المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العرب وخيار الطاقة النووية



محمد بن سعيد الفطيسي
25/12/2007, 09:12 PM
لم تعد مصادر الطاقة التقليدية , او الأحفورية في الوقت الراهن كالنفط والغاز على سبيل المثال , قادرة على تلبية الطلب العالمي المتزايد عليها وذلك لأسباب عديدة , أبرزها وأهمها على الإطلاق أن هذه المصادر بنفسها قد بدأت تعيش مرحلة النضوب او بلوغ الأوج الجيولوجي للإنتاج من جهة , أما من جهة أخرى فان ما بقي منها لن يتعدى كونه كمية ضخمة من الهيدروكربونات الرديئة , التي يحتمل أن تكون تكاليفها أعلى بكثير من الناحية المالية والسياسية والبيئية , وقد تنبه العالم إلى هذا المأزق الذي سيحول الحضارة الراهنة إلى قطعة من الخردة في حال لم يتوصل الإنسان إلى بديل لتلك المصادر المتآكلة , وذلك قبل فترة ليست بالقصيرة من الزمن, راجع مقالنا - مصادر الطاقة بين السياسة والبقاء الإنساني - وفي هذا السياق خلص الباحث الأكاديمي المتخصص في مجال الطاقة راسل أيه 0 براون , من مختبر أرغون القومي , بالولايات المتحدة الأميركية , في مقال تحت عنوان Critical paths to The post-petroleum Age , او المسارات الحرجة إلى عصر ما بعد البترول , إلى أن الإنتاج العالمي للبترول سيبدأ بالهبوط في العقد القادم - بداية من العام 2015 م - وقد تخطت الآن معظم الأمم المنتجة للبترول أوج إنتاجها منه.
وبالفعل فقد كانت ردة الفعل الطبيعية لمعظم دول العالم وخصوصا الصناعية منها , والناتجة عن تراكم تلك المخاوف من نفاد الطاقة التقليدية , البحث عن بعض الوسائل البديلة كالطاقة الشمسية والطاقة النووية على سبيل المثال لا الحصر , وقد كانت هذه الأخيرة - أي - الطاقة النووية , على رأس البدائل التي وجد فيها العالم حلا سريعا لمشاكله الراهنة , وخصوصا من خلال حاجته الماسة إلى توفير الطاقة الكهربائية الإستراتيجية , بحيث تستخدم الطاقة النووية في توليد الحرارة اللازمة من خلال التفاعلات الانشطارية لنواة اليورانيوم المشع , وتستخدم هذه الحرارة في تحويل الماء إلى بخار يوجه لتحريك التوربينات التي تحرك ملفات كبيرة في مجال مغناطيسي , فتعمل على توليد الطاقة الكهربية , وقد كان البرنامج النووي الأميركي من أقدم البرامج النووية المعروفة على هذا الصعيد , فقد بدا في عام 1942 م بشكل سري , وكانت الولايات المتحدة الأميركية في ذلك الوقت قد (حظرت نشر أي معلومات تتعلق بالطاقة الذرية , وذلك خوفاً من أن تكون ألمانيا النازية هي السباقة إلى امتلاك القنبلة الذرية , وقد استمر فرض هذا القيد بعد عام 1945 م من أجل تأخير أعمال السوفييت , وفي عام 1954 م وبعد أن أجرى الاتحاد السوفيتي أول تجربة له على سلاحه النووي , تم التخلي عن هذا السر لصالح السياسة المعروفة بسياسة " الذرة من أجل السلام " ، فبات بإمكان الدول الراغبة في تطوير أعمالها في مجال الذرة , الحصول على مساعدة الولايات المتحدة الأميركية شرط أن تتعهد تلك الدول باستخدامها بغرض الأهداف السلمية لا غير.
ومنذ ذلك الوقت والطاقة النووية تلعب دورا هاما في تغيير شكل العالم بوجه عام , وذلك من خلال توفير البديل اللازم للطاقة الإستراتيجية في ظل تناقص المخزون العالمي من المحروقات , وخصوصا مع هذا الارتفاع الجنوني لأسعارها خلال القرن الحادي والعشرين , والتي باتت تشكل معضلة كبيرة للعديد من دول العالم , وعلى وجه التحديد تلك الدول الكبرى المستهلكة منها كالولايات المتحدة الأميركية والصين ودول الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال لا الحصر , وقد كان الشرق الأوسط جزء من هذا الصراع العالمي على هذه الطاقة الإستراتيجية , وذلك بعد وقت قصير جدا من القرار الذي أجاز لدول العالم استخدام هذه الطاقة للأغراض السلمية في عام 1954 م , وهو العام الذي وافقت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة على تأسيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية - ونقصد - من خلال إعلان المستعمرة الإسرائيلية رسميًا عن إنشاء أول لجنة من نوعها للطاقة الذرية , لتكون بذلك الجهة الدولية الأولى في الشرق الأوسط , التي تعلن وبشكل رسمي بأنها ماضية قدمًا في طريق حيازة وامتلاك الطاقة النووية.
بعدها بعام واحد فقط - أي - في عام 1955 م , بدأت أولى الدول العربية العمل على مشروعها النووي الخاص للطاقة الإستراتيجية - ونقصد - مصر , وذلك بتشكيل لجنة الطاقة الذرية المصرية , وبعد وقت قصير من ذلك العام , وقعت مصر في سبتمبر 1956 م اتفاقا مع روسـيا بشأن الطاقة الذرية , كان نتيجته إقامة المفاعل النووي البحثي الأول الذي بدأ سنة 1961 م باسم مفاعل أنشاص , وفي سنة 1957 حصلت مصر على معمل للنظائر المشعة من الدانمارك ثم وقعت القاهرة اتفاق تعاون نووي مع المعهد النرويجي للطاقة الذرية , لتكون بذلك المستثمر العربي الأبرز والأقدم في هذا المجال , تلتها العراق في عام 1968 م , وذلك بحصولها من الاتحاد السوفيتي على أول مفاعل نووي خاص بها , وبعد ذلك العام بسبع سنوات تقريبا - أي - في 1975 م , زودت فرنسا العراق بمفاعلين يعملان باليورانيوم المخصب , وأطلق على أكبرهما (تموز واحد) , أما الصغير فيستخدم مفاعلا تجريبيا للكبير , وفي عام 1983 م وقعت الدولة العربية الثالثة وهي الجزائر اتفاقا مع الصين يتضمن تشييد مجمع نووي للاستغلال السلمي , ووقع البلدان اتفاقية في نفس المجال في مايو من العام 1997 م , وتمتلك الجزائر اليوم مفاعلين نوويين بقدرة ضعيفة يستخدمان للأغراض السلمية, أحدهما يعرف باسم مفاعل السلام وقدرته 15 ميغاوات وقد تم افتتاحه في 21 ديسمبر 1993 , لتكون بذلك تلك الدول الثلاث الأساس التاريخي للمشاريع النووية العربية للطاقة النووية السلمية , وصاحبة الامتياز العربي في هذا المجال , وما عدا ذلك ظلت مجرد محاولات لم يكتب لها النجاح والاستمرار , كما حدث مع المشروع النووي الليبي للطاقة النووية , والذي تخلت عنه طوعيا في العام 2003 م.
وقد كان للتغيرات الجيوبوليتيكية والجيواستراتيجية الدولية الراهنة , دور بالغ في إعادة إحياء المحاولات العربية في هذا المجال خلال هذا القرن , مدفوعة بمخاوف من تغير غير محسوب لموازين القوى في هذه البقعة الحساسة من العالم في أي لحظة , وعلى وجه التحديد في ظل وجود المستعمرة الإسرائيلية الكبرى كقوة نووية وحيدة يحسب لها ألف حساب في هذه المنطقة , وخصوصا بسبب امتلاكها للمئات من الرؤوس النووية التي اعترفت بحيازتها أخيرا , كما كان للبرنامج النووي الإيراني وما ترتب عليه من مواقف إقليمية ودولية , دور آخر في دفع وتشجيع العديد من الدول العربية نحو السعي لتحقيق ما عجز او تخلى عنه بعضها في وقت ما , هذا بخلاف المخاوف المتزايدة من نفاد مصادر الطاقة الحيوية الرئيسية المتوفرة لهذه الدول - أي - النفط والغاز , وغيرها من الدوافع التي باتت تشكل الحافز الاستراتيجي لضرورة الاستثمار في هذا القطاع الحساس للطاقة , وكدافع حتمي لوجود قوة ردع عربية في مواجهة البرنامج النووي الإسرائيلي السلمي والعسكري.
وعلى هذا الصعيد فقد أكد المدير العام للهيئة العربية للطاقة الذرية الدكتور محمود نصر الدين , أن هناك إرادة عربية لتنفيذ القرارات السياسية الصادرة عن القمة العربية الأخيرة في الرياض , وذلك بهدف دخول العرب من جديد في مجال الاستخدام السلمي للطاقة الذرية , وأكد الدكتور محمود نصر الدين أن الهيئة قد شرعت في وضع إستراتيجية عربية للاستخدامات السلمية حتى عام 2052 م , وكذلك وضع برنامج عربي مشترك في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية , وشدد المدير العام للهيئة العربية للطاقة الذرية على أن إسرائيل سوف تستغل كافة القوانين والتشريعات الدولية لإعاقة أي تقدم حضاري وتقني عربي , لان قلبها ضد العرب وهذا أمر واضح , وأضاف انه فيما يخص مجال الطاقة النووية كان العرب قادرين على التعاطي مع موضوع التطبيقات السلمية للطاقة الذرية , وهو ما يعني وجود كوادر عربية متخصصة في مجال الكهرباء والزراعة والصناعة والطب وغيرها , وهذا هو الأمر الذي يزعج إسرائيل , لأنه سيكون هناك مزاحمة لها في هذه المجالات , ونفى المدير العام ما تدعيه إسرائيل بان العرب ممكن أن يسيروا في سباق تسلح معها , ولو أننا نرى في هذا الأمر حق مشروع للدول العربية بهدف الحفاظ على أمنها القومي وعمقها الاستراتيجي في ظل التهديدات الإسرائيلية المتكررة , وتحسبا لأي طارئ مستقبلي على هذا الصعيد.
وبالفعل فقد بدأت المستعمرة الإسرائيلية الكبرى وبشكل علني , حملتها المضادة للبرامج النووية العربية عقب الإعلان عنها مباشرة , وحتى قبل أن يبدأ العمل فيها , فقد عبر وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي افيغدور ليبرمان بتاريخ 10 / 11 / 2007م , عن مخاوفه من برنامج مصر النووي على سبيل المثال , معتبرا انه سيشكل سيناريو لكارثة رهيبة لإسرائيل , وحذر زعيم حزب إسرائيل بيتنا اليميني المتطرف للناطقين باللغة الروسية من انه إذا بدأت مصر والسعودية برنامجا نوويا فان ذلك يمكن أن يؤدي إلى سيناريو كارثة رهيبة بالنسبة لنا في إسرائيل , وأضاف الوزير المتطرف بان نواياهم - أي - العرب يجب أن تأخذ على محمل الجد , وفي هذا المجال فقد أعلن الرئيس المصري محمد حسني مبارك بتاريخ 29 / 10/ 2007 م أن مصر ستمتلك محطات نووية مدنية عدة , مطلق بذلك برنامج مصر النووي الذي جمد منذ كارثة تشرنوبيل في 1986 م , وقد أعلنت كذلك في نفس الوقت عدد من دول الخليج العربي رغبتها في امتلاك الطاقة النووية بينها السعودية , هذا على غرار عدد آخر من الدول العربية كالأردن وليبيا على سبيل المثال لا الحصر.
ولكن أكثر ما يخيفنا في هذا الأمر , هو استغلال العديد من دول العالم لتلك الطاقة بشكل سلبي , وذلك من خلال السعي لإقامة برامج نووية عسكرية , وبالتالي السعي لامتلاك الأسلحة النووية , او من خلال الخوف من وقوع سر هذه الطاقة في يد المنظمات الإرهابية الدولية , فتتحول تلك الطاقة السلمية من طاقة لخدمة البشرية ورفاهيتها إلى طاقة لتدميرها , وهو ما يتأكد لنا اليوم من خلال الآلاف من الرؤوس النووية التي تقبع في جوف الأرض , فهي بكل حق أدوات الفناء والقتل الجماعي التي صنعها الإنسان في هذا السباق العالمي المحموم نحو الجنون والموت , وما تخفيه باطن الأرض من تلك النعوش, أكبر بكثير من حقيقة أن الأسلحة النووية المعلنة وحدها , قادرة على تدمير الكرة الأرضية لأكثر من 12 مرة بشكل متتالي , راجع مقالنا - قبل اختفاء الحضارة و مقال العالم في مواجهة الإرهاب النووي.
وختاما فانه بات من الضروري أن يتنبه العالم العربي إلى ضرورة امتلاكه لهذه الطاقة الإستراتيجية المستقبلية بشكل علمي ومدروس من جميع الجوانب الفنية والعلمية والبشرية , ويسعى بإرادة سياسية قوية وواضحة نحو استثمارها للأغراض السلمية , وذلك بهدف مواجهة التحولات السياسية والاقتصادية العالمية , كارتفاع أسعار النفط والغاز على سبيل المثال , والتي باتت بحد ذاتها مشكلة مؤرقة لابد من التصدي لها ومواجهتها , كما أن تلك الطاقة ستكون البديل الأنسب لازمة نفاد الطاقة الأحفورية الراهنة في المستقبل , وكخطوة عربية جريئة لتوفير الأمن القومي العربي في هذا المجال الحيوي , وخصوصا في ظل الدعم الأميركي اللامحدود للمستعمرة الإسرائيلية في مختلف الجوانب والمجالات الحيوية , وذلك بهدف تغيير وقلب موازين القوة في هذه المنطقة , بغية بقاء دولنا العربية في حالة من الخوف والرعب النووي الدائم.

باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
كاتب بصحيفة الوطن بسلطنة عمان
رئيس تحرير صحيفة الساعة السورية الالكترونية
مشرف عام الواحة السياسية - بمنتديات المعهد العربي للبحوث
والدراسات الاستراتيجية بالاردن