المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفراشات والغيلان الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع



عزالدين جلاوجي
24/12/2007, 09:10 PM
الفراشات والغيلان

ج 4 الرابع والأخير

وما معنى كل ذلك الأمل الذي كان يزرعه أينما حل؟؟
وما معنى ذلك الكلام المعسول الذي صبه في حلق خالتي رغما عنها؟؟
في طريق عودتنا عرجنا على كوخ مصنوع من الخشب، وأخبرنا الشيخ أن بـه مفاجأة يجب أن يطلعنا عليـها.
حلقت خيالاتنا دون أن نتمكن من معرفة حقيقة هذه المفاجأة، حينما وصلنا الكوخ وجدنا عجوزا طاعنة تجلس أمامه فوق حصير صغير، ترتجف عصاها بين يديها.. مال الشيخ وقبل رأسها.. ثم راح يداعبها ويخفف من مأساتـها.
علمنا من الحديث المتبادل أن اسمها شهيدة، وأنها ضيعت أهلها فجاءت مع آخرين، وحين عبرت الحدود أصرت على أن تبقى هنا قريبا من نقطة العبور، تراقب الخارجين، وكلها أمل في أن تلقى أفراد أسرتـها.
وكما جئنا عاد بنا الشيخ نقطع المخيمات البلاستيكية، ومئات أجساد الأحياء المتفرقة هنا وهناك..
وجدنا زوج خالتي قد عاد من مهمته، لقد ذهب إلى مدينة كوكس التي نقيم نحن بضواحيها، فاشترى شيئا من الطعام والجرائد، واستطلع عن بعض الأخبار.
ما إن جلسنا حتى راح زوج خالتي يخبر الشيخ أن الأمور تسير نحو الأسوإ، لأن الدولة الألبانية فقيرة وهي عاجزة كل العجز عن استقبال مئات الآلاف من المشردين، مما يعني انتشار الأوبئة والمجاعة، ومظاهر البؤس وتفشي الموت خاصة بين العجزة والأطفال، وبالتالي فناء الشعب بأكمله.
أطرق الشيخ حزينا وقد تغيرت ملامح وجهه، وعلاها هم وتقطيب كأنما ابتلعه وحش المأساة.. وراح زوج خالتي يواصل كالواثق من نفسه
- لقد وضعنا شعبنا في فم أفعى.. لقد نجحوا في تشريدنا وفي قتلنا قتلا باردا.. أنا نادم كل الندم.. لو كنت أعرف هذا لبقيت في وطني لأموت شريفا عزيزا لا ذليلا مهانا في أوطان الغير.
وفجأة انتفضت سحنة الشيخ رافضة سحائب القنوط، وأشرقت بشراها وهي تقول :
- لا بأس إن شاء الله.. وإن مع العسر يسرا.. لا تحزن إن الله معنا.. جئت لأخبرك أنك مدعو لحضور اجتماع هذا المساء.. هناك أمور عاجلة يجب مناقشتـها، وعلى رأسها توزيع المساعدات الأمريكية والأوروبية، ومساعدات الصليب الأحمر.
وانكمش قلبي وأنا أسمع كلمة الصليب، ما معنى أن يطردنا من أرضنا، ويشردنا في العراء، ثم يلحق بنا هنا ليساعدنا، فيكون في الآن نفسه العدو والصديق؟
ولم أستطع أن أتفوه بكلمة، فسجنت كل خلجات قلبي وراء قضبان صدري الصغير، لكن زوج خالتي كأنما أدرك همي فعلق قائلا :
- هذا جحر الأفعى.
وانصرف الشيخ على عجل دون أن يعلق.. هو دون شك يدرك المؤامرة المحاكة، لكنه آثر أن يسكت.
واقتربت خالتي من زوجها فانهمكا في الحديث، أما أنا فقد لزمت مكاني لا أبرحه.. لقد بدأت أخشى، بل وأضيق بتفاؤل الشيخ المفرط، وأنا أشاهد بأم عيني مظاهر البؤس تفترسنا.. ها نحن ننام في العراء مشردين عرضة للجوع والموت والجهل.
طلبت منا خالتي أن نأتي بالماء من الحنفية المشتركة التي أقيمت خصيصا وسط المخيمات.. حملنا دلاء مختلفة لا تصلح حتى لحمل الماء للحيوانات وانطلقنا.. كنت أنا وعثمان وزوج خالتي الذي أصرت عائشة على مرافقتـه.. حين وصلنا وجدنا طابورا متعرجا يبلغ مئات الأمتار..
متى سيحين دورنا لنحصل على قطرات ماء؟؟
هذا وجه آخر من المأساة، وبقائي هنا سيكون دون شك متعبا جدا.
وهممت أن أنظم إلى الصغار الذين تجمعوا غير بعيد يلعبون الكرة، ثم أحجمت.. لا الملعب مهيأ.. ولا نفسي مستعدة، فجمدت مكاني أتابع الأحداث بعينين زائغتين تائهتين حائرتين.. وتسلل عثمان من مكانه لينظم إلى الصغار في لعبهم…
كان عثمان تربي له من العمر ثلاث عشرة سنة … نحيف الجسم ممتد القامة … تميل نفسه للشغب واللعب الخشن وهو بذلك يكاد يعاكسني في كل شيء، إلا في السن والاجتهاد في الدراسة.. فأنا متوسط القامة يميل جسدي إلى البدانة.. وتميل نفسي إلى الانطواء والانزواء.. قلما ألاعب الآخرين لعبا هادئا لطيفا، وكثيرا ما ألعب وحدي.
تحرك الطابور بضع أمتار فتحركنا خلفه دون أن نغير اتجاه عيوننا.. كنا نتابع المباراة باهتمام كبير، وكان صديقي عثمان أكثر اللاعبين حيوية ونشاطا، وأمهرهم لعبا..
علق شاب كان أمامنا في الطابور، يقف على عكازة، مقطوع الساق اليسرى حديثا:
- لقد بدأ الأطفال ينسون وقع المأساة.
رد زوج خالتي:
- قلوب الأطفال كسماء الصيف، قد تحضن قزعات من السحاب، ولكنها ماتفتأ أن تزول.
وتعلقت عيني بالشاب أنتظر منه ما يريد أن يقول.. لكن دويا ضخما هز المكان.. وعلا الغبار فحجب الرؤية.. وعلا الصياح، وساد الهلع، وتفرق الناس لا يعرفون هدفا محددا يتجهون إليه كالقطيع داهمته ذئاب متوحشة.
وهرعت إلى المكان دون أن أشعر.. لم يكن في بالي إلا صديقي عثمان.. أليس هو الوحيد الذي بقي لي من ماضي الجميل الرائع؟؟
جثة طفل.. لعله لم يبلغ الرابعة عشر من عمره تـهرأت أجزاء جسده السفلية إثر انفجار قنبلة كانت موضوعة تحت الأرض، وبالقرب منـه كان ينبطح عثمان..
دق قلبي هلعا.. قفزت حيث هو.. قلبته لا أثر للحياة في جسمه.. احتضنته.. كانت رائحة الدم تزكم أنفي بقوة..
أبعدني زوج خالتي، وأنا أصرخ باكيا في هستيرية.. ومد يده يحمل عثمان وينـهض بـه.. وهو يزجرني بقوة
- لا تبك هو بخير.. إنه حي.. يجب نقله إلى المستشفى حالا.. فورا.
وتناهى إلى سمعنا جرس سيارة الإسعاف يرتفع عاليا.. فتدافع الناس يفسحون الطريق، وبدأت أصوات استنكارهم تخفت رويدا رويدا..
وضعوه في النقالة وبجانبـه زوج خالتي وطفل آخر أصيب إصابات خفيفة وانطلقت سيارة الإسعاف تجلد من يعترض سبيلها بجرسها الحاد.
بعد نصف ساعة تقريبا كنت أقف عند رأس عثمان أبادله الابتسامة، كان مصابا في ذراعه إصابة بليغة.. أما إصابة رأسه فكانت خفيفة، لا تبعث على القلق.. والمهم أنه سيخرج بعد يومين أو ثلاثة.. حالته لاتستدعي المكوث أكثر.
وكان المستشفى خلية نحل أصابها العطب… عشرات… بل مئات من الجرحى والمرضى… امتلأت بهم الأسرة فاضطروا إلى النوم على أفرشة فوق الأرض مباشرة.
تركنا خالتي وزوجها عند عثمان وسحبتني مريم بعيدا عنهما، كانت كلها رغبة في تَفَقُد المرضى والاطلاع على حالهم… نحن في المنفى أسرة واحدة، تجمعنا الآلام والآمال.. ويجمعنا الشوق للوطن.
في كل حجرة تشاهد جداريات مأساوية تنغرز في القلب النابض سكينا صدئة.. أشخاص فقدوا أرجلهم.. آخرون فقدوا أيديهم.. مرضى أنهكهم السقم.. ومص كل رحيق من وجوههم.. وآخرون كانوا معرضا للتشويه، بعضهم قص الصرب أنوفهم، أو آذانـهم، أو حتى شفاههم أو ألسنتـهم.. وحشية ما تخيلتها في حياتي أبدا.
كانت مريم تسير بجواري منقبضة الوجه مرتعدة الجوارح لا تنطق إلا دمعا.. وكيف لمثلها أن يفعل غير ما فعلت؟؟
ألم تقطف الغيلان حلمها الجميل حين أينع..؟؟
ألم يغتالوا البسمة من قلبـها البريء الجميل …؟؟
وفجأة رأيتـها تجمد في مكانـها تمثالا مرمريا لا تقدر على الحراك.. جذبتها من يدها الرقيقة لم تتحرك.. ثم فجأة تهاوت إلى الأرض جثة لاحراك بها.
هرع الطبيب والممرضون.. بعد لحظات أعادوها إلى وعيها.. رمت بكل ما حولها.. وعادت إلى مكانـها وأنا أتبعها.
حينما دخلت عليـها الحجرة وجدتـها تنكفئ على شاب منتحبة فوق صدره.
جرها الممرضون بعيدا وأخبروني أن هذا الشاب عبر الحدود البارحة وهو في حالة يرثى لها.. لقد سكنت رصاصة رئتـه اليسرى، وقد أجروا له العملية البارحة، ولعله سيتعافى بعد أيام، ولكنه سيعود إلى وعيه هذه الليلة.
وعلمت منـها بعد ذلك أنـه خطيبها الذي ضحى بنفسه من أجلها.. وكانت ظنتـه قد مات.. هاهي الأقدار تجمع بينهما من جديد.. ماذا وقع له؟؟ كيف نجا من الموت؟؟ لا أحد يعرف.
انسحبنا عائدين إلى مأوانا.. مريم رفضت ذلك رغم إلحاح خالتي وزوجها.. منعوها من البقاء داخل المستشفى لكنـها قررت أن تبقى خارجه… تحتضن الجدار … وتعد الدقائق لتعود فترى حبيبها حيا يرزق.. ماكانت تتوقع كل الذي وقع.. الحياة قاسية حقا ولكن فيـها صدف حلوة.
وامتزجت في نفسي أحزان وأفراح..
ها صديقي عثمان ينجو بأعجوبة من الموت الذي ظل يطاردنا حتى خارج الوطن..
و ها مريم تبذر شذا البسمة على تضاريس وجهها..
وهذه هي الحياة دمعة وابتسامة.. وكما تدمى عيوننا.. لا يجوز أن نفوت فرصة للفرح.

-7-
أصبحت الشمس مشرقة دافئة.. فدبت حركة غير عادية داخل مخيمات البؤس والشقاء والغربة.. لعل الناس بدأوا يسترجعون أنفاسهم الآن ويستردون ما ضاع من قوتـهم وجلدهم..
كانت خالتي تغسل الثياب التي كومتها بجانبها، وبالقرب منها مريم تجثو على ركبتيها تغسل شعرها الكستنائي الطويل، وابنة خالتي زينب تساعدها على ذلك.
لم تعد مريم كما عهدتـها يوم ظهرت أول مرة في أسرتنا فتاة كئيبة حزينة دامعة العين والقلب، لقد بدأ الأمل يبزغ على تضاريس جسدها الفاتن، ويطل من شرفة عينيها اللتين عاد إليهما التألق.
لقد فقدت كل شيء وحين أوشك اليأس يغتالها أطل نجم سعدها من جديد، وخفق قلبا نابضا بالحب، ولعل المقادير ستمسح بيدها الحانية على جراحاتها فتبلسمها وتذهب ندوبـها وأتراحها..
وتصورتُ مريم بستانا افترسه وحش القحط فجف ويبس وسودت أزهاره وسنبلاته، فلما طمعت الريح في أن تعبث بالحياة فيه أدركه الغيث فأينع من جديد، ورقصت فوقه الأطيار والفراشات زاهية الألوان.
وحلق بي الخيال استرجع طفولتي المغتالة.. قريتي التي أجهضوا حلمها البريء..
ما أجمل تلك الروابي التي أينعتُ بين جنباتـها زهرةَ أقحوان..
وغردتُ فوق أكماتـها شحرورا..
ورقصتُ فوق أزهارها وأعشابـها فراشة جميلة حالمة!!
وضعت لعبتي عند جذع شجرة البرتقال واندفعت أعدو خلف فراشة ظهرت للتو، تراقص الأزهار كأنـما تستعرض كفاءتـها في الرقص.. كأنما تتحداني أن أمسكها، أو أتمكن من النظر إليها بإمعان وأكتشف دقائقها الفاتنة الجميلة.
مددت رجلي اليمنى فاليسرى.. خطوة حذرة أخرى.. ثالثة.. وارتميت على الأرض لتلسعني أشواك زهرة مدت عنقها إلى السماء.. أما الفراشة فقد تعالت راقصة ضاحكة من سذاجتي وفشلي..
طوى عثمان الكتاب الذي كان يتصفحه،وراح ينظر إلي باندهاش شديد، في عينيه تزاحمت أسئلة مختلفة،وأدركت للتو أنني تجاوزت حدي في الحلم،وبقدر ما أحسست بالخجل من صديقي عثمان،أحسست بالندم كأنما ارتكبت ذنبا لأننا أدركنا جميعا أن أحلامنا قد اغتيلت فلا حق لنا فيها.
وأردت أن أشرح الأمر لصديقي الذي مازال ينظر إلي مندهشا بعينين حائرتين براقتين تدوران في وجه أصفر نحيف رسمت عليه المأساة جداريات للبؤس والحزن.
لكن عثمان بادرني بالسؤال لينقلني إلى ضفة أخرى، يفتح في قلبي الصغير المكلوم هاوية للفجيعة.
- ماذا بشأن الدراسة..؟ ألم تعدك خالتك بأنها ستدخلنا المدرسة فور عبورنا الحدود؟
- أجل وعدتنا بذلك… لكني سمعت الشيخ يخبرها أن البعثة القطرية قد أقامت مدرسة كاملة التجهيزات، مع التكفل التام بالطلبة علاجا وغذاء ولباسا وتعليما، ولقد سجلت مريم نفسها فيها لتكون معلمة، ولعل زوجها سيلتحق بـها بمجرد أن يخرج من المستشفى صحيحا معافى.
وبقدر ما كان هذا القرار مفرحا سعيدا بقدر ما كان محرجا.. أين الأتراب الذين عرفناهم وصادقناهم سنوات طويلة..؟ وأين المعلمون الذين تعودنا عليهم وتعودوا علينا خاصة معلمي المفضل؟
وفاجأني الشيخ كأنما هبط من السماء، ومباشرة سلمنا ورقتين وقلمين، وطلب منا طلبا عجبا.
- ارسما شمسا على وشك الشروق.. شمس الفجر وقد بدأت تمد خيوطها تـهزم الظلام.. وأي الرسمين يكون الأجمل تكون له الجائزة.
ودون أن نتفوه بكلمة واحدة شرعنا في التنافس وفي فضاء قلبي تشرق شمس قريتنا برتقالية على قمة الجبل، تدغدغ رؤوس أشجار السرو والزان والسنديان.
وأحسست بالغبطة تغمر كامل القلب الصغير، وأنا أتأمل صورتي التي أتقنتها، فرحت أفاخر بها صورة صديقي عثمان التي كنت أحسبها أحسن من صورتي، لكن أنانيتي أبت علي الاعتراف بذلك، فرحت أكشف عيوبه.
وفجأة داهم مخيمنا صخب وضجيج كأنما هو رعد هادر.. أمواج بشرية تقتحم ساحاتنا في غير انتظام.
واندفعت أنا وعثمان باتجاههم نستطلع الأمر، لكن خالتي أسرعت إلينا فأعادتنا حيث المخيم ومنعتنا من أن نتحرك قيد أنـملة.
لم يكن الوافدون وأكثرهم كانوا رجالا إلا لاجئين.. لا ينقصهم شيء فهم يتلقون أرفع أنواع المساعدات المادية من لباس وغذاء ودواء، ولكنهم لم يستطيعوا تحمل مظاهر الاعتداء على الحرمات.. بل وحتى عمليات الخطف.. خطف الصغار خاصة الإناث، وتهريبهم عبر البحار لبيعهم حيث يستغلون لممارسة البغاء والدعارة.
اكفهرت نفسي وأنا أسمع هذه الأنباء المزعجة المخيفة، ما للمآسي تطاردنا أينما حللنا وحيثما ذهبنا؟
وإذا فررنا من أعدائنا هناك، فكيف نتمكن هنا من الفرار؟
وسمعت زوج خالتي يؤكد أن الكوسوفي قد يسمح في كل شيء إلا أن يدنس عرضه وشرفه.. وأن يباع أبناؤه عبيدا في سوق النخاسة، ولذا لابد من احتجاج الجميع حتى تعطى الضمانات في حفظ الأعراض والكرامات.
وبدأ الضجيج يخفت رويدا رويدا وراح المحتجون ينسحبون.. مما أثار في نفوسنا أسئلة وحيرة.
وأقبل الشيخ ليخبر زوج خالتي أن المشكلة قد حلت، وأن الإخوة في الكويت قد أسرعوا إلى المكان فور معرفتهم حقيقة هؤلاء اللاجئين، وقد قرروا استقبالهم منذ الغد في ملاجئ تليق بكرامتهم وتحفظ شرفهم.
كان هذا الموقف جبارا زرع في نفوسنا المكلومة حدائق الأمل، ولكن الأنباء التي مازالت تصلنا في كل حين كانت تحمل إلينا فجائع لا يمكن تصورها أبدا.. مجازر جماعية..انتهاك للحرمات.. قتل للأطفال والرضع.. حرق للمساجد والمعالم الأثرية..
وأعدت إلى ذاكرتي زوج خالي وهو يقص قصة تلك المرأة التي ذبحوا صغيرها، وأنضجوه أمامها، ثم أرغموها كي تأكل جزء منه حتى لا يفعلوا ذلك بكل أفراد أسرتـها.
وانكمشت على نفسي ارتعد خوفا وأنا أتذكر أخت عثمان أرنبا تقلى في التنور.
- 8 -
قام الناس هذا الصباح على تداول أخبار تفشي الحمى والإسهال مما نشر الرعب والفزع في قلوب الجميع، أتلك أعراض لداء خطير سيعصف بالأرواح كما تعصف الرياح العاتية بأوراق الأشجار الصفراء؟
واشتد هول الناس حين تبين أن الطعام المقدم إليـهم معونات من الدول الغربية ومن الصليب الأحمر الدولي هو الذي سبب هذا الإسهال الحاد.
ورأيت زينب ثائرة تقول:
إنهم يقتلوننا بطرق أخرى.. فكيف سيدافعون عنا..؟ كيف يدافعون عنا؟
وترد عليها خالتي وقد انتفش شعرها وتطاير الزبد من بين شدقيها.
- من نجا من الموت المتوحش هناك يقتلونـه بالموت البطيء هنا.. تعسا لهم.. كلهم ملة واحدة.
وفجأة قدم الشيخ وعلى محياه ابتسامته المعهودة، وبجواره شخص اكتشفت من اللحظة الأولى من خلال ملامحه وملابسه أنـه من جمعيات الإغاثة الغربية.
قال الشيخ كأنـما يهدئ من روع خالتي :
- عهدي بك هادئة.. فابقي هادئة.. لا خوف.. السيد فرانك أمريكي الجنسية.. وهو ممثل جمعيات ومنظمات الإغاثة هنا في ألبانيا.. وقد سمع بالذي وقع فجاء ليطمئنكم، ويؤكد أن الأمر لا يعدو أن يكون تغييرا لأنواع الطعام.. نحن لم نألف هذه الأنواع من الأطعمة.
واندفع السيد فرانك يشرح ملوحا بيده دون أن نفهم من أنجليزيته شيئا، وكان الشيخ يتدخل من حين لآخر ليشرح ما يقول.
وحين سكت السيد فرانك لمحت الشيخ يشرق، وهو يخرج من جيبـه ظرفا أبيض يلوح به في الأعلى، وهو يقول:
- اطمأنت قلوبكم؟ وسأزيدكم فرحا، خذوا هذه الرسالة.
وهدأت ثورة خالتي فجأة بعد أن تأهبت لتنقض على السيد فرانك.. هدأت تماما كالنار المستعرة تهاطل عليـها الغيث.
وواصل الشيخ كلامه وهو يتأمل هدوء خالتي بابتسامة وديعة.
- ممن؟؟ إنـها من سليمان..
وسكت يتصفح الوجوه التي انبسطت فرحا.
من سليمان.. رسالة منه؟ كيف؟ ومع من بعثها؟ وامتدت الأيدي جميعا تتلقفها.. وتفضها.
نشرتها زينب، وراحت تقرأ، ونحن جميعا خلفها نتأمل الخط، وزوج خالتي يقفز فرحان كطفل وجد لعبتـه الضائعة فجأة قائلا:
- إنه خطه، أجل إنـه خطه.. واصلي القراءة.. واصلي.
ولأول مرة ألمح شمس خالتي تشرق على كامل الوجه.. لأول مرة يرحل الشتاء القاتم من فوق تضاريس محياها.
في الرسالة كثير من البشائر.. هو والإخوان بخير.. وصلابتـهم تزداد كل يوم قوة.. خاصة حين بدأت قوات الأعداء تتراجع أمام ضربات جيش التحرير.. وضربات الحلف الدقيقة.. ولعلهم لن يصمدوا أكثر من أشهر ينتهي بعدها كل شيء.. ويعود الجميع إلى ديارهم.
خطفت خالتي الرسالة من يد ابنتها.. قبلتها.. طوتها ثم أدخلتها صدرها.
وهل هناك مكان آخر لما يصدر من القلب إلا القلب؟؟ إلا القلب الدافئ النابض..؟؟
اقترب موعد الزيارة الثانية، لابد أن نطمئن على عثمان، وعلى زوج مريم التي لم تبرح مكانـها عند جدار المستشفى.
وقرر زوج خالتي بـهذه المناسبة العظيمة.. مناسبة وصول رسالة من سليمان أن يكلف نفسه ويشتري هدايا لعثمان وزوج مريم.
تأخرنا قليلا في المدينة عن موعد الزيارة لقد انشغلنا باختيار الهدايا.. حين وصلنا وجدنا الجميع قد سبقونا كان عثمان بخير إذ بمجرد أن وصلنا وسلمناه الهدية حتى قام معنا وفي يده تسريحه الطبي..
اتجهنا حينـها إلى الغرفة التي يرقد بـها خطيب مريم..
وجدناها عند سريره تشد يده إلى صدرها تعطرها بدموعها.. كان هو هادئا يتحدث بصوت خافت.. يبدو بخير رغم الإعياء الشديد الذي كان يظهر على محياه.
تراقص الفرح من عيني مريم، وراحت تقدمنا بمجرد أن وصلنا على أننا أسرتها التي فقدتها.. أمها.. أبوها.. أخوها.. أختها.. أحسسنا جميعا بالغبطة الحميمية، وراح هو يرحب بنا بإماءة من رأسه، وبتمتمات تتسلل من بين شفتيـه خافتة.
حين عدنا أدراجنا إلى المخيمات وجدنا أنباء جديدة نزلت على قلوبنا بردا وسلاما.. وانتشلتنا من ضياعنا وحيرتنا.. وأعادت إلى نفوسنا كثيرا من الأمل.
لقد تكفل بعض الإخوة الألبان بكل الأطفال والعجزة.. سيتم الإيواء في منازلهم.. ولو اضطروا إلى تفريغ البيوت من أُسرهم.
وأسرعنا نجهز أنفسنا للرحيل.. سأذهب أنا وعائشة وعثمان وستصحبنا خالتي لترعانا وتقوم على شؤوننا، وربما سيلتحق بنا زوج مريم حين يخرج من المستشفى.. في المنزل ستكون الإقامة مريحة، وسنكون بمنأى عن لسعات البرد والمطر والمرض..
وما هي إلا ساعات حتى كنا في البيت الجديد.. بيت مكون من ثلاثة طوابق ملأنا كل فراغ فيه.. المستودعين.. والحجرات.. والأروقة كنا سبعين فردا أكثرنا أطفال ورضع، ورغم الاكتظاظ فقد كنا نحس بالغبطة والسعادة..
عند الغداء وزعوا علينا بانتظام شديد خبزا وجبنا وعلب عصير وقطع كعك وشيكولاطة.. ولأول مرة أحس أني أكلت طعاما بأتم معنى الكلمة.
بعد سـاعة من ذلك أو أكثر حضـر الشيخ.. اشرأبت إليـه الأعناق مستبشرة، كان عن يمينـه كهلان أحدهما يرتدي بذلـة والآخر يرتـدي لباسا عربيا.. عباءة بيضاء وكوفية منقطة.. شد انتباهي هذا الثاني.. وهذا اللباس الجميل.. وهذا المحيا الأسمر المشرق.. لاشك أنـه من مدينة الرسول التي حدثتني عنـها جدتي الشهيدة -رحمها الله- وابن خالتي سليمان كثيرا.
نطق الشيخ فسكتنا جميعا دفعة واحدة.. وجه التحية باسمنا جميعا إلى الألبانيين الذين فتحوا لنا صدور المحبة والأخوة، وانتشلونا من الضياع، وكرر شكره الأخوي للدكتور الحاج إبراهيم صاحب المنزل.
كان الحاج إبراهيم رجلا قارب الخمسين.. طويل القامة.. أحمر الشعر.. ذا لحية خفيفة.. يلبس بدلة سوداء ويضع ربطة عنق حمراء.
وفاجأنا الشيخ حين أخبرنا أن الدكتور إبراهيم قد نقل أسرتـه إلى أصهاره ولم يبق في البيت إلا هو.. بل إلا نحن فقط.. أما هو فإنـه ينام الآن في سيارتـه.. وأنه يقضي كل نهاره في خدمة اللاجئين.
وتعلقت عيوننا وقلوبنا بـهذا الرجل الملائكة، وهمس عثمان في أذني:
- أرغب في تقبيله.
وكان شعوره كشعوري.. كم وددت أن أرتمي في حضنـه وأقبله.. أريد منه أن يضمني.. ويضمني.. ويضمني..
وتذكرت حضن والدي الدافئ، ولحظات المرح والسرور التي كنا نقضيها معا في الحقل أو في البيت… لا تنتهي قصصه أبدا ولا دعاباته.. كلما أكمل واحدة جاء بأخرى، كالينبوع العذب يتفجر حياة وسعادة وحنانا.
وأخذ الحاج إبراهيم الكلمة مؤكدا أننا بين إخواننا وفي أرضنا، وأن كل شرفاء المعمورة يقفون معنا ويبكون لبكائنا، فالبشر اليوم صاروا أسرة واحدة لا تفرقها الأديان ولا الألسنة ولا الألوان، كلهم أبناء هذه الأرض منها خلقوا وإليها يعودون.. ولا مناص لهم من التراحم والتآخي.
وعاد الشيخ يأخذ الكلمة من جديد.. مد يده هذه المرة مصافحا مرافقه الثاني بحرارة وهو يقول لنا.
أنتم أيـها الشعب العظيم أغلى من كل غال.. وأعظم من كل عظيم.. هاهم (وأشار إلى مرافقه) أولاء إخوانكم العرب وقد فزعوا فزعة رجل واحد، وهبطوا هذه الأرض بطائراتـهم يحملون إليكم غذاءكم ولباسكم ودواءكم.. والقادم القادم أعظم.
ورددنا في فوضى باسمة عبارات الشكر والتقدير، ونحن نودعهم على أمل أن نلقاهم دائما حين نحتاج إليهم.
ومنذ ذلك صارت تصلنا متطلباتنا كاملة.. أطعمة رفيعة.. ألبسة.. أغطية.. أدوية…
وبدأت حياتنا تتحسن شيئا فشيئا.
- 9 -
زرت هذا الصباح مع عثمان مأوانا الأول.. كانت السماء صافية إلا من قزعات بيضاء تفرقت هنا وهناك.. وكانت الشمس ترسل بدفء محتشم يلف أجسادنا ومخيماتنا.. لاحظنا حركة غير عادية كأنـما الناس يجمعون أمتعتـهم استعدادا للرحيل.. ما الذي وقع؟؟ إلى أين نحن ذاهبون؟؟ أهي العودة للوطن؟؟ أم هو رحيل آخر في دروب التشرد والضياع؟؟
الحقيقة أني لم أكن ألمح شيئا من الحزن والأسى على الوجوه كالذي كنت ألمحه من قبل.
وصلنا إلى مخيمنا، وجدنا زينب ومريم منـهمكتين في جمع الأمتعة والأثاث، ولاحظت كأنـما فاجأهما حضورنا على حين غرة فسألت مباشرة.
- إلى أين؟ ما هذا الاستعداد؟ أهو رحيل آخر؟
- أجل هو رحيل آخر.
هكذا أجابت زينب دون أن تنظر إلي، وقبل أن أواصل أسئلتي الملحاحة سمعت زوج خالتي يجيب من خلفي عما كان يدور في خلدي.
-إلى حيث تستريح.. لقد تطوع الإخوة من الإمارات العربية بكل شيء.. أقاموا للاجئين مخيمات حديثة بها كل ضروريات الحياة.. وبقربها أقاموا أقساما للدراسة ومستشفى وملعبا صغيرا.
وقاطعته مريم مواصلة.
- من اليوم سنودع التشرد وإلى الأبد، لقد وفروا لنا كل شيء.. حتى الحماية والأمن.. طائراتهم لا تتوقف لحظة واحدة عن الهبوط هنا محملة بكل ما نريد وما نحتاج..
ورفعوا جميعا أكف الضراعة إلى الله أن يحفظ بلاد العرب من كل سوء..
أما أنا فقد هزتني الدهشة.. كل هذا يفعله الإخوة العرب؟ ماأكرمهم؟ وأعظمهم؟ اللهم احفظهم لنا إخوانا
ولم يتركني زوج خالتي في دهشتي بل ضربني على كتفي ودعاني إلى العمل معهم استعدادا للرحيل.
مساء ذلك اليوم انتقلنا إلى مخيمنا الجديد.. دخلنا بانتظام، كل أسرة لها خيمة حسب عدد أفرادها.. ولها كل ما تحتاجه..
حين استقر بنا الأمر تمددت فوق مرقدي فرحا، هذا لأني ما عدت أحس في هذا الموطن بالغربة.. لست أدري أشعور عابر؟ أم شعور دائم وأبدي؟
حين حضرت خالتي وعائشة رحت مع عثمان نتجول في هذه المدينة الجديدة.. كانت اللافتات تملأ المخيم كله مكتوب عليها بكثير من اللغات، قرأت بعضها.
نعم للأخوة الكوسوفية العربية
مرحبا بالأميرة العربية
من تكون هذه المرأة؟ وما سبب مجيئها إلى هذا المكان..؟ لحق بنا الجميع، بدأت الحركة تشتد.. تدافع الناس ورجال الأمن يعملون جهدهم من أجل تنظيمنا.
كان الشيخ على رأس الواقفين هناك ومعه بعض المسؤولين من شعبنا وآخرين من الألبان.. وكان زوج خالتي بجوار الشيخ.
تدافعت بين الحاضرين لأصل حيث هم لكن رجال الأمن تدخلوا وأمروا الأطفال بالانسحاب إلى الملعب وتحت ضغطهم انسحبت مع عثمان.
كان الملعب ميدانا لكرة القدم.. وللكرة الطائرة، وبجوارهما أراجيح وقفت هنا وهناك فوق الحشيش.
وبدأت الخطوات تقترب منا.. رنوت بعيني كان الوفد يزحف بتؤدة إلى الملعب تتقدمه الأميرة بطلعتها العربية السمراء، ترتدي وشاحها الأسود الذي زادها وقارا وجلالا.
توقف الأطفال جميعا دفعة واحدة عن اللعب… سكنت كل حركة فيّ، وبقيت جامدا حيث أنا فوق الأرجوحة، أنقِّل الطرف بين الأميرة وبين المحيطين بـها.. زوج خالتي والشيخ وآخرون، وقد رفرفت الفرحة من عيونـهم وحلقت فوق تضاريس وجوههم.
توقفت الأميرة عندي فغمرني شعور من الفرحة العارمة، خاصة وهي تنحني فتطبع على جبهتي قُبلة، رحلت معها إلى الشرق حيث الجذور متينة قوية..
مسحت على رأسي وأخذت من مرافقها لعبة سلمتها إلي.. ضممتها إلى صدري.. أمرتْ المرافقين لها بتوزيع باقي اللعب على الأطفال الآخرين.
نطقت الأميرة بكلمات في الجميع، أدركت أنـها موجهة إلينا نحن معشر الأطفال أكثر من غيرنا.. ترجمها الشيخ بسرعة :
نحن إخوانكم.. والواجب يدعونا أن نقف معكم في السراء والضراء، الآن وحتى تعودوا إلى أرضكم منتصرين بإذن الله.. وبعد العودة الميمونة لبناء صرح الوطن وتشييد حصونه، لترتفع عليها راية المحبة والسلام خفاقة كما خفقت منذ قرون..
علا التصفيق والهتاف.. ثم تدافع الجميع مبتعدين عنا وتفرق الأطفال كل يمارس لعبته المفضلة.. وفي الوقت الذي اندفع فيه صديقي عثمان للعب كرة القدم امتطيت أنا صهوة الأرجوحة، ورحت أدغدغها ببطء إلى الأمام وإلى الخلف، أغني أغنية الوطن الجميلة، وأتخيل الأطفال اللاعبين أمامي فراشات جميلة تدغدغ خد الأرض في براءة وتحلم بشروق الشمس.

عين ولمان/سطيف/الجزائر05/06/1999

عزالدين جلاوجي
24/12/2007, 09:10 PM
الفراشات والغيلان

ج 4 الرابع والأخير

وما معنى كل ذلك الأمل الذي كان يزرعه أينما حل؟؟
وما معنى ذلك الكلام المعسول الذي صبه في حلق خالتي رغما عنها؟؟
في طريق عودتنا عرجنا على كوخ مصنوع من الخشب، وأخبرنا الشيخ أن بـه مفاجأة يجب أن يطلعنا عليـها.
حلقت خيالاتنا دون أن نتمكن من معرفة حقيقة هذه المفاجأة، حينما وصلنا الكوخ وجدنا عجوزا طاعنة تجلس أمامه فوق حصير صغير، ترتجف عصاها بين يديها.. مال الشيخ وقبل رأسها.. ثم راح يداعبها ويخفف من مأساتـها.
علمنا من الحديث المتبادل أن اسمها شهيدة، وأنها ضيعت أهلها فجاءت مع آخرين، وحين عبرت الحدود أصرت على أن تبقى هنا قريبا من نقطة العبور، تراقب الخارجين، وكلها أمل في أن تلقى أفراد أسرتـها.
وكما جئنا عاد بنا الشيخ نقطع المخيمات البلاستيكية، ومئات أجساد الأحياء المتفرقة هنا وهناك..
وجدنا زوج خالتي قد عاد من مهمته، لقد ذهب إلى مدينة كوكس التي نقيم نحن بضواحيها، فاشترى شيئا من الطعام والجرائد، واستطلع عن بعض الأخبار.
ما إن جلسنا حتى راح زوج خالتي يخبر الشيخ أن الأمور تسير نحو الأسوإ، لأن الدولة الألبانية فقيرة وهي عاجزة كل العجز عن استقبال مئات الآلاف من المشردين، مما يعني انتشار الأوبئة والمجاعة، ومظاهر البؤس وتفشي الموت خاصة بين العجزة والأطفال، وبالتالي فناء الشعب بأكمله.
أطرق الشيخ حزينا وقد تغيرت ملامح وجهه، وعلاها هم وتقطيب كأنما ابتلعه وحش المأساة.. وراح زوج خالتي يواصل كالواثق من نفسه
- لقد وضعنا شعبنا في فم أفعى.. لقد نجحوا في تشريدنا وفي قتلنا قتلا باردا.. أنا نادم كل الندم.. لو كنت أعرف هذا لبقيت في وطني لأموت شريفا عزيزا لا ذليلا مهانا في أوطان الغير.
وفجأة انتفضت سحنة الشيخ رافضة سحائب القنوط، وأشرقت بشراها وهي تقول :
- لا بأس إن شاء الله.. وإن مع العسر يسرا.. لا تحزن إن الله معنا.. جئت لأخبرك أنك مدعو لحضور اجتماع هذا المساء.. هناك أمور عاجلة يجب مناقشتـها، وعلى رأسها توزيع المساعدات الأمريكية والأوروبية، ومساعدات الصليب الأحمر.
وانكمش قلبي وأنا أسمع كلمة الصليب، ما معنى أن يطردنا من أرضنا، ويشردنا في العراء، ثم يلحق بنا هنا ليساعدنا، فيكون في الآن نفسه العدو والصديق؟
ولم أستطع أن أتفوه بكلمة، فسجنت كل خلجات قلبي وراء قضبان صدري الصغير، لكن زوج خالتي كأنما أدرك همي فعلق قائلا :
- هذا جحر الأفعى.
وانصرف الشيخ على عجل دون أن يعلق.. هو دون شك يدرك المؤامرة المحاكة، لكنه آثر أن يسكت.
واقتربت خالتي من زوجها فانهمكا في الحديث، أما أنا فقد لزمت مكاني لا أبرحه.. لقد بدأت أخشى، بل وأضيق بتفاؤل الشيخ المفرط، وأنا أشاهد بأم عيني مظاهر البؤس تفترسنا.. ها نحن ننام في العراء مشردين عرضة للجوع والموت والجهل.
طلبت منا خالتي أن نأتي بالماء من الحنفية المشتركة التي أقيمت خصيصا وسط المخيمات.. حملنا دلاء مختلفة لا تصلح حتى لحمل الماء للحيوانات وانطلقنا.. كنت أنا وعثمان وزوج خالتي الذي أصرت عائشة على مرافقتـه.. حين وصلنا وجدنا طابورا متعرجا يبلغ مئات الأمتار..
متى سيحين دورنا لنحصل على قطرات ماء؟؟
هذا وجه آخر من المأساة، وبقائي هنا سيكون دون شك متعبا جدا.
وهممت أن أنظم إلى الصغار الذين تجمعوا غير بعيد يلعبون الكرة، ثم أحجمت.. لا الملعب مهيأ.. ولا نفسي مستعدة، فجمدت مكاني أتابع الأحداث بعينين زائغتين تائهتين حائرتين.. وتسلل عثمان من مكانه لينظم إلى الصغار في لعبهم…
كان عثمان تربي له من العمر ثلاث عشرة سنة … نحيف الجسم ممتد القامة … تميل نفسه للشغب واللعب الخشن وهو بذلك يكاد يعاكسني في كل شيء، إلا في السن والاجتهاد في الدراسة.. فأنا متوسط القامة يميل جسدي إلى البدانة.. وتميل نفسي إلى الانطواء والانزواء.. قلما ألاعب الآخرين لعبا هادئا لطيفا، وكثيرا ما ألعب وحدي.
تحرك الطابور بضع أمتار فتحركنا خلفه دون أن نغير اتجاه عيوننا.. كنا نتابع المباراة باهتمام كبير، وكان صديقي عثمان أكثر اللاعبين حيوية ونشاطا، وأمهرهم لعبا..
علق شاب كان أمامنا في الطابور، يقف على عكازة، مقطوع الساق اليسرى حديثا:
- لقد بدأ الأطفال ينسون وقع المأساة.
رد زوج خالتي:
- قلوب الأطفال كسماء الصيف، قد تحضن قزعات من السحاب، ولكنها ماتفتأ أن تزول.
وتعلقت عيني بالشاب أنتظر منه ما يريد أن يقول.. لكن دويا ضخما هز المكان.. وعلا الغبار فحجب الرؤية.. وعلا الصياح، وساد الهلع، وتفرق الناس لا يعرفون هدفا محددا يتجهون إليه كالقطيع داهمته ذئاب متوحشة.
وهرعت إلى المكان دون أن أشعر.. لم يكن في بالي إلا صديقي عثمان.. أليس هو الوحيد الذي بقي لي من ماضي الجميل الرائع؟؟
جثة طفل.. لعله لم يبلغ الرابعة عشر من عمره تـهرأت أجزاء جسده السفلية إثر انفجار قنبلة كانت موضوعة تحت الأرض، وبالقرب منـه كان ينبطح عثمان..
دق قلبي هلعا.. قفزت حيث هو.. قلبته لا أثر للحياة في جسمه.. احتضنته.. كانت رائحة الدم تزكم أنفي بقوة..
أبعدني زوج خالتي، وأنا أصرخ باكيا في هستيرية.. ومد يده يحمل عثمان وينـهض بـه.. وهو يزجرني بقوة
- لا تبك هو بخير.. إنه حي.. يجب نقله إلى المستشفى حالا.. فورا.
وتناهى إلى سمعنا جرس سيارة الإسعاف يرتفع عاليا.. فتدافع الناس يفسحون الطريق، وبدأت أصوات استنكارهم تخفت رويدا رويدا..
وضعوه في النقالة وبجانبـه زوج خالتي وطفل آخر أصيب إصابات خفيفة وانطلقت سيارة الإسعاف تجلد من يعترض سبيلها بجرسها الحاد.
بعد نصف ساعة تقريبا كنت أقف عند رأس عثمان أبادله الابتسامة، كان مصابا في ذراعه إصابة بليغة.. أما إصابة رأسه فكانت خفيفة، لا تبعث على القلق.. والمهم أنه سيخرج بعد يومين أو ثلاثة.. حالته لاتستدعي المكوث أكثر.
وكان المستشفى خلية نحل أصابها العطب… عشرات… بل مئات من الجرحى والمرضى… امتلأت بهم الأسرة فاضطروا إلى النوم على أفرشة فوق الأرض مباشرة.
تركنا خالتي وزوجها عند عثمان وسحبتني مريم بعيدا عنهما، كانت كلها رغبة في تَفَقُد المرضى والاطلاع على حالهم… نحن في المنفى أسرة واحدة، تجمعنا الآلام والآمال.. ويجمعنا الشوق للوطن.
في كل حجرة تشاهد جداريات مأساوية تنغرز في القلب النابض سكينا صدئة.. أشخاص فقدوا أرجلهم.. آخرون فقدوا أيديهم.. مرضى أنهكهم السقم.. ومص كل رحيق من وجوههم.. وآخرون كانوا معرضا للتشويه، بعضهم قص الصرب أنوفهم، أو آذانـهم، أو حتى شفاههم أو ألسنتـهم.. وحشية ما تخيلتها في حياتي أبدا.
كانت مريم تسير بجواري منقبضة الوجه مرتعدة الجوارح لا تنطق إلا دمعا.. وكيف لمثلها أن يفعل غير ما فعلت؟؟
ألم تقطف الغيلان حلمها الجميل حين أينع..؟؟
ألم يغتالوا البسمة من قلبـها البريء الجميل …؟؟
وفجأة رأيتـها تجمد في مكانـها تمثالا مرمريا لا تقدر على الحراك.. جذبتها من يدها الرقيقة لم تتحرك.. ثم فجأة تهاوت إلى الأرض جثة لاحراك بها.
هرع الطبيب والممرضون.. بعد لحظات أعادوها إلى وعيها.. رمت بكل ما حولها.. وعادت إلى مكانـها وأنا أتبعها.
حينما دخلت عليـها الحجرة وجدتـها تنكفئ على شاب منتحبة فوق صدره.
جرها الممرضون بعيدا وأخبروني أن هذا الشاب عبر الحدود البارحة وهو في حالة يرثى لها.. لقد سكنت رصاصة رئتـه اليسرى، وقد أجروا له العملية البارحة، ولعله سيتعافى بعد أيام، ولكنه سيعود إلى وعيه هذه الليلة.
وعلمت منـها بعد ذلك أنـه خطيبها الذي ضحى بنفسه من أجلها.. وكانت ظنتـه قد مات.. هاهي الأقدار تجمع بينهما من جديد.. ماذا وقع له؟؟ كيف نجا من الموت؟؟ لا أحد يعرف.
انسحبنا عائدين إلى مأوانا.. مريم رفضت ذلك رغم إلحاح خالتي وزوجها.. منعوها من البقاء داخل المستشفى لكنـها قررت أن تبقى خارجه… تحتضن الجدار … وتعد الدقائق لتعود فترى حبيبها حيا يرزق.. ماكانت تتوقع كل الذي وقع.. الحياة قاسية حقا ولكن فيـها صدف حلوة.
وامتزجت في نفسي أحزان وأفراح..
ها صديقي عثمان ينجو بأعجوبة من الموت الذي ظل يطاردنا حتى خارج الوطن..
و ها مريم تبذر شذا البسمة على تضاريس وجهها..
وهذه هي الحياة دمعة وابتسامة.. وكما تدمى عيوننا.. لا يجوز أن نفوت فرصة للفرح.

-7-
أصبحت الشمس مشرقة دافئة.. فدبت حركة غير عادية داخل مخيمات البؤس والشقاء والغربة.. لعل الناس بدأوا يسترجعون أنفاسهم الآن ويستردون ما ضاع من قوتـهم وجلدهم..
كانت خالتي تغسل الثياب التي كومتها بجانبها، وبالقرب منها مريم تجثو على ركبتيها تغسل شعرها الكستنائي الطويل، وابنة خالتي زينب تساعدها على ذلك.
لم تعد مريم كما عهدتـها يوم ظهرت أول مرة في أسرتنا فتاة كئيبة حزينة دامعة العين والقلب، لقد بدأ الأمل يبزغ على تضاريس جسدها الفاتن، ويطل من شرفة عينيها اللتين عاد إليهما التألق.
لقد فقدت كل شيء وحين أوشك اليأس يغتالها أطل نجم سعدها من جديد، وخفق قلبا نابضا بالحب، ولعل المقادير ستمسح بيدها الحانية على جراحاتها فتبلسمها وتذهب ندوبـها وأتراحها..
وتصورتُ مريم بستانا افترسه وحش القحط فجف ويبس وسودت أزهاره وسنبلاته، فلما طمعت الريح في أن تعبث بالحياة فيه أدركه الغيث فأينع من جديد، ورقصت فوقه الأطيار والفراشات زاهية الألوان.
وحلق بي الخيال استرجع طفولتي المغتالة.. قريتي التي أجهضوا حلمها البريء..
ما أجمل تلك الروابي التي أينعتُ بين جنباتـها زهرةَ أقحوان..
وغردتُ فوق أكماتـها شحرورا..
ورقصتُ فوق أزهارها وأعشابـها فراشة جميلة حالمة!!
وضعت لعبتي عند جذع شجرة البرتقال واندفعت أعدو خلف فراشة ظهرت للتو، تراقص الأزهار كأنـما تستعرض كفاءتـها في الرقص.. كأنما تتحداني أن أمسكها، أو أتمكن من النظر إليها بإمعان وأكتشف دقائقها الفاتنة الجميلة.
مددت رجلي اليمنى فاليسرى.. خطوة حذرة أخرى.. ثالثة.. وارتميت على الأرض لتلسعني أشواك زهرة مدت عنقها إلى السماء.. أما الفراشة فقد تعالت راقصة ضاحكة من سذاجتي وفشلي..
طوى عثمان الكتاب الذي كان يتصفحه،وراح ينظر إلي باندهاش شديد، في عينيه تزاحمت أسئلة مختلفة،وأدركت للتو أنني تجاوزت حدي في الحلم،وبقدر ما أحسست بالخجل من صديقي عثمان،أحسست بالندم كأنما ارتكبت ذنبا لأننا أدركنا جميعا أن أحلامنا قد اغتيلت فلا حق لنا فيها.
وأردت أن أشرح الأمر لصديقي الذي مازال ينظر إلي مندهشا بعينين حائرتين براقتين تدوران في وجه أصفر نحيف رسمت عليه المأساة جداريات للبؤس والحزن.
لكن عثمان بادرني بالسؤال لينقلني إلى ضفة أخرى، يفتح في قلبي الصغير المكلوم هاوية للفجيعة.
- ماذا بشأن الدراسة..؟ ألم تعدك خالتك بأنها ستدخلنا المدرسة فور عبورنا الحدود؟
- أجل وعدتنا بذلك… لكني سمعت الشيخ يخبرها أن البعثة القطرية قد أقامت مدرسة كاملة التجهيزات، مع التكفل التام بالطلبة علاجا وغذاء ولباسا وتعليما، ولقد سجلت مريم نفسها فيها لتكون معلمة، ولعل زوجها سيلتحق بـها بمجرد أن يخرج من المستشفى صحيحا معافى.
وبقدر ما كان هذا القرار مفرحا سعيدا بقدر ما كان محرجا.. أين الأتراب الذين عرفناهم وصادقناهم سنوات طويلة..؟ وأين المعلمون الذين تعودنا عليهم وتعودوا علينا خاصة معلمي المفضل؟
وفاجأني الشيخ كأنما هبط من السماء، ومباشرة سلمنا ورقتين وقلمين، وطلب منا طلبا عجبا.
- ارسما شمسا على وشك الشروق.. شمس الفجر وقد بدأت تمد خيوطها تـهزم الظلام.. وأي الرسمين يكون الأجمل تكون له الجائزة.
ودون أن نتفوه بكلمة واحدة شرعنا في التنافس وفي فضاء قلبي تشرق شمس قريتنا برتقالية على قمة الجبل، تدغدغ رؤوس أشجار السرو والزان والسنديان.
وأحسست بالغبطة تغمر كامل القلب الصغير، وأنا أتأمل صورتي التي أتقنتها، فرحت أفاخر بها صورة صديقي عثمان التي كنت أحسبها أحسن من صورتي، لكن أنانيتي أبت علي الاعتراف بذلك، فرحت أكشف عيوبه.
وفجأة داهم مخيمنا صخب وضجيج كأنما هو رعد هادر.. أمواج بشرية تقتحم ساحاتنا في غير انتظام.
واندفعت أنا وعثمان باتجاههم نستطلع الأمر، لكن خالتي أسرعت إلينا فأعادتنا حيث المخيم ومنعتنا من أن نتحرك قيد أنـملة.
لم يكن الوافدون وأكثرهم كانوا رجالا إلا لاجئين.. لا ينقصهم شيء فهم يتلقون أرفع أنواع المساعدات المادية من لباس وغذاء ودواء، ولكنهم لم يستطيعوا تحمل مظاهر الاعتداء على الحرمات.. بل وحتى عمليات الخطف.. خطف الصغار خاصة الإناث، وتهريبهم عبر البحار لبيعهم حيث يستغلون لممارسة البغاء والدعارة.
اكفهرت نفسي وأنا أسمع هذه الأنباء المزعجة المخيفة، ما للمآسي تطاردنا أينما حللنا وحيثما ذهبنا؟
وإذا فررنا من أعدائنا هناك، فكيف نتمكن هنا من الفرار؟
وسمعت زوج خالتي يؤكد أن الكوسوفي قد يسمح في كل شيء إلا أن يدنس عرضه وشرفه.. وأن يباع أبناؤه عبيدا في سوق النخاسة، ولذا لابد من احتجاج الجميع حتى تعطى الضمانات في حفظ الأعراض والكرامات.
وبدأ الضجيج يخفت رويدا رويدا وراح المحتجون ينسحبون.. مما أثار في نفوسنا أسئلة وحيرة.
وأقبل الشيخ ليخبر زوج خالتي أن المشكلة قد حلت، وأن الإخوة في الكويت قد أسرعوا إلى المكان فور معرفتهم حقيقة هؤلاء اللاجئين، وقد قرروا استقبالهم منذ الغد في ملاجئ تليق بكرامتهم وتحفظ شرفهم.
كان هذا الموقف جبارا زرع في نفوسنا المكلومة حدائق الأمل، ولكن الأنباء التي مازالت تصلنا في كل حين كانت تحمل إلينا فجائع لا يمكن تصورها أبدا.. مجازر جماعية..انتهاك للحرمات.. قتل للأطفال والرضع.. حرق للمساجد والمعالم الأثرية..
وأعدت إلى ذاكرتي زوج خالي وهو يقص قصة تلك المرأة التي ذبحوا صغيرها، وأنضجوه أمامها، ثم أرغموها كي تأكل جزء منه حتى لا يفعلوا ذلك بكل أفراد أسرتـها.
وانكمشت على نفسي ارتعد خوفا وأنا أتذكر أخت عثمان أرنبا تقلى في التنور.
- 8 -
قام الناس هذا الصباح على تداول أخبار تفشي الحمى والإسهال مما نشر الرعب والفزع في قلوب الجميع، أتلك أعراض لداء خطير سيعصف بالأرواح كما تعصف الرياح العاتية بأوراق الأشجار الصفراء؟
واشتد هول الناس حين تبين أن الطعام المقدم إليـهم معونات من الدول الغربية ومن الصليب الأحمر الدولي هو الذي سبب هذا الإسهال الحاد.
ورأيت زينب ثائرة تقول:
إنهم يقتلوننا بطرق أخرى.. فكيف سيدافعون عنا..؟ كيف يدافعون عنا؟
وترد عليها خالتي وقد انتفش شعرها وتطاير الزبد من بين شدقيها.
- من نجا من الموت المتوحش هناك يقتلونـه بالموت البطيء هنا.. تعسا لهم.. كلهم ملة واحدة.
وفجأة قدم الشيخ وعلى محياه ابتسامته المعهودة، وبجواره شخص اكتشفت من اللحظة الأولى من خلال ملامحه وملابسه أنـه من جمعيات الإغاثة الغربية.
قال الشيخ كأنـما يهدئ من روع خالتي :
- عهدي بك هادئة.. فابقي هادئة.. لا خوف.. السيد فرانك أمريكي الجنسية.. وهو ممثل جمعيات ومنظمات الإغاثة هنا في ألبانيا.. وقد سمع بالذي وقع فجاء ليطمئنكم، ويؤكد أن الأمر لا يعدو أن يكون تغييرا لأنواع الطعام.. نحن لم نألف هذه الأنواع من الأطعمة.
واندفع السيد فرانك يشرح ملوحا بيده دون أن نفهم من أنجليزيته شيئا، وكان الشيخ يتدخل من حين لآخر ليشرح ما يقول.
وحين سكت السيد فرانك لمحت الشيخ يشرق، وهو يخرج من جيبـه ظرفا أبيض يلوح به في الأعلى، وهو يقول:
- اطمأنت قلوبكم؟ وسأزيدكم فرحا، خذوا هذه الرسالة.
وهدأت ثورة خالتي فجأة بعد أن تأهبت لتنقض على السيد فرانك.. هدأت تماما كالنار المستعرة تهاطل عليـها الغيث.
وواصل الشيخ كلامه وهو يتأمل هدوء خالتي بابتسامة وديعة.
- ممن؟؟ إنـها من سليمان..
وسكت يتصفح الوجوه التي انبسطت فرحا.
من سليمان.. رسالة منه؟ كيف؟ ومع من بعثها؟ وامتدت الأيدي جميعا تتلقفها.. وتفضها.
نشرتها زينب، وراحت تقرأ، ونحن جميعا خلفها نتأمل الخط، وزوج خالتي يقفز فرحان كطفل وجد لعبتـه الضائعة فجأة قائلا:
- إنه خطه، أجل إنـه خطه.. واصلي القراءة.. واصلي.
ولأول مرة ألمح شمس خالتي تشرق على كامل الوجه.. لأول مرة يرحل الشتاء القاتم من فوق تضاريس محياها.
في الرسالة كثير من البشائر.. هو والإخوان بخير.. وصلابتـهم تزداد كل يوم قوة.. خاصة حين بدأت قوات الأعداء تتراجع أمام ضربات جيش التحرير.. وضربات الحلف الدقيقة.. ولعلهم لن يصمدوا أكثر من أشهر ينتهي بعدها كل شيء.. ويعود الجميع إلى ديارهم.
خطفت خالتي الرسالة من يد ابنتها.. قبلتها.. طوتها ثم أدخلتها صدرها.
وهل هناك مكان آخر لما يصدر من القلب إلا القلب؟؟ إلا القلب الدافئ النابض..؟؟
اقترب موعد الزيارة الثانية، لابد أن نطمئن على عثمان، وعلى زوج مريم التي لم تبرح مكانـها عند جدار المستشفى.
وقرر زوج خالتي بـهذه المناسبة العظيمة.. مناسبة وصول رسالة من سليمان أن يكلف نفسه ويشتري هدايا لعثمان وزوج مريم.
تأخرنا قليلا في المدينة عن موعد الزيارة لقد انشغلنا باختيار الهدايا.. حين وصلنا وجدنا الجميع قد سبقونا كان عثمان بخير إذ بمجرد أن وصلنا وسلمناه الهدية حتى قام معنا وفي يده تسريحه الطبي..
اتجهنا حينـها إلى الغرفة التي يرقد بـها خطيب مريم..
وجدناها عند سريره تشد يده إلى صدرها تعطرها بدموعها.. كان هو هادئا يتحدث بصوت خافت.. يبدو بخير رغم الإعياء الشديد الذي كان يظهر على محياه.
تراقص الفرح من عيني مريم، وراحت تقدمنا بمجرد أن وصلنا على أننا أسرتها التي فقدتها.. أمها.. أبوها.. أخوها.. أختها.. أحسسنا جميعا بالغبطة الحميمية، وراح هو يرحب بنا بإماءة من رأسه، وبتمتمات تتسلل من بين شفتيـه خافتة.
حين عدنا أدراجنا إلى المخيمات وجدنا أنباء جديدة نزلت على قلوبنا بردا وسلاما.. وانتشلتنا من ضياعنا وحيرتنا.. وأعادت إلى نفوسنا كثيرا من الأمل.
لقد تكفل بعض الإخوة الألبان بكل الأطفال والعجزة.. سيتم الإيواء في منازلهم.. ولو اضطروا إلى تفريغ البيوت من أُسرهم.
وأسرعنا نجهز أنفسنا للرحيل.. سأذهب أنا وعائشة وعثمان وستصحبنا خالتي لترعانا وتقوم على شؤوننا، وربما سيلتحق بنا زوج مريم حين يخرج من المستشفى.. في المنزل ستكون الإقامة مريحة، وسنكون بمنأى عن لسعات البرد والمطر والمرض..
وما هي إلا ساعات حتى كنا في البيت الجديد.. بيت مكون من ثلاثة طوابق ملأنا كل فراغ فيه.. المستودعين.. والحجرات.. والأروقة كنا سبعين فردا أكثرنا أطفال ورضع، ورغم الاكتظاظ فقد كنا نحس بالغبطة والسعادة..
عند الغداء وزعوا علينا بانتظام شديد خبزا وجبنا وعلب عصير وقطع كعك وشيكولاطة.. ولأول مرة أحس أني أكلت طعاما بأتم معنى الكلمة.
بعد سـاعة من ذلك أو أكثر حضـر الشيخ.. اشرأبت إليـه الأعناق مستبشرة، كان عن يمينـه كهلان أحدهما يرتدي بذلـة والآخر يرتـدي لباسا عربيا.. عباءة بيضاء وكوفية منقطة.. شد انتباهي هذا الثاني.. وهذا اللباس الجميل.. وهذا المحيا الأسمر المشرق.. لاشك أنـه من مدينة الرسول التي حدثتني عنـها جدتي الشهيدة -رحمها الله- وابن خالتي سليمان كثيرا.
نطق الشيخ فسكتنا جميعا دفعة واحدة.. وجه التحية باسمنا جميعا إلى الألبانيين الذين فتحوا لنا صدور المحبة والأخوة، وانتشلونا من الضياع، وكرر شكره الأخوي للدكتور الحاج إبراهيم صاحب المنزل.
كان الحاج إبراهيم رجلا قارب الخمسين.. طويل القامة.. أحمر الشعر.. ذا لحية خفيفة.. يلبس بدلة سوداء ويضع ربطة عنق حمراء.
وفاجأنا الشيخ حين أخبرنا أن الدكتور إبراهيم قد نقل أسرتـه إلى أصهاره ولم يبق في البيت إلا هو.. بل إلا نحن فقط.. أما هو فإنـه ينام الآن في سيارتـه.. وأنه يقضي كل نهاره في خدمة اللاجئين.
وتعلقت عيوننا وقلوبنا بـهذا الرجل الملائكة، وهمس عثمان في أذني:
- أرغب في تقبيله.
وكان شعوره كشعوري.. كم وددت أن أرتمي في حضنـه وأقبله.. أريد منه أن يضمني.. ويضمني.. ويضمني..
وتذكرت حضن والدي الدافئ، ولحظات المرح والسرور التي كنا نقضيها معا في الحقل أو في البيت… لا تنتهي قصصه أبدا ولا دعاباته.. كلما أكمل واحدة جاء بأخرى، كالينبوع العذب يتفجر حياة وسعادة وحنانا.
وأخذ الحاج إبراهيم الكلمة مؤكدا أننا بين إخواننا وفي أرضنا، وأن كل شرفاء المعمورة يقفون معنا ويبكون لبكائنا، فالبشر اليوم صاروا أسرة واحدة لا تفرقها الأديان ولا الألسنة ولا الألوان، كلهم أبناء هذه الأرض منها خلقوا وإليها يعودون.. ولا مناص لهم من التراحم والتآخي.
وعاد الشيخ يأخذ الكلمة من جديد.. مد يده هذه المرة مصافحا مرافقه الثاني بحرارة وهو يقول لنا.
أنتم أيـها الشعب العظيم أغلى من كل غال.. وأعظم من كل عظيم.. هاهم (وأشار إلى مرافقه) أولاء إخوانكم العرب وقد فزعوا فزعة رجل واحد، وهبطوا هذه الأرض بطائراتـهم يحملون إليكم غذاءكم ولباسكم ودواءكم.. والقادم القادم أعظم.
ورددنا في فوضى باسمة عبارات الشكر والتقدير، ونحن نودعهم على أمل أن نلقاهم دائما حين نحتاج إليهم.
ومنذ ذلك صارت تصلنا متطلباتنا كاملة.. أطعمة رفيعة.. ألبسة.. أغطية.. أدوية…
وبدأت حياتنا تتحسن شيئا فشيئا.
- 9 -
زرت هذا الصباح مع عثمان مأوانا الأول.. كانت السماء صافية إلا من قزعات بيضاء تفرقت هنا وهناك.. وكانت الشمس ترسل بدفء محتشم يلف أجسادنا ومخيماتنا.. لاحظنا حركة غير عادية كأنـما الناس يجمعون أمتعتـهم استعدادا للرحيل.. ما الذي وقع؟؟ إلى أين نحن ذاهبون؟؟ أهي العودة للوطن؟؟ أم هو رحيل آخر في دروب التشرد والضياع؟؟
الحقيقة أني لم أكن ألمح شيئا من الحزن والأسى على الوجوه كالذي كنت ألمحه من قبل.
وصلنا إلى مخيمنا، وجدنا زينب ومريم منـهمكتين في جمع الأمتعة والأثاث، ولاحظت كأنـما فاجأهما حضورنا على حين غرة فسألت مباشرة.
- إلى أين؟ ما هذا الاستعداد؟ أهو رحيل آخر؟
- أجل هو رحيل آخر.
هكذا أجابت زينب دون أن تنظر إلي، وقبل أن أواصل أسئلتي الملحاحة سمعت زوج خالتي يجيب من خلفي عما كان يدور في خلدي.
-إلى حيث تستريح.. لقد تطوع الإخوة من الإمارات العربية بكل شيء.. أقاموا للاجئين مخيمات حديثة بها كل ضروريات الحياة.. وبقربها أقاموا أقساما للدراسة ومستشفى وملعبا صغيرا.
وقاطعته مريم مواصلة.
- من اليوم سنودع التشرد وإلى الأبد، لقد وفروا لنا كل شيء.. حتى الحماية والأمن.. طائراتهم لا تتوقف لحظة واحدة عن الهبوط هنا محملة بكل ما نريد وما نحتاج..
ورفعوا جميعا أكف الضراعة إلى الله أن يحفظ بلاد العرب من كل سوء..
أما أنا فقد هزتني الدهشة.. كل هذا يفعله الإخوة العرب؟ ماأكرمهم؟ وأعظمهم؟ اللهم احفظهم لنا إخوانا
ولم يتركني زوج خالتي في دهشتي بل ضربني على كتفي ودعاني إلى العمل معهم استعدادا للرحيل.
مساء ذلك اليوم انتقلنا إلى مخيمنا الجديد.. دخلنا بانتظام، كل أسرة لها خيمة حسب عدد أفرادها.. ولها كل ما تحتاجه..
حين استقر بنا الأمر تمددت فوق مرقدي فرحا، هذا لأني ما عدت أحس في هذا الموطن بالغربة.. لست أدري أشعور عابر؟ أم شعور دائم وأبدي؟
حين حضرت خالتي وعائشة رحت مع عثمان نتجول في هذه المدينة الجديدة.. كانت اللافتات تملأ المخيم كله مكتوب عليها بكثير من اللغات، قرأت بعضها.
نعم للأخوة الكوسوفية العربية
مرحبا بالأميرة العربية
من تكون هذه المرأة؟ وما سبب مجيئها إلى هذا المكان..؟ لحق بنا الجميع، بدأت الحركة تشتد.. تدافع الناس ورجال الأمن يعملون جهدهم من أجل تنظيمنا.
كان الشيخ على رأس الواقفين هناك ومعه بعض المسؤولين من شعبنا وآخرين من الألبان.. وكان زوج خالتي بجوار الشيخ.
تدافعت بين الحاضرين لأصل حيث هم لكن رجال الأمن تدخلوا وأمروا الأطفال بالانسحاب إلى الملعب وتحت ضغطهم انسحبت مع عثمان.
كان الملعب ميدانا لكرة القدم.. وللكرة الطائرة، وبجوارهما أراجيح وقفت هنا وهناك فوق الحشيش.
وبدأت الخطوات تقترب منا.. رنوت بعيني كان الوفد يزحف بتؤدة إلى الملعب تتقدمه الأميرة بطلعتها العربية السمراء، ترتدي وشاحها الأسود الذي زادها وقارا وجلالا.
توقف الأطفال جميعا دفعة واحدة عن اللعب… سكنت كل حركة فيّ، وبقيت جامدا حيث أنا فوق الأرجوحة، أنقِّل الطرف بين الأميرة وبين المحيطين بـها.. زوج خالتي والشيخ وآخرون، وقد رفرفت الفرحة من عيونـهم وحلقت فوق تضاريس وجوههم.
توقفت الأميرة عندي فغمرني شعور من الفرحة العارمة، خاصة وهي تنحني فتطبع على جبهتي قُبلة، رحلت معها إلى الشرق حيث الجذور متينة قوية..
مسحت على رأسي وأخذت من مرافقها لعبة سلمتها إلي.. ضممتها إلى صدري.. أمرتْ المرافقين لها بتوزيع باقي اللعب على الأطفال الآخرين.
نطقت الأميرة بكلمات في الجميع، أدركت أنـها موجهة إلينا نحن معشر الأطفال أكثر من غيرنا.. ترجمها الشيخ بسرعة :
نحن إخوانكم.. والواجب يدعونا أن نقف معكم في السراء والضراء، الآن وحتى تعودوا إلى أرضكم منتصرين بإذن الله.. وبعد العودة الميمونة لبناء صرح الوطن وتشييد حصونه، لترتفع عليها راية المحبة والسلام خفاقة كما خفقت منذ قرون..
علا التصفيق والهتاف.. ثم تدافع الجميع مبتعدين عنا وتفرق الأطفال كل يمارس لعبته المفضلة.. وفي الوقت الذي اندفع فيه صديقي عثمان للعب كرة القدم امتطيت أنا صهوة الأرجوحة، ورحت أدغدغها ببطء إلى الأمام وإلى الخلف، أغني أغنية الوطن الجميلة، وأتخيل الأطفال اللاعبين أمامي فراشات جميلة تدغدغ خد الأرض في براءة وتحلم بشروق الشمس.

عين ولمان/سطيف/الجزائر05/06/1999