المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أيـامي (الفصل الثالث)



هشام آدم
12/12/2007, 09:27 AM
العودة إلى أرتكاتا
- ألماس وقضبان حديد -
__________________________________________________ __________


بعد عودتنا إلى توليدو، بدأ مانويل أوليوس - صديق والدي وزوج السيدة شارلوت كوربن، الفضولية التي رافقتنا في رحلتنا إلى كوينكا - بعمل الإجراءات الضرورية لسفرنا إلى أرتكاتا حيث ينتظرنا والدي هناك. وكان إخلاص أوليوس لوالدي سبباً في أن يحرص على إيجاد حجزٍ لنا على متن طائرة ستقلع في اليوم التالي مباشرةً، في حين تحدث الآخرون عن امتلاء المقاعد على الرحلات الجوية تلك الأيام بسبب عودة الآلاف بعد انقضاء الإجازة والاستعداد لموسم المدارس. لا أستطيع أن أحدد علاقتي بالطيران بشكل قاطع، فأنا لا أخاف الصعود إلى الطائرة، ولكنني أشعر بالتوتر لحظة الإقلاع. كما أنّ هنالك سبباً آخر يجعلني لا أملك الجرأة الكافية لإعلان خوفي من الطيران صراحة، وهو أنني أخاف من الشعور بالعجز. لن يتبقى لي غير المشي على الأرض إذا أضفت على رهبتي من الماء والسباحة، رهبةً أخرى هي رهبة الطيران. على أي حال، فأنا لا أركب الطائرات كثيراً. ولكنني أستطيع أن أحدد علاقتي بأوليوس الذي لم يعجبني إخلاصه بتلك الطريقة المتعجلة، فقد كانت لي رغبة بالمكوث في توليدو لفترة أطول.

يناسبني الجو الملاحي العامر بالفخامة: الإشارات والرسومات الضوئية، وأصوات الرنين التحذيرية، وأقمشة المقاعد الوثيرة، وأرضيات الطائرة المكسوة بسجاد أحمر لم تلمسه الأقدام العارية. يخيّل إليّ أن ملاحي الطائرة يجدون متعة في المشي على تلك السجاجيد حفاة بعد انتهاء كل رحلة. ما لا يعجبني في الطائرة: الوجبات التي يقدمونها لا سيما على متن الرحلات القصيرة. تذكرني بالوجبات التي تقدمها المستشفيات أو تلك التي تتناولها جوانيتا عندما تتبع حِمية غذائية، كلما أحست بسمنة مفرطة. وكانت لا تحس بذلك إلا عندما تضيق عليها ملابسها.

في تلك الليلة، ودعتني توليدو بطريقة احتفالية خاصة جداً جعلتني أضيف إلى قائمة الأشياء التي أخشاها اسماً جديداً عندما طلبت مني أمي باعتمادية كبيرة أن أشتري لها عسلاً من إحدى المتاجر القريبة. كانت تخطط لأن تحمله هديةً لوالدي الذي يعشق العسل كالدببة السمراء الأسترالية. ولأنها كانت على قناعة كاملة بأن عسل أرتكاتا مغشوش ومزيد بالماء فإنها كانت ترى أن خير هدية تحمله لأبي من توليدو هي رطلان من العسل الطبيعي. كنت أتساءل دائماً ما الذي يعجبها في والدي، لدرجة تجعلها تفكر في إهدائه عسلاً !

هشام آدم
12/12/2007, 09:29 AM
بخطوات مسئولة ومعتدة خرجت من البيت حاملاً معي وعاءً ذو غطاء خاص. وفي طريق العودة بعد أن اشتريت العسل الذي وضع لي فيه البائع بكرمٍ جم خلية شمعية من النوع النادر بعد أن أخبرته بأن هذا العسل سوف يذهب إلى أرتكاتا خصيصاً، وفي إحدى التقاطعات رأيت كلباً يقف بشموخ على صخرة هائلة بينما كان يرمقني بنظرات مريبة، وكأنه يحاول أن يقرأ ملامحي غير المألوفة لديه. وعلى طريقة الألمان بادر بهجومٍ غير مبرر، الأمر الذي جعلني أركض بهستيريا كمن يحاول الهرب من صاعقة سماوية من النوع المباغت. لم تكن أرض توليدو صالحة للجري المستقيم، فكانت الحفر والتعرجات التي تثخن الشارع تحول دون أن أفلت من بين أنياب ذلك الكلب النازي.

عندما بدأت أسمع صوت زفيره خلفي مباشرة بوضوح تام، كأنه تنين همجي جائع، عندها بدأ الأدرينالين يرتفع لدي، وأدركت بفطنة الخائف أن وعاء العسل الذي أحمله يثقلني بطريقةٍ ما، فرميته أرضاً لأنجو بنفسي. غير أني سقطت غير بعيد من وعاء العسل الذي كان قد تكسر وجرى على الأرض بتثاقل كأنه جدول من الحِمم البركانية. ما جعلني أشعر بالاستفزاز ، أن الكلب أقفل راجعاً عندما سقطت أرضاً دون أن يبدي أدنى مشاعر متأسية أو حتى دون أن يعض قدمي. لم أعرف عندها سبباً منطقياً لمطاردته لي طالما لم يكن العض في نيته! الأمر الذي كان أكثر واقعية هو أنني نجوت من عضة الكلب، لأقع ببلاهة بين يدي أمي التي لم تغفر لي سكبي للعسل أرضاً وكسري للوعاء الثمين، كأنها لم تكن لتبالي لو أن ذلك الكلب الهمجي التهم جزءاً من قدمي في مقابل أن أعود إليها بوعاء العسل. لم يعجبني أسلوبها البراجماتي هذا أبداً، واكتفيت بنظرة معاتبة لها وأنا أقول "المهم أنني عدت إليك سليماً"

أمي بسذاجة نساء عصر النهضة، تعتقد أن الأبناء مجرد مظهر اجتماعي. لذا فقد كانت تفعل ما بوسعها لتثبت للجميع بأن أبناءها هم الأكثر تهذيباً والأقل مشاغبة. لم يكن ذلك سلوكاً فردياً، بل كانت تعاليم والدي الصارمة في الحقيقية هي الجانب النظري الذي تعتمد عليه في كل ما تقوم به دائماً. وهي "أي التعاليم الأبوية" بدورها مستقاة من نهج أسري قديم جداً يجعل الأبناء سلعاً للعرض وليست للاستهلاك.

هشام آدم
12/12/2007, 12:14 PM
والدي الذي استقام مؤخراً، أحس برغبة ملحة في إنشاء أسرة محافظة، فكان له ذلك. ولكم كانت تعجبني دقة والدي في عمله. حتى على المستوى التناسلي؛ فقد أنجب من أمي ستة أبناء، حرص على أن يجعل بين كل اثنين سنتين، وبين كل أربعة أربع سنوات. ولا أعلم كيف استطاع أن يحدد ذلك بكل دقة! غير أن هذه المزاجية التناسلية العالية والمنظمة لدى والدي كانت تروق لي كثيراً.

لم تحظ أمي بكفاية من التعليم. عندما أبلغها الجد مانويل إميليو هاتفياً بخاطب يطرق بابها، بينما كانت تقضي عطلتها المدرسية في الريف الفرنسي لدى خالتها الجدة تريسا بيلي. وربما كانت جذور أمي الفرنسية سبباً في احتفاظها باللون الأبيض المائل إلى الصفرة، بينما كان والدي كبقية النوركيين ذو بشرة حنطية مشوبة بالحمرة الهادئة. كانت أمي لا تعرف والدي جيداً عندما تقدم لخطبتها، غير أنها – كما تقول دائماً – كانت تثق بأن جمالها الفرنسي الآخذ كفيل بأن يجذب إليها قلوب الرجال على اختلاف مشاربهم.

وفي إحدى غرف بيت العائلة الصغير بتوليدو كانت ثمة صورة قديمة لوالدي ووالدتي في يوم زفافهما معلقة بعناية على الحائط. يقف فيها والدي وقفة عسكرية ونظرات ساذجة مشدوهة تدل على أنه لم يعتد التصوير الفوتوغرافي، بينما جلست أمي كسيدة بارونية نبيلة بابتسامة دافئة فوق عادية. وبخط يدوي أسفل الصورة على شريط أبيض لاصق كتبت جملة: "حفل زفاف سارجينيو أورفل بودن/ كارول مانويل إميليو – شتاء عام 1971م."

هشام آدم
12/12/2007, 12:16 PM
أمي التي أخيراً توقفت عن البكاء على "العسل" المسكوب، كانت قد بدأت في وقتٍ متأخرٍ من الليل في إعداد حقائب السفر، وبأسلوبٍ توددي كنت أساعدها في ذلك، ربما كان ذلك نابعاً من إحساسي العميق بالذنب لما اقترفته ذلك الصباح. بينما نامت جوانيتا في حضن سوليداد فيدل التي ظلت تراقبنا من فوق سريرها النيكلي دون أن تنبس ببنت شفة. تلك الليلة لم أستطع النوم. تناوشتني مشاعر متضاربة ما بين الحنين إلى غرفتي وقطتي التي صنعت لها تحت سريري سريراً من الكرتون وفرشت عليه لحافاً قديماً استأذنت أمي في استخدامه. كان والدي يكره القطط وما تخلفه من روث وروائح. كان دلالها يثير فيه حنقاً غريباً لم أستطع أن أفهمه. قلت "من لا يحب القطط لا يملك قلباً بشرياً!"

لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي بلغ به ضجره من القطة أن أمسكها ووضعها في شوالٍ من ذلك المخصص لتخزين الفحم الحجري، وأفلتها في مكانٍ بعيد. وكم كانت دهشتي عندما رأيتها بعد ثلاثة أيام تقف على شباك غرفتي الأرضية وهي تمارس المواء المتعب بطريقة معاتبة. كان يبدو عليها الإرهاق والجوع، منظرها ذلك جعلني أشعر بكثيرٍ من الأسى تجاهها وبمثله من الغضب على والدي. كنت أشعر بشفقة عظيمة على تلك القطة التي لم تكن تجيد الإفلات حتى من الظرابين التي كانت دائماً ما تنفخ عليها، ما جعل إحساسي بالمسئولية تجاهها يتعاظم أكثر فأكثر.

هشام آدم
12/12/2007, 12:19 PM
كانت أمي تقول لي دائماً أن أرواح الموتى من الأطفال تتلبس أجساد القطط وتتمثل بهم. وأذكر أنها قصت عليّ ذات ليلة قصة ارتدعت منها فرائصي خوفاً. كانت تقول القصة:

"أن أماً فقدت ابنها ذا الأربع سنوات في إحدى الطواعين التي كانت قد انتشرت وقتها. وظلت حزينة عليه حتى أصيبت باكتئاب حادٍ أصبحت بعده قليلة الخروج من البيت، بينما كانت بدأت اهتمامها بتربية قطة صغيرة عثرت عليها في مطبخها دون أن تعرف من أين أو كيف دخلت إلى هناك. كان يبدو عليها الجوع، فسقتها الحليب وظلت ترعاها وتسلي نفسها بملاعبتها. كانت مشاغبة القطة تشعرها بالمرح الذي افتقدت طعمه منذ رحيل طفلها قبل ما يربو على العام.

ذات ليلة أغلقت السيدة باب مطبخها دون أن تعلم بوجود القطة داخله. وظلت تبحث عنها في كل مكان في أرجاء المنزل. خمّنت أنها قد تكون في مكانٍ ما، وأنها لا بد أن تعود. خلدت السيدة للنوم بعد أن طمأنت نفسها بعودة القطة في ذات الليلة. غير أن حلماً مزعجاً جعلها تستيقظ فزعة وهي تحاول أن تستدرك واقعية ما رأته من عدمه، إذ رأت في منامها أن ابنها يهمس في أذنها وفي نظراته خوف طفولي طازج "أخرجيني من المطبخ يا أمي، أنا محبوس هناك" وبارتياب وقلق باديين، نهضت السيدة بهمة وتوجهت مباشرة إلى المطبخ، وما أن فتحت الباب، حتى فلتت القطة من بين أقدامها مسرعة." ولم تذكر القصة ما فعلته السيدة بالقطة بعد ذلك.