المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفراشات والغيلان الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع



عزالدين جلاوجي
24/12/2007, 09:06 PM
الفراشات والغيلان

ج 3

انجذبنا إلى حلقة الشيخ حيث كان زوج خالتي فقعدنا بجانبـه.
ذكر الشيخ أن الشعوب العظيمة هي التي تصمد في الملمات والخطوب، وهذا الأمر الجلل ليس جديدا على شعبنا العظيم، لقد عرف على مر التاريخ والأزمان هزات عنيفة أشد وأنكى من هذه الهزة، وكان دائما يخرج من ذلك منتصرا بفضل الله وبفضل أبنائه المخلصين.
ليس لنا طريق إلا الشهادة أو الانتصار، ومرحى بالاثنين يا إخوتي، ماأحلى الانتصار مضمخا بدماء الشهداء الأباة الرافضين للذل.. الرافضين عبودية الإنسان لأخيـه الإنسان… العبودية لا تكون إلا لله.
سيكون الانتصار حليفنا بحول الله مهما اشتد تكالب الظالمين وطغيانـهم، صبرا آل كوسوفا فإن موعدكم النصر.
راحت هذه الجملة تتردد في أذني بينما بدأ النعاس يغشاني… وراح جسدي يتخدر… ورأسي يثقل… تمددت بجوار صديقي عثمان على فخذ زوج خالتي ونمت…

-4-
حين انتصف ليلنا الأسود الحزين، بين نعسان ويقظين.. بين نائم وآرقين.. هطلت أمطار غزيرة كأنما السماء اندلقت صهاريجها فأفرغت حمولتـها.
هرع الجميـع وحبات المطر الأولى تلسـع أجسادنا.. أيقظتني مريم التي كانت تنام بجواري ففزعت وفي أذني هرج ومرج وصياح وصراخ، لم أتبين منها إلا بكاء أختي الصغيرة عائشة، وصوت الشيخ يصيح في الجميع.
- احموا الأطفال والعجزة
وهرعنا نحتمي بالعربات والجرارات وبالأغطية البلاستيكية تتكاتل أجسادنا وتتلاحم.. نتبادل حرارة الجلود والقلوب.
وسط العربة تكومنا أنا وخالتي ومريم وزينب وعثمان حتى صرنا جسدا واحدا لا فاصل بين الواحد والآخر.. كنا نحن الصغار في الوسط بينما تحلق الثلاثة الكبار حولنا وغطينا أنفسنا بحائكين وقطعتين كبيرتين من البلاستيك.
نامت عائشة في حضن خالتي الدافئ، وبقيت أنا يقظا أنصت للأمطار تعزف فوق رؤوسنا موال الحزن.. سنفونية الضياع والتشرد..
ولست أدري أكان عثمان قد نام أم هو الآن يتجرع مثلي مرارة هذا الكابوس المرعب.. لا شيء بقي لهذا الصغير.. ضيع كل شيء فكيف ينام؟؟ وهل ينام الصغير إلا في الحضن الدافئ؟؟ في العش الملتهب؟؟
تناهى إلى سمعي بكاء مكتوم.. إنـها خالتي كأنما تخلق الدمع خلقا.. الدمع وحده قادر على التطهير.. الدمع وحده قادر على كبح جماح الانفجار.. صدرها يمور غيظا.. صدرها يتحرق غضبا..
أي بركان تحمله هذه المرأة العظيمة في نفسها؟؟
لك الله أيتـها المرأة العظيمـة !!
أحسست بعاطفة موارة في صدري الصغير.. مددت يدي.. أمسكت في الظلمة يدها.. قربتها من فمي.. طبعت على ظاهرها قبلة طويلة عميقة..
فهمت خالتي الرسالة فقدمتني منـها كما يقدم الطير فراخه.. حركت أصابعها على شعر رأسي فدغدغت أوتار القلب.. وفهمت رسالتـها أيضا
أيـها الليل طل ما شئت..
أيتـها السماء أمطري ما بدا لك..
أيتها الدروب الوعرة تمددي إلى سدرة المنتهى..
في قلوبنا..
في صدورنا براكين التحدي..
في جوانحنا حرارة الاستمرار..
وراح وقع أقدام يقترب منا.. التصـق بعضنا ببعض أكثر من قبل.. سمعت زينب تقول :
– أقدام من هذه التي تضرب في الوحل والماء؟
أمسكتني مريم من رجلي الدافئتين.. فضمتـهما إلى صدرها وقالت:
- أقدام تخيف، فماذا ترين يا خاله؟
ردت خالتي بلهجة الواثق مطمئنة.
- أقدام رجالنا.. لن يصل الأعداء إلى الحريم إلا على جثثهم.
وصلت الأقدام إلينا.. اتضح لي صوت الشيخ، وصوت زوج خالتي.
- أنتم بخير؟ لقد بدأ المطر ينسحب وسيصفو الجو لا تخافوا.
وردت خالتي على زوجها
- نحن بخير.
قال الشيخ مطمئنا
- الحمد لله الجميع بخير، هيا لنعد حيث الرجال.
حين بدأ الفجر يطارد ظلمة الليل نحو الغروب خرجنا من مخابئنا.. لقد توقف المطر.. وبدأ يوم جديد من مأساتنا.
كان المنظر مريعا حزينا.. وجوه متعبة.. عيون مثقلة دامعة.. أجساد مبللة.. لم نكن لنستطيع أن نتحمل جميعا.. ظهر عند الكثيرين سعال حاد وزكام متعب.
وبدأ الجميع يلمون الشعث.. بعد لحظات ستنطلق القافلة.. الطريق مايزال طويلا، ولابد أن نجدَّ لنصل.. نحن الآن في صراع مع الزمن.. ومع المسافة.. ومع عدونا.. ومع أنفسنا.. كثير هم أعداؤنا.
أتظل براكين التحدي تمور في صدورنا موارا حتى نحقق المبتغى ثم ننفجر في أعدائنا شواظا من نار ونحاس.. أم ستخور القوى في الطريق؟
وتذكرت سليمان ابن خالتي أين تراه يكون الآن؟ في أي بقعة من هذه الأرض الطيبة هو؟ ماذا يفعل؟ منذ أن فارقنا وأنا وخالتي النقيضان تماما.. أزداد إعجابا به وإكبارا لشهامته وبطولته.. وتزداد هي حزنا وأسى على فراقه حتى كادت تذوي.. وتحول احمرار وجهها إلى اصفرار مخيف كأنما مرض خبيث ينهش باطنـها.. ولم تبق إلا عيناها تدوران في محجـريها كحبتي زيتون أخضر.
حين أكملنا العدة للرحيل وبدأت العجلات تطلق صريرها إيذانا بالانطلاق ارتفع غير بعيدا عنا عويل نساء يندبن.. جمدنا حيث نحن وهرع الشيخ وبعض الرجال، واشرأبت أعناق البعض تستجلي الحقيقة.. وكانت الحقيقة مرة.
ها هي المأساة توغل في ذبحنا..
تقطع الأوردة والشرايين..
ها هي المأساة تمد أصابعها المعروقة..
مخالبـها المتوحشة..
أذرعها الأخطبوطية..
لقد فارق صبي الحياة، وها هي أمه الثكلي تصيح متحدية وجه المأساة الكالح.
داهم الحزن الوجوه فلبست أقنعة سوداء.. وأطرقت دامعة حزينة تتجرع مرارة الأسى.. وعادت السماء للتلبد من جديد بالغيوم القاتمة فذهبت الشمس وكاد الجو يظلم.
إذن لابد أن نتأخر.. هنا في هذا المكان بالضبط لابد أن نترك أحد أعضائنا.. لابد أن نسلمه للتراب حيث لن ينـهض أبدا.. لن يرى الحياة مطلقا..
وأي بأس في ذلك مادام تراب الوطن هو الذي سيحتضنه بحنو في جوفه وإلى الأبد؟؟ وأي تراب سيحتضننا نحن؟؟ كيف؟؟ ومتى؟؟ وأين نموت؟
لم يستمر انتظارنا طويلا كما كنا نتوقع.. بسرعة حفر قبر صغير تحت شجرة عالية.. بسرعة ووري الصبي التراب.. وصلى عليه الشيخ وبعض الرجال، ثم حملوا أمه الثكلى يدفعونها دفعا، وهي لا تكف عن العويل والنواح..
كانت فتاة في مقتبل العمر ولعل هذا هو مولودها الأول..
وأعطى الشيخ إشارة الانطلاق، فاندفعت القافلة تشق طـريقها نحو الشرق..
الشرق الذي ظل دائما يمثل لنا الجذور الممتدة التي يجب أن تبقى وطيدة قوية.. منـها نستمد وجودنا واستمرارنا..
ولماذا ندفع نحن هذا الثمن الباهظ؟ أليس كما قال الشيخ:
- لأن أعداءنا أرادوا قطعنا عن جذورنا… وإلا فالعقاب هو الموت والتشريد… وماذا يساوي المرء حين ينقطع عن جذوره تماما..؟؟ أو ينتمي إلى جذر أخر.. ليست له نهاية إلا الموت أو المسخ، ولقد ظل أجدادنا على مر القرون يقاومون النتيجتين معا، ويجب أن نستمر نحن على نفس الدرب؟
حين راحت القافلة تشق طريقها، كانت السماء ما تزال ملبدة تكظم دمعا وحزنا، وكان النحيب من الأم الثكلى يرتفع ضعيفا يشبه الأنين، وكنا جميعا في العربة نلوك صمتا قاتلا
إلا مريم الشريدة..
مريم اليمامة المجروحة..
إلا هي كانت تقص مأساتـها..
فاجعتـها …
..قريتنا في الشمال، على منبسط من سهل خصب.. فيها نشأت وتلقيت تعليمي الأول.. رحلت بعدها إلى المدينة حيث أكملت دراستي.. هناك تعرفت على شاب أغرم بي حد الجنون، وبادلته الشعور نفسه.. وماكادت سنوات الدراسة تنتـهي حتى لحق بي ومعه أبوه فخطباني من والدي المزارعين.
كانت فرحتي لا توصف.. لاتحد.. وأنا وهو نحلم ببناء عشنا قشة قشة..
ومنذ أسبوع كان موعد الزفاف.. كان العرس كبيرا، اجتمع إليـه الأقارب والأصدقاء من كل مكان.. بل وكل سكان القرية.. لأول مرة أرى تجمعا من ذلك النوع وذلك الحجم في قريتنا.
كنت ألبس ثيابي البيضاء.. أتـهادى أمامه نورسة تحيطنا عيون المعجين والمحبين، خاصة عيني أمي اللتين كانت الفرحة ترقص مستحمة في بؤبؤيـهما …
وكانت تصوب نحونا عدسات الكاميرات… لا بد لهذا الحفل أن يسجل ليبقى ذكرى نسترجعها كلما أردنا… ولا بد أن يطلع عليـها أولادنا الكثيرون.. كانت هذه رغبة أبيـه الملحة.
- لابد أن تنجبوا كثيرا من الأولاد، ذكورا وإناثا..
كان يريد أن يعوض ما فاته.. ليس له إلا هذا الابن.. ماتت زوجته.. ولما يتجاوز الأربعين وبقي وفيا لحبـها لا يقدر أن يتزوج.. وهو نفسه أشرف على تربية صغيره حتى صار رجلا.. و ها هو يفرح بعرسه.. ويصر على أن ننجب له بنين وبنات.. يملأون عليـه البيت.
وكان أبي يضحك عاليا معجبا بـهذا الاقتراح ويقول:
- أنا أربي نصفا.. وأنت تربي النصف الآخر.
وتتشابك الأيدي وترتفع الضحكات.. لقد تم الاتفاق.. حتى أبوي ليس لهما إلا ذكر أكبر مني سنا.. وآخر أقل مني وأخذ الموت منـهما ولدين.. ثم مرضت أمي فلم تنجب مذ ذك.
حان وقت اللقاء الأكبر.. وقت الخلوة.. الوقت الذي يرمي فيـه كل منا الهموم بعيدا لنبني معا عشا للفرح والحب والسعادة.
بدأ المدعوون يغادرون.. راحت الأصوات تقل وتخف.
ليس في القاعات إلا وجوه قليلة مازالت ترشف الشاي والقهوة..
ومصابيح تشع فوق رؤوسنا مبتسمة تشاركنا فرحنا وحلمنا الجميل.
فجأة انطفأت المصابيح..
دوى الرصاص..
ارتفعت أصوات المستغيثين الخائفين، عاد كثير من المدعوين إلى بيتنا.
الوحوش يحاصرون القرية.. إنـهم جنود الصرب يبتلعون القرية ابتلاعا..
خرجت وحبيبي إلى الحديقة عبر النافذة أحاطوا بالمنزل من كل مكان.. اقتحموه.. قذفوا من رشاشاتـهم حقدا في صدور الرجال والنساء الأبرياء.
أمام عيني سقط أبي وأمي.. وسقط أبوه وفوقهم عشرات النساء والرجال.. دفعنا الفزع إلى القفز على سور الحديقة.. كان الجبل قريبا منا تسلقنا سفحه كأننا فرسين.. أحسسنا بوقع أقدام تلاحقنا.. اشتدت سرعتنا.. لابد أن نفر بحلمنا.. توقف وأمرني أن أواصل العدو ورفضت وأنا التصق بـه.
- حبيبي لابد أن نُـهَرِّب حلمنا الجميل.
- هربيـه أنت.
- بل أنتَ.
- لن أترككِ خلفي..أنت حلمي يا حبيبتي.. إما أن نعيش معا أو يعيش أحدنا في الآخر..
ليس هناك خيار..
وأنت يا حبيبتي الشرف..
وأنت الغد المشرق..
يجب أن تفري.. هيا.. هيا..
ودفعني بقوة فاندفعت أتلفت خلفي.. أذرف دموع الفزع.. أية مصيبة هذه؟ يا رب لماذا تدعهم يقطفون حلمنا الجميل؟
أقدامهم تقترب… نباحهم يقترب… طلقات رصاصهم تقترب… وأنا وحدي أتعثر في فستاني الأبيض.
أقوم وأسقط.. وصلتني صيحة مدوية من حبيبي..
لقد قتلوه..
وأحسست أن الصراع راح يغير مساره نحو الغرب.. وراح وقع الأقدام الغليظة يبتعد عني.. استرجعت أنفاسي لا شيءَ.. الهدوء سيد الموقف.. والليل جدارية سوداء تحاصرني من كل جهة.. صدري يعلو.. يـهبط بقوة.. قلبي يدق بسرعة.. هنا يجب أن أقضي ليلتي.. وبت هناك أسامر حزنا ودمعا.. وارتعاشة طاغية.
حين أشرق الفجر قمت متعثرة متعبة عائدة إلى القرية.. وقفت على مشارفها.. كان جنود الصرب مازالوا يحتلونها.. ماذا أفعل؟ إلى أين سأذهب؟ هل يحرمني هؤلاء الوحوش من رؤية أمي وأبي وإخوتي وأبناء القرية الطيبين حتى وهم جثث هامدة؟
اندفعت إلى الأمام لابد أن أتحدى مهما كانت النتيجة.. ثم جمدت مكاني.. مغامرة وخيمة العواقب هذه التي أقدم عليـها..
وفاجأتني كلابة يد قوية تمسكني من رقبتي
- أنت هنا؟
ارتعدت فرائصي جميعا..
جمدت مكاني..
لم أستطع أن أنظر للخلف لأطل على الوجه..
ابتلعت ريقي بصعوبة، وارتميت في صدره انتحب كالأطفال، فضمني كأني قلبـه يخشى أن يضيع منـه.
ولمن هذا الصدر الدافئ الحنون..؟؟
إنه صدر عمي حِكْمَت، صديق أبي الحميم، وحارس مدرستنا الذي ظل يرعانا ونحن صغار.. وظل يمنحنا الزهور والحلوى والألعاب..
وظل يحبني لأني كنت المتفوقة في دراستي..
وغصت في حضنـه أبكي، وهو يطوق جسدي المرتجف بباقات حبـه.
رجعت إلى نفسي.. سألته في غباء وهو يكفكف دموعي بيديه الحانيتين.
- ماذا فعلوا في أهل القرية يا عمـي حكـمت؟؟
- انظري، لقد هدوا منارة الجامع.. ولقد قتلوا كل من وجدوه يابنيتي.. وهم الآن يحتلون القرية.. يدفنون الموتى في مقابر جماعية.. سيحرقون المعالم.. يهدمون المنازل.. لا أمل في العودة.. لابد أن نفر.. الهجرة هي الحل الوحيد.
واستدرنا دون أن أتفوه بكلمة واحدة.. ورحنا نضرب في الجبال عبر الأراضي الوعرة.. وبعد ثلاثة أيام اكتشفناكم فاندمجنا معكم.
وكانت مريم كالتفاحة الحمراء الطازجة.. وجه مستدير أشرب حمرة، رائعة كالشمس عند المشرق تكتنـز فتنة وعذوبة رغم التعب والإعياء والحزن والسعال الذي بدأ يراودها منذ ليلة أمس.
اندفعت خالتي تشد على أوجاعها، تواسيها في مصابها الجلل قائلة:
- لك الله يا بنيتي، نحن أسرتك الجديدة، ولن تجدي عندنا إلا ماتريدين.
وظللت أنا قابعا في مكاني لا أبرحه.. لا أتحرك قيد أنمله.. أراقب حبات اللؤلؤ تتساقط متلاحقة من عيني مريم العروس.
وعادت بي الذكرى إلى قريتنا..
آه أيتـها الأم المفجوعة بأبنائها..
أيتها الثكلى ابتلعت ما أنجبت في بطنك، وجلست تندبين على ذكراهم.
وألحت صورة عمتي المعوقة على مخيلتي فرأيتـها مُمددة على الأرض والدم يضمخها.. ما بين نهديها وتحت سرتها وقد تعرت من ثيابها.. وترامت جديلتاها ذات اليمين وذات الشمال.. وطبع الموت على شفتيها ابتسامة ألفتـها بـها دائما…
أحسست كأني المقصود بتلك النظرات وتلك الابتسامة فرحت أبادلها ذلك.

- 5 -
صارت الحدود الألبانية على مرمى العين.. وبعدها سنعبر.. وينتـهي السفر … والترحال … والتنقل.
وما ألبانيا هذه؟؟ لست أعرف عنها إلا ما كان يقوله لنا عنها معلمنا.. "بلد صغير يقع على حدودنا.. سكانه إخوان لنا.. لكنهم فقراء ومتخلفون مثلنا تماما.
لم أك مطمئنا أبدا.. لا يمكن أن نجد أرضا آمنة كأرض قريتنا الوادعة، تحتضننا في تحنان وحب.. وتتجاوز عن حماقاتنا وطيشنا.
كان الحزن باد على وجوه الجميع رغم اقتراب الرحلة المرهقة من نـهايتـها.. مددت بصري إلى مقدمة العربة، كانت عائشة تنام وادعة.. تحركت نحوها.. جلست بجوار خالتي.. مدت أصابعها الدافئة إلى خصلات شعري المتدلية على جبيني، ثم طوَقَتْ رقبتي بذراعيـها وأنامتني على فخذها، ثم سألتني.
- محمد ولدي.. هل أنت جوعان؟
ونفيت أن أكون كذلك، وإنما فقط جئت لأتفقد حالة عائشة، وطمأنتني خالتي بأن الرحلة ستنتهي، وإن هي إلا لحظات ونصل الحدود.
وحين نعبر الحدود، هل سنجد بيوتا كبيوتنا التي ألفناها؟؟ فتجمعنا من قر هذا الجو المتقلب وأمطاره التي روت أجسادنا ورؤوسنا كما روت الأرض؟؟
وحين نعبر الحدود هل نجد مدارس نجلس إلى طاولاتـها، ومعلمين نتلقى منـهم العلم والمعرفة؟؟
وحين نعبر الحدود هل نجد دفء الحب يحضن قلوبنا الصغيرة كما تحتضن الأعشاش فراخها؟ ؟
وحين..
هل..؟؟؟
وتذكرت محفظتي الصغيرة لقد أنقذتها من المجزرة.. هي وحدها دون كل ما أملك أنقذتـها.
وسألت خالتي عنـها فأخبرتني أنـها محفوظة مع الأمتعة، وسأحصل عليـها بمجرد أن نستقر، وأكدت لي أنها ستسعى لإرسالي إلى المدرسة لأواصل دراستي وأكون مثل ابنـها سليمان، وجال كثيرا من بلدان العالم.
وأدخلني هذا الوعد فضاءات لا حدود لها من الأحلام الوردية.. لقد نسيت كل متاعبي وهمومي.
حين كنت في قريتنا كان همي الأكبر أن أدرس.. وكانت أمي دائما تلح علي قائلة:
- يجب أن تكون طبيبا لتعالجنا
وكنت أرد مازحا:
- لن أعالجكم حتى تنفدوني كثيرا من المال.
وتذكرت أمي فتلبدت سماء نفسي بالغيوم السوداء، وعاد الحزن من جديد يعربد على وجهي، وفي جسمي الصغير الذي لم يعد يحتمل.
وصلنا الحدود.. وقفنا في عرباتنا نتطلع للآلاف.. الآلاف يقيمون على أرض منبسطة في الخيام.. وفي العراء.. الآلاف يختلفون بين ذكور وإناث.. بين صغار وكبار.. ولكنهم جميعا يربطهم خيط واحد، خيط الحزن والأسى.
لم أكن أصدق.. نحن كثيرون إلى هذه الدرجة؟؟!! من سيأوينا؟؟ من سيقوم على شؤوننا؟؟ أية مدينة ستكفينا؟؟ أين نسكن؟؟ أين سندرس؟؟
بدأ بعضنا يتركون عرباتهم، وينزلون باحثين عن مكان آمن يقضون فيه الليلة.. ومن بعيد قدم الشيخ ومعه بعض الرجال، يطلبون من الجميع التزام أماكنهم، سنتمكن من العبور بسرعة وسهولة، لأننا جميعا نحمل أوراق هويتنا.. السلطات تعطل الذين لا يحملون مثل هذه الوثائق خوف تسلل الجواسيس في الصفوف.. العدو يمكنـه أن يفعل كل شيء.
ودفعني الفضول لأن أسأل زينب عن الأمر
- ولماذا لا يملكون وثائق الهوية.. أنا عندي بطاقتي المدرسية.
وأفهمتني زينب أن العدو قد جرد الآلاف من الناس من بطاقاتـهم حتى تعم الفوضى في أوساطنا، ويتمكن من بث جواسيسه بيننا.
تجمعنا كلنا.. انضمت العائلات إلى بعضها البعض، قام كل رائد بعدِّ أفراد مجموعتـه.. حضر الجميع أوراق إثبات الهوية.. وبدأنا العبور..
العبور على الأرض كان خطوات..
أما في الواقع..
في الذات..
في النفس..
فكان شيئا آخر مختلفا تماما..
كان يعني النجاة من وحشية الصرب وهمجيتـهم..
ولكن الكبار كانوا يبكون مرارة.. الرجال مثل النساء، وسمعت خالتي تقول لزوجها باكية :
ـ اليوم بـهذه الخطوة الصغيرة وقعنا صك موتنا وإلى الأبد..
ماذا نساوي دون أرضنا؟؟
ماذا نساوي دون حضننا الدافئ؟؟
سنعيش أغرابا.. ونموت أغرابا..
تعسا لي يومَ فرطت في أرضي وقريتي وبيتي..
تعسا لي يوم فرطت في ذاكرتي..
الموت خير لي..
خير لنا جميعا.
ولزمت الصمت العميق.. إلى هذا الحد عظيم هو الوطن في نفوس أبنائه.. كل الذين لاحظتـهم يبكون وينتحبون.. كانوا يفعلون ذلك حبا في الوطن.
ورنوت بعيني إلى وجه زوج خالتي.. لاحظت دموعا تتألق حائرة بين جفنيـه، وهو يرد على زوجتـه.
- سنعود.. سنعود.. يجب أن نعود غدا أو بعد غد.. إن كنت لاتثقين بنا نحن الكبار فها هم (وأشار إلي) براعم الأمل.. سيكبرون ويكبر معهم حب الوطن والتعلق بـه.. سنبذر ذلك في قلوبـهم..
في عروقهم..
في كل قطرة دم منـهم..
في كل ذرة من ذرات أجسامهم..
تحرك الجميع.. انتظمنا في طابور طويل.. مثنى.. مثنى.. كنت أمام خالتي أحمل محفظتي فوق ظهري، وكانت ابنة خالتي تحمل عائشة، وقد زال عنها الرعب والهلع، وشفي الجرح بفخذها الأيمن.. أما عثمان فقد كان مع زينب.. ليس معهما وثائق.. اتفقنا جميعا على كذبة واحدة.. زينب وعثمان ولدا خالتي.. وقد نسيا وثائقهما في غمرة الفرار من الموت والجميع شاهد على ذلك.
ولمحت بين رجال الحدود شخصا يشبـه معلمي فاندفعت هاتفا دون أن أشعر.
- معلمي؟
وشدتني خالتي إليـها وأعادتني حيث كنت.
- الزم الصمت والهدوء.. الانضباط ضروري يامحمد.. هذا رجل حدود، أما معلمك فقد.. يخلق الله من الشبه أربعين.
ولم تكمل حديثها إلي..
ماذا تعني خالتي بقولها أما معلمك فقد.. هل عندها نبأ بمقتله؟ ربما… ولماذا أشك أنا في ذلك؟؟ كل الناس هناك قتلوا.. لقد لاحظتهم جثثا متهالكة فوق بعضها البعض.. لقد لاحظت أمي وأبي.. جدتي وعمتي.. ورأيت جثة الإمام في عباءتـه البيضاء، وقد حرَّقوا لحيته، وسلخوا جزء من جلد رأسه.
وزملائي وأترابي الصغار خديجة وصفية.. سلمى والأخـوان عمر وسليمان هل يعقل أن تموت تلك الزهور؟؟ أن تداس لتذوي وتذبل إلى الأبد؟؟ يمكن ذلك قطعا، إن وجوها كالتي رأيتـها لا تستطيع أن تميز بين الأزهار والأشواك.
والأشجار التي غرسناها بمعية معلمنا في فناء المدرسة فتعالت وعرشت ومدت أفنانها نظرة.. أيمكن أن تكون قد أحرقت مع الكراسي والطاولات والخزائن..؟ ومعرض صورنا الذي علقناه حديثا في الباحة؟؟
لاشك أنـهم هدموا الجدران وصارت مدرستي الآن أطلالا.
ما عساني أفعل بـهذه المحفظة التي تثقل كاهلي؟؟ وهممت أن أرميـها بعيدا رغم تذكري وعد خالتي بأنـها ستدخلني وعثمان المدرسة بمجرد أن نعبر الحدود.
غير أن يدا ضخمة امتدت إلى كتفي في حنان، وسحبتني نحوها، إنها يد حارس الحدود.. كان يبتسم لي في حب وعطف وهو يدعوني أن أخطو إلى اللاوطن.
واقشعر بدني وأنا أنتقل من نقطة لأخرى.. آه ما أمرك أيها العبور… وما أحقرك؟؟ !!
وتمت الإجراءات بسرعة.. وجدنا أنفسنا بعدها في العراء.. حشود من الناس.. آلاف على اختلافهم يتربصون عند بوابة مدينة كوكس.
حدد لنا المستقبلون مكانا معينا تجمعنا فيـه كلنا، وبدأنا نحط رحالنا.. نصب زوج خالتي بسرعة خيمة من البلاستيك والأغطية، ثم غادر لمساعدة الآخرين.. وضعت خالتي بعض الأفرشة قصد التمدد عليها، أما زينب ومريم فقد شرعتا في تحضير العشاء.
دغدغ دفء الفراش والغطاء أجسادنا الصغيرة، فاستسلمت أنا وعثمان وعائشة لنوم عميق.

- 6 -
في الصباح زارنا الشيخ.. كان التعب باديا على وجهه والشحوب بدأ ينسج خيوطه على ملامحه لعله لم يذق النوم منذ يومين أو ثلاثة ورغم ذلك كان يفيض حيوية ونشاطا .
استقبلتـه خالتي عند باب خيمتنا وعلى محياها شيء من الابتسامة تحاول أن تظهر من بين سحابات الحزن.. بادرها الشيخ بالسؤال:
- كيف أنتم بنيتي؟
ابتسمت خالتي بوضوح وقالت :
- كما ترى..
ورد الشيخ مقاطعا
- أراكم بخير.. لا أريد أن تتمكن الانهزامية من نفوسكم.. أعظم مانحرص عليه هي روح التفاؤل.. لا بأس.. الكل بخير.. أحوالنا تتحسن، ألم تسمعي؟ لقد بدأ الحلفاء يقصفون دولة الصرب؟ لقد هدموا جسورا وإذاعات ومعامل.. وقتلوا كثيرا من جندهم.. وحتى مقر الطاغية رئيسهم.. ولعلهم سيتدخلون بجيوشهم البرية.. هم مصرون على أن يحقوا الحق.
لم تفرح خالتي بل رأيت ملامحها تعود لعادتـها.. حزن شديد، وعبوس مخيف، وسألتِ الشيخ:
- وهل تعتقد أن الخير يأتي من خارجنا؟؟ نحن الذين يجب أن نصنع مصيرنا ومستقبلنا.. النصر لا يأتي من خارجنا يا شيخ.. وإلا جاء مشوها.
لعل الشيخ أدرك أن خالتي على حق، أو أدرك أنـها صعبة المراس، وأن النقاش معها ليس بالأمر السهل، أو لعله أدرك صدقها فمد يديـه.. حمل عائشة.. ودعانا أنا وعثمان إلى فسحة.
قمت ملبيا أنا وعثمان وفي نفسي سؤال محير أين نتجول؟
بين هذه الجثث المتـهالكة هنا وهناك؟؟
بين هذه الخيم المتـهرئة؟؟
بين هذه المناظر البائسة الحزينة؟
ما بال هذا الشيخ يريد رغم كل شيء أن يتعامى عن الحزن.. عن البؤس.. عن المأساة؟
سار الشيخ وسرنا بمحاذاتـه.. كان يشق التجمعات البائسة، ونحن حوله لا ندري إلى أين يريد.. كنا في طريقنا نرى عيونا باكية دامعة، ووجوها علاها الأسى والحزن.. صفراء مقطبة.
صغار يبكون يسعلون.. وعجزة متكئون.. ومرضى يئنون.. وتمنيت لو أني بقيت حيث كنت قريبا من خالتي، دون أن أرى هذه المشاهد المفزعة التي تزيد قلبي جراحا.
لم يكن الشيخ يمر على أي فرد أو أسرة إلا وينثر في وجوههم شذا ابتسامته الحلوة، ويبث في قلوبهم الأمل بالعودة إلى حضن الوطن.
صعدنا ربوة صغيرة بعيدة قليلا عن الجمع، كأنما كان الشيخ يعرفها من قبل.. وقف فوقها.. وجه وجهه نحو الغرب.. وغرق في تأمل عميق طويل، ولم نك نحن نملك إلا أن نسكت تقديرا لصمتـه.
عصر الشيخ عينيه ماسحا دموعه التي انحدرت فوق لحيته… وتسلل إلى نفسي سؤال حائر.
ما الذي جعل الشيخ ينهار، بعد أن كان حصنا يتصدى لكل الأعاصير؟
طوى الشيخ ركبتيه، ومد ذراعيه على كتفينا أنا وعثمان، ومد سبابته اليمنى نحو الغرب خلف الحدود وقال:
- محمد.. عثمان.. انظرا هناك.. رأيتما تلك القمم الشامخة التي تكسوها الثلوج؟؟
وترامت أعيننا إلى حيث أشار دون أن نفهم قصده.. سكت مليا، ثم واصل:
- ذلك وطننا الذي مازلنا وسنبقى نحمله في قلوبنا أبدا.. نحن لم نهاجر لنبقى هنا.. بل هاجرنا لنعود.. ولن تزيدنا الخطوب والأهوال إلا صلابة وقوة.. والمصائب تزلزل الرجال لتشحذهم
أنتم هم المستقبل أيها الصغار.. وإن لم نعد نحن الكبار، فالدور دوركم، والأمانة سنلقيـها على كواهلكم.
أحسست بالفخر والاعتزاز، وأنا أرى وطني تعانق قممه صفحة السماء..
وأحسست بالفخر والاعتزاز، والشيخ يعدنا من الرجال فيلقي على كواهلنا هذه الأمانة العظمى، وفي الآن نفسه سرى في كياني حزن عميق.. عميق..
ماذا يقصد الشيخ بكلامه إن لم نعد نحن الكبار فالدور دوركم؟؟
يـــــــــــــــــــتـــــــــــــــــبـــــــــــ ـــع

عزالدين جلاوجي
24/12/2007, 09:06 PM
الفراشات والغيلان

ج 3

انجذبنا إلى حلقة الشيخ حيث كان زوج خالتي فقعدنا بجانبـه.
ذكر الشيخ أن الشعوب العظيمة هي التي تصمد في الملمات والخطوب، وهذا الأمر الجلل ليس جديدا على شعبنا العظيم، لقد عرف على مر التاريخ والأزمان هزات عنيفة أشد وأنكى من هذه الهزة، وكان دائما يخرج من ذلك منتصرا بفضل الله وبفضل أبنائه المخلصين.
ليس لنا طريق إلا الشهادة أو الانتصار، ومرحى بالاثنين يا إخوتي، ماأحلى الانتصار مضمخا بدماء الشهداء الأباة الرافضين للذل.. الرافضين عبودية الإنسان لأخيـه الإنسان… العبودية لا تكون إلا لله.
سيكون الانتصار حليفنا بحول الله مهما اشتد تكالب الظالمين وطغيانـهم، صبرا آل كوسوفا فإن موعدكم النصر.
راحت هذه الجملة تتردد في أذني بينما بدأ النعاس يغشاني… وراح جسدي يتخدر… ورأسي يثقل… تمددت بجوار صديقي عثمان على فخذ زوج خالتي ونمت…

-4-
حين انتصف ليلنا الأسود الحزين، بين نعسان ويقظين.. بين نائم وآرقين.. هطلت أمطار غزيرة كأنما السماء اندلقت صهاريجها فأفرغت حمولتـها.
هرع الجميـع وحبات المطر الأولى تلسـع أجسادنا.. أيقظتني مريم التي كانت تنام بجواري ففزعت وفي أذني هرج ومرج وصياح وصراخ، لم أتبين منها إلا بكاء أختي الصغيرة عائشة، وصوت الشيخ يصيح في الجميع.
- احموا الأطفال والعجزة
وهرعنا نحتمي بالعربات والجرارات وبالأغطية البلاستيكية تتكاتل أجسادنا وتتلاحم.. نتبادل حرارة الجلود والقلوب.
وسط العربة تكومنا أنا وخالتي ومريم وزينب وعثمان حتى صرنا جسدا واحدا لا فاصل بين الواحد والآخر.. كنا نحن الصغار في الوسط بينما تحلق الثلاثة الكبار حولنا وغطينا أنفسنا بحائكين وقطعتين كبيرتين من البلاستيك.
نامت عائشة في حضن خالتي الدافئ، وبقيت أنا يقظا أنصت للأمطار تعزف فوق رؤوسنا موال الحزن.. سنفونية الضياع والتشرد..
ولست أدري أكان عثمان قد نام أم هو الآن يتجرع مثلي مرارة هذا الكابوس المرعب.. لا شيء بقي لهذا الصغير.. ضيع كل شيء فكيف ينام؟؟ وهل ينام الصغير إلا في الحضن الدافئ؟؟ في العش الملتهب؟؟
تناهى إلى سمعي بكاء مكتوم.. إنـها خالتي كأنما تخلق الدمع خلقا.. الدمع وحده قادر على التطهير.. الدمع وحده قادر على كبح جماح الانفجار.. صدرها يمور غيظا.. صدرها يتحرق غضبا..
أي بركان تحمله هذه المرأة العظيمة في نفسها؟؟
لك الله أيتـها المرأة العظيمـة !!
أحسست بعاطفة موارة في صدري الصغير.. مددت يدي.. أمسكت في الظلمة يدها.. قربتها من فمي.. طبعت على ظاهرها قبلة طويلة عميقة..
فهمت خالتي الرسالة فقدمتني منـها كما يقدم الطير فراخه.. حركت أصابعها على شعر رأسي فدغدغت أوتار القلب.. وفهمت رسالتـها أيضا
أيـها الليل طل ما شئت..
أيتـها السماء أمطري ما بدا لك..
أيتها الدروب الوعرة تمددي إلى سدرة المنتهى..
في قلوبنا..
في صدورنا براكين التحدي..
في جوانحنا حرارة الاستمرار..
وراح وقع أقدام يقترب منا.. التصـق بعضنا ببعض أكثر من قبل.. سمعت زينب تقول :
– أقدام من هذه التي تضرب في الوحل والماء؟
أمسكتني مريم من رجلي الدافئتين.. فضمتـهما إلى صدرها وقالت:
- أقدام تخيف، فماذا ترين يا خاله؟
ردت خالتي بلهجة الواثق مطمئنة.
- أقدام رجالنا.. لن يصل الأعداء إلى الحريم إلا على جثثهم.
وصلت الأقدام إلينا.. اتضح لي صوت الشيخ، وصوت زوج خالتي.
- أنتم بخير؟ لقد بدأ المطر ينسحب وسيصفو الجو لا تخافوا.
وردت خالتي على زوجها
- نحن بخير.
قال الشيخ مطمئنا
- الحمد لله الجميع بخير، هيا لنعد حيث الرجال.
حين بدأ الفجر يطارد ظلمة الليل نحو الغروب خرجنا من مخابئنا.. لقد توقف المطر.. وبدأ يوم جديد من مأساتنا.
كان المنظر مريعا حزينا.. وجوه متعبة.. عيون مثقلة دامعة.. أجساد مبللة.. لم نكن لنستطيع أن نتحمل جميعا.. ظهر عند الكثيرين سعال حاد وزكام متعب.
وبدأ الجميع يلمون الشعث.. بعد لحظات ستنطلق القافلة.. الطريق مايزال طويلا، ولابد أن نجدَّ لنصل.. نحن الآن في صراع مع الزمن.. ومع المسافة.. ومع عدونا.. ومع أنفسنا.. كثير هم أعداؤنا.
أتظل براكين التحدي تمور في صدورنا موارا حتى نحقق المبتغى ثم ننفجر في أعدائنا شواظا من نار ونحاس.. أم ستخور القوى في الطريق؟
وتذكرت سليمان ابن خالتي أين تراه يكون الآن؟ في أي بقعة من هذه الأرض الطيبة هو؟ ماذا يفعل؟ منذ أن فارقنا وأنا وخالتي النقيضان تماما.. أزداد إعجابا به وإكبارا لشهامته وبطولته.. وتزداد هي حزنا وأسى على فراقه حتى كادت تذوي.. وتحول احمرار وجهها إلى اصفرار مخيف كأنما مرض خبيث ينهش باطنـها.. ولم تبق إلا عيناها تدوران في محجـريها كحبتي زيتون أخضر.
حين أكملنا العدة للرحيل وبدأت العجلات تطلق صريرها إيذانا بالانطلاق ارتفع غير بعيدا عنا عويل نساء يندبن.. جمدنا حيث نحن وهرع الشيخ وبعض الرجال، واشرأبت أعناق البعض تستجلي الحقيقة.. وكانت الحقيقة مرة.
ها هي المأساة توغل في ذبحنا..
تقطع الأوردة والشرايين..
ها هي المأساة تمد أصابعها المعروقة..
مخالبـها المتوحشة..
أذرعها الأخطبوطية..
لقد فارق صبي الحياة، وها هي أمه الثكلي تصيح متحدية وجه المأساة الكالح.
داهم الحزن الوجوه فلبست أقنعة سوداء.. وأطرقت دامعة حزينة تتجرع مرارة الأسى.. وعادت السماء للتلبد من جديد بالغيوم القاتمة فذهبت الشمس وكاد الجو يظلم.
إذن لابد أن نتأخر.. هنا في هذا المكان بالضبط لابد أن نترك أحد أعضائنا.. لابد أن نسلمه للتراب حيث لن ينـهض أبدا.. لن يرى الحياة مطلقا..
وأي بأس في ذلك مادام تراب الوطن هو الذي سيحتضنه بحنو في جوفه وإلى الأبد؟؟ وأي تراب سيحتضننا نحن؟؟ كيف؟؟ ومتى؟؟ وأين نموت؟
لم يستمر انتظارنا طويلا كما كنا نتوقع.. بسرعة حفر قبر صغير تحت شجرة عالية.. بسرعة ووري الصبي التراب.. وصلى عليه الشيخ وبعض الرجال، ثم حملوا أمه الثكلى يدفعونها دفعا، وهي لا تكف عن العويل والنواح..
كانت فتاة في مقتبل العمر ولعل هذا هو مولودها الأول..
وأعطى الشيخ إشارة الانطلاق، فاندفعت القافلة تشق طـريقها نحو الشرق..
الشرق الذي ظل دائما يمثل لنا الجذور الممتدة التي يجب أن تبقى وطيدة قوية.. منـها نستمد وجودنا واستمرارنا..
ولماذا ندفع نحن هذا الثمن الباهظ؟ أليس كما قال الشيخ:
- لأن أعداءنا أرادوا قطعنا عن جذورنا… وإلا فالعقاب هو الموت والتشريد… وماذا يساوي المرء حين ينقطع عن جذوره تماما..؟؟ أو ينتمي إلى جذر أخر.. ليست له نهاية إلا الموت أو المسخ، ولقد ظل أجدادنا على مر القرون يقاومون النتيجتين معا، ويجب أن نستمر نحن على نفس الدرب؟
حين راحت القافلة تشق طريقها، كانت السماء ما تزال ملبدة تكظم دمعا وحزنا، وكان النحيب من الأم الثكلى يرتفع ضعيفا يشبه الأنين، وكنا جميعا في العربة نلوك صمتا قاتلا
إلا مريم الشريدة..
مريم اليمامة المجروحة..
إلا هي كانت تقص مأساتـها..
فاجعتـها …
..قريتنا في الشمال، على منبسط من سهل خصب.. فيها نشأت وتلقيت تعليمي الأول.. رحلت بعدها إلى المدينة حيث أكملت دراستي.. هناك تعرفت على شاب أغرم بي حد الجنون، وبادلته الشعور نفسه.. وماكادت سنوات الدراسة تنتـهي حتى لحق بي ومعه أبوه فخطباني من والدي المزارعين.
كانت فرحتي لا توصف.. لاتحد.. وأنا وهو نحلم ببناء عشنا قشة قشة..
ومنذ أسبوع كان موعد الزفاف.. كان العرس كبيرا، اجتمع إليـه الأقارب والأصدقاء من كل مكان.. بل وكل سكان القرية.. لأول مرة أرى تجمعا من ذلك النوع وذلك الحجم في قريتنا.
كنت ألبس ثيابي البيضاء.. أتـهادى أمامه نورسة تحيطنا عيون المعجين والمحبين، خاصة عيني أمي اللتين كانت الفرحة ترقص مستحمة في بؤبؤيـهما …
وكانت تصوب نحونا عدسات الكاميرات… لا بد لهذا الحفل أن يسجل ليبقى ذكرى نسترجعها كلما أردنا… ولا بد أن يطلع عليـها أولادنا الكثيرون.. كانت هذه رغبة أبيـه الملحة.
- لابد أن تنجبوا كثيرا من الأولاد، ذكورا وإناثا..
كان يريد أن يعوض ما فاته.. ليس له إلا هذا الابن.. ماتت زوجته.. ولما يتجاوز الأربعين وبقي وفيا لحبـها لا يقدر أن يتزوج.. وهو نفسه أشرف على تربية صغيره حتى صار رجلا.. و ها هو يفرح بعرسه.. ويصر على أن ننجب له بنين وبنات.. يملأون عليـه البيت.
وكان أبي يضحك عاليا معجبا بـهذا الاقتراح ويقول:
- أنا أربي نصفا.. وأنت تربي النصف الآخر.
وتتشابك الأيدي وترتفع الضحكات.. لقد تم الاتفاق.. حتى أبوي ليس لهما إلا ذكر أكبر مني سنا.. وآخر أقل مني وأخذ الموت منـهما ولدين.. ثم مرضت أمي فلم تنجب مذ ذك.
حان وقت اللقاء الأكبر.. وقت الخلوة.. الوقت الذي يرمي فيـه كل منا الهموم بعيدا لنبني معا عشا للفرح والحب والسعادة.
بدأ المدعوون يغادرون.. راحت الأصوات تقل وتخف.
ليس في القاعات إلا وجوه قليلة مازالت ترشف الشاي والقهوة..
ومصابيح تشع فوق رؤوسنا مبتسمة تشاركنا فرحنا وحلمنا الجميل.
فجأة انطفأت المصابيح..
دوى الرصاص..
ارتفعت أصوات المستغيثين الخائفين، عاد كثير من المدعوين إلى بيتنا.
الوحوش يحاصرون القرية.. إنـهم جنود الصرب يبتلعون القرية ابتلاعا..
خرجت وحبيبي إلى الحديقة عبر النافذة أحاطوا بالمنزل من كل مكان.. اقتحموه.. قذفوا من رشاشاتـهم حقدا في صدور الرجال والنساء الأبرياء.
أمام عيني سقط أبي وأمي.. وسقط أبوه وفوقهم عشرات النساء والرجال.. دفعنا الفزع إلى القفز على سور الحديقة.. كان الجبل قريبا منا تسلقنا سفحه كأننا فرسين.. أحسسنا بوقع أقدام تلاحقنا.. اشتدت سرعتنا.. لابد أن نفر بحلمنا.. توقف وأمرني أن أواصل العدو ورفضت وأنا التصق بـه.
- حبيبي لابد أن نُـهَرِّب حلمنا الجميل.
- هربيـه أنت.
- بل أنتَ.
- لن أترككِ خلفي..أنت حلمي يا حبيبتي.. إما أن نعيش معا أو يعيش أحدنا في الآخر..
ليس هناك خيار..
وأنت يا حبيبتي الشرف..
وأنت الغد المشرق..
يجب أن تفري.. هيا.. هيا..
ودفعني بقوة فاندفعت أتلفت خلفي.. أذرف دموع الفزع.. أية مصيبة هذه؟ يا رب لماذا تدعهم يقطفون حلمنا الجميل؟
أقدامهم تقترب… نباحهم يقترب… طلقات رصاصهم تقترب… وأنا وحدي أتعثر في فستاني الأبيض.
أقوم وأسقط.. وصلتني صيحة مدوية من حبيبي..
لقد قتلوه..
وأحسست أن الصراع راح يغير مساره نحو الغرب.. وراح وقع الأقدام الغليظة يبتعد عني.. استرجعت أنفاسي لا شيءَ.. الهدوء سيد الموقف.. والليل جدارية سوداء تحاصرني من كل جهة.. صدري يعلو.. يـهبط بقوة.. قلبي يدق بسرعة.. هنا يجب أن أقضي ليلتي.. وبت هناك أسامر حزنا ودمعا.. وارتعاشة طاغية.
حين أشرق الفجر قمت متعثرة متعبة عائدة إلى القرية.. وقفت على مشارفها.. كان جنود الصرب مازالوا يحتلونها.. ماذا أفعل؟ إلى أين سأذهب؟ هل يحرمني هؤلاء الوحوش من رؤية أمي وأبي وإخوتي وأبناء القرية الطيبين حتى وهم جثث هامدة؟
اندفعت إلى الأمام لابد أن أتحدى مهما كانت النتيجة.. ثم جمدت مكاني.. مغامرة وخيمة العواقب هذه التي أقدم عليـها..
وفاجأتني كلابة يد قوية تمسكني من رقبتي
- أنت هنا؟
ارتعدت فرائصي جميعا..
جمدت مكاني..
لم أستطع أن أنظر للخلف لأطل على الوجه..
ابتلعت ريقي بصعوبة، وارتميت في صدره انتحب كالأطفال، فضمني كأني قلبـه يخشى أن يضيع منـه.
ولمن هذا الصدر الدافئ الحنون..؟؟
إنه صدر عمي حِكْمَت، صديق أبي الحميم، وحارس مدرستنا الذي ظل يرعانا ونحن صغار.. وظل يمنحنا الزهور والحلوى والألعاب..
وظل يحبني لأني كنت المتفوقة في دراستي..
وغصت في حضنـه أبكي، وهو يطوق جسدي المرتجف بباقات حبـه.
رجعت إلى نفسي.. سألته في غباء وهو يكفكف دموعي بيديه الحانيتين.
- ماذا فعلوا في أهل القرية يا عمـي حكـمت؟؟
- انظري، لقد هدوا منارة الجامع.. ولقد قتلوا كل من وجدوه يابنيتي.. وهم الآن يحتلون القرية.. يدفنون الموتى في مقابر جماعية.. سيحرقون المعالم.. يهدمون المنازل.. لا أمل في العودة.. لابد أن نفر.. الهجرة هي الحل الوحيد.
واستدرنا دون أن أتفوه بكلمة واحدة.. ورحنا نضرب في الجبال عبر الأراضي الوعرة.. وبعد ثلاثة أيام اكتشفناكم فاندمجنا معكم.
وكانت مريم كالتفاحة الحمراء الطازجة.. وجه مستدير أشرب حمرة، رائعة كالشمس عند المشرق تكتنـز فتنة وعذوبة رغم التعب والإعياء والحزن والسعال الذي بدأ يراودها منذ ليلة أمس.
اندفعت خالتي تشد على أوجاعها، تواسيها في مصابها الجلل قائلة:
- لك الله يا بنيتي، نحن أسرتك الجديدة، ولن تجدي عندنا إلا ماتريدين.
وظللت أنا قابعا في مكاني لا أبرحه.. لا أتحرك قيد أنمله.. أراقب حبات اللؤلؤ تتساقط متلاحقة من عيني مريم العروس.
وعادت بي الذكرى إلى قريتنا..
آه أيتـها الأم المفجوعة بأبنائها..
أيتها الثكلى ابتلعت ما أنجبت في بطنك، وجلست تندبين على ذكراهم.
وألحت صورة عمتي المعوقة على مخيلتي فرأيتـها مُمددة على الأرض والدم يضمخها.. ما بين نهديها وتحت سرتها وقد تعرت من ثيابها.. وترامت جديلتاها ذات اليمين وذات الشمال.. وطبع الموت على شفتيها ابتسامة ألفتـها بـها دائما…
أحسست كأني المقصود بتلك النظرات وتلك الابتسامة فرحت أبادلها ذلك.

- 5 -
صارت الحدود الألبانية على مرمى العين.. وبعدها سنعبر.. وينتـهي السفر … والترحال … والتنقل.
وما ألبانيا هذه؟؟ لست أعرف عنها إلا ما كان يقوله لنا عنها معلمنا.. "بلد صغير يقع على حدودنا.. سكانه إخوان لنا.. لكنهم فقراء ومتخلفون مثلنا تماما.
لم أك مطمئنا أبدا.. لا يمكن أن نجد أرضا آمنة كأرض قريتنا الوادعة، تحتضننا في تحنان وحب.. وتتجاوز عن حماقاتنا وطيشنا.
كان الحزن باد على وجوه الجميع رغم اقتراب الرحلة المرهقة من نـهايتـها.. مددت بصري إلى مقدمة العربة، كانت عائشة تنام وادعة.. تحركت نحوها.. جلست بجوار خالتي.. مدت أصابعها الدافئة إلى خصلات شعري المتدلية على جبيني، ثم طوَقَتْ رقبتي بذراعيـها وأنامتني على فخذها، ثم سألتني.
- محمد ولدي.. هل أنت جوعان؟
ونفيت أن أكون كذلك، وإنما فقط جئت لأتفقد حالة عائشة، وطمأنتني خالتي بأن الرحلة ستنتهي، وإن هي إلا لحظات ونصل الحدود.
وحين نعبر الحدود، هل سنجد بيوتا كبيوتنا التي ألفناها؟؟ فتجمعنا من قر هذا الجو المتقلب وأمطاره التي روت أجسادنا ورؤوسنا كما روت الأرض؟؟
وحين نعبر الحدود هل نجد مدارس نجلس إلى طاولاتـها، ومعلمين نتلقى منـهم العلم والمعرفة؟؟
وحين نعبر الحدود هل نجد دفء الحب يحضن قلوبنا الصغيرة كما تحتضن الأعشاش فراخها؟ ؟
وحين..
هل..؟؟؟
وتذكرت محفظتي الصغيرة لقد أنقذتها من المجزرة.. هي وحدها دون كل ما أملك أنقذتـها.
وسألت خالتي عنـها فأخبرتني أنـها محفوظة مع الأمتعة، وسأحصل عليـها بمجرد أن نستقر، وأكدت لي أنها ستسعى لإرسالي إلى المدرسة لأواصل دراستي وأكون مثل ابنـها سليمان، وجال كثيرا من بلدان العالم.
وأدخلني هذا الوعد فضاءات لا حدود لها من الأحلام الوردية.. لقد نسيت كل متاعبي وهمومي.
حين كنت في قريتنا كان همي الأكبر أن أدرس.. وكانت أمي دائما تلح علي قائلة:
- يجب أن تكون طبيبا لتعالجنا
وكنت أرد مازحا:
- لن أعالجكم حتى تنفدوني كثيرا من المال.
وتذكرت أمي فتلبدت سماء نفسي بالغيوم السوداء، وعاد الحزن من جديد يعربد على وجهي، وفي جسمي الصغير الذي لم يعد يحتمل.
وصلنا الحدود.. وقفنا في عرباتنا نتطلع للآلاف.. الآلاف يقيمون على أرض منبسطة في الخيام.. وفي العراء.. الآلاف يختلفون بين ذكور وإناث.. بين صغار وكبار.. ولكنهم جميعا يربطهم خيط واحد، خيط الحزن والأسى.
لم أكن أصدق.. نحن كثيرون إلى هذه الدرجة؟؟!! من سيأوينا؟؟ من سيقوم على شؤوننا؟؟ أية مدينة ستكفينا؟؟ أين نسكن؟؟ أين سندرس؟؟
بدأ بعضنا يتركون عرباتهم، وينزلون باحثين عن مكان آمن يقضون فيه الليلة.. ومن بعيد قدم الشيخ ومعه بعض الرجال، يطلبون من الجميع التزام أماكنهم، سنتمكن من العبور بسرعة وسهولة، لأننا جميعا نحمل أوراق هويتنا.. السلطات تعطل الذين لا يحملون مثل هذه الوثائق خوف تسلل الجواسيس في الصفوف.. العدو يمكنـه أن يفعل كل شيء.
ودفعني الفضول لأن أسأل زينب عن الأمر
- ولماذا لا يملكون وثائق الهوية.. أنا عندي بطاقتي المدرسية.
وأفهمتني زينب أن العدو قد جرد الآلاف من الناس من بطاقاتـهم حتى تعم الفوضى في أوساطنا، ويتمكن من بث جواسيسه بيننا.
تجمعنا كلنا.. انضمت العائلات إلى بعضها البعض، قام كل رائد بعدِّ أفراد مجموعتـه.. حضر الجميع أوراق إثبات الهوية.. وبدأنا العبور..
العبور على الأرض كان خطوات..
أما في الواقع..
في الذات..
في النفس..
فكان شيئا آخر مختلفا تماما..
كان يعني النجاة من وحشية الصرب وهمجيتـهم..
ولكن الكبار كانوا يبكون مرارة.. الرجال مثل النساء، وسمعت خالتي تقول لزوجها باكية :
ـ اليوم بـهذه الخطوة الصغيرة وقعنا صك موتنا وإلى الأبد..
ماذا نساوي دون أرضنا؟؟
ماذا نساوي دون حضننا الدافئ؟؟
سنعيش أغرابا.. ونموت أغرابا..
تعسا لي يومَ فرطت في أرضي وقريتي وبيتي..
تعسا لي يوم فرطت في ذاكرتي..
الموت خير لي..
خير لنا جميعا.
ولزمت الصمت العميق.. إلى هذا الحد عظيم هو الوطن في نفوس أبنائه.. كل الذين لاحظتـهم يبكون وينتحبون.. كانوا يفعلون ذلك حبا في الوطن.
ورنوت بعيني إلى وجه زوج خالتي.. لاحظت دموعا تتألق حائرة بين جفنيـه، وهو يرد على زوجتـه.
- سنعود.. سنعود.. يجب أن نعود غدا أو بعد غد.. إن كنت لاتثقين بنا نحن الكبار فها هم (وأشار إلي) براعم الأمل.. سيكبرون ويكبر معهم حب الوطن والتعلق بـه.. سنبذر ذلك في قلوبـهم..
في عروقهم..
في كل قطرة دم منـهم..
في كل ذرة من ذرات أجسامهم..
تحرك الجميع.. انتظمنا في طابور طويل.. مثنى.. مثنى.. كنت أمام خالتي أحمل محفظتي فوق ظهري، وكانت ابنة خالتي تحمل عائشة، وقد زال عنها الرعب والهلع، وشفي الجرح بفخذها الأيمن.. أما عثمان فقد كان مع زينب.. ليس معهما وثائق.. اتفقنا جميعا على كذبة واحدة.. زينب وعثمان ولدا خالتي.. وقد نسيا وثائقهما في غمرة الفرار من الموت والجميع شاهد على ذلك.
ولمحت بين رجال الحدود شخصا يشبـه معلمي فاندفعت هاتفا دون أن أشعر.
- معلمي؟
وشدتني خالتي إليـها وأعادتني حيث كنت.
- الزم الصمت والهدوء.. الانضباط ضروري يامحمد.. هذا رجل حدود، أما معلمك فقد.. يخلق الله من الشبه أربعين.
ولم تكمل حديثها إلي..
ماذا تعني خالتي بقولها أما معلمك فقد.. هل عندها نبأ بمقتله؟ ربما… ولماذا أشك أنا في ذلك؟؟ كل الناس هناك قتلوا.. لقد لاحظتهم جثثا متهالكة فوق بعضها البعض.. لقد لاحظت أمي وأبي.. جدتي وعمتي.. ورأيت جثة الإمام في عباءتـه البيضاء، وقد حرَّقوا لحيته، وسلخوا جزء من جلد رأسه.
وزملائي وأترابي الصغار خديجة وصفية.. سلمى والأخـوان عمر وسليمان هل يعقل أن تموت تلك الزهور؟؟ أن تداس لتذوي وتذبل إلى الأبد؟؟ يمكن ذلك قطعا، إن وجوها كالتي رأيتـها لا تستطيع أن تميز بين الأزهار والأشواك.
والأشجار التي غرسناها بمعية معلمنا في فناء المدرسة فتعالت وعرشت ومدت أفنانها نظرة.. أيمكن أن تكون قد أحرقت مع الكراسي والطاولات والخزائن..؟ ومعرض صورنا الذي علقناه حديثا في الباحة؟؟
لاشك أنـهم هدموا الجدران وصارت مدرستي الآن أطلالا.
ما عساني أفعل بـهذه المحفظة التي تثقل كاهلي؟؟ وهممت أن أرميـها بعيدا رغم تذكري وعد خالتي بأنـها ستدخلني وعثمان المدرسة بمجرد أن نعبر الحدود.
غير أن يدا ضخمة امتدت إلى كتفي في حنان، وسحبتني نحوها، إنها يد حارس الحدود.. كان يبتسم لي في حب وعطف وهو يدعوني أن أخطو إلى اللاوطن.
واقشعر بدني وأنا أنتقل من نقطة لأخرى.. آه ما أمرك أيها العبور… وما أحقرك؟؟ !!
وتمت الإجراءات بسرعة.. وجدنا أنفسنا بعدها في العراء.. حشود من الناس.. آلاف على اختلافهم يتربصون عند بوابة مدينة كوكس.
حدد لنا المستقبلون مكانا معينا تجمعنا فيـه كلنا، وبدأنا نحط رحالنا.. نصب زوج خالتي بسرعة خيمة من البلاستيك والأغطية، ثم غادر لمساعدة الآخرين.. وضعت خالتي بعض الأفرشة قصد التمدد عليها، أما زينب ومريم فقد شرعتا في تحضير العشاء.
دغدغ دفء الفراش والغطاء أجسادنا الصغيرة، فاستسلمت أنا وعثمان وعائشة لنوم عميق.

- 6 -
في الصباح زارنا الشيخ.. كان التعب باديا على وجهه والشحوب بدأ ينسج خيوطه على ملامحه لعله لم يذق النوم منذ يومين أو ثلاثة ورغم ذلك كان يفيض حيوية ونشاطا .
استقبلتـه خالتي عند باب خيمتنا وعلى محياها شيء من الابتسامة تحاول أن تظهر من بين سحابات الحزن.. بادرها الشيخ بالسؤال:
- كيف أنتم بنيتي؟
ابتسمت خالتي بوضوح وقالت :
- كما ترى..
ورد الشيخ مقاطعا
- أراكم بخير.. لا أريد أن تتمكن الانهزامية من نفوسكم.. أعظم مانحرص عليه هي روح التفاؤل.. لا بأس.. الكل بخير.. أحوالنا تتحسن، ألم تسمعي؟ لقد بدأ الحلفاء يقصفون دولة الصرب؟ لقد هدموا جسورا وإذاعات ومعامل.. وقتلوا كثيرا من جندهم.. وحتى مقر الطاغية رئيسهم.. ولعلهم سيتدخلون بجيوشهم البرية.. هم مصرون على أن يحقوا الحق.
لم تفرح خالتي بل رأيت ملامحها تعود لعادتـها.. حزن شديد، وعبوس مخيف، وسألتِ الشيخ:
- وهل تعتقد أن الخير يأتي من خارجنا؟؟ نحن الذين يجب أن نصنع مصيرنا ومستقبلنا.. النصر لا يأتي من خارجنا يا شيخ.. وإلا جاء مشوها.
لعل الشيخ أدرك أن خالتي على حق، أو أدرك أنـها صعبة المراس، وأن النقاش معها ليس بالأمر السهل، أو لعله أدرك صدقها فمد يديـه.. حمل عائشة.. ودعانا أنا وعثمان إلى فسحة.
قمت ملبيا أنا وعثمان وفي نفسي سؤال محير أين نتجول؟
بين هذه الجثث المتـهالكة هنا وهناك؟؟
بين هذه الخيم المتـهرئة؟؟
بين هذه المناظر البائسة الحزينة؟
ما بال هذا الشيخ يريد رغم كل شيء أن يتعامى عن الحزن.. عن البؤس.. عن المأساة؟
سار الشيخ وسرنا بمحاذاتـه.. كان يشق التجمعات البائسة، ونحن حوله لا ندري إلى أين يريد.. كنا في طريقنا نرى عيونا باكية دامعة، ووجوها علاها الأسى والحزن.. صفراء مقطبة.
صغار يبكون يسعلون.. وعجزة متكئون.. ومرضى يئنون.. وتمنيت لو أني بقيت حيث كنت قريبا من خالتي، دون أن أرى هذه المشاهد المفزعة التي تزيد قلبي جراحا.
لم يكن الشيخ يمر على أي فرد أو أسرة إلا وينثر في وجوههم شذا ابتسامته الحلوة، ويبث في قلوبهم الأمل بالعودة إلى حضن الوطن.
صعدنا ربوة صغيرة بعيدة قليلا عن الجمع، كأنما كان الشيخ يعرفها من قبل.. وقف فوقها.. وجه وجهه نحو الغرب.. وغرق في تأمل عميق طويل، ولم نك نحن نملك إلا أن نسكت تقديرا لصمتـه.
عصر الشيخ عينيه ماسحا دموعه التي انحدرت فوق لحيته… وتسلل إلى نفسي سؤال حائر.
ما الذي جعل الشيخ ينهار، بعد أن كان حصنا يتصدى لكل الأعاصير؟
طوى الشيخ ركبتيه، ومد ذراعيه على كتفينا أنا وعثمان، ومد سبابته اليمنى نحو الغرب خلف الحدود وقال:
- محمد.. عثمان.. انظرا هناك.. رأيتما تلك القمم الشامخة التي تكسوها الثلوج؟؟
وترامت أعيننا إلى حيث أشار دون أن نفهم قصده.. سكت مليا، ثم واصل:
- ذلك وطننا الذي مازلنا وسنبقى نحمله في قلوبنا أبدا.. نحن لم نهاجر لنبقى هنا.. بل هاجرنا لنعود.. ولن تزيدنا الخطوب والأهوال إلا صلابة وقوة.. والمصائب تزلزل الرجال لتشحذهم
أنتم هم المستقبل أيها الصغار.. وإن لم نعد نحن الكبار، فالدور دوركم، والأمانة سنلقيـها على كواهلكم.
أحسست بالفخر والاعتزاز، وأنا أرى وطني تعانق قممه صفحة السماء..
وأحسست بالفخر والاعتزاز، والشيخ يعدنا من الرجال فيلقي على كواهلنا هذه الأمانة العظمى، وفي الآن نفسه سرى في كياني حزن عميق.. عميق..
ماذا يقصد الشيخ بكلامه إن لم نعد نحن الكبار فالدور دوركم؟؟
يـــــــــــــــــــتـــــــــــــــــبـــــــــــ ـــع

حنين حمودة
28/12/2007, 12:53 PM
الآن اكتشفت الجزء الثالث!!
ولم اكتشف الاول بعد!
ظننتك تكره الارقام الفردية..
لا اعرف كيف يمكن اعادة تنظيم الاجزاء
بالشكل الحالي.. هي متاهة!
تقديري