محمد بن سعيد الفطيسي
25/12/2007, 09:04 PM
إن من أهم ما يمكن أن يشار به إلى هذه الأمة العظيمة , على أنه السمة المميزة التي أعطتها أحقية قيادة البشرية من بين كل أمم الدنيا قاطبة , هو بعثها على أكتاف كوكبة من الرجال القادة الشرفاء , الذين أضاءت أفعالهم البطولية تاريخ مجدها وعزها الخالد , قادة تميزوا بصفات كفلت لهم الاستثناء التاريخي , في مختلف فنون القيادة السياسية والجيواستراتيجية في ذلك العهد الذهبي , وما بعده وحتى نهاية الكون والوجود , حيث برزوا كزعماء للعالم في وقت فقدت فيه البشرية أغلى ما يمكن أن يقودها إلى بر السلامة والأمان , ويخرجها من ظلام الجاهلية القاسية ,- ونقصد - القائد العادل بجميع امتداداته الأخلاقية والإنسانية والروحية , تلك الخصائص التي تناولها الأستاذ الكبير أبو الحسن الندوي في كتابه " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " بكل تفاصيلها المشرقة الرائعة , فأشار إليها واليهم – أي – ذلك الجيل من الأقمار المشرقة , بأنهم ( كانوا جامعين بين الديانة والأخلاق , والقوة والسياسة , وكانت تتمثل فيهم الإنسانية بجميع نواحيها وشعبها ومحاسنها المتفرقة في قادة العالم , وكان يمكن لهم - بفضل تربيتهم الخلقية والروحية السامية , واعتدالهم الغريب الذي قلما اتفق للإنسان , وجمعهم بين مصالح الروح والبدن , واستعدادهم المادي الكامل وعقلهم الواسع – أن يسيروا بالأمم الإنسانية إلى غايتها المثلى الروحية والخلقية والمادية ) , وان يخرجوا العالم من قيود العبودية والجاهلية إلى رحاب الحرية والإنسانية وسعة الإسلام 0
نعم000 فمن أقمار ذلك الجيل الخالد , أشرقت شمس هذه الأمة العظيمة , هذه الأمة التي لم تولد من فكرة فلسفية دنيوية , أو من أيديولوجية ثورية بشرية فانية , أو من انقلاب دموي أثيم , أومن نبت وطني أو طائفي أو عنصري أو مذهبي , فإذا كان كذلك كما يدعي الكثيرين من أعداء هذه الأمة , فان الانقلاب التاريخي والثوري الوحيد الذي أحدثه المؤسس والقائد والمعلم – أي – محمد صلى الله عليه وسلم , كان انقلاب في الإيمان والأخلاق والتربية والمعاملات , والفكرة الخالدة الوحيدة التي تبناها كان مخرجها السماء , ومستقرها ارض قاحلة جدباء , فأصاب جاهليتها في مقتلها , فتحولت بفضل الله إلى ارض حية خضراء , أما النبت فكان التسامح والتواضع والكلمة الطيبة والخلق الحسن , كما قال صلى الله عليه وسلم { أنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق }, لذا فان في مآثرهم التي سجلها التاريخ ذو الأربعة عشر قرنا , لدليل واضح لمن أراد الحقيقة دون تحريف ولا تزييف , على أن لهذه الأمة الإسلامية فضل كبير على بقية أمم الدنيا, وأحقية في الزعامة والقيادة والتوجيه , وان لأولئك الرجال الشرفاء , الفضل على هذه الأمة فيما وصلت إليه من مجد وعزة وفخار, وما حققته من انجازات تاريخية كفلت لها تلك القيادة الكونية والزعامة الدولية , كما أراد لها الخالق عزوجل 0
لذا فإننا ومن خلال هذا الطرح , سنحاول باختصار تناول بعض من تلك الصفات القيادية التي تميز بها ذلك الجيل من القادة الشرفاء , الذين تخرجوا في مدرسة الإسلام , وعلى يد القائد والمعلم صلى الله عليه وسلم , والتي ضربت أروع الأمثلة في العزة والكبرياء والشموخ والحكمة والتسامح مع العالم بشكل عام , وفيما بينها بشكل خاص , فصنعت مجد هذه الأمة وعزتها وكرامتها من تلك الخصال الأخلاقية , وكيف استطاعت هذه الأمة بفضل أولئك الرجال القادة من الاستمرار والتقدم , رغم كل تلك التحديات والمواجهات والصعاب الداخلية والخارجية التي تعرضت لها هذه الأمة على مدى مسيرتها ؟ , وكيف تعامل ذلك الجيل من الرجال العظماء مع خلافاتهم واختلافاتهم الفكرية والسياسية وغيرها من جوانب الحياة العسكرية والمدنية ؟ فلم تأخذهم كراسي السلطة والحكم والسيادة والوزارة بعيدا عن أولويات أمتهم وضرورياتها الملحة , أو جنحت بهم رغباتهم الشخصية وحبهم للمال والمغنم حيث وقعوا في المحظور من حماها , كما حدث بالفعل بعد غروب شمس ذلك الزمن العظيم , وليكون ذلك كدليل على إمكانية عودة هذه الأمة انطلاقا من تلك النماذج رغم كل ما يحيط بها من تحديات وصعاب , وكما قال المستشرق البريطاني مونتجومري وات في جريدة التايمز البريطانية في آذار من العام 1968م بأنه ( إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام , فان من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى ) 0
فعسى أن يجد قادة هذا الجيل منها , وزعاماتها ومخططيها والقائمين على حدودها وأبناءها في تلك الأمثلة الخالدة , مخرج لهم ولها , مما يواجههم ويواجهها من تحديات بلغت حد السقوط والتردي والانحطاط , والتمزق بين النزاعات والتشرذم والتقزم الحضاري والتاريخي والمدني , بل وتحولت – مع الأسف - إلى تابع لأمم نحن من علمها قيم الحضارة ومفاهيم السياسة والاقتصاد والمعاملات , وخصوصا في وقت نحن مقبلين فيه على العديد من المتغيرات السياسية العالمية والتحولات الاقتصادية الدولية المتسارعة , والتي يفترض أن نعايشها ونتعامل معها بكل جرأة وقوة وإرادة وتصميم , يكفل لهذه الأمة البقاء على قمة هرم القيادة العالمية كما أريد لها 0
فبداية لابد أن ندرك أن هذه الأمة قد قامت ونهض بنيانها على ثبات الأيمان وقوة المنطق الذي تحلى به خاتم المرسلين في دعوته ككل , وبدايتها على وجه الخصوص , فلم يثنيه عذاب الجاهلين , ولم يلويه كيد المعتدين , ولم يغريه الملك والزعامة عندما عرضت عليه للتخلي عن هذا الدين , فقال قولته التي لا زال صداها يتردد في أرجاء الكون { يا عم لو وضعت الشمس في يميني , والقمر في يساري , ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله , أو اهلك دونه }, فكانت كلمات علمت الدنيا , كيف هو ثبات الرجال عند الشدائد والصعاب والتحديات ! و كيف يصنع الإيمان الحقيقي الصادق في نفوس الشرفاء جدار مناعي تجاه طوفان التقلبات والمتغيرات الحضارية والمدنية والنفسية , ليكون بذلك الإيمان أهم صفة من الصفات التي لابد أن يتحلى بها القائد المسلم , فحطم بذلك بنيان الأنانية والفردية , وأرسى قوائم الأمة بالتضحية والإيثار والعطاء , فلم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربي ذلك الجيل تربية دقيقة وعميقة , ولم يزل القران يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم , حتى أثار الذخائر البشرية ( وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف غناءها , ولا يعرف محلها , وقد إضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض , فاوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة , وبعث فيها الروح الجديدة , وأثار من دفئنها , وأشعل مواهبها , ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له , وكأنما كان المكان شاغرا لم يزل ينتظره ويتطلع إليه , وكأنما كان جمادا فتحول جسما ناميا وإنسانا متصرفا , وكأنما كان ميتا لا يتحرك فعاد حيا يملي على العالم إرادته , وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائدا بصيرا يقود الأمم ) { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس , كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } صدق الله العظيم , وهكذا تخرج ذلك الجيل , فاسعد الكون في ظله وتحت حكمه , فعمر الأرض , ونشر السلام والمحبة والأخوة والعدالة 0
نعم 00 أرسى ذلك الجيل الذي تعلم على يد القائد الأول , قواعد المحافظة على مكانة هذه الأمة انطلاقا من مفاهيم لم يسبقهم إليها احد , وان كان فليس كما تعاملوا معها أو من خلالها , ومن صفات تميزوا بها وحافظوا عليها , ككونهم ( أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية , فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم , لان ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم , - وكونهم – قادة لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية كتزكية النفس , بخلاف غالب الأمم والإفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر , - وكونهم – لم يكونوا خدمة جنس ورسل شعب أو وطن , يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده , ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان ) , بل كان كل همهم هذه الأمة وعزتها , فحياتهم بحياتها , وأرواحهم فداء مكانتها ومجدها ودينها 0
فكانت تلك الخصال والخصائص النفسية والأخلاقية والإنسانية سالفة الذكر , منهج سياسي وعلمي وعالمي متفرد , كان من المفترض أن يسير على نهجه قادة هذه الأمة وصانعي قرارها ومصيرها , ودستور تتعلم منه الأجيال القيادية القادمة طريقة إدارة الدول والشعوب والحكومات , فمن الإيمان أرسى ذلك الرعيل إرادته السياسية مع بقية الأمم اقتداء بإيمان المبعوث رحمة للعالمين , ومن وخز الضمير والأنفة والعزة والاستهانة بالزخارف تعامل مع البشرية بشموخ المسلم , فضربوا أروع الأمثلة على ذلك , فهذا ربعي بن عامر يبعثه سعد قبل القادسية رسولا إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم , ( فيدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير , واظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة , وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة , وقد جلس على سرير من ذهب , ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط , ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد , واقبل وعليه سلاحه ودرعه , وبيضته على رأسه , فقالوا له :- ضع سلاحك , فقال :- إني لم اتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني , فان تركتموني هكذا وإلا رجعت , فقال رستم :- ائذنوا له , فاقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها , فقالوا له : - ما جاء بكم ؟ - أي انتم يا أتباع الإسلام – فقال :- الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله , ومن ضيق الدنيا إلى سعتها , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ) 0
وهذا عمر الفاروق يضرب أروع الأمثلة في العدل بين الرعية , فينام قرير العين لا يخاف على نفسه من الاغتيال وعلى حكمه من الانقلاب , حتى قال فيه رسول كسرى قولته المشهورة التي لا زال صداها يتردد على مسامع كل فقراء الأرض والمحتاجين والضعفاء " حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر " , كما يطالعنا تاريخ هذه الأمة العظيم كذلك , بنماذج أخرى لا تقل روعة في العطاء والإيثار والحكمة والخوف على هذه الأمة من رعيل الصحابة , فهذا ابن عباد والى اشبيلية , وقد أراد النصارى حصاره والقضاء على ملكه , فيستنجد بابن تاشفين من المغرب , فيأتيه بعض ملوك الطوائف , فيقولون له يا ابن عباد :- كيف تستنجد بابن تاشفين ؟ فيقول :- وماذا في ذلك ؟ فقالوا :- انه إذا جاء ونصرك سيحتل ملكك , فقال لهم :- وماذا ترون ؟ فقالوا :- لو استنجدت بأحد ملوك النصارى كما يفعلون هم لقتال هذا الملك , فقال لهم كلمة خالدة سطرها التاريخ للأبد , فلم تقل روعة وإيمان وثبات عن كلمات رسول كسرى في عمر , حيث قال ابن عباد :- لان أكون راعيا للجمال عند ابن تاشفين وهو مسلم أحسن من النهاية التي ستكون , فسأكون راعيا للخنازير عند هذا النصراني الذي سيأتي ويساعدني , فرعي الجمال خير من رعي الخنازير , وبالفعل فقد استنجد بابن تاشفين , فنصره نصرا مؤزرا مكرما 0
وختاما فإننا نؤكد للذين يتصورون بان حال هذه الأمة قد بات حال العاجز عن الحراك والتنفس بان المستقبل لها , رغم كثرة ما تعانيه من القلاقل والتفرق والتشرذم والانتكاس في مختلف شؤون الحياة وجوانبها , وخصوصا الجانب السيادي والقيادي الذي اعتزلته بسقوط آخر المعاقل الإسلامية - أي - الإمبراطورية العثمانية , وعليه فقد بات الأمل بناء على الوضع الذي تمر به هذه السنوات بين الأمم الراهنة , ضعيف بعودة تلك المكانة التاريخية والحضارية التي صنعها ذلك الجيل لهذه الأمة من جديد , لدرجة أن نجد من أبناءها من يحيط به اليأس لدرجة القنوط والتشكك بإمكانية إعادة شرايين الحياة لهذا الجسد المنهار , مع أن الأيام تؤكد لمن أراد الدليل , بان مثل هذه الأمة لا يمكن أن تموت أبدا , ولو رجعنا للتاريخ لوجدنا بان هذا الحال الذي نمر به هذه السنوات قد تكرر على مدى عمرها - أطاله الله - , وقد استطاعت بفضل الله وإرادة الرجال القادة الشرفاء من أبناءها , من العودة من جديد إلى الساحة الدولية , كخير امة أخرجت للناس , وما هذا الحال الذي نمر به هذه السنوات سوى تلك الصورة التي عبر عنها ارنولد توينبي في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل بقوله :- ( إن الوحدة الإسلامية نائمة , ويجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ ) 0
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
كاتب بصحيفة الوطن بسلطنة عمان
رئيس تحرير صحيفة الساعة السورية الالكترونية
مشرف عام الواحة السياسية - بمنتديات المعهد العربي للبحوث
والدراسات الاستراتيجية بالاردن
نعم000 فمن أقمار ذلك الجيل الخالد , أشرقت شمس هذه الأمة العظيمة , هذه الأمة التي لم تولد من فكرة فلسفية دنيوية , أو من أيديولوجية ثورية بشرية فانية , أو من انقلاب دموي أثيم , أومن نبت وطني أو طائفي أو عنصري أو مذهبي , فإذا كان كذلك كما يدعي الكثيرين من أعداء هذه الأمة , فان الانقلاب التاريخي والثوري الوحيد الذي أحدثه المؤسس والقائد والمعلم – أي – محمد صلى الله عليه وسلم , كان انقلاب في الإيمان والأخلاق والتربية والمعاملات , والفكرة الخالدة الوحيدة التي تبناها كان مخرجها السماء , ومستقرها ارض قاحلة جدباء , فأصاب جاهليتها في مقتلها , فتحولت بفضل الله إلى ارض حية خضراء , أما النبت فكان التسامح والتواضع والكلمة الطيبة والخلق الحسن , كما قال صلى الله عليه وسلم { أنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق }, لذا فان في مآثرهم التي سجلها التاريخ ذو الأربعة عشر قرنا , لدليل واضح لمن أراد الحقيقة دون تحريف ولا تزييف , على أن لهذه الأمة الإسلامية فضل كبير على بقية أمم الدنيا, وأحقية في الزعامة والقيادة والتوجيه , وان لأولئك الرجال الشرفاء , الفضل على هذه الأمة فيما وصلت إليه من مجد وعزة وفخار, وما حققته من انجازات تاريخية كفلت لها تلك القيادة الكونية والزعامة الدولية , كما أراد لها الخالق عزوجل 0
لذا فإننا ومن خلال هذا الطرح , سنحاول باختصار تناول بعض من تلك الصفات القيادية التي تميز بها ذلك الجيل من القادة الشرفاء , الذين تخرجوا في مدرسة الإسلام , وعلى يد القائد والمعلم صلى الله عليه وسلم , والتي ضربت أروع الأمثلة في العزة والكبرياء والشموخ والحكمة والتسامح مع العالم بشكل عام , وفيما بينها بشكل خاص , فصنعت مجد هذه الأمة وعزتها وكرامتها من تلك الخصال الأخلاقية , وكيف استطاعت هذه الأمة بفضل أولئك الرجال القادة من الاستمرار والتقدم , رغم كل تلك التحديات والمواجهات والصعاب الداخلية والخارجية التي تعرضت لها هذه الأمة على مدى مسيرتها ؟ , وكيف تعامل ذلك الجيل من الرجال العظماء مع خلافاتهم واختلافاتهم الفكرية والسياسية وغيرها من جوانب الحياة العسكرية والمدنية ؟ فلم تأخذهم كراسي السلطة والحكم والسيادة والوزارة بعيدا عن أولويات أمتهم وضرورياتها الملحة , أو جنحت بهم رغباتهم الشخصية وحبهم للمال والمغنم حيث وقعوا في المحظور من حماها , كما حدث بالفعل بعد غروب شمس ذلك الزمن العظيم , وليكون ذلك كدليل على إمكانية عودة هذه الأمة انطلاقا من تلك النماذج رغم كل ما يحيط بها من تحديات وصعاب , وكما قال المستشرق البريطاني مونتجومري وات في جريدة التايمز البريطانية في آذار من العام 1968م بأنه ( إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام , فان من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى ) 0
فعسى أن يجد قادة هذا الجيل منها , وزعاماتها ومخططيها والقائمين على حدودها وأبناءها في تلك الأمثلة الخالدة , مخرج لهم ولها , مما يواجههم ويواجهها من تحديات بلغت حد السقوط والتردي والانحطاط , والتمزق بين النزاعات والتشرذم والتقزم الحضاري والتاريخي والمدني , بل وتحولت – مع الأسف - إلى تابع لأمم نحن من علمها قيم الحضارة ومفاهيم السياسة والاقتصاد والمعاملات , وخصوصا في وقت نحن مقبلين فيه على العديد من المتغيرات السياسية العالمية والتحولات الاقتصادية الدولية المتسارعة , والتي يفترض أن نعايشها ونتعامل معها بكل جرأة وقوة وإرادة وتصميم , يكفل لهذه الأمة البقاء على قمة هرم القيادة العالمية كما أريد لها 0
فبداية لابد أن ندرك أن هذه الأمة قد قامت ونهض بنيانها على ثبات الأيمان وقوة المنطق الذي تحلى به خاتم المرسلين في دعوته ككل , وبدايتها على وجه الخصوص , فلم يثنيه عذاب الجاهلين , ولم يلويه كيد المعتدين , ولم يغريه الملك والزعامة عندما عرضت عليه للتخلي عن هذا الدين , فقال قولته التي لا زال صداها يتردد في أرجاء الكون { يا عم لو وضعت الشمس في يميني , والقمر في يساري , ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله , أو اهلك دونه }, فكانت كلمات علمت الدنيا , كيف هو ثبات الرجال عند الشدائد والصعاب والتحديات ! و كيف يصنع الإيمان الحقيقي الصادق في نفوس الشرفاء جدار مناعي تجاه طوفان التقلبات والمتغيرات الحضارية والمدنية والنفسية , ليكون بذلك الإيمان أهم صفة من الصفات التي لابد أن يتحلى بها القائد المسلم , فحطم بذلك بنيان الأنانية والفردية , وأرسى قوائم الأمة بالتضحية والإيثار والعطاء , فلم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربي ذلك الجيل تربية دقيقة وعميقة , ولم يزل القران يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم , حتى أثار الذخائر البشرية ( وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف غناءها , ولا يعرف محلها , وقد إضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض , فاوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة , وبعث فيها الروح الجديدة , وأثار من دفئنها , وأشعل مواهبها , ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له , وكأنما كان المكان شاغرا لم يزل ينتظره ويتطلع إليه , وكأنما كان جمادا فتحول جسما ناميا وإنسانا متصرفا , وكأنما كان ميتا لا يتحرك فعاد حيا يملي على العالم إرادته , وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائدا بصيرا يقود الأمم ) { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس , كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } صدق الله العظيم , وهكذا تخرج ذلك الجيل , فاسعد الكون في ظله وتحت حكمه , فعمر الأرض , ونشر السلام والمحبة والأخوة والعدالة 0
نعم 00 أرسى ذلك الجيل الذي تعلم على يد القائد الأول , قواعد المحافظة على مكانة هذه الأمة انطلاقا من مفاهيم لم يسبقهم إليها احد , وان كان فليس كما تعاملوا معها أو من خلالها , ومن صفات تميزوا بها وحافظوا عليها , ككونهم ( أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية , فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم , لان ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم , - وكونهم – قادة لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية كتزكية النفس , بخلاف غالب الأمم والإفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر , - وكونهم – لم يكونوا خدمة جنس ورسل شعب أو وطن , يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده , ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان ) , بل كان كل همهم هذه الأمة وعزتها , فحياتهم بحياتها , وأرواحهم فداء مكانتها ومجدها ودينها 0
فكانت تلك الخصال والخصائص النفسية والأخلاقية والإنسانية سالفة الذكر , منهج سياسي وعلمي وعالمي متفرد , كان من المفترض أن يسير على نهجه قادة هذه الأمة وصانعي قرارها ومصيرها , ودستور تتعلم منه الأجيال القيادية القادمة طريقة إدارة الدول والشعوب والحكومات , فمن الإيمان أرسى ذلك الرعيل إرادته السياسية مع بقية الأمم اقتداء بإيمان المبعوث رحمة للعالمين , ومن وخز الضمير والأنفة والعزة والاستهانة بالزخارف تعامل مع البشرية بشموخ المسلم , فضربوا أروع الأمثلة على ذلك , فهذا ربعي بن عامر يبعثه سعد قبل القادسية رسولا إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم , ( فيدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير , واظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة , وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة , وقد جلس على سرير من ذهب , ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط , ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد , واقبل وعليه سلاحه ودرعه , وبيضته على رأسه , فقالوا له :- ضع سلاحك , فقال :- إني لم اتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني , فان تركتموني هكذا وإلا رجعت , فقال رستم :- ائذنوا له , فاقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها , فقالوا له : - ما جاء بكم ؟ - أي انتم يا أتباع الإسلام – فقال :- الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله , ومن ضيق الدنيا إلى سعتها , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ) 0
وهذا عمر الفاروق يضرب أروع الأمثلة في العدل بين الرعية , فينام قرير العين لا يخاف على نفسه من الاغتيال وعلى حكمه من الانقلاب , حتى قال فيه رسول كسرى قولته المشهورة التي لا زال صداها يتردد على مسامع كل فقراء الأرض والمحتاجين والضعفاء " حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر " , كما يطالعنا تاريخ هذه الأمة العظيم كذلك , بنماذج أخرى لا تقل روعة في العطاء والإيثار والحكمة والخوف على هذه الأمة من رعيل الصحابة , فهذا ابن عباد والى اشبيلية , وقد أراد النصارى حصاره والقضاء على ملكه , فيستنجد بابن تاشفين من المغرب , فيأتيه بعض ملوك الطوائف , فيقولون له يا ابن عباد :- كيف تستنجد بابن تاشفين ؟ فيقول :- وماذا في ذلك ؟ فقالوا :- انه إذا جاء ونصرك سيحتل ملكك , فقال لهم :- وماذا ترون ؟ فقالوا :- لو استنجدت بأحد ملوك النصارى كما يفعلون هم لقتال هذا الملك , فقال لهم كلمة خالدة سطرها التاريخ للأبد , فلم تقل روعة وإيمان وثبات عن كلمات رسول كسرى في عمر , حيث قال ابن عباد :- لان أكون راعيا للجمال عند ابن تاشفين وهو مسلم أحسن من النهاية التي ستكون , فسأكون راعيا للخنازير عند هذا النصراني الذي سيأتي ويساعدني , فرعي الجمال خير من رعي الخنازير , وبالفعل فقد استنجد بابن تاشفين , فنصره نصرا مؤزرا مكرما 0
وختاما فإننا نؤكد للذين يتصورون بان حال هذه الأمة قد بات حال العاجز عن الحراك والتنفس بان المستقبل لها , رغم كثرة ما تعانيه من القلاقل والتفرق والتشرذم والانتكاس في مختلف شؤون الحياة وجوانبها , وخصوصا الجانب السيادي والقيادي الذي اعتزلته بسقوط آخر المعاقل الإسلامية - أي - الإمبراطورية العثمانية , وعليه فقد بات الأمل بناء على الوضع الذي تمر به هذه السنوات بين الأمم الراهنة , ضعيف بعودة تلك المكانة التاريخية والحضارية التي صنعها ذلك الجيل لهذه الأمة من جديد , لدرجة أن نجد من أبناءها من يحيط به اليأس لدرجة القنوط والتشكك بإمكانية إعادة شرايين الحياة لهذا الجسد المنهار , مع أن الأيام تؤكد لمن أراد الدليل , بان مثل هذه الأمة لا يمكن أن تموت أبدا , ولو رجعنا للتاريخ لوجدنا بان هذا الحال الذي نمر به هذه السنوات قد تكرر على مدى عمرها - أطاله الله - , وقد استطاعت بفضل الله وإرادة الرجال القادة الشرفاء من أبناءها , من العودة من جديد إلى الساحة الدولية , كخير امة أخرجت للناس , وما هذا الحال الذي نمر به هذه السنوات سوى تلك الصورة التي عبر عنها ارنولد توينبي في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل بقوله :- ( إن الوحدة الإسلامية نائمة , ويجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ ) 0
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
كاتب بصحيفة الوطن بسلطنة عمان
رئيس تحرير صحيفة الساعة السورية الالكترونية
مشرف عام الواحة السياسية - بمنتديات المعهد العربي للبحوث
والدراسات الاستراتيجية بالاردن