المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إشــــراق



تسنيم الحبيب
09/01/2008, 03:55 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
طبتم جميعا

هذه أولى خطواتي هنا..


إشــــراق

" لأنك أنت الشمس
تبزغ من بين سماوات المنى..
تعبق شذا أخضرا"


(1)

لم يكن سوى أنين الليل!
وقد تفتقت خيوطه السوداء باجتماع أعظم نقيضين في هذا الوجود
فتلك تدفع به إلى الحياة وهي تمخر عباب الموت راحلة للعالم السرمدي ، يعتلي بكاؤه في أرجاء البيت المتهالك وأنى له أن يدرك يتمه المرير ؟!تتناقله الأيادي التي لا تعلم أتصفق فرحا بقدومه ؟أم تمسح على رأسه وتنشد له ألحان المنون؟ويستقر أخيرا بين ذراعي شقيقته التي دثرته بقمط الشجون حابسة في أعماقها صرخات الفقد والوجد يشاطرها جريد الدار لوعتها ..الجدران البكماء ..الصخور الصماء ..أشجار الميس التي تحف الدار.. كل شيء حتى قلب والدها الذي طالما خالته قاس الشغاف ! فهاهو اليوم يجود بدمع كالمطر يرطب الحبال الجافة التي ما كانت لتربط بينهما ،ترنو لقسمات الصغير ثم تدير طرفها لمكان أمها الفارغ فتتراكم الحسرات في أعماقها ،صمت يسود الدار فلا يقطعه سوى مبادرة الأب بالحديث:

-هاقد حاقت بنا الرزايا..

تمتم بصوت خافت خنقته العبرات:

-لطالما علمتنا أمي أن نصبر عليها!

-نصبر!علام نصبر؟!أعلى فقدها أم على شظف عيشنا؟!أم على من يتحكم بأمورنا ويسوس رقابنا كالعبيد؟!

-بل يجب علينا الصبر على الأدهى والأمر ...والمؤمن مبتلى..

-كفاك لغطا وأسكتي هذا الصغير...

يطرق باب الدار ..ليتضجر:



-لا بد أنه اخوك صالح..

يفتح الباب ليدخل الشاب منهكا...يزعق الأب به:

-لماذا تأخرت هكذا إن الغبش في أواخره؟ أم أن اللئيم ضاعف لك العمل؟ آه ما أشرسه كم يمعن في تعذيبنا!

-بل إني لم أستطع إنجاز العمل بسهولة ...

-ولكننا في آخر الليل.

-هذا ما حصل..

-ألم يراعِ تورم يديك؟!

-إنه لا يراعي الله في أعماله ليراعيني أنا!


التفت الشاب إلى أخته التي قبعت في زاوية من زوايا الدار القاصية نسبيبا ..وقف مشدوها..لحظ دمعاتها ..رمق الوليد الذي يرقد بين ذراعيها ..أدار طرفه للأب الذي هدأت ثورته ليتسلط عليه حزن شديد!تسائل:

-هل وضعت أمي؟!!

لأول مرة! يعتلي بكاؤها ..كأنها وجدت من تركن إليه لتتسول منه السلوى ..

أردف قائلا:
-مابالك يارحاب؟!أثمة مكروه؟

يجيب الأب:
أنت تعلم أن أمك كانت عليلة...لقد...لقد اختارها الله إلى جواره بعد أن وضعت الصغير..

فزِع! اتسعت حدقتاه!لم يكن في الدار متسع للركض..لكنه ركض بجسمه المتورم وقلبه المتقرح..فتح باب مخدعها المؤصد .. ليلاقيها جثة هامدة..تغطيها أبراد خضراء ..أخذ يبكي بمرارة ..ويهمس بغصة:

(رحمك الله ..هل تراني أستطيع الصبر على فقدك؟! أي قذى في العين؟أي خبر بائس نُعي إلي؟!)

غدا يواريها الثرى..لتواري قلبَه ذرات الرمال .. لينضب ينبوع الحنان الوحيد الذي كان يروي الدار في هذا الدهر الحموم.. غدا تغور غدران العذوبة في الوديان غدا تسبيه أصفاد اليتم ..غدا.. يبحث عن أمه ..يمحلق في طويلا في الفضاء..ولا يجدها!!
وأطل الصبح متثاقلا ،يوسق بين ذراعيه أنواء الفقد .. ترافقها زفرات الألم ..وصرخات طفل صغير ..شريد في دروب اليتم..
أنين يغرق في غمراته قلوبا حزينة تبحث عن شطآن النجاة فلا تجد..
رويدا ..رويدا يسير النعش ..ليستقر بين اللحود ..لتضمه غياهب الأرض ..وتعطره نفحات التراب ..إنها اللحظة التي يعود بها.. ابن الأرض لها..ليعود الحمأ المسنون لمنبعه التليد.. ولتسمو الروح حيث الشأو البعيد..لتُذرف الدموع ..علها ترطب القفر الرهيب..

مسحتها رحاب من على وجنتيها.. وواساها أخوها ببعض من روحه:

-سلوانا رحيلها عن هذا العذاب..

-أسكنها الله الفردوس..

-إن شاء تعالى ..إن شاء تعالى..

يسيران في الرمض..كالتائهين في هذه الفلوات..وماكان لهما..أن يريا..لسبيلهما..من نهاية!!

تسنيم الحبيب
09/01/2008, 04:00 AM
(2)

في حجرها تهدهده وتناغيه ..تسكب تراتيل حنانها في قلبه الغض وتحيطه بروحها ..علها تستحيل لبردة تقيه لهيب الفقد وصقيع المشاعر ..ترنو-بعينين وادعتين-لملامحه العذبة .. وترنم ألحان الوسن ينبوعا ..يروي لظى الدار الظمأى..ويدخل عليها أخوها باسما ..رغم ما ينوء به قلبه من آلام ..حاملا باقة من ورد الفل ..يعبق أريجها في أركان الدار..

همست بشجى:

-عجيب أن ينمو الورد في هذا القفر!

-لا يا رحاب..بل إن في ربوع أرضنا ورود..تنمو مع كل دمعة تهطل من مآقي المحرومين..

-الأحرى بها أن تذبل!

-ماهذا التشاؤم؟! ماعهدتك قانطة..

طفرت دمعة من عينها:

-جميع الظروف تحتم عليّ التشاؤم يا صالح... بل إنها تتآزر لتصبغ دنيانا بلون القتم ! إلتفت إلى حالنا! نحن نقطة ضائعة في بحر هائج..نكابد للنجاة فلا نقدر ..ها أنت تعود من العمل وأنت لا تحمل إلا مايكفيك بالكاد لقوت يومك.. وبعد أن تجرعت آلام النهار لا تجد سكينة في الليل .. فقدنا طعم الأمن ..الاستقرار .. فحياتنا مهددة في كل لحظة..

سكن لأوجاعها..وانتزع من روحه بلسما:

-أنسيت يا أختاه حلو كلام والدتنا؟!أنسيت مبادءها ؟ أحاديثها الطلية المتضوعة بشذى الصبر على البلاء؟!

-لم أنس يا صالح..ولم أنس حلمها بتغيير الواقع..ولكن جميع أحلامنا و أهدافنا تتكسر على صخرته القاسية..فماذا عسانا أن نفعل أمام هؤلاء الإقطاعيين الذين يسرقون أحلامنا في الصغر و جهودنا بالكبر؟نحن نكدح ونعمل ونشقى ليلتهموا هم ماذلنا من الجهد وأرق الليالي الطويلة..بسهولة تتحول حبات عرقنا لدنانير ذهبية تعزف ألحان الرنين في مضاجعهم..ولم أنس حكماء السقام ذوي اللحى الطويلة الذين يتجلببون برداء الدين وهم أول من يمتص دماءنا...

-كفى..كفى ..لا طائل من هذا التبرم..

-.............

-هدئي من روعك

-وإن فعلت ..فمن يهدأ روع غيري من المحرومين؟!..ولكني لأعتب..

-تعتبين؟!

-أجل أفعل ..فالجميع يوجه إلينا سهاما..سهام من زمرة البلاط ..سهام من الشعب الغارق في خضم الجهل...وسهام ممن حولنا ..ممن يدركون الواقع المؤلم ويصرون على الإستجهال..
الجميع ..الجميع ..والسهام ما فتأت تتقاذف علينا من كل صوب ..و تُغرس في أعصابنا...

تمتم بصوت خافت مكسور:

-هل ارتحت الآن؟!

-كلا والله..بل إن في فؤادي جمرة تستعر..منذ نعومة أضفاري أدركت هذه الحقائق..لقد استنشقتها استنشاق النسيم وجرعتها مع دموع أمي وأحداقها الحرقى..ونمَوت معها..

-وهل انتظرت منك أمي هذا الإنهيار؟! فأين الصبر الذي كانت تسقينا؟!

-لا تلمني يا صالح..

-بل سأفعل! فلستِ بحديثة في درب الصبر..إن الرزايا لا تزيد المؤمن إلا صلابة..تذكري هذا جيدا..وتذكري أن هذا الصغير ينتظرنا لنبني فيه ما بنته فينا أمنا...

أطالت النظر إليه ..وبدأت تكفكف دمعها بشرود..بينما انعطف صالح إلى فناء الدار ..يرمق السماء التي توشحت بخمار أسود.. يتلألأ وجهها الوضاء من بين المياسين..قاذفا بسحره الفضي على ذرى..طالما تجرعت مضض الحرمان...تمتم بصوت خفيض:

(أدرك أن كلامها صحيح..وأدرك جيدا هذا الظلم الذي استشرى في عروق بلادنا منذ زمن..منذ أن غرق أهلها في خضم الجهل و سمحوا لهؤلاء الحكماء بالتحكم بنا)
وضع رأسه في حجره:

(الويل لهم..أخذوا من الدين ستارا..وهو من أفعالهم براء)

هبت نسمة هواء خريفية ..تؤذن بشتاء طويل وتلقي في الروع أطياف رهبة..
هاهو الشتاء يقدم ..وتصحو في نفوس الناس الفاقة..الفاقة إلى مؤونة تسكت ضور أطفالهم..الفاقة إلى أسلاب تقيهم صقيع الزمهرير الذي يغزو البدن..

ترقرقت في مقلته دمعة باردة:

(حنانيك رباه...لطفا بنا..إنك واسع..كريم ..رحيم...)

...
هب مذعورا!
فقد رأى كابوسا مريعا ..لم يكن ليتبين منه سوى قشعريرة سرت بجسده النحيل..وانقباض كتم على أنفاسه وهو يرقد تحت شجرة ميس وقت الضحى..

انتبه لصاحبه يخاطبه:

-مالخطب يا صالح؟! لم أعهدك تنم وقت الضحى...

-لقد أخذني الوسن..حقيقة لم أنم ليلة أمس البتة!

-ولما ؟!لقد دلفت إلى دارك مبكرا..

-جافاني النعاس..

-حسنا..تذكر أن في عهدتك عمل كثير..

-أعلم هذا يا زيد..أعلم هذا..

-أخبرني مابك؟لقد راعني منك شحوبك...هل يتعلق الأمر بصغيركم؟!

-لا..

-إذا مالخطب؟! قل لي فقد أستطيع مساعدتك..

-أو لا تعلم ما الخطب حقا؟

حدق زيد في صاحبه طويل ثم أردف:

-لا جدوى يا صالح..صدقني لا جدوى..

-آن لهؤلاء الخراف أن يستيقظوا...هم المسؤولون عن حالة الضنك هذه..

ابتسم زيد رغما عنه:

-قطيعك ضال يا صاحبي..سُلب صوابه بتراتيل وخزعبلات يرددها ذوي اللحى الطويلة..

-إلى متى هذا الغباء؟!إلى متى؟

حدجه زيد بنظرة محذرة:

-كفانا الآن فقد أقبل الإقطاعي..

وأقبل المستأسد يصيح بصوت أجش:

-هل أنهيتما عملكما؟

-هذه صفائح مصقولة...وفي المخزن عشرون قنينة خضراء..

-يجب أن تنهيا المجموعة اليوم كاملة..

ويبتعد متواريا عن ناظريهما..

يهمس زيد في أذن صاحبه:

-الشتاء على الأبواب..

-أعلم..

-هل لديك ما يكفي لشراء الوقود؟؟

أسقط في يده..

تضجر زيد:

-أتسائل من لا يعاني من هذه المشكلة هنا.!

-الشكوى لله

يدير زيد دفة الحديث:

-هناك خطب خطير ياصالح...

-ماذا هناك؟!

-إن خطة شيطانية تجوس البلاد هذه الأيام

-خطة!!

-أجل..و..

يزدرد زيد كلماته ..فقد ظهر الحكيم جوهر...أخذ يمشي الهوينا وهو يرقب النظرات المتوجهة إليه..ويتمتم ببضع كلمات يخالها المرء تسبيحات وأوراد...
الوقار يكسوه...والكياسة تبرق في مقلتيه..وحسن الهيئة لا يجفيه ولكن..ثمة نور مسلوب من وجهه..وثمة كدرة تحوطه..كدرة من الصعب أن يتعامى عنها اللبيب..

ابتسم الحكيم في وجه صالح محييا إياه:

-السلام..

-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..

-كيف حالك يا بني؟

-أحمد الله على كل حال..

ثمة كلمات بين الكلمات...كلمات لا يدركها سواهما..

-أين أبوك؟!

-في الحانوت..

-وكيف هو حال صغيركم؟

-له رب يتكفله..


اقترب منه هامسا:

-ماذا اسميتموه؟!

يردد بزهو:

-علاء!

-علاء..علاء..لعلي لا أستطيع الجزم بأنه سيحظى حقا بعلو!

-ماذا تعني؟!

-أعني ..وضعكم البائس..وحالكم الرثة!

رد صالح بشجاعة معهودة:


-لا أظن أن الفضل في حالنا..يعود إلينا..

-بلى ..فأنت وأمثالك من المتمردين على مولاكم السلطان ترفضون النعم..

-هو مولاك أنت ولداتك...لا مولاي ...مولاي هو الله سبحانه فقط!

احمر وجه الحكيم..وأردف هامسا:

-لن يضيرني تفوهك المقيت..

-بل سيفعل!فمهما امتد زمان الظلم ..لا بد أن يأتي الخلاص..إلى متى ستخدع الناس؟!عقدا من الزمن..عقدان..ثلاثة..لا يهم..صدقني أيها ال...حكيم...ستولي أيامك و أيام زمرة البلاط الأثيمة هذه..

-هل تدرك أني أستطيع أسرك؟!

-افعل! ها أنت تقبرني في هذه البقعة المنبوذة من البلاد..مع الذين لا صوت لهم..ولكن ثق تماما ..أن النور لا يعوقه عائق .. ولو كان العائق قضبانا من حديد..

-أنت لا تملك سوى الإنشاء..والعبارات الفارغة..

-بل أملك وأنت تدرك ذلك جيدا..


حدجه الحكيم بنظره شزراء..بعد أن لذعته الكلمات..فهو يدرك تماما أن صالحا ليس بالعدو السهل ..فإن له حضورا قويا في صفوف الشباب ..حتى أبناء من لهم ثقل في المدينة..كما أنه ذكي إلى درجة كبيرة ..بل واسع الذكاء.. يدير نشاطه في الخفاء الذي يصعب فيه تحديد كل الأطراف..فإن حبسه أو أذاه ..سيزأر كليث جريح..ويؤلب صفوفا من الشباب ضد الحكماء و زمرة البلاط ..وقد تحدث أمور هم في غنى عنها..
أقصى ما يرجوه أن يضمه إلى حياته العريضة ..الثملى بكؤوس المال والملك والجاه..

همس الحكيم بصوت أشبه بالفحيح:

-سيهديك الله..سيهديك الله قريبا

رمقه صالح بابتسامة هازلة ...ولم يعقّب..وابتعد عنه الحكيم مبتسما!!وكأن هذا الوجه لم يحمر من فرط الغيض قبل ثوان! وصاح بصوت تعمّد أن يكون مسموعا لدى الجميع:

-بلغ أباك سلامي..يا بني!

تجمعت الدماء في عروق صالح..وأسر إلى نفسه:


-ما أمكرك يا جوهر!ولكن مكر الله اكبر!

سمير الشريف
09/01/2008, 06:08 AM
بداية موفقة تضعك على سلم الابداع,,
توظيف لجمل تصويرية أخاذة ومفردة مشعة موحية.
لديك قدرة في تطويع اللغة لحواريات جميلة يمكن إستغلالها في كتابة نصوص مسرحية.
على بركة الله,,,,,,,,,,,,,,,,,