المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الى من تحت الأرض وفوقها (ببيت حانون) قصة "العد تنازلي"



هانى عادل
17/11/2006, 03:14 AM
(( العد .. تنازلي )) (1)
أنا صحفي شاب حين انتهيت من متابعة الفجيعة التي ألمت بأمريكا ووجدت الإعلام العربي يندد و يشجب ويقدم التعازي الحارة , قررت أن أشارك برأيي فيما حدث منددا وشاجبا ضمن قافلة اللطم العربي الذي ترتعد فرائسه .

لكن ما أن بدأ قلمي يتخذ سبيله على تلك الصفحات البيضاء حتى وجدت عليها صورة غريبة أخذت تتمايل وتتلوى حتى ثبتت وتبينتها فوجدتها لطفلة .. طفلة ألبانية صغيرة جميلة الوجه عمرها أحد عشر عام .. وتحركت الصورة فإذا بها تسير وحدها في الطريق تلهو وتلعب في براءة تداعب الأحجار الصغيرة المتناثرة في كل مكان و التي سقطت من المباني المحيطة بها بعد أن دمرتها الحرب , و بينما هي تلهو و تدندن أغنية جميلة ربما حفظتها من والدتها , اقتربت من بعيد أقدام كبيرة ووقفت أمامها .

إنها لجندي طويل القامة يحمل على ذراعه شارة قوات حفظ السلام وعلى الذراع الآخر علم بلادة " أمريكا " .. وقف أمامها يتأملها مبتسما .. ثم فجأة نظر حوله كلص .. وسرعان ما حملها مسرعا إلى بيت قديم متهدم حيث المفر من العيون . و جردها من ملابسها واغتصبها بلا رحمة أو شفقة وهي تصرخ بين يديه . وما أن أشبع شهوته حتى تركها فأخذت تصرخ متألمة من النزيف الحاد الذي اصابها من فعلة .. فعاد مسرعا خائفا من افتضاحه وكتم فمها بيد و باليد الأخرى سكينة حادة كبيرة أكبر من عمرها كله , ذبحها و ألقي بها على الأرض يتدفق من عنقها الصغير الدماء بينما تتألم وتتلوى كفرخ صغير لا تقوى على النطق أو الصراخ .. لتسلم الروح بينما يمسح سكينة الضخمة في ملابسها , و يلقيها نحوها لتطير في الهواء و تغطي جسدها العاري الذي كسته الدماء و بجوارها ذلك الشيء الغريب الذي ظهر فجأة !

(2)
إنها ساعة رملية كبيرة الحجم ذات إطار خشبي أخذت حباتها تتساقط في انتظام و هدوء تام .. و خرج تاركا إياها لي .. تركها أمامي غارقة في دمائها .. وفجأة امتلأت الصفحات البيضاء بلون أحمر قاتم .. إنه دمائها غطى كل صفحاتي و حروفى و كلمات العزاء التي جهزتها لأنافق بلده .. حاولت أن أمسحه ولكن .. لكنه أبى أن يمحى .. لقد غطي يدي .. ملابسي .. كل ما أرتدي . أكاد أسمعة .. أسمعه يناديني .. يحتويني .. يحرق كل بقعه .. كل نقطة في جسدي وقلبي وروحي
-الرحمة .
قلتها صارخا ولكن سرعان ما تحول كل شئ حولي في الغرفة إلى لون أحمر قاتم .. لم يعد هناك باب أهرب منه .. كل الأبواب موصدة .. كل النوافذ مغلقة كل شئ مصمت تماما .. لا مفر .. لا مفر .

ضربت الحائط أين أنا ؟.. أريد أن أخرج .. أريد أن أخرج .. أخرجوني أخرجوني .. وبجواره وقعت على الأرض أبكي بشده .. و لكن بعد لحظات تهدم فوقفت على قدماي أمسح دموعي لأجد أمامي مدخل يملؤه الدخان لم أر من خلاله , فمددت قدماي و عبرته فاحتواني حتى كدت أختنق فأسرعت بالهروب ولكني لم أتبين الاتجاه فتحسست طريقي لأخرج من فخه .. لأجد نفسي في أطلال مكان غريب فنظرت حولي في استغراب و بطئ شديد .. وفجأة صرخت صرخة هزت أرجاء المكان وانزويت فزعا في جانب منه خافيا وجهي تحت يدي وسرعان ما وقعت على الأرض بجوار الحائط ابكي بشدة وعنف دافعا اياه من خلفي أبحث فيه عن مهرب من هذا الألم.

(3)
إنها هي .. إنها تلك الطفلة البريئة .. ذنبها الوحيد أنها مسلمة . بكيت بحرقة وسرعان ما وقعت عيناي على مهرب فخرجت مسرعا هاربا من خوفي ومن ضعفي .. كيف أتيت إلى هنا ؟ كيف أتيت إلى هذا البلد؟ .. لا أعرف.
كل ما أعرفه أنني أخذت أجري وأجري في الطرقات الخالية من المارة في هذا الصباح الكئيب .. ولم أجد أحدا ولكن في نهاية الشارع وجدت ثلاثة من جنود حفظ (((السلام))) .. إنه هو .. إنه ذلك الأمريكي الذي اغتصب الطفلة . يقف حاملا سلاحه مع جنديين آخرين مثله . عبر من أمامهم فتاتان غطى رأسهن و جسدهن الحجاب وما أن رأوا الجنود حتى أسرعوا الخطى بينما ظل الجنود ينظرون لبعضهم البعض يتضاحكون و تتفرس عيونهم جسد الفتاتين .. وعندما لم يجدوا في النظرات إرضاء لشهوتهم أسرعوا خلفهن .. وسرعان ما وقف أحدهم أمام الفتاتين وهن يحاولن تفاديه منكسرات الرأس ليأتي أحد الجنود يتحسس جسدهن من الخلف وهن يبعدن يده ليمد آخر يده و يفعل من الأمام .
(4)
ظلوا على هذا الحال قرابة العشر دقائق , حتى أخذت كل منهن تبكي بشده .. وفي النهاية تركوهن ليرحلن بعد أن تركوا على كل واحدة منهن أثرا على جسدها .. وروحها ’ ابتعدت الفتيات في سرعة وهن يمسحن دموعهن المنهمرة واستمررن في السير ووجدتهن يبتعدن , وفجأة وبدون مقدمات , توقفت إحداهن ونظرت خلفها نظرت نحوي .. نعم نظرت نحوي بعيون دامعة باكية .. ربما كانت تنظر لأحد خلفي .. ولكني سمعت صوتها يأتي دون أن تفتح فمها :
-نعم أنت .. أنت أيها الضعيف العاجز .. نعم أنظر نحوك أنت.

وتحول وجهها من الغضب إلى نظرة منكسرة يملؤها الدموع وأكملت هي:
-لماذا تركتني .. لماذا تركتنا لهم ووقفت تشاهد؟

واقتربت مني تاركة الأخرى على الأرض تبكي عجزها وهوانها .. تتفحصني في تعجب :
-لماذا تركتهم يفعلون هذا بي .. لماذا.. (وصرخت) لماذا تركتهم ينتهكون عرضي .. لا .. لا .. لقد كانوا يكسرون في كل لمسة من أياديهم القذرة روحك ورجولتك .. لقد كانوا يغتصبون في كل لمسة من أياديهم كل من ينتمين اليك من النساء .

وأمسكت بملابسي بقوة وأخذتني ومشينا خطوات وقالت في عنف :
-هل ترى هؤلاء الجنود .. هل تراهم أيها الأعمى؟
=نعم .. نعم أراهم .
-أنظر إليهم جيدا إذا .. هل تعرف لماذا .. ربما جاءوا إلى بلادك يوما ليقفوا في نفس هذا المكان ولتقف أنت تشاهدهم من نفس هذا المكان ويمر من مثل هذا المكان ..أختك الجميلة أو زوجتك العفيفة ليتحسسوا جسدها وينتهكوا عرضها .. وأنت أيضا ستقف تشاهد في صمت كما وقفت الآن .

وامتدت يدها في الهواء لتمسك بشيء .. إنه تلك الساعة الرملية وأمسكت بها للحظات تنظر لها بعيونها الباكية بينما تتساقط حبات رملها في ثبات .. وسرعان ما وضعتها على الأرض و سكنت هي وتحولت إلى إنسانة ضعيفة منكسرة .
-قل لهم أننا لن نسألكم العون .. ولن نستغيث بكم .
وأخذت تكررها بينما تبتعد لتردد بعدها في بكاء حار:
-لا مغيث لنا إلا .. ..

بكيت بينما هي تبتعد وترفع صاحبتها من على الأرض وترحل بعيدا بعيدا . بعد دقائق رأيت الجنود يسرعون نحوي .. لقد شعروا بي فأسرعت إلى منزل متهدم واختبأت ولكنهم كانوا أسرع منى ولحقوا بي فوقفت داخل المكان بينما وقفوا هم في صمت عند الباب رافعين أسلحتهم في استعداد و تراجعت إلى الخلف في خوف شديد .. وبعد لحظات وجهوا أسلحتهم نحوي وسحبوا أول طلقة بينما ظللت أتراجع إلى الخلف وانطلقت رصاصة .. ولكنها لم تصيبني فقد انهارت أرض المكان ووقعت في حفرة عميقة وظللت أتهاوى .. وأتهاوى .. وأتهاووووووى ..

(5)
.. حتى سكنت في النهاية على كومة كبيرة من القماش الأبيض في مكان ما أشبه بمخبأ تحت الأرض وقمت من مكاني لأجد غلايات كبيرة تملأ المكان .. مكتوب عليها "مستشفى العامرية .. بغداد .. العراق ".. لحظات وانطلقت صفارات الإنذار فوق رأسي بينما تدفق أطفال صغار يسيرون بخطى مسرعة في براءة وهم يبكون خائفون مرتعدون وارتفعت أصوات أزيز الطائرات وهي تقترب.. وتقترب .. وتقترب .. وفجأة سمعت صوت شئ كبير يتهاوى .. إنه قنبلة .. اخترقت المكان وفجرته و تحول المكان إلى ركام وصمت تام .

ما عاد الأطفال يبكون .. ما عادوا يفزعون .. ما عادوا يرتعدون .. لقد ذهبوا حيث الأمان .. لقد تحول المكان إلى سحابة معتمة من الدخان .. وسكن كل شئ فأخذت أبحث حولي في جنون عنهم .. ووجدتهم وجدت حدقات عيونهم على الحائط ورائحة شواء أجسادهم البريئة تملأ المكان وتزكم الأنوف بعد أن رفعت القنبلة التي قذفتها الطائرة الأمريكية درجة حرارة المكان إلى أكثر من ألف درجة مئوية لتنفجر الغلايات في قبو المستشفى ويتحول الأطفال إلى أشلاء .. ما زلت أسمع أصواتهم حولي وهم يبكون .. ما زلت أسمعهم وهم يئنون .. ما زلت أسمعهم يصرخون .. ما زلت .. ما زلت .. وها أنا الآن أشم رائحة شواء أجسادهم وأرى أشلاءهم المتناثرة هنا وهناك وها هي حدقات عيونهم البريئة على الحائط تنظر لي .. يا ربي إنها تبكي .. إنها .. إنها تبكي وتذرف الدمع .. أتبكي ضعفك أم عجزي ؟!!!!

جلست على الأرض أضربها بيدي أتمنى لو تنشق وتبتلعني .. ورأيت يدا صغيرة على كتفي تربت في حنو .. نظرت نحو صاحبتها لأجدها فتاه صغيرة جميلة الوجه تحمل في يدها تلك الساعة الرملية و أعطتها لي وهي تنظر لي في براءة .. وتركتني وذهبت بعيدا وهي تداعب الأرض بقدمها في فرح .. وسرعان ما ابتعدت لتتحول إلى سراب وهي تلوح لي مبتسمة .. ويحتويها دخان انفجار قوى أسرعت نحوه لأنقذها منه ولكنى وقعت على الأرض بعد أن تلاشى كل شئ وبجواري تلك الساعة الملعونة التي استمرت حباتها في التساقط في ثبات فأخذتها ورميتها بكل قوة بعيدا عني وجلست مستندا إلى الحائط أبكي وثقلت رأسي فألقيتها على صدري .

(6)
رفعتها لأجد نفسي على سرير صغير في مستشفى عراقي حيث جاء الأطفال المرضى من كل حدب وصوب فقمت من مكاني وأخذت أسير بين الأََسرة أتنقل من عيون طفل أصابه السرطان إلى آخر ولد مشوها إلى رجل أصابه الإشعاع بالهزال والضعف .. إلى عيون أم تبكي ابنها أو زوجها أو ضعفها وهوانها .

صوت الألم يصم الأذان .. رائحة المرض تزكم الأنوف .. على يميني على يساري .. صفوف متساوية من المرض والألم والقهر والذل .. ترمقني عيونهم جميعا بنظرة غريبة .. تمنيت لو قالت لي شيئا لا أن تنظر لي تلك النظرات التي أشعر وكأنها سهام تخترق خلجات صدري .. لم أتحمل ما أرى وأسمع فأسرعت إلى باب العنبر وقبل أن أفتحه أمسك بيدي رجل عجوز أكل المرض جسده وربت على كتفي وأعطاني تلك الساعة الرملية فأمسكتها فضغط على قبضتي بقوة وتركني وعاد إلى سريره .. ففتحت الباب والغضب يملأ صدري أنفثه مع كل زفير يخرج منه و كأنه يخرج من جوف بركان غاضب ما عاد يقوى على الصمت.

(7)
خرجت لأسير بخطوات قوية تدك الأرض دكا تحت ضوء الشمس الحارق بين تلك الطرقات التي كتب على أسوارها الموت لإسرائيل واليهود .. لأجد نفسي أمام المسجد الأقصى وأمام أسواره وقد اصطف المسلمون تحت أقدام جنود ابليس .. هذا يضرب شاب بعصاه وهذا يكسر فك رجل وهذا يسحق امرأة بحذائه الضخم وهي ملقاة على الأرض .. ظللت أسير في طريقي بكل قوة أشاهد أمامي ما يحدث ولا أقف فما عاد الوقوف ينفع أو يفيد حاملا في يدي تلك الساعة لأصل إلى سور كبير وأعبر بوابته .

(8)
لأجد نفسي في الشيشان حيث جلس جنود من الروس في مصنع كبير متهدم يربطون رجل مسلم في كرسي وبجواره ابنه وأمام عينه زوجته وطفلته يغتصبونهن في وحشية وهو يصرخ طالبا الرحمة .. وظللت أسير ومع كل خطوة تزداد قدماي على الأرض ثباتا وقوة .. ويزداد مرجل الغضب في صدري حرارة وعنفا ووصلت إلى درجات سلم في نهاية المكان ..

(9)
ونزلت لأجد نفسي في مكان كبير حيث جلس رجال ذوي ياقات بيضاء يرتدون الملابس الفاخرة أمام أجهزة الكمبيوتر التي تتراقص الأرقام على شاشاتها وترتفع الرسوم البيانية و تنخفض .. وعلى الجانب الآخر أجهزة التليفزيون الضخمة التي ظهر على شاشاتها هي الأخرى أجساد أطفال وبشر أقرب إلى هياكل عظمية أكلهم الجوع وامتص قوتهم وأرواحهم .. وعلى هذه الشاشة في جانب آخر عمال سفينة يلقون بالقمح في عرض البحر .. إنه مركز التجارة العالمي في أمريكا .. ظللت أسير بين جوانب مكاتبة وغرفة ونزلت على سلم صغير واتجهت نحو باب الخروج بخطى ثابتة أمسك بالساعة الرملية رافعا إياها عاليا - اقتربت من نهايتها - وعلى مكتب الأمن عند باب الخروج من المبنى وضعتها بعنف شديد بينما أخذ الحراس ينظرون لي في دهشة واستغراب ..
ظللت سائرا دون أن ألتفت خلفي ..
وللحظات تحول كل شئ حولي إلى الحركة ببطيء شديد..
وعند آخر ذرة في الساعة الرملية ..
سمعت دوي انفجار شديد ..
سقط كل شئ .. وتحول إلى ركام ..
و احتواني التراب كما احتوى المذعورين الهائمين على وجوههم في فزع .. واحتوى الساعة الرملية التي انقلبت وعادت حبات رملها إلى ..
التساقط في ثبات.
هانى عادل

من المجموعة القصصية ((الانسان حجر على رقعة شطرنج))

الشربيني المهندس
23/11/2006, 10:20 PM
الاستاذ هاني يجوب مسرح الدنيا يمينا ويسارا ساحبا انفاسنا مع دراما واقعية تماما وليست خيالا علي ورقات بيضاء
وقبل اسدال الستار يبرز السؤال
هل نلمح املا مع اقلاب الساعة ..؟

هانى عادل
26/11/2006, 01:52 PM
شكرا استاذي على اهتمامك .. وعلى تعليقاتك التي ترشدنا في طريق الأدب ..
تحياتي ,,,,

ايناس حمدي
19/01/2007, 05:45 PM
قصة رائعة واسلوبك في الكتابة شيق جداً ... اقترح عليك ترجمتها الى اللغة الانجليزية .
خالص تحياتي وتقديري

ايناس حمدي
19/01/2007, 10:27 PM
أستاذ هاني عادل
اقترح عليك المشاركة بمسابقة نجلاء محمود محرم 2007
http://www.arabswata.org/forums/showthread.php?t=5513
وان شاء الله يكون المركز الاول من نصيبك .

نجوي الشيخ
27/08/2007, 11:21 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يا الهي لم اكن ان اتخيل أن للكلمات مثل هذاالتأثيرالمؤلم. ربما لأنني من أولئك الذين يتجرعون مرارة هذا الألم. سرد رائع.
نجوي من غزة

حنين حمودة
27/08/2007, 07:53 PM
قلمي وسط دواة الحبر غاص
ثم غاص، ثم غاص
قلمي في لجة الحبر اختنق
وطفت جثته هامدة فوق الورق
روحه في زبد الاحرف
ضاعت في المدى
ودمي في دمه ضاع سدى
احمد مطر
ترى حين تفجر الدنيا وتقلب الساعة
هل سنقلب ايضا؟
هل سنراها .. نخوة المعتصم؟
تقديري

هانى عادل
04/09/2007, 02:25 AM
اخواني الاعزاء
شكرا لردكم الكريم على عملي المتواضع
تحية اعزاز وتقدير لكم