المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جدي/ قصة قصيرة / ابراهيم درغوثي/ تونس



ابراهيم درغوثي
26/12/2007, 12:40 PM
جدي
قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس


دست على فرامل السيارة بقوة حتى أزت العجلات . كان أمامي .في وسط الشارع العريض ، يدق الشارع بعصاه ، ويمشي بهدوء وتؤدة . تكاثرت السيارات ورائي وعلت أصوات مزاميرها . عندما التفت وراء العربات المحتجة ، رأيت في وجهه العريض ولحيته الكبيرة وحاجبيه الضخمين وعينيه الصغيرتين الحادتين صورة جدي . كدت أنزل من العربة لأحتضنه وأعود به إلى البيت لولا أصوات الاحتجاج الحادة القادمة من ورائي والتي جعلتني أضغط على دواسة البنزين .
تحركت السيارة من جديد ... ولكن صورة ذلك الشيخ الذي قطع عني الطريق عاودتني بإلحاح مجنون . حركت قلبي بعنف ، وجعلتني أسرح بعيدا بخيالي الجامح ...
رأيت جدي يلاعبني ... يرفع قميصي عن نطني ويدغدغني بيديه وفمه الكبير فتخزني لحيته ، وأضحك مقهقها . فيضحك لضحكي . وتضحك أمي . ويضحك أبي . وتضحك القرية كلها .وتضحك الشمس والسماء ... وعندما يسكت الجميع ، أواصل الضحك وحدي . وأهرب منه . أختبئ داخل حجرات البيت ، فيصيح : اخرج يا فار من هاك الغار . ولكنني لا أرد على ندائه ، فيواصل الصياح مرات عديدة ، بدون طائل ...إلى أن يهددني بعدم إكمال حكاية علي بن السلطان وغول الجبال السبعة .
جدي يا جدي ...جدي حارب الصهاينة سنة ثمان وأربعين . تطوع مع جماعة من أهل البلد . قال للفرنسيين انه ذاهب للحج . ولما وصل أرض مصر ، اشترى بارودة ، والتحق بالثوار . وعندما انتهت الحرب ، رجع يحمل في جسمه جروح الهزائم . قال سكان البلد انه بعد عودته من فلسطين ، ظل حزينا عاما كاملا . ولم يقل شيئا عن جراحه ، ولا عن رفاقه الذين دفنهم هناك .
ثم ، وكما تتفتح الزهور بعد صقيع الشتاء ، تفتح قلبه للحياة ذات صيف . قال : لقد ترقبت هذه الأيام مدة طويلة ، دعوني أطفر عن حزن عشرين عاما . صار لا ينام .يضع الراديو أمامه ، ويردد مع المنشدين الأغاني الحماسية :
بلادي ، بلادي ، بلادي * لك حبي ومرادي .
ثم يحرك الإبرة في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار .

كانت الطائرات تحترق في الجو . تشتعل فيها النيران ، ثم تسقط قطعا من الحديد الملتهب ... وكنا نشم رائحة لحم الطيار ... كانت روائح الشواء تخرج من فتحات لأبواق أجهزة الراديو ... وكنا نرقص . نختطف هذا اللحم المشوي . نتقاسمه قطعا صغيرة في حجم كف اليد. نأكله بنهم ونرقص ... وكانت النساء تزغرد بأصوات عالية ترتفع حتى السماء السابعة عندما كانت طائراتنا تهدم المعبد فوق رؤوس أنبياء بني إسرائيل الجدد . وكان جدي يرفع بارودته ويطلق النار في الهواء، ثم يحرك إبرة الراديو في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار...
بعد ستة أيام من بداية الحرب ، أحضرت له أمي ذات صباح قهوته وماء الوضوء . حيته ، فلم يرد عليها . قالت قد يكون النوم غلبه ، فتمدد ليستريح قليلا ... اقتربت منه . رأت عينيه مغمضتين . ورأت على وجهه العجوز أحزان الدنيا كلها ... نادت والدي بصوت مبحوح . أقبل يجري وجرينا وراءه ... كان جدي قد مات ... وكان مذيع الأخبار في إحدى المحطات البعيدة يردد : لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب ...
أشعل سائق سيارة في وجهي ضوء التقاطع عدة مرات ، فانتبهت إلى أن السيارة تسير وسط الشارع ... حركت المقود قليلا لأبتعد عن طريقه، ثم ضغطت على دواسة البنزين ...

أسماء حسن محمد
26/12/2007, 01:36 PM
أستاذ ابراهيم

أبدعت فيما سطرت.. لقد حركت هذه القصة ذكرياتي مع جدي وجدتي.. صحيح أنهم أصبحوا من الماضي ولم تبق منهم سوى حكاياتهم العبقة التي ما زالت تختزنها عقولنا ولكنهم في رأيي المتواضع هم الدعامة التي أسست ما نحن عليه الآن.. يعيشون معنا ما حيينا.. فحين تعترضنا الصعاب نتذكر كفاحهم ونضالهم.. وحين تشغلنا الهموم والمسئوليات نتذكر تفانيهم وإخلاصهم..... وحين تهاجمنا الوحدة نستأنس بذكرياتنا معهم.. نتذكرهم فتبسم ثغورنا وتفرح قلوبنا.... رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته

فيصل الزوايدي
26/12/2007, 01:57 PM
أخي الرائع ابراهيم الدرغوثي .. من لقاء كان صدفة مع شيخ يذكّر السارد بالجد جاءت هذه القصة كانها على غير سابق موعد او اصرار و ترصد .. تداخل اللحظة الزمنية من حاضر السيارة المرتبكة في زحمة السير الى الماضي و زحمة الذكريات .. ذكريات الطفولة الحالمة و اوجاع الهزيمة .. قدرة فائقة على نظم المتناثرات في سياق واحد بديع النظم ..
دمت متالقا
مع الود

ابراهيم اسعد
26/12/2007, 04:42 PM
ليس غريبا أن يكتب أستاذنا المبدع ابراهيم درغوثي
بهذا المستوى من الألق والدهشة.
قرأته قاصا وروائيا ومترجما وكان في كل هذه الأطياف الأدبية
قديرا ومبدعا وأنسانا.

فايزة شرف الدين
26/12/2007, 06:11 PM
:fl: الأخ / إبراهيم
كما عهدت في نصوصك القصيرة أم الروائية فإن هذا النص في غاية الجزالة .. لقد تأثرت جدا بقصتك .. وجعلتني أشعر أن الأمة العربية همومها واحدة ، وأننا كالجسد الواحد أذا تداعى عضو منها بالألم ، تداعت الأعضاء الأخرى من هذه الأمة العظيمة بنفس الألم .
رغم أن تونس بعيدة عن خط المواجهة .. فأنتم كنتم تشعرون شعورنا .. كنت صغيرة جدا فى هزيمة 67 , مع ذلك تتداعى إلي ذكريات الهزيمة كأنها حلم .. وفي 73 كبرت نوعا ما ، ولا زلت أتذكر أول كلمة سمعتها ، ولم أفقهها .. لقد عبرنا القناة .
إنني بالفعل أشعر بوجد وأنا أسطر هذه الكلمات .. فتعبيرك .. الطائرات كانت تحترق فوقنا .. كأنك فرد منا ، وتونس قطعة من شعبنا .. الذي راح من شبابه الشهداء من أجل إعلاء كلمة الحق ، ثم الدفاع عن الوطن .
أشكرك على هذا النص ، فأنتم شعب تونس ، لكم محبة في القلب . وليرحم هذا الجد ، وأي جد حضر حرب 48 للدفاع عن أرض فلسطين .

ابراهيم درغوثي
27/12/2007, 02:19 PM
أستاذ ابراهيم

أبدعت فيما سطرت.. لقد حركت هذه القصة ذكرياتي مع جدي وجدتي.. صحيح أنهم أصبحوا من الماضي ولم تبق منهم سوى حكاياتهم العبقة التي ما زالت تختزنها عقولنا ولكنهم في رأيي المتواضع هم الدعامة التي أسست ما نحن عليه الآن.. يعيشون معنا ما حيينا.. فحين تعترضنا الصعاب نتذكر كفاحهم ونضالهم.. وحين تشغلنا الهموم والمسئوليات نتذكر تفانيهم وإخلاصهم..... وحين تهاجمنا الوحدة نستأنس بذكرياتنا معهم.. نتذكرهم فتبسم ثغورنا وتفرح قلوبنا.... رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته

أختنا الكريمة : أسماء
شكرا على القراءة
شكرا على التقدير
مع ودي الدائم

ابراهيم درغوثي
27/12/2007, 02:21 PM
أخي الغالي فيصل
حضورك الدائم الى جانب نصوصي
يملأ القلب غبطة

ابراهيم درغوثي
27/12/2007, 02:25 PM
ليس غريبا أن يكتب أستاذنا المبدع ابراهيم درغوثي
بهذا المستوى من الألق والدهشة.
قرأته قاصا وروائيا ومترجما وكان في كل هذه الأطياف الأدبية
قديرا ومبدعا وأنسانا.


الغالي ابراهيم أسعد

اسعدتني بتعليقك
دام لك الود و التقدير

ابراهيم درغوثي
27/12/2007, 02:29 PM
:fl: الأخ / إبراهيم
كما عهدت في نصوصك القصيرة أم الروائية فإن هذا النص في غاية الجزالة .. لقد تأثرت جدا بقصتك .. وجعلتني أشعر أن الأمة العربية همومها واحدة ، وأننا كالجسد الواحد أذا تداعى عضو منها بالألم ، تداعت الأعضاء الأخرى من هذه الأمة العظيمة بنفس الألم .
رغم أن تونس بعيدة عن خط المواجهة .. فأنتم كنتم تشعرون شعورنا .. كنت صغيرة جدا فى هزيمة 67 , مع ذلك تتداعى إلي ذكريات الهزيمة كأنها حلم .. وفي 73 كبرت نوعا ما ، ولا زلت أتذكر أول كلمة سمعتها ، ولم أفقهها .. لقد عبرنا القناة .
إنني بالفعل أشعر بوجد وأنا أسطر هذه الكلمات .. فتعبيرك .. الطائرات كانت تحترق فوقنا .. كأنك فرد منا ، وتونس قطعة من شعبنا .. الذي راح من شبابه الشهداء من أجل إعلاء كلمة الحق ، ثم الدفاع عن الوطن .
أشكرك على هذا النص ، فأنتم شعب تونس ، لكم محبة في القلب . وليرحم هذا الجد ، وأي جد حضر حرب 48 للدفاع عن أرض فلسطين .

أختنا الغالية / فايزة
نعم أيتها الأخت الكريمة
العروبة في القلب في مشارق وطننا الكبير و في مغاربه
و جرح فلسطين في قلوب كل من تعاطف مع الانسان الباحث
عن حريته و كرامته
ممتن لتعليقك
و شاكر حضورك في نصي

حنين حمودة
29/12/2007, 03:20 PM
رائع كما دائما!

تقديري

صلاح م ع ابوشنب
30/12/2007, 03:46 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الاخ العزيز ابراهيم درغوثى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عاد بنا الشيخ الى الايام الحلوة أيام تكاتف الايادى وتئالف الارواح ، أيام كان قلب الواقف على الشاطىء الغربى للمغرب العربى عند المحيط يدق بنفس دقات الواقف عند شاطىء باب المندب على وتيره واحده بتخاطر واحد وروح واحده .. احتال على المستعمر واشترى بارودة وذهب طواعية ليدافع عن اخوة له هناك يحمل فوق كتفه الباروده ويحمل همهم فى صدره ليؤسس لبنة فى صرح الدفاع عن الوطن الكبير تحياتى لجدك وكل الاجداد الشم البواسل دعائى ان تعود ارواحهم فى اجساد شباب الامة المعاصر . تقبل اطيب تحياتى ،،،
اخوك صلاح ابوشنب

صلاح م ع ابوشنب
30/12/2007, 03:46 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الاخ العزيز ابراهيم درغوثى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عاد بنا الشيخ الى الايام الحلوة أيام تكاتف الايادى وتئالف الارواح ، أيام كان قلب الواقف على الشاطىء الغربى للمغرب العربى عند المحيط يدق بنفس دقات الواقف عند شاطىء باب المندب على وتيره واحده بتخاطر واحد وروح واحده .. احتال على المستعمر واشترى بارودة وذهب طواعية ليدافع عن اخوة له هناك يحمل فوق كتفه الباروده ويحمل همهم فى صدره ليؤسس لبنة فى صرح الدفاع عن الوطن الكبير تحياتى لجدك وكل الاجداد الشم البواسل دعائى ان تعود ارواحهم فى اجساد شباب الامة المعاصر . تقبل اطيب تحياتى ،،،
اخوك صلاح ابوشنب

دكتور/ مخلص أمين رزق
30/12/2007, 05:10 AM
الأستاذ الفاضل/ ابراهيم درغوثي
هذا ما فعله الجد ويكفيه شرفاً المحاولة الصادقة ؛ ولكن ماذا فعل الأبناء والأحفاد؟!!.
الحبكة القصصية رائعة ومعبرة جعلتنى أجلس بجوارك بالسيارة وأحلم معك بجدنا المشترك وأتذكر 67 حينما كنت طفلاً و73 حينما كنت طالباً بالثانوى وأفيق معك على "ضوء التقاطع".
دام قلمك المعبر الذى ينبش دائما فى ذكريات نفوسنا بحلوها ومرها ؛؛؛ مخلص أمين

دكتور/ مخلص أمين رزق
30/12/2007, 05:10 AM
الأستاذ الفاضل/ ابراهيم درغوثي
هذا ما فعله الجد ويكفيه شرفاً المحاولة الصادقة ؛ ولكن ماذا فعل الأبناء والأحفاد؟!!.
الحبكة القصصية رائعة ومعبرة جعلتنى أجلس بجوارك بالسيارة وأحلم معك بجدنا المشترك وأتذكر 67 حينما كنت طفلاً و73 حينما كنت طالباً بالثانوى وأفيق معك على "ضوء التقاطع".
دام قلمك المعبر الذى ينبش دائما فى ذكريات نفوسنا بحلوها ومرها ؛؛؛ مخلص أمين

خالد ابراهيم
31/12/2007, 11:28 AM
أخى وصديقى المبدع الرائع ابراهيم درغوثى
بلا شك قدمت لنا عملا مبهرا تملكت كل الخيوط فى هذا العمل وتملكت مشاعرنا
ارتباط الجد بالجهاد (واضح) وارتباط الواقع بالضعف (حقيقى)
الإشكالية هى لماذا الحاضر أسوأ والقادم مخيف
لماذا ارتبطت جماليات الماضى بالحب والقوة والحاضر ارتبط بذكريات عن الماضى
هل ضاع الحلم أم لا أمل
بلا شك أبهرتنى بحس اختيارك الموفق للجد ليكون رمزا لماضى كانوا فيه رجال
وجعلتنى أشعر بأن هناك أوفياء لهم فى زماننا الحالى
لكن هو وفاء الكلمة والحلم أن تتحول الكلمة الى فعل من رجال زماننا
أخى ابراهيم بلا شك عمل قيم وجميل بكل المقاييس الفنية والشعورية
دمت بكل ود
خالد ابراهيم

د.ملاك
31/12/2007, 12:07 PM
نص يزرع خلفه ماضينا وذكرياتنا العتيقة فجدي كان دوما يضمني اليه ويعطيني بعض الجنيهات لأشتري الحلوى كان حنونا جدا ولا يمكنني ان امحو صورته من على الذاكرة بالرغم من صغر سني حين ذاك
نص تألق محياه في طريق الحلم والذكريات
وارتدى عباءة سوداء حتى يخبرنا بأن الماضي قد مات ولكن هناك اشياء كثيرة تنبع في اوقات الاعتراف
فرحمة الله عليك جدي
انه نص رائع جعلتني عن طريقه ابوح الكثير
لقد عودتنا دوما بأن نرى الافضل
دمت مبدعا

ابراهيم درغوثي
04/03/2008, 02:00 AM
رائع كما دائما!

تقديري

الرائعة حنين
شكرا على القراءة
شكرا على التقدير