المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الثاني من الباب الحادي عشر من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني (ممتاز مفتي)



إبراهيم محمد إبراهيم
26/11/2007, 08:16 AM
الجزء الثاني من الباب الحادي عشر
طاجن الأرز
المؤشرات :
خذ باكستان على سبيل المثال ، فلقد كافح مسلمو الهند لسنوات طوال من أجل تأسيس باكستان ، لكن الظروف لم تكن مناسبة لذلك في فترة من الفترات ، ولم يكن هناك وقتئذ أمل في قيام باكستان ، فالهندوس لا يريدون تقسيم البلاد ، ويهتفون بحياة الهند المتحدة ، وتآمر الإنجليز مع الهندوس مذ قدموا إلى شبه القارة ، ووقف الهندوس دائماً إلى جانب الإنجليز ، وساعدوهم ، والحقيقة أن الهندوس باعتبار السلوك هم " أفضل محكومين " ، و " أسوأ حكام " .
في مثل هذه الظروف قيّض الله تعالى للمسلمين من يقودهم ، ولا شك أن القائد " محمد علي جناح " (11) كان زعيماً عظيماً ، وقائداً ممتازاً ، لكن اختياره ليقود المسلمين من أجل تأسيس باكستان كان اختياراً غير موفق ، فقد كان " محمد علي جناح " صاحب شخصية راقية ، وملتزماً بالمبادئ والأصول .
أيها السادة ، أخبروني بالله عليكم ، هل استطاع زعيم سياسي ملتزم بالمبادئ والأصول أن يحقـق نجاحـاً في ميـدان السياسـة ؟!!. خاصـة إذا كان في موجهة سياسيين مخضرمين مثل " البانديت نهرو " ، والسيد " بتيل " (12) . لقد كان قيام باكستان معجزة بمعنى الكلمة ، ومع ذلك فإنه مما يلفت الأنظار ويثير الانتباه أننا ، أنا ، وأنت ، كلنا نحاول تحطيم باكستان منذ ثمانية وأربعين عاماً مضت (13) ، فنحن نأكل من هذه المائدة التي أنزلها الله علينا " باكستان " ، مستمرون في التهامها ، وقد أعمانـا الحـرص والطمـع ، وأذهب عقولنـا ، فجعلنا من أنفسنا " فراعنة " في تعظيم ذاتنا ، وأصبحت أصوات " أنا " ، " أنا " ، " أنا " تسمع في كل مكان . إننا نتناحر ، ويحارب بعضنا بعضاً طمعاً في السلطة ، مثلما يتناحر الأطفال من أجل الحصول على لعبة من اللعب ، ولا تزال المائدة ممتلئة طعاماً .
وبالرغم من محاولاتنا المستميتة لم تمت باكستان ، ولا تزال المائدة كما هي بالرغم من جشعنا وشهيتنا المفتوحة على التهامها ، فهناك زيادة مستمرة في أعداد السيارات التي تجري في الشوارع ، والمحلات والأسواق تمتلئ عن آخرها بالبضائع ، ومباني مراكز البيع والشراء ترتفع في الفضاء وتنتشر مثلما ترتفع الفراشات وتنتشر في موسم الأمطار ، ومن الصعب أن تشق طريقك في الأسواق بسبب شدة الزحام ، ومراكز البيع والشراء تزدحم بالوجوه التي تزينها المساحيق ، والعيـون السابحـة في الكحل والإثمد ، والضفائر الملونة بالصبغات المعطرة ، والشفاه الملونة بالطلاء ... بيع وشراء في كل مكان ، وحمى التسوق في ارتفاع متواصل ، والقادمون من الهند إلى باكستان يصيحون فاغرين فاهم : يا إلهنا (14) ، هل هذه بلد أم مهرجان كبير !!!.
بهجة الحياة :
عندما زرت " دهلي " ذهبت لأشتري كاباً عن العلاج بما يسمى بـ " الهميو ببتهي " (15) ، وهناك تقابلت مع سيدة سيخية تمتلئ نشاطاً . سألتني بالبنجابية : جئت من باكستان ، أليس كذلك ؟. أدهشني ذلك كثيراً ، إذ كيف عرفت هذه السيدة أنني جئت من باكستان !!. سألتها : كيف عرفت أنني جئت من باكستان ؟. قالت : تعال نتحدث خارج المحل في ناحية من السوق ، فأنا أستطيع أن أعرف الباكستاني بنظرة على وجهه !!. سألتها : هل أنت ساحرة ؟!. ابتسمت قائلة : نعم . قلت : أخبريني بالسر في ذلك إذاً . قالت : إن من تعلو وجهه ابتسامة ، وتبدو فيه الحياة ، ويمتلئ نشاطاً يكون باكستانيا " وإن تشابه في الشكل من غيره من أهل الهند " . قلت : أنت أيضاً بهذا الاعتبار باكستانية . ابتسمت ، كانت ابتسامتها تنطق بكلام لم تقله .
كانت أسواق " دهلي " مزدحمة ، والمارة يروحون ويغدون ، وعملية البيع والشراء على أشدها ، لكن كانت هناك مسحة حزن تعم المكان ، ولا تلمس فيه تلك الروح التي تلمسها في أسواق باكستان .
ثعابين الأرض السبخة :
وهناك أمر آخر ، فقد كانت المنطقة التي أقيمت عليها مدينة " إسلام آباد " الجميلة منطقة سبخة خربة ، ويمر منها طريقان ضيقان قادمان من مدينة " راولبندي " ، واحد منهما يؤدي إلى منطقة " نور بور " ، والثاني يؤدي إلى منطقـة " سيد بور " ، وكانت " نور بور " و " سيد بور " في تلك الفترة منطقتين سياحيتين ، وقد ساعد على هذا سقوط الأمطار عليهما بكثرة ، وكان لا بد من المرور على المنطقة التي تقع بها " إسلام آباد " حالياً من أجل الوصول إلى " نور بور " و " سيد بور " ، وكانت منطقـة " إسلام آباد " هذه منطقة خربة بور كما قلت ، فلا شجرة ، ولا نبتة ، فإذا ما سألت أحداً من أهل المنطقة لماذا لا يزرعونها ، أجابك بأنها منطقة لا يمكن أن تنبت فيها شجرة ، كما لا يمكن زراعتها ، لأنها أرض سبخة ، وتسكنها الثعابين وحيوان " ابن عرس " . واليوم عندما ترى " إسلام آباد " لا يمكن أن تصدق أنها هي نفسها تلك الأرض السبخة ، إذ تمتلئ أشجاراً ونباتات مستوردة من الخارج .
سادتي ، أخبروني ، أليست هذه معجزة ؟. إنها ليست معجزة واحدة ، وإنما معجزات متعددة ، منطقة سبخة أصبح يطلق عليها الآن " مدينة الورود " ، تنوء أشجارها بأحمال الفواكه ، فيهزها الناس ، ويملأون أكياسهم من فاكهتها ، ومع ذلك لا تزال الأشجار يانعة تتدلى منها قطوف الفواكه ، " طاجن " لا يتوقف الناس عن تناول ما به من طعام ، لكنه لا ينتهي .
طاجن الأرز :
جاء في كتاب " التذكرة الغوثية " أن درويشاً قدم إلى مدينة من المدن ، وبمجرد وصوله إليها قال للناس : أحضروا لي إناءاً ضخماً ، فدهش الناس ، إذ ماذا سيفعل الدرويش بالإناء . على أية حال أحضر الناس بطريقة أو بأخرى إناءاً كبيراً ، فقال الدرويش : اجمعوا حطباً لإشعال الموقد ، وأشعـل الناس الموقد ، فقال الدرويش : ضعوا هذا الإناء على الموقد ، واحتج الناس قائلين : يا سيدنا الشيخ ، ما فائدة أن نضع إناءاً فارغاً على الموقد ؟!. قال الشيخ : لا تجادلوا ، وافعلوا ما أقول لكم . ووضع الناس الإناء على الموقد راغمين .
وفي اليوم التالي كشف الناس الغطاء عن الإناء ، ولشد ما كانت دهشتهم وحيرتهم ، إذ وجدوا الإناء مليئاً بالأرز المطبوخ . قال الدرويش : ابعثوا من ينادي في المدينة ليأت المحتاجون لتناول الطعام في عش الدرويش وقتما شاءوا . وبدأ الناس يتوافدون على كوخ الدرويش ، ووقف الدرويش بجانب الإناء ، يملأ لكل من يأتي طبقه ، وبعد عدة أيام تزاحمت المدينة كلها على الإناء ، ويظل الدرويش يوزع الأرز على الناس طيلة النهار ، وعند الليل يضع الغطاء على الإناء ، وعندما يرفع الناس الغطاء في اليوم التالي يجدونه مليئاً بالأرز كما كان .
وذات يوم جاء أحد الزهاد ووقف أمام الدرويش . قال الدرويش : لماذا تقف محدقاً فيّ هكذا يا سيدي !!. خذ نصيبك من الأرز واذهب . قال الزاهد : أنا لم آت من أجل الأرز ، إنما جئت لزيارتك ، فقد نزلت على المدينة رباً لها ، ونوزع الأرزاق على الناس بلا حساب . قال الدرويش : يا سيدي ، إنه " هو " الرزاق ، وما أنا إلا مقسم فقط ، مجرد مقسم .
سادتي ، إن أحوال باكستان المادية رقيقة للغاية ، والغلاء على أشده ، ومع ذلك أيها الأصدقاء انظروا ، انظروا وتأملوا ، كيف أن محلاً من بين كل أربعة محلات في مدن باكستان يتعامل في الطعام والشراب ، والناس يأكلون ، يأكلون " الكباب " ، يأكلون " الكوارع " و " الكرشة " و " الممبار " ، و " لحم الرأس " ، والإناء ممتلئ كما هو ، الحكام والمسئولون " يأكلون " من جانب ، و " زبانيتهم " يأكلون من جانب آخر ، " المتربعون على كراسي المسئولية " يأكلون من جانب ، و " الشعب " يأكل من جانب آخر ، كلوا يا إخواني ، كلوا ، فهذا الإناء لن يفرغ أبداً .
سادتي ، لو أني قلت أن الإسلام ليس " ديناً " ، فهل تصدقوني !!. لن تصدقوني في الغالب ، لكنكم لو درستم القرآن الكريم لظهر لكم جلياً أنه ليس في الإسلام أمر من الأمور التي توجد بشكل أساسي في كل دين ، الأمور التي تصبغه بصبغة الدين .
هل الإسلام دين ؟!.
1 – لا يوجد دين يهتم بالعقل ، ويعلم التفكر والتدبر ، بل على العكس ، كل دين يطالب بالإيمان به دون معرفة ، ويأمر بأن لا نشك فيه ، وألا نعتمد على العقل ، لأن عقولنا غير ناضجة ، أما الإسلام فهو على عكس كل هذا ، إنه يقول إن العقل نعمة عظمى من الله تعالى ، وعلينا أن نستخدمـه ، علينا أن نفكر به ، نتأمل ونستوعب ، وعلينا ألا نؤمن ونحن مغمضي العينين ، وإذا ثارت الشكوك في قلوبنا لا نكبتها ، وإنما نتفكر فيها ، ونسأل الذين يعلمون .
2 – لا يوجد دين يهتم بالحياة الدنيا ، يقولون إن هذه الحياة سراب ، خدعة بصرية ، فانية ، ولا ينبغي أن نتعلق بها ، لأن الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة . أما الإسلام فهو على عكس كل هذا ، إنه يقول إن هذه الحياة في غاية الأهمية ، وأن الحياة الآخرة " نتيجة " تترتب على هذه الحيـاة الدنيا . إن حياتنا هذه شجرة تتدلى منها ثمرتها في الآخرة ، وكما تكون الشجرة تكون ثمرتها ، وعلينا أن نعيش في هذه الحياة ونتوافق معها ، ونخلق بداخلنا توازناً من أجلها ، وأن نطمئن فيها ، ونطلب العلم ، ونصنع لأنفسنا مكانة فيها ، ونجمع من ثروتها ، ونأكل منها ، ونعطي الآخرين ، أي أن الموضوع كله متوقف على كيف نقضي حياتنا الدنيا هذه .
3 – كل دين يولد التعصب ضد الأديان الأخرى ، كل دين يقول : أنا الصادق ، والآخرون كاذبـون . خذ الهندوسية على سبيل المثال ، يقول أتباعها إن الهندوس فقط هم الأطهار ، أما باقي الأديان ومتبعوها فهم نجس ليسوا أطهار ، ويجب على الهندوس الابتعاد عنهم ، فإذا تناول الهندوسي شيئاً من أيديهم تنجس إيمانه ، ولا يجب أن يقع ظل غير الهندوسي على الهندوسي ، فإن حدث ذلك كان على الهندوسي " التطهر " . أما الإسلام فهو على عكس كل هذا ، إنه لا يعلّم التعصب ضد الأديان الأخرى ، بل يؤكد على احترام عقائد غير المسلمين ورموزهم ومقدساتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم ، ويعطي غير المسلمين حقوقاً متساوية مع المسلمين ، ولا يعدّهم نجساً . يقول المشاهير إنه بناءاً على هذا يصبح من الخطأ أن نعتبر الإسلام ديناً ، لأنه لا يوجد في الإسلام أمر من أمور الأديان " مما تحدثنا عنه " !!.
هل الأمر هكذا ؟!!.
لكنكم ستفاجئون مما سأقول الآن ، وتتساءلون : هل يكون الأمر هكذا فعلاً !!!. فنحن جميعاً رغم أننا مسلمون نجهل هذا الكلام ، حتى وإن كنا نعرفه فإننا لم ننعم النظر فيه أبداً ، وبالتالي لم نفهمه ، على أية حال لقد دهشت بشدة حين قرأت القرآن ، لم تكـن دهشتي من قبيل " هل يكون الأمر هكذا فعلاً !!. " ، وإنما من قبيل " كيف يكون هذا " ، وشلّ تفكيري من شدة الحيرة ، ولا أدري كم من الوقت مضى عليّ وأنا على هذا الحال . ولم يكن هذا بسبب مني أيها السادة ، ولكن كان الأمر محيراً إلى هذا الحد فعلاً ، والحكاية هي أن هدف الإسلام ليس تعليم الإنسانية للأفراد فقط ، أو جعل أبناء طائفة ما داخل المجتمع نموذجاً طيباً للإنسان ، أو الارتقاء بالمسلمين فقط إلى أعلى مستويات الإنسانية ، وإنما هدفه هو الارتقاء ببني الإنسان عموماً إلى أرفع المستويات الإنسانية ، أياً كان الدين الذي يدينون به ، وزرع كل الصفات الإنسانية السامية بداخلهم .
يقول الله تعالى في القرآن الكريم إننا لا نخلق الإنسان فقط ، وإنما نمنح الإنسان الوعي والشعور بمكانته أيضاً ، وأكثر من ذلك أننا نبلغه هذه المكانة أيضاً . ويبدو وكأن الإنسانية والأخلاق والمدنية جزء من الإسلام ، كأنها حواري وأزقة في منطقته ، كأنها شخصية المسلم ذاته . أيها الأصدقاء ، لقد أصاب صديقي " فقير جند " حين قال لي متعجباً : كيف إلهك هذا ، إنه يشكل حزباً خاصاً به من جانب ، ومن جانب آخر لا يمد يد العون لحزبه هذا ، يقصد المسلمين ، إنه لا يقويهم ، لا يشد من أزرهم ، لا يعتبرهم رجاله ، على العكس من ذلك ، ينظر إلى المسلمين وغير المسلمين بعين واحدة ، لا يعلّم المسلمين الهتاف ضد الأديان الأخرى ، ولا يلقنهم دروس التعصب ضـد أحد ، يرزق الجميع ، أخذ على نفسه العهد بتبليغ الإنسانية كلها إلى الهدف المنشود ، ينزّل القرآن على المسلمين ، ويخاطب به الناس جميعاً ، ونبينا الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي كان تجسيداً لأحكام الله وأوامره ، وقرآناً يمشي على الأرض ، ينظر إليه العالم كله على أنه " أعظم إنسان " ، وليس " أعظم مسلم " .
أيها السادة ، إن شئتم الحق لم أستطع أن أستوعب ماهية الإسلام ، لي صديق درس الإسلام بعمق ، ذهبت لزيارته ذات يوم ، وقلت له : يا صديقي ، اشرح لي ما هو الإسلام . ضحك قائلاً : أنا نفسي لم أستطع فهمه ، فكيف أفهمك إياه . قلت : ألم تخرج بنتيجة لكل دراساتك المتعمقة للإسلام !. قال : بلى . قلت : ما هي ؟. قال : أحببت الله ، وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم ، وما عدا ذلك لم أستطع أن أفهمه !!.
تنظيم عجيب
أيها السادة ، إن الإسلام تنظيم فريد ورائع حقاً :
1 – فلا هو مجرد عقائد .
2 – ولا هو مجرد طقوس .
3 – وليس للمشايخ ولا لعلماء الدين فيه مكانة استثنائية ، مثلما هو حال القساوسة والكهنة ومن على شاكلتهم في الأديان الأخرى ، والذين حظوا بأهمية خاصة .
4 – ولا يجيز الرهبنة .
5 – ولا يجيز إيذاء النفس في سبيل إقناع الآخرين ، كما أنه لا يعلّم اعتزال الدنيا والبعد عنها .
6 – على العكس من كل هذا فإن الإسلام يقول عيشوا ، لكن ليس وأنتم مغمضي العنين ، تعلموا منا سليقة الحياة ، ثم عيشوا ، عيشوا بأقصى طاقاتكم ، عيشوا ودعوا الآخرين يعيشون أيضاً .
7 – يقول أئمتنا ودعاتنا إن الإسلام " دستور للحياة " ، وهو ما أسمعه أنا منهم منذ زمن طويل ، لكني لم أكن أفهم معناه ، ولم أسأل أحداً عنه ، وكيف أسأل ، لأنني إن فعلت سيقول الناس كيف تقول عن نفسك أنك من كتّاب الأردية ، ولا تفهم معنى كلمـة " دستور وضوابط " .
أيها السـادة ، هناك كثير من التعبيرات لا أفهمها ، ولكني حفاظاً على ماء وجهي أعتقد أنني أفهمها ، وبينما كنت أقرأ في كتاب من كتب التداوي بما يسمى بالطب " الهميو بيتك : العلاج بالمثل " ، إذ فهمت الأمـر كله ، فلقد كتب ذلك " الدرويش " الألماني " هانمان " (16) قائلاً : " لا تتداوى بالهوميو باتك " ، وإنما عش بطب " الهوميو باتك " .
الفعل والعيش :
وكأن حجاباً زال فجأة من على عينيّ ، وكأن شخصاً ما همس في أذني قائلاً : " بعض الأمور تقال ، وبعضها يعاش " ، أليس كذلك !!. لنفترض أنك تريد أن تقلي بيضة ، فهذا فعل ، ولهذا تضع سمناً في المقلاة ، ثم عندما يسخن السمن تضع البيضة . وهكذا تكون قد أعددت بيضة " عيون " ، ومعها ينتهي الفعل . أما الأمور التي تعاش فإنها لا تنتهي ، لنفترض أنك أحببت سيدة ما ، فتتذكرها بالليل وأنت مستلق على فراشك ، وتتمثل صورتها ، وتزفر زفرات حارة ، وربما تتغنى ببعض الأشعار ، وبعد ذلك لا يمكن أن تفتح كتاباً ما لتقرأ فلسفة " أرسطو " مثلاً . فالعشق يا سيدي ليس فعلاً ، إنما أمر يعاش ، إنه مرض ، إذا أصابك لا يزول عنك صباحاً أو مساءاً أو ليلاً أو نهاراً ، وهكذا الأديان كلها ، عبارة عن طقوس ... أمور تفعل وتؤدى ، تذهب إلى المعبد ، وتؤدي طقوساً بعينها ، وهكذا تؤدي الفرائض الدينية ، وما عدا ذلك فإنك تعود إلى عملك وتنشغل به كما تحب ، وعلى العكس من ذلك فإن الإسلام ليس أمراً يفعل أو يؤدى ، بمعنى أن تؤدي عدة فروض وبعدها تلتفت إلى عملك بسهولة ويسر ، كلا ، الأمر ليس هكذا ، فالإسلام مثل المحبوبة ، يقول : عشني صباحاً ومساءاً وليلاً ونهاراً ، عشني دائماً ، افعل ما أريده أنا ، ولا تفعل شيئاً لا أرضى عنه .
اعتبرني لك :
على سبيل المثال يقول الإسلام أن أقيموا علاقاتكم مع الله ، وأحبوه ، واعرفوه ، واعتبروه منكم ولكم ، مثلما تعتبرون الأخ والأخت والأم والأب والأصدقاء منكم ولكم ، والعلاقة ليست فعلاً ، وإنما سلوكاً واتجاهاً ، والسلوك قائم طيلة الوقت ، ويظل دوماً يدق مثل بندول الساعة .
فإن كنت تظن أنك عندما تقف على السجادة خمس مرات في اليوم لتؤدي الصلاة فإنك بذلك تقيم علاقـة مع الله تكون قد أخطأت الفهم ، فالعلاقة ليست حوض ماء ، إنها نهر ، نهر جار ، فإن كنت تريد إقامة علاقة مع الله فتعلق بإصبعه ، وسر حيث سار ، فإذا ما تناولت طعاماً اجعله بجانبك ، قل له : لقد أنعمت عليّ اليوم بنعم كثيرة ، وإذا ما لعبت " الكريكت " (17) أوقفه بالقرب منك ، فإذا ما ضربت الكرة ضربة ، أحرزت نقطة ، ولن يسألك أحد كيف ضربت هذه الضربة ، وإذا ما أويت إلى فراشك ليلاً اجعله بجانبك ، وقل ما أحسنك يا صديقي ، لقد ساعدتني ورافقتني في كل لحظة ولمحة ، ما أحسنك من رفيق ، سبحان الله .
وهكذا ينبغي أن تكون العلاقة مع الله ، مثلما هي مع الأم ، إذا تعبت لجأت إلى حضنها وقلت : " هدهديني يا أمي ، ربّتي عليّ يا أمي ، فإن في تربيتك عليّ سحر لا أدري ما هو ، إنه يزيل كل آلامي " . وإذا أردت تناول الطعام فاجلس بجانبها على الأرض وليس على " ترابيزة السفرة " ، لأن فيها تكلف ، ولا بد أن تتجنب التكلف ، لأنه إن كان هناك تكلف قام حاجز بينك وبين الأم ، ويبتعد " هو " عنك . وتجنب الترفه والتنعم ، وإلاّ ابتعد " هو " عنك ، فلا تدعه يبتعد ، ولا تجري وراء إمارة ، وإلاّ ازدادت المسافة بينك وبينه كثيراً .
هوامش
11 - محمد علي جناح مؤسس دولة باكستان ، كان من عائلة أرستقراطية كبيرة بمدينة كراتشي ، وعمل بالمحاماة ، فكان محامياً بارعاً ، وقد استطاع العلامة محمد إقبال ، صاحب فكرة إنشاء وطن مستق للمسلمين في شبه القارة الهندية ( باكستان ) أن يقنع محمد علي جناح في تولي زمام أمور المسلمين سياسياً ، ويقود كفاحهم من أجل قيام وطن مستقل لهم ، وهو ما تحقق بالفعل بعد وفاة العلامة محمد إقبال ( توفي عام 1938م ) على يد القائد محمد علي جناح في الرابع عشر من أغسطس عام 1947م .
12 - السيد بتيل سياسي بارع من الساسة الهنود وقت التقسيم .
13 - يقصد منذ قيام باكستان عام 1947م وحتى تاريخ كتابة السطور .
14 - في الأصل بهكوان ، وهو الإله عند الهنادكة .
15 - هوميو بيتك ، مصطلح يقابل مصطلح آلو بيتهك ، وآلو بيتهك تعني العلاج بالطب الغربي ، وهو الطب الرائج لدينا ، بينما يعني مصطلح هوميو بيتهك العلاج بتركيز مستخلصات الأعشاب بنسب محددة توجه أساساً لتقوية مراكز الدفاع في الجسم فتعمل على حماية الجسم مما قد يصيبـه من أمراض ، وتخلصه مما يكون قد أصابه منها ، وهذا النوع من العلاج أقل أضراراً جانبية من نظيره الغربي ، وإن كان أقل سرعة في جلب الشفاء ، ويروج هذا النوع من العلاج في شبه القارة الهندو باكستانية جنباً إلى جنب مع الطب الغربي ، والعلاج بالأعشاب .
16 - مخترع هذا النوع من الطب ، والذي يعتمد أساساً على تقوية مراكز الدفاع في الجسم ، فيعطي أدوية ليست كيميائية ، وبتركيز معين يتناسب مع كل مركز من هذه المراكز .
17 - من اللعبات المعروفة والشهيرة في شبه القارة الهندو باكستانية وبعض دول أوروبا ، وتعد باكستان واحدة من أبطال العالم في هذه اللعبة ، وتؤدى هذه اللعبة بكرة صغيرة ومضرب ، ومن أشهر لاعبي العالم في هذه اللعبة اللاعب الباكستاني المعروف " عمران خان " ، وقد دخل ميدان السياسة بعد اعتزاله اللعبة .