية، وحتى مواقعها المتزايدة على الويب.(11)

العولمة سبب العنف!
يرى د. المهدي المنجرة أن كل هذه الويلات التي يتخبط فيها العالم، من نزاعات وتطاحنات وحروب واضطهادات وأوبئة، لن تحل إلا بما يطلق عليه "السلم الكوني لا أقل ولا أكثر"، لكن تفعيل هذا السلم يقتضي توفر الإرادة اللازمة لدى الأقوياء والضعفاء معا، ومادام ذلك لا يزال غائبا، فإن دار لقمان سوف تظل على حالها، فتزداد العجرفة الثقافية حدة، ويطغى لدى الأقوياء الاستئثار بقيمهم على حساب قيم الآخرين، مما يصعد من منسوب المواجهة والتطاحن، فـتكون العولمة "أحد الأسباب الأساسية في صعود العنف وتناسل النزعات التي نلاحظها على المستوى الكوني"،(12) كما أنها تشكل "ذلك الحقل المناسب لمواجهات كونية أخرى، أكثر حدة وتهديدا لاستمرار الإنسانية على قيد الحياة".(13)

2- المستقبل لمجتمع المعرفة
تكاد تشكل موضوعة المعرفة طرحا قائما بذاته في فكر د. المهدي المنجرة، الذي خصص لها حيزا كبيرا في دراساته المتنوعة، فكيف ينظر إلى المعرفة؟ هل باعتبارها مجرد قضية ثقافية عادية، أم أنها أكثر من ذلك؟ وما هو تأثير المعرفة في المجتمع الإنساني؟ ثم ما هو النطاق الذي تشغله في زمن محكوم، من جهة أولى بالثورة الرقمية الهائلة، ومن جهة أخرى بالصراعات السياسية والأيديولوجية والعسكرية الضارية؟

مجتمع المعرفة
يرى د. المهدي المنجرة أن العالم دخل منذ مدة ما يطلق عليه (مجتمع المعرفة)، والمعرفة كما يوضحها، هي مجموع المعلومات، والإشكال القائم هو كيفية الوصول إلى سر هذه المعلومات وسر هذه المعرفة.(14) ثم إن المعرفة في العصر الحديث، الذي هو العصر الرقمي، أصبحت أكثر استجابة لمقتضيات التغيرات الصناعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الجديدة، مما أكسبها خصائص مغايرة نوعا ما، لما كانت عليه الثقافة التقليدية، إن السمة الأساسية للمجتمع المعرفي "تتمثل في أن الحدود التي كانت، في الماضي، قائمة بين ميادين المعرفة المختلفة قد انتهت أو شارفت على النهاية".(15)
إن انتفاء الحواجز النظرية والمنهجية بين حقول المعرفة وميادينها، فسح المجال أمام انفجار معرفي منقطع النظير، أضحى العقل البشري عاجزا عن استيعابه ومواكبته، حيث أنه ثمة ما بين ستة وسبعة مليون مقالة علمية تصدر كل سنة، في أكثر من خمسين ألف مجلة متخصصة، ثم إن محرك البحث (ياهو) يحتوي على ما يناهز مليار وثيقة، بوتيرة وثيقة كل ثانية، ولو أراد الفرد تعدادها لتطلب منه الأمر خمسين سنة أو أكثر.(16)
هكذا يتقرر أن ابتكار المعرفة أصبح يشكل ثروة حقيقية، تفوق قيمتها قيمة أي ثروة، كيفما كان مصدرها ونوعها، فـ "حضارة المستقبل تعتمد بشكل أساس على الإنسان وليس على المزرعة ولا على المصنع، إنها حضارة المعرفة، والبحث والمعلومات والتقنيات".(17)

التفاوت المعرفي بين الشمال والجنوب
إن د. المهدي المنجرة يضع تساؤلات عميقة أمام مختلف المؤسسات التقليدية، وهي تشكل في حد ذاتها تحديات عويصة، حيث كيف لهذه المؤسسات "أن تتكيف مع درجة السرعة هاته، ومع التطور المذهل الذي تعرفه المعرفة على اختلاف مشاربها؟ كيف لهذه المؤسسات التقليدية أن تساير الركب و90% من المعارف الإنسانية أنتجت خلال الثلاثين سنة الماضية فقط، والاختراعات لا تتوقف".(18)
إن عبارة (المؤسسات التقليدية) تحيل ضمنيا على مؤسسات الجنوب، رغم أن المنجرة لم يذكرها صراحة، إلا أن ثمة أكثر من قرينة تثبت ذلك، كالتقليدية، وعدم مسايرة الركب، والتفاوت المعرفي، وغير ذلك، وهذه القرائن هي في حد ذاتها مظاهر لتخلف الجنوب وتأخره، ليس فقط التخلف المادي أو التأخر الصناعي أو غيرهما، وإنما التخلف المعرفي، مما يعمق الهوة أكثر بين الشمال والجنوب، فيصعد مؤشر التفاوت بينهما صعودا صاروخيا، إلى حد أن ثمة من الخبراء من يرى أن تلك الهوة أو هذا التفاوت لا يحدد بالسنوات والعقود، ولكن يحدد بالأجيال والقرون.
هكذا يبدو المنجرة مصرا على اعتبار المعرفة هي الثروة الحقيقية، حيث أنه يؤول بطريقته الخاصة بعض المفاهيم، واضعا لها تحديدات مغايرة لما جبل عليه الجمهور، وخير نموذج لذلك كيفية فهمه لمصطلح الثروة، فهو لا يحددها فيما هو مادي، كما يهيمن لدى الناس؛ عامتهم وخاصتهم، مما يبعثر المعادلة التقليدية التي يبدو فيها الجنوب، بما فيه العالم العربي والإسلامي وكذا الثالثي، وهو يزخر بالثروات، لكنها حسب رأي المنجرة هي ثروات زائلة، يقول: "في الواقع لا توجد ثروات في الجنوب إذا عرفنا الثروة على أنها البشر المنتج للمعرفة، أما الثروة بمعنى المواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة فهذه لا مكان لها في الحضارة الجديدة، من هذا المنطلق أقول إن التفاوت سيبقى لكن على مستويين، تفاوت علمي ومعرفي بين الشمال والجنوب، وتفاوت في الجنوب بين الأثرياء والفقراء".(19)
خلاصة القول، يستوعب من تفسيرات وتحليلات د. المهدي المنجرة أن الشعوب التي تطمح إلى أن تنال حيزا لها في المستقبل، فتضمن بذلك استمرارية قيمها وثقافاتها ولغاتها وهوياتها، ينبغي لها أن تراهن على سلاح المعرفة، فهو السلاح الذي لا يصدأ ولا يبلى، لذلك فهو يستغرب من صفقات السلاح التي تعقدها الدول العربية مع الغرب، فهي في نظره لا قيمة لها، مادام أن ذلك السلاح لن يستخدم، لأنه أولا معقد تكنولوجيا، وثانيا لا توجد حاجة لاستعماله، يقول: "ولو خصصنا موازنات التسليح لمحو الأمية ودعم الجامعات والمراكز العلمية لصار لدينا شعب قوي يهابه الآخرون، فترسانات الأسلحة مهما كانت مليئة لا تخيف أحدا، لكن الخوف يأتي من شعب مسلح بالمعرفة".(20)

3- تشخيص أزمة المجتمعات العربية
يقيم د. المهدي المنجرة التاريخ العربي الحديث، بالتحديد المرحلة المابعد استعمارية(21)، بأنه تاريخ انتكاسات على مختلف الأصعدة، سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية أو غيرها، ولا يقف عند هذا التقييم الظاهري، الذي قد يخلص إليه أي مثقف عادي، وإنما يتساءل عمن يقف وراء هذه الانتكاسات التاريخية، ثم يجيب بسؤال استنكاري عميق: أليسوا هم الحكام والنخب السياسية التقليدية والرجعية العربية؟(22)
وقد حاول في موضع لاحق من الكتاب، تأكيد أن الأزمة الحقيقية للمجتمعات العربية تتجلى في النخبة السياسية، التي تفتقد الرؤية الفكرية المتوازنة التي من شأنها أن "توجه حاضرنا وتقرر مصيرنا المستقبلي، بل إن غياب هذه الرؤية قد لا تسمح لنا بفهم ماضينا واستجلاء خصوصياته ومقوماته، التي عمل الاستعمار ما أمكن ليدفنها كي نعيش بماضيه، بعد أن صرنا نعيش بحاضره".(23)
وفي مقابل الحكام والنخب السياسية، تقف الشعوب على الضفة الأخرى، وهي متذمرة مما آلت إليه وضعية بلدانها، التي أصبحت بمثابة ضيعات في أيدي أولئك الحكام، يستثمرون خيراتها كما يحلو لهم، أو حسبما يتلوه عليهم أسيادهم الغربيون، لكن رغم ذلك التذمر الشعبي، فإن ثمة طموحات ما تتخلل نفوس الشعوب العربية، وآمالا في التغير والإصلاح، لكن تلك الطموحات وهذه الآمال تظل مجرد أضغاث أحلام، ما إن لم تفعل بالقرارات السياسية الجادة والممنهجة.
إن النخبة السياسية العربية الحاكمة لم تبلغ بعد مستوى الوعي الإيجابي، بما تفكر فيه الشعوب، وبما تطمح إليه، وبما تحتاجه، ليس لأنها لا تدرك ذلك، وإنما لأنها لا تملك الشجاعة الكافية للاستجابة لذلك، ومرد ذلك إلى عاملين نفسيين أساسيين هما: جهل قيمة الشعوب، وعقدة الخوف من الشعوب.
1. جهل قيمة الشعوب: يقول د. المهدي المنجرة في هذا الصدد وهو يقصد مشاركة الشعوب: "المشاركة مسألة ضرورية في كل عصر، وفي أي حضارة وسوف تلاحظ أنه كلما شارك الشعب في تقرير مصيره وسياسته ومستقبله، تحقق التقدم والحضارة، يمكنك أن تلمس ذلك في المجتمع الإغريقي وحتى الآن، بل إن المجتمع العربي لم يشهد حالة ازدهار إلا في ظل ديمقراطية أو شورى كانت تسمح للمواطن أن يقول للحاكم (لا)".(24)
2. عقدة الخوف من الشعوب: يقول د. المهدي المنجرة: "أما الأنظمة العربية الأخرى، باختلاف أنظمتها وأيديولوجياتها، فقد ظلت تشكو عقدة مزمنة، وهي عقدة الخوف من شعوبها، ولذلك كانت كل استراتيجيتها تقوم على الهاجس الأمني، فراحت تقوي نفوذ النخبة الأمنية على حساب النخبة السياسية والاقتصادية والفكرية الفاعلة، فصارت الشعوب العربية كلها تحت أنظمة عسكرية أو شبه عسكرية".(25)
على هذا الأساس، فإن أي تغيير جاد أو إصلاح منشود في العالم العربي والإسلامي، لن يتأتى إلا بإزاحة هذه العوامل النفسية، التي تولد عنها تغييب الشعوب تغييبا كليا، من أي معادلة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية تهمها، حيث ظلت ومازالت الطغمة الحاكمة والنخبة السياسية الموالية لها، منفردة بتشكيل ملامحها وصياغة قراراتها، وبمجرد ما تدعى الشعوب للمشاركة في هذه المعادلات، على أساس من الديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، سوف تلوح في الأفق أمارات التغيير الإيجابي والإصلاح المنشود.

مستقبل البلاد العربية رهين بسيناريو التغيير الجذري
إن العوامل النفسية المشار إليها سابقا، تقف سدا منيعا أمام أي تفاعل للحاكم العربي مع شعبه، وبمجرد ما تتلاشى تلك العوامل، تحضر بعض محفزات الانطلاق والنهوض والإصلاح، لكن ما السبيل إلى ذلك، ونحن نعلم أن الحاكم العربي صناعة غربية محضة، هدفها الحفاظ على المصالح الغربية السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة العربية والإسلامية، وثمة نماذج كثيرة لحكام صنعهم الغرب حسب المقاسات التي يريدها، وعندما تنتهي مهمتهم المرسومة يلقى بهم في مزبلة التاريخ! وفي هذا الشأن يطرح د. المهدي المنجرة هذا السؤال العميق: "لم لا نصرح بأن هذا العالم العربي – في بعده الجيوسياسي، لا في بعده الحضاري – اختراع غربي أو خارطة رسمها الإنجليز والفرنسيون، وجاؤوا بحكام ما نزال إلى اليوم نؤدي ضريبة بلادتهم وتبعيتهم السياسية للغرب".(26)
من هذا المنطلق الواقعي، يبدو د. المهدي المنجرة أكثر تشاؤما من الوضعية الراهنة التي توجد عليها البلاد العربية والإسلامية، وهو ليس تشاؤما رومانسيا أو عاطفيا، وإنما تشاؤم واقعي مدعوم بالمعطيات والإحصائيات والوقائع، ولا يرى المخرج للشعوب العربية والإسلامية من ذلك المستنقع إلا بالتغيير الجذري.
إن فكر د. المهدي المنجرة يتميز بقراءة خاصة ومتميزة لواقع العالم العربي والإسلامي، تنبني على رؤية واقعية واعية، ترى أن تغيير هذا الواقع محكوم بثلاثة سيناريوهات ممكنة:
1. سيناريو الاستقرار والاستمرار: وهو يعني أن تستمر الأمور على ما هي عليه، لذلك فهو يحتاج إلى دعم من البنك الدولي والجيوش الغربية، وهو لا يعدو أن يكون إلا مجرد استقرار بيولوجي، يحكم على المجتمع بالموت وتعطيل الإبداع والخلق والعطاء، وهو غير ممكن في حياة الشعوب.
2. سيناريو الإصلاح: وقد تعطل نظرا إلى استمرار السيناريو الأول، ويمكن لهذا السيناريو أن ينجح بنسبة 30%، إلا أن ذلك يظل رهينا بسرعة التدخل لإقامة الإصلاحات، والوعي بالإكراهات، وكلما تأخر العمل بهذا السيناريو كلما تعذر الإقدام على إصلاحات فاعلة وناجحة.
3. سيناريو التغيير الجذري: أو المواجهة أو التحولات الكبرى والعميقة، وإلى حد الآن لا ندري كيف سيتم هذا التغيير وما هي درجة سرعته، فبإمكانه أن يقع في أي لحظة، والشيء الوحيد الذي نتمناه هو أن يكون ثمن هذا التغيير قليلا، ثم أنه كلما تأخر كلما ازدادت التكلفة.(27)
إن الوضعية المتردية للبلاد العربية والإسلامية، لن تحل بسيناريو الاستقرار والاستمرار، ولا بسيناريو الإصلاح، وإنما بسيناريو التغيير الجذري، وهذا التغيير يمكن أن يتخذ مظاهر متعددة، بحسب السياق الذي يتم فيه، فقد يكون عن طريق الثورة والمواجهات المحتدمة، وقد يكون بالتنازل السلمي، وقد يكون بالإشراك العادل لفئات جديدة من الشعب، وقد يكون بطرائق أخرى.
والآن، تتوفر للنخب السياسية العربية والإسلامية الحاكمة مختلف الخيارات والإمكانيات المؤدية، إلى تغيير جذري بخسائر أقل، حتى تجنب بلدانها ويلات الحروب الأهلية والتطاحنات العرقية والأيديولوجية، فهل آن الوقت لـ "تستوعب جيدا أن مهمتها قد انتهت، وأن عليها أن تتخلى عن دور القيادة السياسية لصالح جيل شاب قادر على تسيير الشأن العام".(28)

خاتمة
رغم كل هذا التشاؤم الذي يتخلل تفسيرات د. المهدي المنجرة لجملة من قضايا البشرية المعاصرة، كالعولمة وسيطرة الشمال على الجنوب وأزمة المجتمعات العربية وغياب الديموقرطية وغير ذلك، وهو تشاؤم نفضل أن ننعته بالواقعي، لأنه ليس من نسج الخيال وتخميناته، وإنما نابع من حقائق الواقع وتناقضاته، رغم كل ذلك، فإن ثمة بصيص أمل يبعث على التفاؤل، ويمكن تعزيز ذلك بمجموعة من العوامل الموضوعية:
 فالفرج سوف يأتي، حسب د. المهدي المنجرة، من خلال جيل جديد يتمثل في أن نسبة كبيرة من أبناء الوطن العربي تحت 24 سنة.
 كما أن وعينا بأننا فشلنا هو في حد ذاته يشكل دافعا قويا لتجاوز ذلك الفشل.
 وأن النزاعات العربية الحادة التي تفجرت في التسعينات كانت مفيدة لأنها عرت الواقع العربي، وكشفت زيف الادعاءات الوحدوية، ووضعتنا أمام حقائق موضوعية.
 وأن الشارع العربي أصبح يملك وعيا سياسيا وثقافيا بخصوص حقوقه الديموقراطية، مما جعل الناس ينظمون أنفسهم في الأحزاب والجماعات.
 ثم إنه نتيجة الهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية الجديدة، صارت النخب الثقافية تدرك أهمية القيم الحضارية، والهوية الثقافية لمواجهة الغزو الوافد، مما سوف يشكل مقوما لبناء نسق من الأفكار الذاتية، التي تستفيد من المعطيات الحضارية والمعرفية لإثراء الوعي العربي وليس نفيه.(29)

الهوامش:
1- عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري، د. المهدي المنجرة، منشورات الزمن، سبتمبر 2000، ص15
2- المرجع نفسه، ص15
3- المرجع نفسه، ص13
4- المرجع نفسه، ص14 و15
5- المرجع نفسه، ص19
6- المرجع نفسه، ص 27
7- المرجع نفسه، ص28
8- المرجع نفسه، ص28
9- المرجع نفسه، ص31
10- المرجع نفسه، ص32
11- المرجع نفسه، ص32
12- المرجع نفسه، ص33
13- المرجع نفسه، ص33
14- المرجع نفسه، ص36
15- المرجع نفسه، ص37
16- المرجع نفسه، ص40
17- المرجع نفسه، ص99 و100
18- المرجع نفسه، ص41
19- المرجع نفسه، ص102
20- المرجع نفسه، ص106
21- تجدر الإشارة إلى أن المنجرة يشكك في استقلال العالم الثالث، حيث أنها ما زالت مستعمرة سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
22- المرجع نفسه، ص65
23- المرجع نفسه، ص67
24- المرجع نفسه، ص107
25- المرجع نفسه، ص66
26- المرجع نفسه، ص70
27- المرجع نفسه، بتصرف من ص72 إلى ص76
28- المرجع نفسه، ص98
29- المرجع نفسه، بتصرف ص 104 و105