المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ميّسون



غالب ياسين
18/11/2006, 09:25 PM
كان أيمن صبياً عادياً مثل كل أطفال القرية حين يشاغبون و يتصايحون و يوقظون العفاريت في عز قيلولتها .. و هو مثلهم أيضاً حين يلعبون مع الملائكة و يحادثون جنيات الجبال و يُخرجون أبطال قصصهم الصغيرة من أجسادهم الورقية ليسألونهم أسئلة يعجز عنها جنيّ سليمان ..

و بما أن كل لحظةٍ تشكلنا من جديد و تخلقنا خلقاً آخر .. و بما أننا في حقيقة الأمر لا نتكون من خلايا أجسادنا فقط ، بل من تراكم ملايين اللحظات التي عشناها فعاشت فينا خالدةً ما حيينا .. و نظراً لأن الزمن لا يُقاس بمسافاته الطولية بل بعرضه و مساحته التي تمتد بعيداً في ذاكرتنا ، فتصنع ملامحنا و لون عيوننا و شكل أناملنا و أصواتنا الهامسة و صراخنا المرعوب و رعشات أفئدتنا اللاهثة شوقاً إلى شيءٍ ما ربما يأتي الآن أو غداً أو لا يأتي على الإطلاق ..

لهذه الأسباب كلها علينا ألا نهمل ما تعرض له الصبي أيمن حين قابل أقرانه من أبناء جيرانه وهم عائدون آخر النهار من كروم الزيتون فرحين مستبشرين رغم علامات التعب والإرهاق البادية على وجوههم ..

- وين كاينين طول النهار ما شفت حدا فيكم ؟!..
هتف أيمن وهو ينظر باستغراب لحالهم كأنهم عائدون للتوّ من مغامرة شيقة

أجابه صديقه عز الدين بفرح ولهفة :
- كنّا في الكروم بنجمع زيتون .. والله يا أيمن لو أجيت معنا كان كيّفت .. اشتغلنا ولعبنا وأكلنا وسمعنا حكايات و..

قاطعه ابن عمه فادي بسخرية قائلاً
- وليش ييجي معنا ان شالله ؟؟! .. ما يروح مع عيلته يجمعوا زيتون كرمهم اللي بحكي عنو أحسن كرم في البلد !

نظر إليه أيمن غاضباً وقبل أن يرد عليه ، أجابه ابن عمه عز الدين وهو يدفعه بعنف :
- ولك حرام عليك .. ليش هيك بتحكي ؟! .. يعني لو أخد اليهود أرض أبوك زي ما أخدوا أرضهم وضموها للمستوطنة ، بترضى حدا يحكيلك هيك ؟!

- أي روح انت التاني .. هو أنا حكيتله رجع أرضكم من اليهود ؟ .. على الأقل يجمعوا الزيتون تبعهم بلا ما يطيح من عالشجر ويخرب زي كل سنة !

- أما إنك واحد امهوي صحيح ! .. انت مش عارف ان المستوطنين بيطخوا على أي حدا يصل الكروم اللي هناك ؟

- آااه .. يعني خايف اليهود يطخوه ؟؟ .. إحكي هيك من الأول إنو خوييف .. والله لو انها أرضنا كان رحت وماهمني اشي ..

كاد أيمن أن يشتبك مع فادي بسبب حديثه المهين إلا أن عز الدين حال بينهم وهو يهدئ من روعه قائلاً :
- سيبك منو يا أيمن ، هادا واحد هبيلة بعرفش اشي .. صدق أبوه لما قال عنو ناقصه ديل ..

لم يستطع أيمن كتم عبراته وهو يصيح غاضباً موجهاً حديثه لفادي :
- بكرة بس أكبر ويطلع أبوي من السجن ، بتشوف شو بنعمل فيها هاي المستوطنة ..

قاطعه فادي صائحاً باستفزاز مستهزئاً :
- أيوة .. هلأ ببلش يحكيلنا عن أبوه الفدائي اللي لما يطلع من السجن حيحرر فلسطين معو ! .. أي بس تقدر تجمع زيتون كرم جدك بالأول ! .. ولا هاي كمان بدها بس تكبر وتشتري بارودة ومش عارف شو ؟! ..

كان الجميع يعرفون أن أيمن لن يسكت على استفزاز فادي ، خاصةً حين سخر الأخير من أمنياته التي كان يُسرّ لهم بها .. لكن صديقه ناب عنه هذه المرة ودخل في اشتباك بالأيدي واللفظ مع ابن عمه وسط تصايح بقية الصبية الذين انشغلوا في فض الاشتباك .. أما أيمن فقد مضى مديراً لهم ظهره دون أن يكترث للشتائم التي يتفوه بها فادي بحقه وهو يتعارك مع ابن عمه عز الدين .. كان يشعر بالشتائم كأنها سهام مسمومة تنغرس في ظهره وهو يمضي نحو بيته ، إلا أن الجرح الذي في صدره كان أشد ألماً بكثير من سخرية فادي وسبابه ، ورغم أنها كانت سبباً في اتساع ذلك الجرح ، لكنه كان يعرف تماماً من الذي أحدث ذلك الجرح ، ومن هي الجهة المسؤولة عن كل هذا الألم الذي يشعر به الآن ..


- شو مالك ؟ .. هيتك كاين بتبكي؟! ..

تجاهل أيمن سؤال أمه ومضى نحو غرفته مكتفياً بعبارة صغيرة مقتضبة :
- فش اشي ..

نظرت أمه إلى أخته ميسون تحثها على النهوض وهي تهمس :
- روحي شوفي شو صار معو .. إلا في إشي كبير رجعوا هيك بسرعة ..

تركت ميسون الثوب الذي تقوم بتطريزه ونهضت استجابةً لرغبة أمها ولفضولها لتعرف ما الذي حدث لأخيها ، فوجدته ينظر من النافذة نحو الجبل حيث أرض جده .. فقالت مازحة :
- بدك تاكل ؟..

- بديش آكل وحلي عني هلأ ..
صاح أيمن بعصبية في أخته

- طيب بلاش تاكل.. كمان شوي بنحط العشا وبناكل كلنا سوا..

- هسة هادا كل اللي بتفكري فيه دايماً .. أكل وشرب وتطريز وحكي فاضي ؟!

اقتربت ميسون من النافذة حيث يقف أخوها ووضعت يدها على كتفه وهي تقول بحنان :
-هلأ هيك الواحد بحكي مع أخته الكبيرة ؟ .. شو أعملك إذا انت بدكاش تحكي شو مالك؟ ! .. بعدين أنا بفكر وبيهمني اكتير أشياء غير الحكي اللي حكيتو عني ..

قاطعها أيمن بشكل مفاجئ وهو يلتفت نحوها قائلاً
- العريس .. صح ؟..

رفعت أخته حاجبيها دهشة كأنها لم تتوقع منه مثل هذا الكلام ثم قالت :
- شو هالحكي هاد ، وشو اللي خلاك تحكيه .. في أخ يحكي هيك لأخته ؟!

- هسة انتي بتفكيرني صغير وبفهمش الحكي اللي بتحكيه انت و البنات بس تجتمعوا مع بعض ؟

- أنو حكي ؟

- كلامكم كله عن الجيزة .. فلانة انخطبت ، فلانة اتجوزت .. عرس فلانة ابصر شو فيه .. توب فلانة شرتوا ابصر من وين .. هادا غير انك طول النهار نازلة تطريز في هالتوب وبس أسأل إمي بتحكي ..


قاطعته وإمارات الحياء تظهر على وجهها بوضوح :
- هسة مش عيب شب اكبير متلك صار في صف ثاني يتصنت على حكي البنات ؟!

- أنا ما بتصنت .. انتو بتحكو وعاملات حالكن مش شايفيني .. بتفكروني ولد صغير بفمهمش اشي !

- أي لأ عاد .. شو صغير وما صغير .. ومين اللي بدو يقعد مع اعمامك بس ييجوا دار ابو أدهم تايخطبوني .. مش إنت رجال البيت ؟..

- بس ييجوا والله غير أطردهم ..

- يوه !! .. ليش هيك ؟؟ !! .. عحساب إنك كنت بتمدح في أدهم امبارح وبتحكي إنو أحسن شب في البلد !

- ولساتني بحكي عنو امنيح .. بس أخوه فادي مش امنيح ..


لم تكن ميسون بحاجة لأكثر من هذه العبارة لتعرف سبب عودته بهذه الكآبة .. وشيئاً فشيئاً استطاعت استدراجه في الكلام ليخبرها بكل ما حدث ، ثم أخبرها أيضاً عن عزمه الذهاب إلى كرم جده ليحصد الزيتون حتى لو أغضب ذلك أمه .. لم يتراجع أيمن عما ينوي فعله إلا عندما قطعت أخته وعداً بأن تصحبه في الصباح إلى كرم جده المحرم عليهما دخوله حتى ولو خلسة من وراء أمهما ..

- بكرة الصبح إن شاء الله .. اتفقنا

كانت هذه آخر جملة همست بها ميسون لأيمن وهي تغادر غرفته .. إلا أن الأخير جعلها تقف حين هتف مبتسماً :
- وانا بطلت أطردّ دار أبو أدهم لما ييجو يوم الجمعة .. ومنشان عين ميسون تكرم عيون .. مش هيك أبوي كان بحكي ؟..

- الله يفك أسره يارب ..
قالتها ميسون وغادرت الغرفة على عجل قبل أن يرى احمرار وجنتيها خجلاً بسبب ابتسامته الماكرة ..

ارتعش قلب الفتى و أخذ يرتجف نشوة و سعادة حين وطئت قدميه لأول مرة أرض جده .. شعر أنه يريد معانقة كل شيء حوله وأن يُقبلّ الأرض و عصافير السماء و تلك الأشجار التي كان يحلم بلمس فروعها .. حلّق مع الغمام و هتف مع شدو الطيور التي ترف فوق رأسه كأنها تحتفي بقدومه ..


كان يسمع كثيراً عن الحبّ .. كلّ الأغاني التي كان يدندن بها أهل القرية في الأماسي الصيفية كانت تحكي عن الحب .. كل القصائد ، كل الهمسات التي كانت تتناهى إليه ، كل الروايات والحكايا التي سمعها كانت تتحدث عن الحب ..لكنه - ولأول مرة - يشعر بهذا الحب ويلامس معانيه .. فالآن فقط عرف لماذا قضى والده وما يزال كل هذه السنين في سجون الاحتلال ، والآن بدأ يفهم لماذا يُضحي الشهداء بأرواحهم دفاعاً عن أرضهم ويثبت الثابتون على التمسك بها ..


كان يسير وسط أشجارها ويشعر بأنين ثراها يناجيه ..لم يكن يفكر في شيءٍ محدد على الإطلاق .. كل شيءٍ في وجوده كان موضوعاً محتملاً لخياله الرحيب .. كان يستعرض كل ذكرياته و يستعيد كل أحلامه ، يخترع أسئلة لا معنى لها و يحاول أن يجيب عنها .. كان ينشد في أعماقه قصائد ساذجة لم ينشدها أحد من قبل فيشعر بحلاوتها لأنها منه ..

- خلص بيكفي لهون .. يالله نرجع ..

انتشلته عبارة أخته التي نسي في غمرة نشوته أنها تسير بجانبه فهتف راجياً
- أمانة خلينا شوي ..

- لا لا .. بيكفي لهون .. هسة بيشوفونا حراس المستوطنة وبيطخوا علينا ..


فهم أيمن أنه لن يستطيع إقناع أخته بالتقدم أكثر فامتدت يده إلى داخل ثيابه وأخرج من بينها كيساً وهو يقول بإصرار :
- طيب بنرجع .. بس مش قبل مآخد من هاي الشجرة شوية زيتون ..

- أيوة !! .. مشان إمك تعرف إنو رحنا ع الأرض و ..

بترت ميسون عباراتها عندما هتف أخوها برجاء
- ما رح تعرف .. ومين بدو يحكيلها إنو من أرضنا ؟! .. بنحكيلها أعطانا أي حدا ..

صمتت ميسون كأنها تُدير الأمر في رأسها وتدرس جوانبه ثم هتفت بحماس :
- بما إنها صارت وصارت .. تعال ع هديك الشجرة الكبيرة اللي عند قبر جدك .. إمك بتحكي عنها إنها أحسن شجرة في الكرم كلو ..

تسلل الأخ وأخته بين الأشجار للوصول للشجرة المنشودة وعندما شاهدهم حرس المستوطنة أخذوا يطلقون النار عليهما ، فأخذا يركضان إلى أن وصلا الشجرة التي يقصدانها بعد أن بلغ بهما التعب والخوف مبلغهما ، فهتفت ميسون وأنفاسها تتسارع من أثر المجهود :
- شافونا ولاد الكلب وهياتهم بيطخوا تحذيري مشان نطلع من الأرض ..بس هلأ احنا مش امبينين إلهُمّ وفي آمان ..

قاطعها أيمن بشكل مفاجئ وهو يُشير بيده :
- اسمي مكتوب على الحجر !

ضحكت ميسون بصعوبة وهي تقول :
- ولك هادا قبر جدك .. تع نقرا الفاتحة ع روحو ..

بدأ الأخ وأخته يقرأان الفاتحة ، وعندما انتهى أيمن هتف بقلق :
- شو مالك !! .. ليش حاطة إيدك ع بطنك ؟!

أجابته أخته وهي تهز رأسها نافية :
- ولا اشي .. بس حسيت بوجع في بطني من التعب وأنا بركض .. هسة بيروح بسرعة ..

أنهت جملتها الأخيرة بلا اكتراث وبدأت تُزيل بيدها أوراق الشجر اليابسة التي تُغطي معظم القبر ، ثم توقفت فجأة حين تبين لها أن يدها تترك أثرا من الدماء على القبر ، وعندما انتبهت أنها يدها التي كانت تضعها على موضع الألم ، عرفت أنها أُصيبت برصاصة ، فهمست بصعوبة وهي تجلس ببطء إلى جوار قبر جدها :
- الظاهر إني اتصاوبت يا أيمن ..

انتبه أيمن للدماء التي على يد أخته وتلك التي على ثوبها وقد التصق بها التراب وأوراق الزيتون اليابسة ، فشعر بالخوف الشديد على أخته وهو يهتف بجزع ممنياً نفسه بأنها تمزح :
- تمزحيش معي هيك ويالله نروح !!

حاولت ميسون الاستجابة ليد أخيها لتنهض معه ، إلا أنها لم تستطع ، فأفلتت يدها و همست وهي تبتسم بصعوبة كي تهدئ من روعه :
- مش قادرة والله .. استنى ارتاح شوي وبنروح سوا ..

بدأت الأرض تميّد بالصبي وشعر أنه يسقط في هاوية من قلة الحيلة والضعف إلى أن جاءته فكرة الإسراع نحو القرية ليُحضر من يُسعف أخته التي تنزف بغزارة .. فأخبرها بفكرته وبينما يهم بتنفيذها استوقفته وهي تقول بإعياء شديد :
- استنى يا أيمن .. استنى ..

عاد الصبي إلى أخته بسرعة وجثا على ركبتيه وقال وهو يطمئنها :
- لا تخافي يا ميسون .. بروح وبرجع متل الطلق ..

همست الفتاة ترجوه وهي تمسك بيده
- لا ما تتركني لحالي هون .. حاسة إني رح اموت لو مشيت ..

ضم رأسها إلى صدره وهو يرجوها قائلاً :
- مشان الله ما تحكي هيك .. في ناس بتتصاوب بطلقين وتلاتة وما بيموتوا ..

غمغمت الفتاة تقاطعه وقد بلغ منها الإعياء مبلغه
- إحكي لآبوي بس يطلع من السجن انو ميسون كانت بتحبك اكتير ، وخلي إمي تسامحني لأني ما رديت عليها وجبتك لهون .. وانت كمان ما تنساني بالمرة .. بعرف ان أرض جدك غالية عليك .. مشان هيك بس تفتح شباك غرفتك وتشوفها اتذكرني واتذكر إني كنت بحبك .. والله بحبكم كلكم ..

بدأ نحيب الصبي يعلو وهو يرجو أخته أن تنهض معه بعد أن ذهبت كل محاولاته اليائسة في حملها للفشل ، وعندما قرر أن يُنفذ ما عزم عليه سابقاً ، اكتشف أنها لا تتحرك ، وأنه لم يعد يشعر بحرارة أنفاسها في صدره كما كانت قبل لحظات .. صاح بأعلى صوته يهتف باسمها ولكنها لم تُجبه أو تحرك ساكناً ..

عندها فقط عرف أنه لم يسمع صوتها أبدا ، وأن أرض جده إن كانت غالية .. فقد أصبحت أغلى وأغلى