المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفراشات والغيلان الجزء الأول ويليه الجزء الثاني



عزالدين جلاوجي
29/12/2007, 03:15 PM
الفراشات والغيلان


الإهداء


ما أحقر الإنسان يضطهد الإنسان
إلى كل الثائرين ضد همجية الإنسان
وإلى الأطفال المضطهدين في كل شبر من هذه الأرض

فاتحة

أيتها الشمس المهربة من عيون النخيل..
من شرايين العراجين..
في حقائب القراصنة اللئام..
إلى مدائن الضباب والظلام..
ها قد عادت حمحمات الخيول..
في أرضنا المكابرة..
أرض الرجال السمر..
أرض الكرام..
فانتظرينا يا شمسنا..
نحررك من قيد الأفول..
من غرب الزنادقة الطغام..
فلا إشراق لك إلا في عيون النخيل..
في شرايين العراجين..
في أفقنا الذي لا يضام..

-1-
أجري.. أتعثر.. أنـهض.. أعدو.. أتعثر.. تنـهش الحجارة زبدة ركبتي.. نباح جنود يلسع قلبي الصغير خوفا.. أغمض عيني أو أكاد.. تغرق مقلتي في نـهر من الدموع.
أجري.. أتعثر.. أسيج لعبتي الصغيرة بذراعي النحيلتين.. أضمها إلى صدري.
أجري.. أتعثر.. تبكي ركبتاي دما.. يحاصرني نباح الجنود.. يغتال الهواءَ من حولي.. أحس بالاختناق.. تزداد دقات قلبي.. يكاد يطير مني.. يكاد ينفجر.
خطوات وألج البيت.. تطول المسافة.. يبْعُدُ الباب كبعد القمر.. أرجوك اقترب.. أرجوك انفتح.. إنـهم خلفي تكاد أشداقهم تلتهمني… أحس أنيابـهم تنغرز في لحمي الطري.. لحم ساقيَّ وإليتيَّ.
تمتد القهقهات عالية تلسع قلبي المرتجف كسوط إقطاعي جبار.. تلتف حول ساقي تشلهما عن الحركة تماما.. أتعثر.. أنـهض … أضم لعبتي إلى صدري.. أغرسها تجاويف القلب النابض.
أقاوم.. أتحدى.. أعدو بسرعة أشد.. تستمر قهقهات الكلاب أصيح ملء فمي:
- مـا..مـ..ا.. مـ..ا.. مـا. . مـ..ا. .
يقهقه الكلاب.. مازالوا يعدون خلفي.. أياديـهم تمتد تمسكني من رقبتي.. لا مازالت بعيدة عني لن يصلوا إلي.. سألج الباب قبلهم.. سأغلقه خلفهم.. سأضع عليـه كل ما في بيتنا من متاع ثقيل.. خزائن.. طاولات.. أسرة.. سيتصدى لهم أبي.. سيقتلهم.. يقتلهم جميعا.
أعدو.. ألهث.. تنقطع أنفاسي.. يجف ريقي.. أمد ذراعي اليمنى إلى أقصى نقطة.. شبر واحد يفصلني عن الباب تفزعني قهقهاتـهم.. صرخاتـهم.. وقع أقدامهم الغليظة.
لن ألتفت خلفي.. سألج الباب بسرعة، ثم أغلقه بسرعة ولن يمسكوا بي.. أمفتوح هو أم مغلق؟ أفي البيت أهلي أم غادروا؟ وإلى أين؟ هل يمكن أن تكون الكلاب قد افترستـهم قبلي؟
يضعضع الرعب أركان جسدي المتـهاوية.. تصطك ركبتاي.. أشد لعبتي إلى صدري لن يخطفها الكلاب مني.. لن يدوسوا عليـها بأقدامهم الغليظة… لن يأخذوها لأطفالهم.
تفتح أمي الباب على مصراعيـه.. يتوهج النور.. يتسلل إلى شغاف القلب.. يغتال عنـه الخوف..
تخطفني من العتبة..
تضمني إلى صدرها كالبرق..
تسقط لعبتي إلى الأرض تتدحرج بعيدا.. بعيدا..
أصـــرخ.
يقترب نباح الجنود وقهقهاتـهم.. وقع أقدامهم يزلزل تحتنا الأرض.. يكاد يدك البيت فوق رؤوسنا..
أصـــرخ.
-لعبتي أمي.. أرجوك.. لعبتي.. لعبتي.
أجهد نفسي لأتملص منـها … لابد أن أنقذ لعبتي.. لن يدوسوها بأقدامهم الخشنة.. بحوافرهم البغلية.. لن يبتزوها مني.
ورميت بنفسي على الأرض.. تدلت يداي وجذعي كله.. لكن أمي بقيت تمسك وسطي بقوة.. أوصدت الباب خلفها.. غلَّقه أبي.. وابتلعتنا أحضان البيت..
رعب يستولي على الجميع.. رعب لم أره في عيون أفراد أسرتي من قبل أبدا.. عيونـهم تدور في محاجرها تكاد تنفجر… ينبعث منـها بريق منكسر.. متخاذل.. حائر.
يصلون.. يشرعون في التـهام الباب.. يغتال الخوف الجميع فيركنون إلى زوايا الحجرة.. يشرنق الهلع أمي.. تبتلعنا في حضنـها أنا وأختي الصغيرة عائشة ذات العام ونصف العام.
كنت أجهش بالبكاء ولاشيء بقي في نفسي إلا لعبتي، ماذا فعلوا بـها؟ هل اغتنموها..؟ استولوا عليـها كما يستولي اللص على ممتلكات غيره..؟ هل داسوها بأقدامهم فمزقوها.. فشتتوا أجزاءها؟ وخلتـها تصرخ فيَّ.. تناديني.. تستغيث بي..
أتململ في مكاني أحاول أن أتملص من الحصار الرهيب القوي الذي فرضتـه علي والدتي.. لم تكن تريدني أن أبكي، ولا أن أجهش، ولا أن أنطق بكلمة واحدة.. فقط يجب أن ألزم الصمت.
ولم أكن أدري ما الذي وقع؟ ماذا فعلت حتى يعدو خلـفي هؤلاء؟ ماذا فعلت أسرتي؟ لماذا يـهاجمون منزلنا؟
لماذا تخاف أسرتي وتستسلم بـهذا الشكل؟ وبـهذه الطريقة؟ لماذا لم يخرج أبي لمواجهتـهم وقد كان دائما يظهر أمامي بمظهر الرجل الشجاع الذي لا يخاف؟
الآن يجب أن استفسر عن الأمر..
يجب أن أجلو الحقيقة الغامضة..
سألت بصوت خافت:
- أمي..
ردت بصوت خافت أيضا
- اسكت إنـها الغيلان.. الغيلان ستلتـهمنا جميعا.. فقط يجب أن تسكت لكي لا تتفطن إلينا.
قطعت أختي الصغيرة أنفاسها في الوقت الذي كنت أسمع دقات قلبـها الصغير بوضوح.
لزمت أنا الصمت أيضا نزولا عن رغبة أمي وخوفا من هاتـه الغيلان.. هل هذه هي التي كانت تخوفنا بها جدتي ليلا كلما أمعنا في إثارة غضبها؟
لقد صدقت أمي.. لقد رأيتهم.. إنهم مزيج من بشر وكلاب وخنازير.. طوال عراض يحملون قطعا حديدية تلمع.. يلبسون أحذية ثقيلة.. مخالب أياديـهم طويلة حادة.. مناخيرهم مدببة.. آذانـهم ممتدة إلى الأعلى أصواتـهم نباح وتكشير.
التهمت الغيلان بمخالبها نصف الباب، وبدأت الزمجرات تصل آذاننا بوضوح.
ضغطت أمي على فمي بيدها المرتجفة.. هممت أن أسألها عن أمر خطر بذهني ثم صرفت بالي عن ذلك ومددت يدي فأحطت يد أختي الصغيرة، ولزمت الصمت..
الصمت وحده سيد الموقف..
الصمت وحده سبيل النجاة.. طريق النجاح.
ومن تحت إبط والدتي كنت أرقب الأحداث كلها.. كل ما يدور في الحجرة.. مازالت العيون تدور في محاجرها خوفا.. ومازال الهلع فرسا محمحما يعدو جموحا فوق وجوه الجميع.. كانت جدتي العجوز متكورة في الزاوية الأخرى وعن يمينـها ابنتـها الصغرى عمتي فاطمة، وعن شمالها ابنتـها المعوقة، أقصد عمتي ذات الخامسة والعشرين ربيعا، وقد اصفر وجهها فذهبت حمرتـه تماما.. وذهبت إشراقتـه الفاتنة.. لقد غطته سحب داكنة سوداء.
وكانت أمي تُكبر هذا الحسن في عمتي المعوقة فتقعدها أمامها الزمن الطويل لتنجب مثلها.. وما أكثر ما كانت تمازحنا قائلة !
- لا تخافوا إذا انقطعت الكهرباء.. عمتكم شمس تبدد كل ظلام مهما اشتدت حلكتـه.
لكن عمتي للأسف الشديد كانت عمياء بكماء.. وما أشد الجمال في عينيها وما أشده في فمها.. !!
كانت عيناها بحريتين هادئتين صافيتين..
وكان فمها زهرة أقحوان..
الله! ما أعظمك وما أقدرك !
لم يركن أبى كما ركنا، ولم يـهرب رغم إصرار أمي في أن يفتح كوة في السقف ويفر من الجهة الأخرى لأنـها كانت تعتقد أنه المستهدف، لكنـه رفض ذلك بشدة.
ليس رجلا من يسلم أهله للأعداء وينجو بنفسه، فإن أرادوا قتلنا فسيكون أول من يموت.
هكذا قال أبي وراح يسند الباب بكل ما وجده أمامه.. الخزانة.. السرير الصغير.. الكراسي.. وحتى الثياب.. وكان يصيح بأعلى صوتـه حتى يكاد يبح.
- إننا أبرياء.. لم نفعل شيئا.. ماذا تريدون منا؟ ماذا تطلبون؟
والتهموا الجزء الباقي وامتدت مخالبهم تدفع ما كوم خلفه.. وامتدت أرجلهم تلجه بسرعة.
ضغطت أمي على فمي بقوة أشد وهي تقول:
- ضيعتكم يا أولادي.. ضيعتكم، رحماك يارب، رحماك
وأحسستها تضغطنا حتى تكاد تدخلنا صدرها.. وسمعت عمتي تجهش مذعورة تقول لجدتي:
- من هؤلاء الوحوش أمي؟ ماذا يريدون؟ لماذا كسروا الباب؟ ماذا فعلنا؟
وفجأة اندفعت جدتي النحيفة وقد كاد المرض يهدها تردهم عن أبي وقد اجتمعوا عليه كالطيور الجارحة، وعاجلوا جدتي بضربة قوية على خدها الأيمن فأسقطوها أرضا دون حراك.
وهمَّ والدي أن يوقفها من سقطتها فأفرغ فيه أحدهم وابلا من رصاص تقيأتـه حديدتـه اللماعة الطويلة، وملأ الحجرة وميض شديد.
تـهاوى أبي جثة هامدة فوق جدتي وانفجر الدم من جسده يرسم على وجه الأرضية خطوطا حمراء.. وفي الوقت الذي ارتفعت قهقهات الغيلان.. ارتفع عويل عمتي ذات العشرين عاما.. تكورت عمتي البكماء المكفوفة.. أما أمي فقد سمعتها تنتحب بشدة، وراحت تشدنا إليـها بقوة، وتشدد قبضتـها في هستيرية على فمينا..
لم تكن تريدنا أن ننطق.. لم تكن تريد الغيلان أن تتفطن إلينا.. ستقتلها هي وحدها وينتهي أمرها كما انتهى أمر أبي، ولكن المهم عندها أن ننجو نحن.
ومد أحدهم يده إلى رجل جدتي العجوز، وكانت قد فطنت فراحت تئن أنات متقطعة، فحملها كما يحمل النسر فريسته، دار بها عدة مرات ثم أطلق سراحها ليرتطم رأسها بالجدار، ويتهشم، وتتطاير منه بعض الأجزاء، ويتراذذ منها مخها ودمها هنا وهناك.
ارتفع تصفيقهم مهللين لفعلة صديقهم.. ولمحنا أحدهم متكومين في ركن الحجرة كأننا متاع بال مهمل، فأشار إلى زميله بطرفه.. تقدم زميله نحونا في الوقت الذي أشهر هو فوهة موته.. ركل أمي.. جذبها، لم تتحرك من مكانها كأنما شدت إليه بمسامير.. شحذ رشاشه وأفرغ نارا كاوية في ظهر أمي حتى تقيأت فوقنا، لكن يديها مازالتا تشدان بقوة على فمي وفم أختي الصغيرة ذات العام والنصف.. سمعت عمتي تصيح وقد التصقت بأختـها المكفوفة التي كانت تلزم الصمت المطبق، ولم أعد أرى شيئا، لقد غطاني الدم.. غطى وجهي.. رأسي.. جسدي.. وتسرب حتى بين شفتي.. وداخل ثيابي كان الدم ينزف من فم والدتي، ومن أنفها ومن جراحاتها بقوة كأنه نهر يتدفق ماء معدنيا.
دوى الرصاص وسمعت عمتي البكماء تصيح.. أدركت أنـهم قتلوا عمتي الصغرى.
خرجت الغيلان من بيتنا، لكن نباحها مازال يصلني ممزوجا بصيحات عمتي المذعورة المتألمة، وتمنيت لو كانت ناطقة مثلنا فأفهم ما تقول.
ولم أستطع أن أنهض من مكاني كان جسد أمي متهالكا ثقيلا على صدري رغم ارتخاء يدها عن فمي، وكان دمها الحار المتدفق ما يزال يغسل جسدي كله ويتسلل إلى البلاط من تحتي.. ومازال الخوف يكبلني بقوة.
دوت في سمعي رصاصات اخترقت قلبي المترع بالخوف.. ثم هدأ كل شيء.. أصغيت السمع جيدا دون أن أخرج من الحضن الدافئ.. لقد ذهبوا.. لم يعد يصل سمعي شيء، لا نباحهم ولا تكشيراتهم، ولا دوي رشاشاتهم، ولا حتى صوت عمتي المذعورة المتألمة.. قتلوها ربما.. أو ربما أخذوها معهم.. لست أدري.
وتدافعت من تحت والدتي حتى خرجت وقد احمرت كل ثيابي..
لاشيءَ في البيت..
جثث مبعثرة هنا وهناك..
اشتد ذعري..
يالهول الفاجعة!!
جدتي وقد تهشم رأسها.. والدي وقد غطى الدم صدره.. قريبا منه عمتي تتكئ جثتـها على الحائط وقد فغرت فاها وتسايل الدم من ثقب في جبهتها.. أمي وقد تكومت في بركة كبيرة حمراء..
خضني دوار شديد.. فجأة أجهشت ببكاء مرعوب وقد راحت كل جوارحي تصطك..
شيئا فشيئا تماسكت.. مددت يدي فسحبت أمي إلى جانب والدي… نظرت إلى السقف كان مثقوبا بالرصاص… وكذا كانت الجدران… داهمني موج من القشعريرة… فجأة هرعت إلى الباب… حين وضعت قدمي الصغيرة على عتبته تناهى إلى أذني أنين ضعيف ينبعث في الدار.. اقشعر جلدي.. أخرج أشواكا طويلة حادة.. ارتعدت فرائصي.. اصطكت ركبتاي.. أسناني.. ارتجفت أصابعي.
إنها أرواح الموتى.. يا رب حفظك واندفعت خارجا.. وتسمرت رجلاي حيث وصلت.. كبَّلهما الشلل وشدهما إلى الأرض كأنما وقعت فريسة عنكبوت أسطوري عملاق..
مسحت العرق المتصبب على جبيني.. استرجعت أنفاسي وتذكرت ماغاب عن بالي طول هذه المدة.. تذكرت أختي الصغيرة.. أماتت هي أيضا؟
حولت بصري ببطء تأملتها كانت ممددة حيث كانت، وقد تلونت كلية باللون الأحمر.. لقد تجمد الدم على وجهها وشعرها الحريري وثيابـها الزاهية..
ماتت.. ما الذي أزهق روحها الصغيرة البريئة!! ثقل أمي فوق جسدها الضعيف؟ ضغط اليد على فمها؟ تسلل الدم بغزارة إلى تضاريس وجهها؟ أم أصابتها رصاصة غادرة؟
ورجعت القهقرى عجلا ناسيا كل ما تملكني من ذعر، غير مبال ببرك الدم الذي بدأ يتجمد على أرضية الحجرة.
مددت إليـها يدين مذعورتين… مسحت وجهها بيدي… ثم بمنديل كان في جيبي… لقد أشرق وجهها.. غدا شمس الأصيل تعصبـها سحابات حمراء.
لاحظت صدرها يعلو ويـهبط قليلا قليلا.. كذَّبت عيني.. حدقت جيدا لم أستطع أن أتأكد.. وضعت يدي على أنفها إنها تتنفس تنفسا رقيقا يعْبُر أنفها داخلا خارجا.. وضعت أذني على صدرها، جاءتني دقات قلبها البريء تعزف سنفونية الحياة بصعوبة.
حملتها بين ذراعي، الحمد لله أن لم تكن بدينة وإلا تركتها حيث هي تلفظ أنفاسها الأخيرة.
لفتت انتباهي محفظتي ملقاة على الأرض، ترددت قليلا ثم حملتها بيدي الأخرى.
شدتني أمي إليها شدا قويا.. ما أعظمك أيتها الأم!! سامحيني إن أخطأت يوما في حقك… إن تجاوزت حدي في الشقاوة معك… لم أكن أدرك أبدا أن الأمومة عظيمة إلى هذا الحد الكبير… لم أكن أدرك أبدا أن الأمومة يمكن أن تسعد بالموت لتـهب أولادها الحياة..
لن أنساك أيا أمنا..
ستعيشين دوما في قلبي الصغير..
في قلبي الذي سيكبر..
يكبــر..
يكبـــر..
وأين سيكبر؟ لقد هدَّ الغيلان العش الدافئ…
هدوا أسرتي…
اغتالتها سهام الغدر اللعينة..
إلى أين سنلجأ؟ من يضمنا إلى حضنه؟ من يرضعنا حنانا كنا نرضعه هنا
وفررت من سبحاتي، لا بد أن أخرج.. لا بد أن أغادر، لعل الغيلان ستعود، واندفعت عند الباب.. اجتزت العتبة.. خطوة واحدة وتسمرت رجلاي مرة أخرى، لم أقو على الحركة، وضعت أختي جانبا، وقد بدأت تستعيد وعيها.. جثوت على ركبتي.. مددت يدي.. حملت أشلاء لعبتي، كانت محطمة قطعا صغيرة.. حاولت جمعها من هنا وهناك، لم أستطع.. لقد تطايرت أجزاءها كأنما سقطت فوقها قنبلة ففجرتـها تفجيرا.
وتسمرت عيناي على المشهد المريع..
ياللفضاعة! يالهول الفاجعة!!
ياللجريمة النكراء!!
ماذا فعلت عمتي المسكينة حتى يفعلوا بها هذا؟!!
كانت عارية تماما.. مُـدّدت على ظهرها والدم القاني ينزف بطيئا بين نهديها وتحت سرتها.. ويتسلل مضمخا وجه بساط الحشيش الأخضر.
وأسرعت نحوها.. نزعت معطفي وغطيتها… غطيت جزء منها.. ثم جمعت بعض ثيابها الممزقة المرماة هنا وهناك فوضعتها فوقها كانت أحب إلي من كل أفراد أسرتي.. وكانت تحبنا أكثر من نفسها.. تلبي رغباتنا مهما كانت مستحيلة.. وتمنع عنا غضب والدينا.. وتدخلنا حضنـها حين ننام ليلا.
انتبـهت إلى نفسي.. خطفتُ أختي عائشة من الأرض، وضعتـها فوق ظهري، كان بكاؤها قد تحول من النحيب والنشيج إلى الصياح.. لم تكن تدرك المسكينة الخطر المحدق بنا.. حاولت إسكاتـها لم أفلح.. ودعت عمتي آخر مرة بنظرة فيـها دموع.. وودعتني بتوهج احمرار بشرتـها المشرقة كالشمس، وانطلقت على غير هدى.
كان منزلنا على سفح الجبل بالضبط، منعزلا عن منازل القرية.. لم يكن بعيدا جدا عنـها إن هي إلا مسافة دقائق قطعتـها هرولة تطاردني المأساة التي خلفتـها في بيتي، لابد أن أخبر السكان بما جرى.. لابد أن أطلعهم على الحقيقة المرة.. ألهذا الحد يغيب عنـهم الحدث؟ أتشغلهم أمور الدنيا فلا يفطنون إلى مجزرة وقعت في وضح النـهار؟
ورنوت ببصري إلى منارة المسجد، لا شك أن الناس قد بدأوا يتجمعون هناك.. الآن وقت صلاة الظهر.. سأصيح فيهم جميعا فإذا انتبهوا أخبرتهم.. لا بل سأخبر الشيخ الإمام وهو بدوره سيخبر الجميع.
وبدرت مني التفاتة إلى الأرض.. ما هذا المزروع على تضاريس وجهها؟ ياالله إني أخطو فوق جثث الأموات.. عشرات هنا وهناك.. مقطوعو الرؤوس.. مقصوصو الأيدي.. مثقوبو الصدور والبطون.. أطفال فوق نساء.. ونساء فوق عجائز، جثث تهالك بعضها فوق بعض.
تملكني الرعب… دق قلبي بسرعة عجيبة … وضعت أختي جانبا وقد علا بكاؤها ونواحها وجلست حيث أنا… لم أكن أطيق نطقا.. لم أكن أجرؤ على أن أخطو خطوة واحدة.
ما ذنب هؤلاء؟ ماذا فعلوا؟ من هؤلاء الذين قتلوهم؟ لماذا لم يدافعوا عن أنفسهم؟ متى وقع كل هذا البلاء؟
اقتربت مني عائشة مرعوبة باكية، غرست رأسها في صدري، لقد هالها ماكانت ترى.. ضممتها إلى صدري مهدئا، ورحت أتجول بعيني بين الجثث.. مناظر مريعة.. مشاهد مرعبة.. كانت النيران تلتـهم معظم المنازل والأشجار، وكان الأثاث مكوما بالقرب مني يحترق بأناة.
تركت أختي حيث هي غير مبال بإصرارها على أن أبقى معها، ولا بيديها اللتين امتدتا تمسكان بي، لقد دفعني الفضول إلى أن أتأمل كومة الأثاث.. سرت خائفا ارتجف.. اقتربت منها لفحتني النار، وملأ منخري الدخان، فتراجعت القهقرى.
أمام عتبة باب المسجد الذي مازال يحترق كانت تتمدد جثة الإمام في عباءته البيضاء، وقد أحرقوا لحيته الحمراء، وسلخوا جزء من جلد رأسه.
لم أتحمل المنظر المفزع.. بدرت مني صرخة رددتـها منازل القرية وجنبات المسجد ثم ذهبتْ أدراج الرياح.
وضعت كفيَّ الصغيرين على عيني فزعا، وتراجعت إلى الوراء فاتكأت على جدار المسجد باكيا.
امتدت إلي يد.. أمسكت ثيابي.. اقشعر بدني.. صرخت.. فتحت عيني.. كانت أختي قد لحقت بي وعلى محياها ملامح الألم والفزع.. لم يبق لها في الوجود صدر حنون تلجأ إليـه وتحتمي بـه إلا أنا.
جلست على الأرض.. وضعتها في حضني.. قبلت خدها المتورد.. أشارت إلي أنها تريد ماء.. ثم أشارت إلى ألم بفخذها الأيمن.. فحصتها.. ياإلهي لقد أصابتها رصاصة طائشة والدم مازال ينزف منها.. عاينت الجرح بدقة، كان الدم ينزف ببطء شديد لم يكن الجرح عميقا بل كان سطحيا جدا.
أخرجت منديلي لففت لها الجرح وهي تتألم.. دخلت الجامع.. جئتـها بشيء من ماء.. شربتْ وشربتُ.. وانطلقنا لابد أن أرحل عن هذه القرية، ليس من اللائق أن أبقى أطول مما بقيت، سيكون هذا المكان محج الوحوش المفترسة.. ولعل الغيلان ستعود لمهمة أخرى، وإذا وقعتُ في قبضة أحد الفريقين فلن تكون عاقبتي ولا عاقبة أختي حسنة.
حملت أختي وانطلقت أتخطى الجثث التي بدأت تتناقص كلما تركت القرية خلفي.. دخلت دربا متعرجا بين الأشجار التي كانت تنتشر مشرعة أذرعها للسماء كأنما متصوفة يتضرعون إلى الله.
راحت رجلاي الصغيرتان تتسابقان، لم أكن أعرف إلى أين أسير.. ولا إلى أين أتجه.. ذهني كان خاليا من كل شيء المهم أن الدرب مازال يمتد أمامي كالحلم، وهأنذا أصر إصرارا قويا على مواصلة السير فوقه.
عند واد صغير أحسست من بعيد حركة غير عادية.. حركة شخص خلف الأشجار.. أو لعله صوت حيوان مفترس أو أليف، لست أدري.. خففت من سرعتي خوفا ورحت أرقب الجهة بدقة.. فاجأني صوت من خلف الأعشاب الملتفة كأنما هو صوت مكروب وجد فجأة من ينقذه من خطبـه الجسيم:
ـ محمد.. محمد.. نجوت من الذبح؟
عرفتـه من صوتـه إنـه عثمان تربي وصديقي في المدرسة.
عجبت أنني لم أشاهده في القرية.. أنجا وحده.. أم نجا معه بعض أفراد عائلتـه وبعض سكان القرية؟
حين رأيته عاد إلي شيء من الأمل، وأحسست كأن جسمي الذي كان متضعضعا قد بدأ يجتمع ويلتم.
وحدثني عثمان عن كل شيء، كان بيتـهم وسط القرية بالضبط، وقد رأى بعينيـه كل ما وقع بالتفصيل.
حدثني كيف بدأ الهجوم المباغت على السكان العزل.. وكيف وجدوا معظم الرجال مجتمعين في الساحة العامة قرب المسجد.. وكيف ساقوا النساء والأطفال ونزلوا فيهم تذبيحا وخنقا وحرقا.. وكيف صبوا على عشرات منهم البنزين، وأحرقوهم بعد أن كبلوهم بالأسلاك.
لم يفزعني هذا كثيرا لأني كنت قد رأيت آثاره واضحة جدا للعيان، لكن الذي ذبح فيَّ ما تبقى من شجاعتي وتماسكي حكايتـه عن أختـه الصغيرة ذات العام الواحد، حين عمد أحدهم فحملها من سريرها، وضرب رأسها بخنجره فأطاره ثم حملها من رجلها كما يحمل الصياد الأرنب بالضبط.
- بـها.. بـها.. ماذا..سـ..يفعلون؟
سألت.. وأسناني تصطك.. وبدني يرتجف.. وجبيني يتفصد عرقا.. فجاءت جملي مبعثرة.. وحاول أن يرد لكن الخوف ألجمه وأفحمه.
كنت أتـأمله يجهد نفسه كيف ينطـق دون جدوى… احمر وجهه.. انتفخت أوداجه.. وانفجر باكيا وهو يدفن رأسه في صدري فيكاد يسقطني
وفهمت ماذا يفعلون بها.. وما سيفعلون بها؟؟ سيأكلونها طبعا.. هؤلاء الوحوش يأكلون لحوم البشر إذن؟ هؤلاء هم الغيلان الذين كانت جدتي تحدثني عنـهم دائما.
أمسكته من يده أجره خلفـي وقد بدأت أختي عائشة تتثاقل فوق ظهري، وتثقل كاهلي، قلت لعثمان:
- لا أحد يمكنه أن يرد.. الغيلان وحدها تستطيع أن تحقق ماتريد.. تدخل إلى أي مكان تريد.. وتتحدى كل مخلوق.. وتتشكل في كل الصور والأشكال.
ورد علي وفي كلامه كثير من السخرية:
- عن أي غيلان تتحدث يامحمد؟ لقد رأيتهم رأى العين … كنت مختبئا في حديقة منزلنا ورأيتهم بوضوح.. كانوا بشرا مثلنا تماما.. إنهم الصرب يامحمد.. الصرب الذين يكرهوننا.. الصرب الذين عملوا قرونا على مسخنا وتدجيننا فلما عجزوا هاهم ينكلون بنا.. آخر وسيلة بقيت لهم هي ترهيبنا ثم تشريدنا..
وفهمت عندئذ الأمر.. هل يمكن للإنسان أن يصل إلى هذه الدرجة من الوحشية فيقتل أخاه، بمجرد أنه يختلف معه في لغة أو دين أو جنس..؟؟؟
وما كان يلقنـه لنا معلمنا في المدرسة من الفضائل الإنسانية التي يجب أن تتميز بـها.. ألم يكن يقول لنا: أن الإنسان أخو الإنسان مهما اختلف معه؟ ألم يقل لنا أن الاختلاف رحمة؟ فكيف صار في لحظة نقمة وهلاكا ودمارا؟
وأين معلمي الوسيم صاحب الابتسامة العذبة التي كان يلقانا بـها عند كل صباح وعشية؟ هل قتلوه أيضا؟ هل نكلوا بـه كما نكلوا بكل سكان القرية؟ وهل يمكن أن تضيع معه كل تلك القيم والمبادئ؟
ومد عثمان يده وهو يحس أنني بدأت أتعب فأخذ عني أختي التي سرقها النوم من الواقع حولها.. وضعها فوق كتفه كما كنت أحملها، وانطلقنا بسرعة.
كنا نخطف أرجلنا عن الأرض خطفا ونتلفت للوراء.. وذات اليمين وذات الشمال في كل لحظة.. كنا نحس كأن الغيلان ينهبون الأرض خلفنا نهبا، وإن لحقوا بنا فسيكون مصيرنا كمصير أهلنا وذوينا..
وقصصت على عثمان قصة أسرتي كاملة، منذ مطاردتي وأنا أحلم مع لعبتي عند المنحدر، إلى أن خطفتني والدتي عند عتبة الباب.. وكيف فجروا رأس جدتي فانفجر وتراذذت عظامه ومخه.. وكيف أردوا والدي صريعا وهو يدفع عنا عدوانهم.. وحين وجدت عمتي الخرساء عارية والدم يطبع قبلاتـه ما بين نهديها وتحت سرتها.
وتراءت لي الغيلان ذات أشكال غريبة.. أذان طويلة.. وعيون كثيرة.. مناخير.. خراطيم.. مخالب.. ذيول.. وأشعار.
ونظرت خلفي حيث القرية بدأت تغيب بناياتـها بين الأشجار العالية.. قزعات بيضاء كانت تحوم في صفحة السماء، ومازال الدخان يلف القرية وقد اشتد سوادا وكثافة، ومنارة الجامع وحدها مازالت تقف شامخة وسط المأساة.
سألني عثمان حائرا:
- إلى أين ستذهب يا محمد؟ إننا نسعى على غير هدى لقد ضيعت كل أهلي وأقاربي ليس لي من أعرفه خارج قريتي.. ولا أحد يمكن أن يأويني أو يقوم على أمري.
- لا تحمل هما نحن نسعى إلى هذه القرية التي تراها أمامك.. فيـها خالتي وستكون لنا حضنا دافئا.. إنـها تشبـه أمي في كل شيء.
ولاحظت أن الدم مازال ينزف من فخذ أختي، وأن المنديل قد احمر تماما وذهب بياضه، فأنزلتها من فوق ظهر عثمان.. لابد أن أجدد لها الضمادة.. مددتها أرضا.. قطعت كم قميصي ولففت لها الجرح، ثم انطلقنا سريعا.
على مشارف القرية التقانا جمع من الناس.. رجال ونساء وجدناهم متجمهرين كانوا بانتظارنا، وما إن رأونا حتى هرعوا نحونا وفي عيونـهم تتراقص آلاف الأسئلة.
حمل زوج خالتي أختي عائشة، واندفعت خالتي تضمني إلى صدرها تمسح رأسي الذي تجمد الدم فوقه، ثم ارتعشت باكية، وهي تقول، والكلمات تتزاحم عند شاطئ فمها:
- محمد ولدي العزيز.. أخبرني أسرع أخبرني أين أمك؟ أين أمك؟
وأُلجمت عن الكلام، لقد أصبت بالخرس.. لم أقو إلا على النحيب الشديد.. اندلقت دلاء عيني.. انفجرت أبكي بشدة كأنني بركان انكتم ثم انفجر يدفع حممه الملتـهبة.. لم أبك من قبل.. مذ بدأت المجرزة لم أبك.. أين كانت هذه الدموع؟ هل جبنت هي أيضا عن المواجهة؟ هل كانت تخشى أن تغتال أيضا؟
والتصقت في خالتي لا أريد أن أبرحها.. طوقت رقبتـها بذراعي الصغيرتين لم أكن أريد كلاما.. لم أكن أريد أن أنطق ولا أن أسمع..
أريد فقط أن أبكي.
أدركت خالتي أن ورائي فاجعة.. فأبعدتني عنها ملحة على السؤال عن أمي فقط دون غيرها.
- أخبرني أين أمك؟ هل تركتـها بخير؟
وأنقذني عثمان من الحرج الكبير الذي وضعتني فيـه خالتي، ماذا سأقول لها؟ كيف أنقل إليـها الكارثة؟
- قتلوهم جميعا.
هكذا نطقها عثمان مبتورة.. مختصرة.. مضغوطة..
- جميعا؟ من تقصد؟
هكذا علق زوج خالتي وهو يوجه نظره إلى عثمان الذي رد بمرارة شديدة
- كلَّ سكان القرية لم ينج أحد إلا أنا ومحمد وعائشة الصغيرة.
وفتح الجميع أفواههم مندهشين، وراح بعضهم يردد.
- يا للوحشية !!يا للوحشية!!
وعلق شيخ عبث الشيب بلحيته وتراخت أعصابه فارتعشت يداه.
-لقد تنبأت بـهذا منذ سنوات طويلة فلم تصدقوني… إنـهم أعداؤنا.. بل أعداء البشرية قاطبة، كل مصائب الإنسانية جاءت منهم.. إنهم وحوش بلا قلب ولا رحمة.. التاريخ يحدثنا عن ذلك.. والتاريخ يعيد نفسه.. والتاريخ أصدق القائلين.. والله..
وقاطعتـه خالتي متأففة ضجرة من خطبته التي لا محل لها.
- صحيح يا محمد ما قال رفيقك؟
لم تكن خالتي لتصدق ما وقع.. هكذا في لحظات عابرة تقفر قرية عامرة.. هكذا في لحظات يفترس الموت كل حي.. هكذا في لحظات يسدل الستار.. وينتـهي كل شيء.
كانت أسئلة الجمع الغفير تتزاحم على أذني صديقي عثمان.
-كم كان عددهم؟ متى قدموا؟ ماذا كانوا يحملون؟
وألحت خالتي مرة ثانية علي في سؤالها، فقصصت عليها الحكاية من أولها إلى آخرها.
وارتفع عويل خالتي، وارتمت أرضا تضمني إليها، وتقبلني بهستيرية وجنون.
انتزعني منها الرجال ودفعوها أمامهم عائدين، وكالفرس الجموح تملصت من بين أيديهم، واندفعت إلى قريتنا تحصد الدرب فيستسلم أمام خطواتها.
ولحق بها بعضهم فأعادوها جرا، وهي تصرخ وتصيح، وقد تبعثر شعرها واغبر وجهها وتَرِبَت ثيابها
وعاد الجميع إلى القرية في موكب جنائزي صامت إلا من عويل خالتي وصراخها، والرجال يجرونها من يديها جرا عنيفا
دخلنا بيت خالتي، وبدأ سكان القرية يتوافدون… يتطلعون إلى الحقيقة… امتلأت الحجرات وكذا الفناء.. وارتفعت الجلبة، واختلطت الأحاديث.. بعضهم يمطرنا بعشرات الأسئلة وينتظر الرد.. بعضهم الآخر كان ينصت.. تشرئب أعناقهم من بين أعناق من تقدمهم، أو من نافذة الحجرة التي حرمت ضوء الشمس الخافت.
وكان أكثرهم يتبادلون، الحديث في الفناء، ينخفض حينا ويتعالى حينا آخر حتى يكاد يغطي على حديثنا.
وكان الجميع يشترك في شيء واحد.. شيء واحد كان القاسم المشترك.. الفجيعة تستحم في المآقي.. الحيرة تطل على شرفات العيون.. حيرة مرعبة مخيفة.
كنت أرى وجوههم صفراء ممتقعه علاها الشحوب.. وعيونهم تدور في محاجرها لامعة براقة.
وكأنما أحس الجميع أنهم قد استنفدوا كل شيء يريدون قوله.. أو يسألون عنه فسكتوا دفعة واحدة، وتركزت نظراتهم على شيخ في الستين من عمره، يجلس بالقرب مني، قوي البنية مشرق الوجه، يلبس عباءة بيضاء، غزا الشيب معظم شعر لحيته، فزاد وسامة ملامحه وسامة، وزاده هيبة ووقارا.
وفهمت أنه إمام القرية لأن التقاليد عندنا تقتضي أن نرجع إليه جميعا في كل شيء، وفي كل حين.. مواسمنا.. أعيادنا.. أفراحنا.. أتراحنا.
وخاصة في الأوقات الحرجة، فهو أحكمنا، وأعلمنا، وأقدرنا على حل المعضلات.
وأحس الشيخ الإمام أن الجميع يريده أن يفصل ليخرجهم من حيرتـهم التي وقعوا فيـها
كانت خالتي تجلس بجانبي تحتضن عائشة الصغيرة نائمة في حجرها.. وكنت أنا أسند رأسي على جنبها الأيمن، في حين كان صديقي عثمان يجلس عن يميني وعلى وجهه تشعبت الحيرة مخيفة.
تنحنح الشيخ ثم نطق وهو يشبك أصابعه وقد علت وجهه سحابة من الحزن الشديد.. قرأ شيئا من القرآن الكريم لا أحفظه ولا أدرك معناه، ولكني أدركت حقيقتـه لأن الشيخ كان يقرأه بعناية ويرسله عذبا مجلجلا.
وذكر الشيخ أن هؤلاء الذين ماتوا هم في الجنة خالدين أحياء لأنـهم مظلومون.
ثم دعا سكان القرية إلى مرافقته حيث المجزرة لدفن الموتى والدعاء لهم، فهذا من أهم واجبات الأخ على أخيـه، واشترط أن لا يذهب النساء والأطفال.
وهب الناس ملبين النداء، واتكأ الشيخ على يديه يهم بالنهوض فأمسكته خالتي من عباءتـه تنتحب.


يـــــــــــــــــــــــتــــــــبــــــــــــــــ ــــــــــــع ج 2

فاطمه بنت السراة
30/07/2008, 10:44 AM
:
الأديب القدير عز الدين جلاوجي..
مبهورة الأنفاس بما خطته يداك من أحداث في الفصل الأول.
الفراشات : هم محمد الكوسوفي المسلم وكل أهله وقريته.
الغيلان : هم الصرب.

حقيقة فاجأتني جزائريتك, ظننك كبطل القصة كوسوفي,
لعل الاستعمار الفرنسي للجزائر ترك أثره فيك.

أيضاً فاجأتني البيئة المسلمة (القرية/ المسجد/ الإمام.....) ظننتها توجد في البيئة العربية
فقط.

متابعة لعملك الكبير إن شاء الله (الفراشات والغيلان)