المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الأول من الباب الحادي عشر من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
26/11/2007, 08:10 AM
الجزء الأول من الباب الحادي عشر
طاجن الأرز (1)
فإذا سلمنا بأن الإسلام الرائج بيننا ليس الإسلام القرآني ، وإنما هو الإسلام الذي شكله " محترفو الدين " الأميّون مما اخترعوه من عند أنفسهم من روايات وتقاليد واعتقادات وأوهام وخرافات ، فهناك بالتالي عدة أسئلة مخيفة هي :
1 – هل نحن - الذين نعتقد أننا مسلمون – مسلمون فعلاً ؟!!.
2 – هل يعدّ الشخص مسلماً إذا اقتصر على أداء الصلاة والصيام فقط ؟!!.
3 – هل الإسلام مجرد طقوس إذا أداها الإنسان نال الحرية المطلقة في أن يكذب ، ويخدع ، وينافق ، مما يطلق عليه العالم المتحضر " دبلوماسية " ، وأن يستعين بـ " اللف والدوران " مما يسمى في أيامنا بـ " السياسة " ؟!!.
4 – أليس السكوت عن قول الحق أمام الحكام الأنانيين ، و " محتكري الدين " الأميين وخرافاتهم ، جريمة أخلاقية ؟!!.
عش العصفورة :
سادتي ، هذه الأسئلة مخيفة فعلاً ، ولم نتجشم نحن عناء التفكير فيها بجدية ، فإذا ما فعلنا اهتزت الأرض تحت أقدامنا ، وسقطنا لمجرد الاهتزاز كما يسقط فرخ العصفور . لقد بنى كل واحد منا لنفسه " عشاً " ملأه ببعض الاعتقادات عن نفسه ، وجعل منها وسيلة لطمأنة نفسه وإشباعها وإشعارها بالأمان ، هذه الاعتقادات ترضينا عن أنفسنا ، ومن الضروري أيها السادة أن يرضى الإنسان عن نفسه لكي يستطيع الحياة ، فنحن نشكو من الظروف وليس من أنفسنا ، حتى ولو كان سلوكنا غاية في الاعوجاج وعدم الاستقامة ، وأنا أؤكد لكم أن قادتنا وأئمتنا ووعاظنا ودعاتنا غاضبون منا عاتبون علينا ، لأننا لا نسير وفقاً للمبادئ الإسلامية ، وفي نفس الوقت راضون عن أنفسهم تماماً ، ولم يخطر ببالهم أبداً أنهم بالفعل جعلوا من الإسلام مجرد " طقوس " عن حسن نية .
والحقيقة أن حسن النية هذا ناتج عن الاعتقاد الساذج الذي يمكن أن نسميه " تفكير في غير محلـه " ، وأبرز مظاهر هذا التفكير الساذج لدى أئمتنا هو أنهم يعتقدون أنهم يعرفون ، يعلمون ، يقولون " نحن علماء " ، ومن يعتقد أنه " يعرف " ، لا تتولد لديه الرغبة في مزيد من العلم والمعرفة ، ولا يشعر بضرورة الاستماع إلى الآخرين . أما الاعتقاد الساذج الثاني فهو أنهم يقولون لأنفسهم : بما أننا " نعرف " ، فيجب علينا أن " نعرّف " العامة – الذين لا يعرفون – السير على الطريق المستقيم .
سادتي ، مثل هـذا يحـدث دائمـاً ، ومع كل دين ، فيكون " الوحي " في البداية ، ثم " الثــورة " ، ثم تعـم " الخرافــات " في النهايـة . تكون الأمور " الإلهاميـة " أولاً ، ثم " الثورة " البناءة،وبعد ذلك تنشق الأرض عن " محتكري الدين "،وتظهر " الطقوس " ، و " المعجزات " ، و " الكرامات " ، و " الخرافات " ، وما أجمل " الطرفة " التي أبدعها " صاحب ذوق " عن ظهور " محتكري الدين " ، يقول :
طنين :
تسلل " دبور " ذات ليلة إلى قريـة الفراشات ، سألته الفراشات : من أنت ؟. قال : " الدبور " : أنا فراشة . فدهشت الفراشات ، إذ لم يحدث أن رأوا أبداً فراشـة " تطنّ " هكذا . قالت الفراشات : سيدي ، انتظر هنا حتى نستشير " كبارنا " .
قالت " عواجيز " الفراشات : أخبرونا ، ذلك الذي يقول عن نفسه إنه " فراشة " ، كيف شكله وملامحه ؟. قالت الفراشات : منظره عجيب ، لونه أصفر ، وله " طنين " . ولما أطلّت " عواجيز " الفراشات على هذا القادم أصابتهم حيرة كبيرة . قال : إنه مخلوق غريب ، ولا يبدو من شكله أنه فراشة . عندئذ قالت فراشة " عجوز " : لا تتعجلوا يا إخواني ، فربما كان فراشة فعلاً . قالت فراشة " عجوز " أخرى : لا يا أختي ، إنه مختلف عنا تماماً ، ويحدثنا كأنه يتوعدنا . فقالت الفراشة الأولى : يا إخواني ، إن الأمور كلها تتغير هذه الأيام ، ولهذا لا يمكن القطع بشيء ما . قالت الفراشات : ماذا نفعل إذاً يا سيدتنا ؟!!.
قالت الفراشة " العجوز " : اذهبوا إليه وقولوا له : يا أختنا الفراشة ، اذهبي إلى المدينة وانظري ، هل الأنوار فيها مضيئة أم لا !!. وذهبت الفراشات بالفعل إلى " الدبور " ، وطلبن منه أن يذهب إلى المدينـة وينظـر إن كانت مصابيحهـا مضيئـة أم لا . وبعد نصف ساعة عاد " الدبور " وهو يطـن ، وقال : نعـم ، الأنـوار كلهـا في المدينة مضيئة تتلألأ (2) ، وأكثر " الفراشات " في العالم الإسلامي اليوم على نفس النمط ، تطنّ بصوت مرتفع معلقة بكل ثقة أن الأنوار في المدينة مضيئة ، وتتلألأ بفضل الله وكرمه .
سادتي ، لا عجب في أن يحدث مثل هذا مع كل دين ، ومثلما تأتي كل حكومة جديدة عندنا بـ " زبانيتها " ، كذلك يأتي كل دين جديد بـ " محتكريه " و " حماته " ، والموضوع ببساطة يا سيدي أن هـؤلاء " الحمــاة " يعملـون دائمـاً على أن يجعلوا من العامة " نعاجــاً " ، حتى يدوم احتكارهـم للدين ، فحـين ظهـرت " الهندوسيــة " جاء معها " البراهمة " ، ثم أقام " منو " (3) سلطة " البراهمة " على أسس مستقلة ، فقسم المجتمع الإنساني إلى طبقات في أصـل الخلقـة ، واختـرع ما يسمى بـ " المنبوذين " ، لكي يمنح " البراهمة " درجة الآلهة ، وجعل جزءاً كبيراً من المجتمع الهندي في طبقـة دنيئـة ، وحكم بأن " المنبوذين " ، وكل من هم ليسوا " هنادكة " نجس لا تجوز مخالطتهم .
نجس العقيدة :
وتعرفت على المعنى الدقيق لكلمة " منبوذ " حين كنت أعمل بالتدريس في المدرسة الحكومية المتوسطة بمنطقة " دهرم ساله " عـام 1932م ، فقـد كانت أكثريـة سكان منطقة " دهرم ساله " وضواحيها من الهندوس ، ولم يكن بالمدرسة سوى طالبين اثنين من المسلمين ، ومشكلتي أنني أشعر بالعطش كثيراً ، فأحتاج إلى بعض جرعات من الماء كل عدة ساعات ، وذات يوم كان الطالب المسلم الوحيد في الصف الذي أدرّس له غائباً ، فطلبت من طالب هندوسي أن يحضر لي كوب ماء ، فأحنى الطالب رأسه واقفاً . سألته : لماذا لا تحضر لي كوب ماء !!. قال : يا أستاذ ، إن هذا سوف ينجس عقيدتي .
أخذت أشرح للطالب الهندوسي أن يا بني ، إن عقيدتك تصير نجسة إذا شربت أنت الماء من يدي ، وليس إذا سقيتني أنت الماء . وبالرغم من شرحي له ، إلا أنه رفض أن يحضر لي كوب ماء قائلاً : يا أستاذ ، إن هذا سوف ينجس عقيدتي . واستوعبت الأمر ، وعرفت أن عقيدة الهندوسي تنجس إذا أكل أو شرب من يد مسلم في المناطق ذات الأكثرية المسلمة ، بينما تنجس هذه العقيدة في المناطق ذات الأكثرية الهندوسية إذا أطعم هندوسيّ مسلماً أو سقاه !!!.
وحين ذهبت إلى " دهلي " (4) عاصمة الهند للمرة الأولى بعد التقسيم دهشت كثيراً . ما هذا الذي أراه !!. هل هذه هي " دهلي " ، أم أنني في بلد آخـر !!. هل تغير الهندوس !!. كلا ، كلا ، هذا مستحيل ، لا يمكـن للهنـدوسي أن يتغـير . هل تخـلى الهندوسي عن عقيدة " التنجس " هذه !!. كلا ، كلا ، وكيف يمكن هذا !!. لقد كانت عربات اليد عليها الماء البارد تمرّ من أمامي في كل سوق من أسواق " دهلي " ، كوب الماء البارد بعدة ملاليم ، ولا يوجد على العربة سوى كوب فارغ واحد يشرب منه الجميع !!. سألت رجلاً هندوسياً : ما هذا الذي يجري يا أخي ؟!!. قال : يا سيدي ، " العقيدة شيء ، والتجارة شيء آخر " .
إذلال الإنسان :
سادتي ، الموضوع ببساطة أنه كلما زاد التعليم ، وارتقى العلم ، صار من غير الممكن أن يعبد أحد صنماً ، يمكن أن تعبد المال ، تعبد السلطة والجاه ، ولكن ليس صنماً أو تمثالاً ، وهناك أمر آخر وهو أن الله تعالى قد كرّم الإنسان تكريماً عظيماً ، وجعله أشرف المخلوقات ، وسخّر الكائنات كلها لهذا الإنسان ، ولهذا يقول الله تعالى في القرآن الكريم أن انظروا إلى هذه الكائنات ، وتأملوا فيها . إن هناك طاقات ضخمة كامنة فيها ، فسخروها . أي شرف عظيم هذا الذي منحه الله للإنسان .
وقد جعل الهندوس طبقة كبيرة من بني الإنسان هدفاً للإذلال والتحقير ، حتى أنهم لا يقبلون مجرد لمسهم ، ودعك من اللمس ، فإن ظل هؤلاء ينجس الهندوسي إذا أصابه ، ويلزم الهندوسي عندئذ " التطهر " حتى يتخلص مما أصابه من نجس بسبب الظل ، وهذا الإذلال والاحتقار للإنسان ينافي مبادئ الفطرة ، ومبادئ الأخلاق ، ومبادئ الإنسانية ، ولا يمكن لدين أو شعب أو حكومة تعمل على إذلال الإنسان أن تبقى وتدوم في عصرنا الحاضر . يقول " روبرت بريفالت " في كتابه " صناعة الإنسانية " : " لا يمكن أن يستمر نظـام إنساني بني على أسس خاطئة ، حتى ولو استماتت المحاولات بالخداع والمكر في الحفاظ عليه " . في الأزمنة الغابرة محت الفطرة من الوجود أولئك الذين أذلّوا الإنسـان واحتقروه ، وهذا يقيناً هو مصير المجتمع الهندوسي ، تأسيساً على هذا المبدأ الفطري .

الناسور :
1 – الهند بلا شك بلد كبير .
2 – الهند بلا شك بلد قوي .
3 – الهند بلا شك لديها إمكانية التصدي لأي خطر خارجي عليها .
لكن هناك " ناسوراً " بداخلها هـو " عداوة الإنســان " ، و " عداوة الإنســان " هذه " ناسور " يمتلئ قيحاً ودماً ، ولا يتوقف نزيفه ، وسوف ينفجر هذا " الناسور " يوماً مقطعاً أوصال السلطة الهندية .
أيها السادة ، أنا لا أقول إن مفكري العالم لا يشعرون بمأساة الهند هذه ، فإن مفكري الهند ومثقفيها من الهندوس أنفسهم يعرفون هذه الحقيقة ، وإن كانـوا لا يتحدثـون عنها ، وعلم " النجوم " من العلوم الرائجة في الهند ، ومنجمو الهند يعرفون أن هذا هو مصير الهند ، لكنهم لا يستطيعون التفوه بشيء في هذا الخصوص ، فهم لا حيلة لهم (5) ، وقد عرف الجميع هذه الحقيقة ، لدرجة أن المفكرين في عصرنا يتناولون الهند بالتحليل على صفحات الجرائد ، ويعلنون في صراحة أن " التفتت " هو مصير الهند ، وهذا مقتطف من صحيفة إنجليزية صدرت في يوليو 1994م :
" إن شخصية غاندي ونهرو ، وحلمهما الجميل في أن تنتظم القوميات الهندية المختلفة في عقد واحد بدأ يتحطم وبشدة ، والهند منذ عدة سنوات تبدو دولة متصارعة ، طفت على سطحها الخلافات الطائفيـة ، وتتراجع السيطرة على " مارد الإقليمية " ، وهو ما يهدد وجود البلاد وكيانها ، حتى أصبحت الهند على شفا حفرة من التمزق والتفسخ " .
العلمانية :
سادتي ، لم أستطع إلى اليوم أن أستوعب ماهية الإسلام ، فأئمتنا يقولون إن الأمر في غاية السهولة واليسر ، أطلق لحيتك ، وحف شواربك ، وصلّ في المسجد ، واستمع إلى الخطب ، واجعل سروالك فوق كعبيك ، وصم ، وأخرج زكاتك ، وحج بيت الله ، وعندئذ ستصير مسلماً حقاً ، وسيتولد النقاء والطهارة والصفاء في روحك ، وتستحق عندئذ الجنة . وبعض المؤمنين بالقرآن وإرشاداته يقولون إن الإسلام لا يهدف إلى أن يستحق الإنسان الجنة ، إذ أن تطهير الروح في حد ذاته هدف لكل مذهب ودين ، فقد ظهرت عشرات الأديان في الدنيا ، وكل واحد منها هدف إلى إرضاء الإله ، أو الله ، وإلى تطهير الروح ، والإسلام ليس كعامة الأديان ، بل على العكس من ذلك ، الإسلام نوع من التحدي للأديان ، إذ أن المذاهب والأديان الأخرى تتسم بقدر كبير من ضيق الأفق ، لدرجة تجعل الدين أمراً لا يقبله المثقفون والمفكرون ، والأديان الأخرى لا تسمح بالبحث العلمي ، وهكذا اضطر الباحثون العلميون إلى تبني أسلوب ينم عن عدم رضاهم عن الدين ، وبالتالي ظهرت " العلمانية " إلى حيز الوجود ، وأصبحت مخالفة الدين بمثابة " تقليعة " من التقاليع . والحقيقة أن هذا السلوك ليس ضد الدين نفسه ، وإنما ضد " محتكري " الدين الذين يتصورون أنفسهم " حماة " له ، فيصدرون أحكاماً من عند أنفسهم بأن افعل هذا ، ولا تفعل هذا ، وأن التفكير ذنب ، والبحث كفر ، وأعلن العلماء والمفكرون المسيحيون صراحة أن الدين أكبر عقبة في طريق التطور ، فقال علماء الغرب إن :
1 – الدين لا يسمح للأطفال بالتفكير المبني على العقل .
2 – الدين يزرع الخلاف بين الناس .
3 – الدين عدو السلام .
4 – الدين ليس إلا دوامة من العقاب والثواب .
يقول مفكرو الغرب إن الإنسان في عصرنا وصل إلى مرحلة يطلق عليها المنجمون " مرحلة الأمن والسلام " ، ولهذا يجب علينا أن نقتلع " عفريت " الدين من بيننا ، وهذا الجو من العداوة للدين لم يظهر إلا بسبب " محتكري الدين " الذين يقوى شأنهم ، ويتعاظم يوماً بعد يوم .
العقبة الكئود :
لما قدم الإنجليز إلى الهند في عباءة " شركة الهند الشرقية " (6) شعروا على الفور أن المسلمين هم أكبر عقبة في طريقهم ، واقترحوا في تقاريرهم الأولى برنامجاً للتخلص من هذه العقبة ، من هذه المقترحات أن يتم تشجيع وتقوية الخطباء الجهلة ، ومساعدة " محتكري الدين " ، ومنها أيضاً أن يتم نشر التعليم الغربي في البلاد ، كما يتم إعداد منهج تعليمي تتم من خلاله عملية " غسيل مخ " لشباب المسلمين ، واستمالتهم إلى الأفكار العلمانية .

اللغة :
وكانت أول مشكلة واجهت الإنجليز هي أن اللغة التي يتكلمها معظم أهل الهند تتغلغل فيها اللغة العربية والفارسية التي ظلت اللغة الرسمية أيام حكم " البتهان والمغول " ، وبسبب هذه اللغة كان الارتباط العاطفي لمسلمي الهند قوي للغاية مع فارس والبلاد العربية ، ومن هنا يصبح من الضروري القضاء على هذا الارتباط ، ولن يتأتى هذا إلا بتوطيد أركان اللغة الأردية التي نشأت من خليط من اللغات الهندية المحلية (7) .
وهكذا أيها السادة بدأنا بالأردية حتى وصلنا إلى الإنجليزية ، وأصبح الواقع اليوم أننا لا لغة قومية لنا ، وأصبحت اللغة الأردية التي نعترف بها رباطاً بين أهل البلاد تقف في حالة بائسة خارج مقر الحكومة ووزاراتها وإداراتها (8) ، أما داخل هذا المقر ، وفي أروقة الوزارات والإدارات فإن كل ما حدث هو أن السيد " الأسود " تربع على عرشها بدلاً من السيد " الأبيض " (9) ، وتبين أن السيد " الأسود " أكثر حباً للمنصب من السيد " الأبيض " ، ولا تزال اللغة الإنجليزية هي لغتنا الرسمية ، وأصبح مجتمعنا مجتمعاً طبقياً ، وعاصمتنا عاصمة طبقية ، تحكمها – وبشدة - الدرجات الوظيفية ، وسكانها يعتبرون إلحاق أبنائهم بالمدارس الأردية أمراً يتنافى مع مكانتهم ، والأولاد ينظرون باحتقار إلى " الثانوية العامة " (10) ، ويتمنون دراسة ( O . Level – A . Level ) في مدارس اللغات والمدارس الأجنبية ، ومدارس اللغات عندنا تنتشر بشكل مبالغ فيه مثلما تنتشر الفراشات في فصل الأمطار ، وأثمرت جهود السيد " الأبيض " ، فالشباب عندنا ينظرون إلى حضارتهم على أنها أمور لا يقبلها العقل ، ويخجلون من دينهم .
الموسيقى :
ولا يقتصر الأمر على الدين فقط ، وإنما يمتد ليشمل كل موروثنا الحضاري ، فيرونه أموراً مضحكة تثير السخرية ، ووصل الأمر بهم إلى درجة أنهم اعتادوا على ترديد الأغاني الإنجليزية ، والتلفزيون عندنا يقدمهم لنا بأصواتهم القبيحة التي لا تعرف لها رأساً من عقب ، ولا تستطيع أن تحدد لها معالم أو ملامح . لقد كانت موسيقانا تعتمد على الطرب واللحن ، وهو ما يؤثر على القلب بشكل مباشر ، أما الموسيقى الإنجليزية فهي موسيقى الإيقاع ، تدفع إلى التراقص بالسيقان ، والجميع يعرفون أن أهل الغرب أنهكوا أنفسهم بهزّ سيقانهم ، وبالرغم من ذلك فإن شبابنا لا يزال يتعلم " هزّ السيقان " .
العصر الذهبي للسلام :
يقول الناس إن " مفتي " متفائل للغاية فيما يتعلق بمستقبل باكستان ، ويرى أن مستقبلها عظيم ورائع ، وستكون باكستان مركزاً للعالم الإسلامي في عصر النهضة القادمة . قال أحد الأساتذة إن " مفتي " يحدثنا عن الأولياء والدراويش . يقول إن " الولي البنّاء " قادم ، وسوف يزخرف باكستان ويجملّها . أيها السادة ، من أكون أنا حتى أدعي مثل هذا القول ، إنهم أسلافنا العظماء الذي قالوا هذا الكلام قبل قرون ، قالوا إن النهضة القادمة ورد ذكرها في الحديث الشريف .
والمنجمون المهرة قالوا هذا قبل سنوات ، قالوا إن هناك مجموعة جديدة من النجوم ظهرت في الأفق ، وهذا ينم عن أن عصراً ذهبياً ستعيشه الأرض قريباً ، وعندها سيحل السلام والأمن والأمان ، والسكينة والاطمئنان ، وهناك حدة في عصرنا هذا ، فيه حركة ، وتسرع ، واضطراب ، وقلق ، ومرارة ، وصراع ، وحروب ومناوشات ، وهكذا فإنه لا يبدو في الظاهر ما يوحي بأن عصراً من السكينة والاطمئنان سيحل على الأرض ، ولكن إذا كنا مقتنعين بما قاله أسلافنا العظمـاء فإن هذا معناه أن مثل هذا العصر القادم لن يكون بفضلنا ، وإنما سيكون رغماً عنا ، وفي مثل هذه الحالة يكون علينا أن نضع في اعتبارنا المؤشرات الدالة على ذلك .
هوامش



1 - في الأصل " بلاؤ كي ديكـ " ، و " بلاؤ " أكلة مشهورة في شبه القارة الهندو باكستانية ، وتعني الأرز " البسمتي " المطبوخ بطريقة معينة مع اللحم أو الدجاج ، أما لفظ " ديكـ " فيعني الإناء الضخم الذي يطبخ فيه لعدد كبير من الأفراد ، وهو يشبه ما يستخدم في مطابخ الجيش ويسمى " أزان " .
2 - لو كان " الدبور " فراشة فعلاً لما ترك أنوار المدينة وعاد إلى الفراشات ثانية ، فالنور يجذب الفراشة إليه ، وتنجذب هي بفطرتها له ، فتظل تطوف حوله ولا تفارقه .
3 - منو من مصلحي الديانة الهندوسية ، وهو أول من حدد طبيعة الطبقات في الديانة الهندوسية ومكانة كل واحدة منها ، وله كتاب شهير في شرح الديانة الهندوسية هو " منو سمرتي " .
4 - دهلي هي المدينة التاريخية المعروفة ، والتي كانت حاضرة الثقافة والعلوم في عهد الحكم الإسلامي لشبه القارة الهندو باكستانية على مدى أكثر من ألف عام ، ثم اتخذت منها الحكومات الهندية المتعاقبة بعد التقسيم عاصمة لها ، وعمرت بجانبها العاصمة السياسية للبلاد ، وهي ما تسمى " نيو دهلي " أو " دهلي الجديدة .
5 - لا أدري هل يصح من المؤلف الاستدلال على قضية كهذه بعلم النجوم ، وما يقوله المنجمون .
6 - شركة الهند الشرقية أنشأتها بريطانيا في الهند عام 1600م في عهد السلطان المغولي جلال الدين أكبر الذي حكم من عام 963هـ / 1556م حتى عام 1014هـ / 1605م من سـلاطين الدولـة المغوليـة العظـام ، والتي حكمت من عـام " 933هـ / 1526م – 1274هـ 1857م ) ، وكان إنشاء هذه الشركة بغرض التجارة ، ولكن لم يلبث شأن هذه الشركة أن تعاظم ، وتغلل نفوذها ، وقوي أثرها في البلاد حتى سيطرت على شبه القارة الهندية برمتها ، واحتلت إنجلترا البلاد عام 1857م بعد سحق الثورة التي قادها آخر السلاطين المغول بهادر شاه ظفر ( توفي عام 1862م ) للتخلص من نفوذ شركة الهند الشرقية هذه .
7 - اللغة الأردية هي اللغة القومية لباكستان ، وإحدى اللغات القومية في الهند أيضاً ، وقد اهتم الإنجليز باللغة الأردية بقصد القضاء على وجود اللغة الفارسية في البلاد ، حيث كانت لغة الثقافة والحضارة الإسلامية ، واللغة الرسمية للدولة المغولية ، ولها مكانة في قلوب مسلمي الهند ، وقد ألغاها الإنجليز من التعامل في المصالح الحكومية في البلاد رسمياً عام 1832م ، أي قبل احتلالهم للبلاد رسمياً عام 1857م . وبالتالي كان تشجيع الإنجليز للغة الأردية تشجيعاً موجهاً للخلاص من مظاهر الحضارة والثقافة الإسلامية في شبه القارة الهندو باكستانية ، وهو ما يقصده الكاتب هنا .
8 - أي أن اللغة الأردية بقيت كما هي خارج الصفوف ، ولم تعترف بها الحكومات الباكستانية المتعاقبة كلغة رسمية للبلاد ، وبقيت اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية في باكستان ، حتى بعد أن شبت باكستان ، وبلغت من العمر أكثر من خمسين عاماً ، لكنها بالرغم من ذلك لم تعترف بالأردية كأداة تعبير رسمية لها ، فإذا تحدث الباكستانيون فيما بينهم قسمتهم اللغات الكثيرة التي رضعوا خليطها منذ الصغر ( البنجابية والسندية والبلوتشية والبشتو ) ، وبقيت اللغة الأردية بمثابة اللغة الاحتياطية التي تلجأ إليها باكستان عند الضرورة فقط ، رغم أن حياة باكستان كلها ضرورات قصوى ، ولا منقذ لها من هذه الضرورات إلا اللغة الأردية ، فلماذا إذاً تصر باكستان على أن تبقى الإنجليزية لغة رسمية للدولة ، بينما لغتها القومية تجري في شوارع البلاد وحواريها وبيوتها حافية القدمين ، حاسرة الرأس ، تحقق التواصل للشعب مع الحياة ، دون أن يجرؤ أحد على أن يتخذ قراراً شجاعاً بإنزالها منزلتها اللائقة بها ، والتي تستحقها عن جدارة ؟!!.
9 - يقصد بالسيد الأسود " الباكستاني " ، وبالسيد الأبيض " الإنجليزي " .
10 - في المدارس الثانوية الحكومية التي تتخذ من الأردية أداة للتدريس بها .