المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإضـــراب



محمد المهدي السقال
22/11/2006, 05:08 PM
قصة قصيرة

الإضــــراب

مهداة إلى أخــي عبد السلام فزازي

محمد المهدي السقال

شاركتَ في الإضراب ؟
واستنهض همته لتغيير نبرة صوته البارد ,
فوجئتُ بالسؤال , فقد انتهيت للتو من تقديم درس النصوص ,على مدى ساعة كاملة , عشت لحظة بلحظة مع الإحساس بالانزعاج المفرط من زيارته, سأبقى مدينا لهؤلاء التلاميذ الذين لم يعيروا لوجوده أدنى اهتمام , تفاعلوا كعادتهم مع حكاية , " انتحار بلبل " ,
نجحت في تمهيرهم على التساؤل عما يستيثرهم في النص , يميلون إلى تحليل تفاصيل ظروف انتحار البلبل , فأميل بهم إلى تحليل اللغة التعبيرية , وأجد العذر في ضرورة الاهتمام بالنص في كليته شكلا ومضمونا , ظللت باستمرار أحرص على عدم الزج بهم في مطلق الحقائق المؤلمة في الواقع المعيش , وظلوا بإلحاح حريصين على مكاشفة مظاهر ذلك الواقع اللعين :
ـ إضراب الأمس ؟
تحاشى التقاء عينينا ,
واصل كتابة جملة امتدت لآخر السطر بدون فواصل , كم وجدت خطه رديئا , لكنني تذكرت قولة معلمي , وهو يعلق على فشلي الدراسي , حين لم يجد بدا من الاعتراف بجمال حروفي على الورق:
ـ الخط فن الحمير , عليك أن تهتم بدروسك , وزاد , الخطوط تُزيَّن بها الحيطان , أما الدروس فتبقى خالدة في الذاكرة .
ـ لا لم أشارك فيه .
استعدتُ حضور ذهني , نظرت إلى أصابعه الممسكة بالقلم في ارتعاش غير واضح , فهمت سياق السؤال الاستفزازي , كدت أباشره بالاستفسار عن المناسبة , فهو مفتش يقوم بزيارة , وليس ممثل نقابة ,
ثم تذكرت انتماءه السياسي , جرت العادة أن نسأل عن هوية السيد المفتش الجديد , قبل أي سؤال عن تجربته أو مؤهلاته, أعرف أنه من يمين اليسار الذي دخل لعبة التوافقات الخشبية تحت موائد الحوار,
لكنني أعرف أيضا مما شاع عنه , أنه لم يكن دائما راضيا على توجه حزبه , سُمع عنه أنه قال بوجود انحرافات وخروقات تنظيمية ما أنزلت بها القوانين الداخلية أو الأدبيات من سلطان ,غير أنه بعد هذا وذاك , ظل من دعاة الانضباط لقرارات القمة,
ـ ولماذا لم تنخرط في الاستجابة للدعوة إلى إضراب أمس ؟
لم يرفع بصره بعد , لعله في سطره الخامس أو السادس, يزداد خطه رداءة , صارت السطور أشبه بمنعرجات ,
هل كانت عينه على ما يكتب , كيف يواصل الدوران بالحروف غير المتناسقة الأحجام ؟
ـ لم أشارك , فضلت هذه المرة أن يكون لي رأي شخصي ,
ودون طلب منه , وجدتني مسترسلا في تبرير موقفي , بصراحة , للمرة الأولى في حياتي , أحس أنني قمت بشيء فكرت فيه ونفذته ,
انتظرت أن يسألني عن هذا الخروج المفاجئ عن الجماعة , وتخيلت أن يقول لي بأن الجماعة لا تتفق على ضلال , لكنه ظل يكتب , لعله انتهى , وضع النقطة ورفع القلم , عادة ما يكون إيذانا بالانتهاء ,
ـ كل ما في الأمر أنني استغربت عدم مشاركتك , و أنتَ الذي ..
لم يكمل الجملة ,أخذ يستعد للمغادرة , كنتُ أعرف الباقي, وحتى لا يخرج من غير الجواب عن سؤال ألح علي , استعجلته بالاستفسار عن هذه الزيارة المفاجئة , ولم تمر على زيارته الأخيرة إلا أيام معدودات على مجموع أصابع اليدين والرجلين ,
كم حزنت لحاله , حين أخبرني بأنه يزورني بأمر من السيد النائب عن السيد الوزير النائب عن السيدة الحكومة ,
كلهم يتساءلون عن تخلفي هذه المرة في مجاراة الدعوة إلى الإضراب , كان يتكلم بصوت خافت غير الذي اصطنعه في مفتتح حديثه وهو يسألني :
ـ شاركت في الإضراب ؟

*******
محمد المهدي السقال

fizaziabdeslam
22/11/2006, 06:27 PM
عزيزي محمد
رجعت بي بابداعك الرائع هذا إلى أزمنة غابرة جميلة، لم تبرح مخيلتي على الاطلاق..حيث كنا تلاميذ في مدرسة ما بجبال الأطلس المتوسط - أقصد مدينة الحاجب- بالضبط حين امتدت أيادي البطش الى أسرة التعليم سنة 1979 تريد أن تنال منها، فكان لها ذلك، لكن بقي الشرفاء شرفاء وذهبت وزارة الداخلية الى حيث ذهب البصري ومن كان يدور في فلكه. أجل، ذهب كل الى حال سبيله وبقي الثابت ثابتا، مثلك تماما حين واجهت السلطوية من خلال ما قرأت لك في هذا المنبر بالذات..رجعت بي الى ذلك الطفل الصغير الذي كنته، اتذكر الماضي واقرأه بمنظار أسميه الآن: ماض اسمه المستقبل.. ولا اجد جوابا على معزوفتك الرائعة سوى بمعزوفة تحترم نفس الايقاع، وسأعود مرة أخرى الى قراءة ابداعك قراءة نقدية..شكرا للمبدع والمناضل..شكرا لجيل يحمل هامته على راحتيه.. وتلــك الأيــام …

من كان يحلم على أن الطفولة الأولى ستختزل يوما ما إلى فقاقيع هوائية وتأتي على كل ما سطرته براءة الأشياء !فما أعظم الأحلام، وما أقسى أن تسلبنا الذاكرة مسحة لذة ربانية لا يستطيع المرء العيش دونها..!هل تستطيع الذاكرة هي الأخرى أن تنسينا الصباحات الباردة القارسة في فضاءات مدينة الحاجب، وكيف كنا نتأبط محافظنا الأزلية صوب إعدادية أكسبتنا مع مرور الزمن مناعة المقاومة والبحث عن اكتمال الأشياء خارج سوداوية السنين العجاف .كانت الحياة بسيطة وقاسية ؛وكانت المناهج المدرسية واضحة وهادفة ؛لا تغترف من سواحل المعرفة المتشظية .. وكنا- معشر التلاميذ –نعيش سباقا مارطونيا نحو التحصيل والتكوين خارج كل التوقعات التي قد تأتي ولا تأتي..وكان قانون الخوف والتوبيخ والتنافس والطرد يحاصر كل من زلت قدمه نحو الهاوية.. لم يكن (بياجي)مغربيا ،ولا حتى مقيما في تخوم أقبيتنا … ولم نكن نحلم بحقوق الإنسان في حضرة ( الفلقة )؛ ولا بعيد الطفولة في صقيع جغرافية قاسية.. كان القسم بمثابة اعتمار داخل دير له قوانينه الصارمة .. داخله محكوم عليه بالامتثال والخنوع والاستجابة الشرطية .وكانت سلطة الأستاذ لا تناقش سواء كانت حقا أم باطلا ،لأن قائد قافلة الأنام عبارة عن كورال يجب أن يحسن الطاعة والاستجابة .وكان القسم جحيما يقيم الدنيا ويقعدها كلما حاول التلاميذ اختراق قانون اللعبة ..فما أحوج أستاذ اليوم إلى ماض قتلته ميوعة فلسفة دخيلة.. وما أحوج تلميذ وطالب اليوم إلى براءة الأمس وأحلام فضاءاته النقية..!هل حقا البساطة هي أصل براءة الإنسان والأشياء ..والتعقيد أصل متاعب الإنسان ..؟مدينة الحاجب.آه مدينة الحاجب!هل بمستطاع هذه المدينة الأطلسية أن تقدم لنا أبهى وأجمل ما تحمل في طياتها مقابل أن نغفر لها بعضا من أخطائها النادرة..؟وهل يحق لعاشق الصمت أن يدغدغ منطقة الكلام ويصالح أبجدية الجدال الطفولي خارج منطق الشك والارتياب؟كم يحتاج المرء من خلية دماغية كي يعيد التوازن لجسد أنهكته أباطيل بني العشيرة..!وكم من لغة نفتقدها لتحقيق تواصل فعلي مع من أقبروا دفتي كتاب الذاكرة المتعبة..!إنها حقا آفة إنسانية تخبط خبط عشواء..ترى كم يلزمنا من الرثاء في عالم تحول إلى قرية صغيرة نروح ونجيء فيها بمجرد الضغط على أزرار شيطانية ماردة..؟في لحظة انبهار قد نستبق ظلنا صوب تخوم الذاكرة التي لا زال عقربها في البارحة وعينها على الآتي المتلاشي ..فماذا لو تهبنا الحياة نعمة النسيان لنستريح من تعب التفكير في التفاصيل التي تربك فينا منطقة الشعور !وماذا لو نستطع إعادة الزمن الذي لا مرد له لأنه عبارة عن قوة تثبت لنا مدى ضعفنا إن نحن حاولنا ركوب مسرح العبث..! هل حقا الدقائق والثواني التي تمر بنا لا تعود ؟ وهل حقا للمواقيت أجل يعد على رؤوس الأصابع شأنه شأن عمر الإنسان الذي مهما طال واستطال فهو في حقيقة الأمر كمن ارتد إليه طرفه..؟
طفولة البارحة هي أصلا شباب اليوم ؛وشيخوخة اليوم هي شباب البارحة ؛وبينهما مسافة واهية شأنها شأن بيت العنكبوت .وما دام الأمر كذلك، فلماذا أصبحنا نقتات من نهم الحياة على إيقاع سمفونية الحرباء التي تخاف من تلاشي جبال التراب ؟المجرد أن الإنسان إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا؟
… آه! لما كانت الطفولة رمانة تعانق آخر رقصة فصول العمر الطويل ..آنذاك لاحت عبر زئبقية الشفق الماكر أنثى المتاه فتوارت بين دفتي كتاب قديم طلا سيم آمال كاذبة .. لن نستسلم بعد الآن لأوهام نعلم حقيقتها .. ولن نجرؤ على مساءلة أخاديد وجهنا المتعب ما دام منطق الأشياء لا يحتمل التأويل ولا حتى الشرح المستفيض .. إنها مسارات حياتية عادية يقطعها الإنسان مثله مثل راكب قارب صغير يروح ويجيء على إيقاع ضفتي نهر صغير .. هل الأمر حقا يحتاج إلى سارد ماهر يجوب قارة الأبجدية ليفضح سريرة ذات ظلت تحلم وتتطلع إلى القبض على السراب ؟أسئلة قد تشاغب المبدع قبل الغوص في عالم الكتابة .لكن بمجرد خط أول عبارة تتجلى الأمور كما لو أننا حقا نستعيد الزمن ونحاول لملمة الشتات في غربال واسع الثقوب . عجبا ،كيف يدعي المبدع أنه يستطيع استعادة حياة ما ؛أو بالتالي تفاصيل زمن ما ،والذاكرة الإنسانية شلال تضيع منه قطرات تلو قطرات قبل معانقة مصبها الأخير ..! هكذا الحياة الإنسانية ،لا يمكن استنساخ طقوسها وتفاصيلها كما نهوى ونعشق ..ربما لأن لحظة الكتابة هي لحظة زواج كاثوليكي بين الأمس واليوم. فلا أنت سيد نفسك في الماضي، ولا أنت ابن اللحظة بامتياز. وهكذا تتقاسمك التفاصيل في حضرة الأبجدية وتختزلك اللغة عبر استرجاع الذاكرة الموشومة .فتكون كمن يريد أن يقبض على ماء سرعان ما يضيع لتبقى اليد مبللة ودالة على ما كان فيها من ماء.. هل حقا كتابة سيرة ما هي محاولة لإعادة عالم الذات !أم هي محاولة لمقاربة زمن منفلت عاشته هذه الذات ،ولكن أنى لها أن تسبح في النهر مرتين ،لأن عقرب الساعة لا يمكن أن يلبث في البارحة ،كما أن الذات لا يمكن أن تخلق لها وقتا ميتا لتخيط لها جبة الحلول.. أكيد أن فعل الكتابة مغامرة لاستعادة تفاصيل هي أصلا خلقت لتوجد مرة ما دام منطق الحياة يشبه تماما ماء النهر، وما دامت السباحة فيه مرتين هي من باب ثامن المعجزات ..هكذا تبدو الكتابة عن الذات عبارة عن مكاشفة ثانية عبر معمارية الكتابة ،وكأننا بالذات الكاتبة تعيد بناء هيكلها وترميمه بعد تعرية الزمن.ومتى كان الأصل مثل الفرع !ولو أن الجامع بينهما علة واحدة تتمثل في الذات الكاتبة نفسها .
الذاكرة إذن، سليلة الطفولة ،ووجع لغة لا تأبى الانحناء ،ولا تصطنع المسرات في فضاءات قبائل صائمة إلي إشعار آخر .. وتبقى الذاكرة رغم كلكل الزمن المقيت صدى أناشيد عمر ولى الأدبار.والذاكرة هي امتداد لمسافات واهية بين الفكرة والحلم .. هناك ،حيث تبرعم العبارة محتمية بالهزيع الأخير ،ويعتصر المبدع الأبعاد أغنية ،فيخترق الآفاق في دمه بعد أن تكومت في أحشائه وتمشى الصقيع عبر عروقه .. متى كانت الأماني والذكريات زورقا كسرته شهوة الصخر عند مشارف سو احلنا التي شيعتها الأمواج في رهبة الليل البهيم ؟ومتى كانت بقايا الذاكرة أشلاء قلب،أو بقايا فلك لا زال يغرق في موج الدجى،وهناك على طاولة الطفولة بعثرت باقات من أزهار المواويل..إنها حقا لحظات اللاشعور غدت تشق سبيلنا عبر الذاكرة. وهكذا تربينا على الطوق في فضاء أكبر منا .. فضاء عسير وقاسي ليس فيه مكان لطفل لا زال يعشق البارحة ،حيث كان الإحساس يهمس قائلا :إن الحياة مملكتكم والكون لكم ..
كثيرا ما تصفعنا حقيقة غدت كابوسا مخيفا يطاردنا ،تلك التي قد نرددها دون شعور قائلين :أنكون قد خنا الذاكرة بعد أن محوناها بالتناسي المفتعل ؟وتكون الذاكرة قد خانت الذاكرة ؟ولربما لأجل كل هذا لا زال الأمس أمسنا ،ونحن نمسك- مثل الغريق- بالتفاصيل القديمة والحديثة فنحنطها في دهاليز الماضي.. أكيد أن هذا الماضي نعمة لا نعمة بعدها ،لأنه أقوى من كل جاذبية لها معنى في حياة الإنسان.. أكيد أيضا أنه إعلان مبهم على طيف جنازة صامتة قادمة نحونا تتبعها جنازاتنا نحن معشر الحالمين بالخلود.ألم يبح يوما ًبودليرًفي قائلا :
- قل بربك ما الذي تحبه أكثر أيها الكائن اللغز؟الأب ،أم الأم ،أم الأخت ،أم الأخ؟
- ليس لي من هؤلاء شيئا.
- وأصدقاؤك؟
- عجيب أمرك !إنك توظف في كلامك كلمة لم يبق منها اليوم إلا حمولة معنى يكاد يكون مجهولا.
- ووطنك ؟
- أجهل تماما عن أية قمة شماء هو رابض .
- والجمال ؟
- أحبه طواعية ..إنه ربة معشوقة أزلية .
- والذهب.
- أمقته مثلما تمقتون الله .
- رباه! قل لي، ما الذي تحبه إذن أيها الكائن العجيب والغريب ؟77
- أحب السحب .. تلك التي تمر ..هناك .. هناك .. السحب العجيبة الفاتنة ..
أكيد أننا عبر السحاب نتخيل على الأقل أننا صرنا نطير ،ولا نبصر الأحلام المهربة ،ولا أولئك الذين استباحوا شهوة التاريخ وداسوا الأزهار البرية .تلك الأيام ..آه من تلك الأيام الأطلسية التي انفجرت بكاء بين يدي زرقاء اليمامة وتمايلت إلى الوراء..! أكيد في لحظات عديدة تكاد تكون منفلتة ،تأتيك الموضوعات جاهزة على عواهنها فلا تكاد تقترب منها حتى تلوح بعيدا تلك الأشياء . منتسبة إلى حدود تكاد تكون مفقودة تماما.وهكذا تتحول الجدران والدروب وفضاءات شتى إلى تعابير حية ناطقة.والتفاصيل إلى كورال يرقص على إيقاع الصمت ،فنعانق عبر هذا العرس الغرائبي العالم في نشوة خالدة..تلك الأيام طرزناها بمداد قد من أجسادنا وأرواحنا فأمطرناها بابتهالات الحب والإخلاص في حضرة شعاع القمر وسهاد أغصان الفجر.. تلك الأيام ،نجهل كيف طرقت أبوابنا الصغيرة ؛وكيف اقتحمت ذاكرتنا البيضاء ،واعتقلت سنواتنا البطيئة وكأننا بها تهمس في آذاننا قائلة: هكذا أيها الأولاد يقول الأزل دثروني بالورود الذابلة .. آه من تلك الأيام-في مدينة الحاجب الأطلسية - التي اعتقلت الذاكرة..آه..!
د. عبد السلام فزازي .

محمد المهدي السقال
22/11/2006, 08:57 PM
عزيزي محمد
رجعت بي بابداعك الرائع هذا إلى أزمنة غابرة جميلة، لم تبرح مخيلتي على الاطلاق..حيث كنا تلاميذ في مدرسة ما بجبال الأطلس المتوسط - أقصد مدينة الحاجب- بالضبط حين امتدت أيادي البطش الى أسرة التعليم سنة 1979 تريد أن تنال منها، فكان لها ذلك، لكن بقي الشرفاء شرفاء وذهبت وزارة الداخلية الى حيث ذهب البصري ومن كان يدور في فلكه. أجل، ذهب كل الى حال سبيله وبقي الثابت ثابتا، مثلك تماما حين واجهت السلطوية من خلال ما قرأت لك في هذا المنبر بالذات..رجعت بي الى ذلك الطفل الصغير الذي كنته، اتذكر الماضي واقرأه بمنظار أسميه الآن: ماض اسمه المستقبل.. ولا اجد جوابا على معزوفتك الرائعة سوى بمعزوفة تحترم نفس الايقاع، وسأعود مرة أخرى الى قراءة ابداعك قراءة نقدية..شكرا للمبدع والمناضل..شكرا لجيل يحمل هامته على راحتيه.. وتلــك الأيــام …

من كان يحلم على أن الطفولة الأولى ستختزل يوما ما إلى فقاقيع هوائية وتأتي على كل ما سطرته براءة الأشياء !فما أعظم الأحلام، وما أقسى أن تسلبنا الذاكرة مسحة لذة ربانية لا يستطيع المرء العيش دونها..!هل تستطيع الذاكرة هي الأخرى أن تنسينا الصباحات الباردة القارسة في فضاءات مدينة الحاجب، وكيف كنا نتأبط محافظنا الأزلية صوب إعدادية أكسبتنا مع مرور الزمن مناعة المقاومة والبحث عن اكتمال الأشياء خارج سوداوية السنين العجاف .كانت الحياة بسيطة وقاسية ؛وكانت المناهج المدرسية واضحة وهادفة ؛لا تغترف من سواحل المعرفة المتشظية .. وكنا- معشر التلاميذ –نعيش سباقا مارطونيا نحو التحصيل والتكوين خارج كل التوقعات التي قد تأتي ولا تأتي..وكان قانون الخوف والتوبيخ والتنافس والطرد يحاصر كل من زلت قدمه نحو الهاوية.. لم يكن (بياجي)مغربيا ،ولا حتى مقيما في تخوم أقبيتنا … ولم نكن نحلم بحقوق الإنسان في حضرة ( الفلقة )؛ ولا بعيد الطفولة في صقيع جغرافية قاسية.. كان القسم بمثابة اعتمار داخل دير له قوانينه الصارمة .. داخله محكوم عليه بالامتثال والخنوع والاستجابة الشرطية .وكانت سلطة الأستاذ لا تناقش سواء كانت حقا أم باطلا ،لأن قائد قافلة الأنام عبارة عن كورال يجب أن يحسن الطاعة والاستجابة .وكان القسم جحيما يقيم الدنيا ويقعدها كلما حاول التلاميذ اختراق قانون اللعبة ..فما أحوج أستاذ اليوم إلى ماض قتلته ميوعة فلسفة دخيلة.. وما أحوج تلميذ وطالب اليوم إلى براءة الأمس وأحلام فضاءاته النقية..!هل حقا البساطة هي أصل براءة الإنسان والأشياء ..والتعقيد أصل متاعب الإنسان ..؟مدينة الحاجب.آه مدينة الحاجب!هل بمستطاع هذه المدينة الأطلسية أن تقدم لنا أبهى وأجمل ما تحمل في طياتها مقابل أن نغفر لها بعضا من أخطائها النادرة..؟وهل يحق لعاشق الصمت أن يدغدغ منطقة الكلام ويصالح أبجدية الجدال الطفولي خارج منطق الشك والارتياب؟كم يحتاج المرء من خلية دماغية كي يعيد التوازن لجسد أنهكته أباطيل بني العشيرة..!وكم من لغة نفتقدها لتحقيق تواصل فعلي مع من أقبروا دفتي كتاب الذاكرة المتعبة..!إنها حقا آفة إنسانية تخبط خبط عشواء..ترى كم يلزمنا من الرثاء في عالم تحول إلى قرية صغيرة نروح ونجيء فيها بمجرد الضغط على أزرار شيطانية ماردة..؟في لحظة انبهار قد نستبق ظلنا صوب تخوم الذاكرة التي لا زال عقربها في البارحة وعينها على الآتي المتلاشي ..فماذا لو تهبنا الحياة نعمة النسيان لنستريح من تعب التفكير في التفاصيل التي تربك فينا منطقة الشعور !وماذا لو نستطع إعادة الزمن الذي لا مرد له لأنه عبارة عن قوة تثبت لنا مدى ضعفنا إن نحن حاولنا ركوب مسرح العبث..! هل حقا الدقائق والثواني التي تمر بنا لا تعود ؟ وهل حقا للمواقيت أجل يعد على رؤوس الأصابع شأنه شأن عمر الإنسان الذي مهما طال واستطال فهو في حقيقة الأمر كمن ارتد إليه طرفه..؟
طفولة البارحة هي أصلا شباب اليوم ؛وشيخوخة اليوم هي شباب البارحة ؛وبينهما مسافة واهية شأنها شأن بيت العنكبوت .وما دام الأمر كذلك، فلماذا أصبحنا نقتات من نهم الحياة على إيقاع سمفونية الحرباء التي تخاف من تلاشي جبال التراب ؟المجرد أن الإنسان إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا؟
… آه! لما كانت الطفولة رمانة تعانق آخر رقصة فصول العمر الطويل ..آنذاك لاحت عبر زئبقية الشفق الماكر أنثى المتاه فتوارت بين دفتي كتاب قديم طلا سيم آمال كاذبة .. لن نستسلم بعد الآن لأوهام نعلم حقيقتها .. ولن نجرؤ على مساءلة أخاديد وجهنا المتعب ما دام منطق الأشياء لا يحتمل التأويل ولا حتى الشرح المستفيض .. إنها مسارات حياتية عادية يقطعها الإنسان مثله مثل راكب قارب صغير يروح ويجيء على إيقاع ضفتي نهر صغير .. هل الأمر حقا يحتاج إلى سارد ماهر يجوب قارة الأبجدية ليفضح سريرة ذات ظلت تحلم وتتطلع إلى القبض على السراب ؟أسئلة قد تشاغب المبدع قبل الغوص في عالم الكتابة .لكن بمجرد خط أول عبارة تتجلى الأمور كما لو أننا حقا نستعيد الزمن ونحاول لملمة الشتات في غربال واسع الثقوب . عجبا ،كيف يدعي المبدع أنه يستطيع استعادة حياة ما ؛أو بالتالي تفاصيل زمن ما ،والذاكرة الإنسانية شلال تضيع منه قطرات تلو قطرات قبل معانقة مصبها الأخير ..! هكذا الحياة الإنسانية ،لا يمكن استنساخ طقوسها وتفاصيلها كما نهوى ونعشق ..ربما لأن لحظة الكتابة هي لحظة زواج كاثوليكي بين الأمس واليوم. فلا أنت سيد نفسك في الماضي، ولا أنت ابن اللحظة بامتياز. وهكذا تتقاسمك التفاصيل في حضرة الأبجدية وتختزلك اللغة عبر استرجاع الذاكرة الموشومة .فتكون كمن يريد أن يقبض على ماء سرعان ما يضيع لتبقى اليد مبللة ودالة على ما كان فيها من ماء.. هل حقا كتابة سيرة ما هي محاولة لإعادة عالم الذات !أم هي محاولة لمقاربة زمن منفلت عاشته هذه الذات ،ولكن أنى لها أن تسبح في النهر مرتين ،لأن عقرب الساعة لا يمكن أن يلبث في البارحة ،كما أن الذات لا يمكن أن تخلق لها وقتا ميتا لتخيط لها جبة الحلول.. أكيد أن فعل الكتابة مغامرة لاستعادة تفاصيل هي أصلا خلقت لتوجد مرة ما دام منطق الحياة يشبه تماما ماء النهر، وما دامت السباحة فيه مرتين هي من باب ثامن المعجزات ..هكذا تبدو الكتابة عن الذات عبارة عن مكاشفة ثانية عبر معمارية الكتابة ،وكأننا بالذات الكاتبة تعيد بناء هيكلها وترميمه بعد تعرية الزمن.ومتى كان الأصل مثل الفرع !ولو أن الجامع بينهما علة واحدة تتمثل في الذات الكاتبة نفسها .
الذاكرة إذن، سليلة الطفولة ،ووجع لغة لا تأبى الانحناء ،ولا تصطنع المسرات في فضاءات قبائل صائمة إلي إشعار آخر .. وتبقى الذاكرة رغم كلكل الزمن المقيت صدى أناشيد عمر ولى الأدبار.والذاكرة هي امتداد لمسافات واهية بين الفكرة والحلم .. هناك ،حيث تبرعم العبارة محتمية بالهزيع الأخير ،ويعتصر المبدع الأبعاد أغنية ،فيخترق الآفاق في دمه بعد أن تكومت في أحشائه وتمشى الصقيع عبر عروقه .. متى كانت الأماني والذكريات زورقا كسرته شهوة الصخر عند مشارف سو احلنا التي شيعتها الأمواج في رهبة الليل البهيم ؟ومتى كانت بقايا الذاكرة أشلاء قلب،أو بقايا فلك لا زال يغرق في موج الدجى،وهناك على طاولة الطفولة بعثرت باقات من أزهار المواويل..إنها حقا لحظات اللاشعور غدت تشق سبيلنا عبر الذاكرة. وهكذا تربينا على الطوق في فضاء أكبر منا .. فضاء عسير وقاسي ليس فيه مكان لطفل لا زال يعشق البارحة ،حيث كان الإحساس يهمس قائلا :إن الحياة مملكتكم والكون لكم ..
كثيرا ما تصفعنا حقيقة غدت كابوسا مخيفا يطاردنا ،تلك التي قد نرددها دون شعور قائلين :أنكون قد خنا الذاكرة بعد أن محوناها بالتناسي المفتعل ؟وتكون الذاكرة قد خانت الذاكرة ؟ولربما لأجل كل هذا لا زال الأمس أمسنا ،ونحن نمسك- مثل الغريق- بالتفاصيل القديمة والحديثة فنحنطها في دهاليز الماضي.. أكيد أن هذا الماضي نعمة لا نعمة بعدها ،لأنه أقوى من كل جاذبية لها معنى في حياة الإنسان.. أكيد أيضا أنه إعلان مبهم على طيف جنازة صامتة قادمة نحونا تتبعها جنازاتنا نحن معشر الحالمين بالخلود.ألم يبح يوما ًبودليرًفي قائلا :
- قل بربك ما الذي تحبه أكثر أيها الكائن اللغز؟الأب ،أم الأم ،أم الأخت ،أم الأخ؟
- ليس لي من هؤلاء شيئا.
- وأصدقاؤك؟
- عجيب أمرك !إنك توظف في كلامك كلمة لم يبق منها اليوم إلا حمولة معنى يكاد يكون مجهولا.
- ووطنك ؟
- أجهل تماما عن أية قمة شماء هو رابض .
- والجمال ؟
- أحبه طواعية ..إنه ربة معشوقة أزلية .
- والذهب.
- أمقته مثلما تمقتون الله .
- رباه! قل لي، ما الذي تحبه إذن أيها الكائن العجيب والغريب ؟77
- أحب السحب .. تلك التي تمر ..هناك .. هناك .. السحب العجيبة الفاتنة ..
أكيد أننا عبر السحاب نتخيل على الأقل أننا صرنا نطير ،ولا نبصر الأحلام المهربة ،ولا أولئك الذين استباحوا شهوة التاريخ وداسوا الأزهار البرية .تلك الأيام ..آه من تلك الأيام الأطلسية التي انفجرت بكاء بين يدي زرقاء اليمامة وتمايلت إلى الوراء..! أكيد في لحظات عديدة تكاد تكون منفلتة ،تأتيك الموضوعات جاهزة على عواهنها فلا تكاد تقترب منها حتى تلوح بعيدا تلك الأشياء . منتسبة إلى حدود تكاد تكون مفقودة تماما.وهكذا تتحول الجدران والدروب وفضاءات شتى إلى تعابير حية ناطقة.والتفاصيل إلى كورال يرقص على إيقاع الصمت ،فنعانق عبر هذا العرس الغرائبي العالم في نشوة خالدة..تلك الأيام طرزناها بمداد قد من أجسادنا وأرواحنا فأمطرناها بابتهالات الحب والإخلاص في حضرة شعاع القمر وسهاد أغصان الفجر.. تلك الأيام ،نجهل كيف طرقت أبوابنا الصغيرة ؛وكيف اقتحمت ذاكرتنا البيضاء ،واعتقلت سنواتنا البطيئة وكأننا بها تهمس في آذاننا قائلة: هكذا أيها الأولاد يقول الأزل دثروني بالورود الذابلة .. آه من تلك الأيام-في مدينة الحاجب الأطلسية - التي اعتقلت الذاكرة..آه..!
د. عبد السلام فزازي .

أخي عبد السلام

ما أتعسنا بهذه الذاكرة


دعوتني إلى نشر النص السردي , فوثقت بشهادتك وفعلت ,
فهل لي أن أرجوك نشر نصك الجميل والمفعم بالصدق النادر في زماننا الرديء بأهله ,
بصدق ,
ولو أنني لست في مستوى التقييم النقدي لكتابتك ,
أقول , إنني لا أقرأ كل يوم مثل ما تكتب , سواء على مستوى النبض الذي تمتح منه , وهو أصفى من رحيق الذاكرة , أو على مستوى اللغة التعبيرية , وهي أنقى من وضوح الماء الزلال ,
بالرغم من تمكن الكسل القرائي مني , لظروف نفسة بالأساس ,
فقد وجدتني أعيد قراءة نصك , لما حصل لدي من التماهي مع أكثر من موقع في جغرافية الحكي عن صميم معاناة الذات ,
ولم أستغرب تقاطعات الذاكرة الجماعية وهي تتوزع التواريخ الفردية , لأن ما يشكل مادتها الرمادية / من لون الرماد , إنما مرجعه الصراع الطبيعي من أجل البقاء في مواجهة الإصرار على العدم ,
أخي عبد السلام
حين قرأت عند اليونان أول مرة , بأننا لا نسبح في النهر مرتين ,
حاولت تفهم دلالة القولة , ورغم بقاء شيء من "حتى" في نفسي إزاءها , ظللت مسلما بها ,
لكن مع تقدم العمر ,
وبعد التعرض لكل ألوان التشظي العمد لتلك الذاكرة ,
أحسست شخصيا بأنه لم يتبق لي من زماني غير السباحة في تلك الذاكرة , فأعمد إلى مجاهدة النفس من أجل استحضار أكبر قدر من التفاصيل ,
فهي الحقيقة الوحيدة في حياتي, ما دام ما يسمى بالمستقبل , محكوما بالمجهول ,
لست أدعي أني أنجح في السباحة مرتين , مخالفا بذلك خلاصة التجربة الإنسانية ,
ولكني أستطيع ادعاء محاولة التعقب لما يمكن أن يقبض عليه وعيي بتلك الذاكرة ,
علما بأني أكابد التنازع بين الممكن بالشعور والمستحيل باللاشعور , خوفا من التعرض لإكراهات قلب السترة , ومنطق الحال يقول معك : لا تقلب سترتك حتى لو بليت..

أخوك
محمد المهدي