المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : آيات الله في الآفاق- المفتي القادري



أيمن أحمد رؤوف القادري
09/01/2008, 08:56 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
آيات اللهِ في الآفاق
الشيخ أحمد رؤوف القادري
مفتي قضاء راشيا في البقاع
ما أروع هذا الكون، وما أبدعَ صنعَه، وما أحكمَ تدبيرَه وتصريف أمورِه. في أيِّ ناحيةٍ من نواحي هذا الوجود، ومن أيِّ زاويةٍ من زوايا هذا الكون أنعمتَ النَّظر وأعمَلتَ الفكر، لقيتَ شاناً عجباً.
انظر إلى الأرض وما عليها وما فيها، وما يحيطُ بها، وما تنـتجه سهولها ووديانها، تتبَّعْ ببصركَ وبصيرتكَ ما يعلو قممَ الجبال، وما يسبحُ في الماء، وما يسْتقرُّ في جوفِ البحار والمحيطات، وما يجري فوقها من الجوار والمنشآت. تأمل هذا الكون إن شئت في تناسقه وانسجامه، ودوران كواكبه وحركات أفلاكه، شمسه ونجومه وأقماره ثم أمعن التأملَ في تماسكها، وهي البعيدة عن التلاحقِ والتلاحُم، وفي التزام كلِّ مسيرة ومداره دونَ إسراعٍ أو تباطؤ، ودون انحراف أو خروجٍ عن السَّنَنِ المرسوم.
استجمعْ – أيها الإنسان – قوَّةَ حواسك، وأرسل كلاًّ منها في مجاله، لتخترقَ حجبَ الكونِ وأستارَهُ في شتَّى ما يحتويه، وفي جميع ما يسهمُ في تكوينه وتكويره ونشأتِهِ وتطويره، وفي اختلاف أشكاله وأحجامهِ وألوانه.. إنَّ العينَ سيتراءَى لها البديعُ من الكائناتِ ذواتِ الأشكالِ الهندسيةِ الدقيقة، والحجوم المتباينةِ المتفاوتة، موشَّاة بالألوان الرائعة، تتجلَّى في أثوابها القشيـبة، وتنبض بالحياة التي تنبثقُ من ينبوعها الدَّفَّاق.
أيها الإخوة المؤمنون... لنـترك القريب منا، وفي بعضه من الأسرارِ والحكمِ ما يرشِدُ المسترشِد، ويهدي الضَّال، مما لا يستطيع الذهنُ إدراكَ كنهِه، والوقوف على خفاياه وفي أنفسكم أفلا تبصرون، ولنرسل جوارحنا تحَلِّقُ بكلِّ قواها، وبما اخترع لها من آلاتٍ وأسبابٍ تعاونها بالتقريب أو التكبير، أو التحرك إلى أجواءِ الفضاء العليا، أو الغوصِ في أعماقِ البحار والمحيطات، ومستعينين أيضاً بما أعدَّهُ الإنسان من معاملَ ومعاهد لاستجلاءِ الحقيقة، واستخلاص ما حصلنا عليه من معلومات، لعلنا نصلُ إلى بعض ما هنالك من حكمٍ وأسرار.
ولكن، يجدُرُ بنا أن نتساءل: لماذا نجهدُ الإنسان هذا الإجهاد، ولماذا نكلِّفه اللجوء إلى هذا كلِّه، ونرهقُهُ باستعمالِ هذا كلِّه ؟ أيبْتَغي الإنسانُ الوقوفَ على إسرارِ هذا الوجودِ كي ينتفعَ بهذه المعرفةِ في حياته الحاضرة، فيأمنُ شرَّها وضرَّها، ويستدرُّ خيرها ودرَّها.. إن كان ذلك، فهو أمرٌ مرغوبٌ ومطلوب:
وهو الذي سخَّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حليَةً تلبسونها، وترى الفلكَ مواخرَ فيه، ولتبتغوا من فضلِهِ ولعلكم تشكرون (النحل 14)
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلماتِ البرِّ والبحر، قد فصَّلنا الآيات لقومٍ يعلمون (الأنعام 97).
وهو كما ترى شأنٌ له خطرُه، يتطلب هذا الإجهادَ والإرهاق للظفر به.
وقد حثَّ كتابُ اللهِ على استجلاءِ ما في الكون البديعِ من آياتٍ وحكم، وما تحتويه موادُهُ من خصائصَ وعجائب، ليحقِّقَ الإنسان لنفسه تسخير المادةِ التي خلقها اللهُ وذلَّلها له، فيبذل جهدهُ في الوصول إلى أسرارها كي يستحوذَ على جميع خيراتها، ويتجنَّبَ كلَّ ما يصدُرُ عنها من أضرار. يقول اللهُ تعالى في سورة الإسراء 12: وجعلنا الليلَ والنهارَ آيتينِ فمحونا آيةِ الليلِ وجعلنا النهارَ مبصرة لتيتغوا فضلاً من ربِّكم ولتعلموا عدَدَ السنينَ والحساب، وكلَّ شيءٍ فصَّلناهُ تفصيلاً.
لم يكن مبعث الاهتمام إذاً هذا فحسب، ولو كان لاستحقَّ من الإنسان كلَّ جهدٍ واهتمام... ولكنَّ الأمر لهذا، ولشأنٍ أخطر منه وأعظم. ذلكم كي يصل الإنسان بمدركاتِهِ الحسية، ومعارفه الفكرية، إلى أفقٍ أعلى من هذا المستوى المادي الذي يستحوذ على جميع حركاته وسكناته، ويستولي على جميع مشاعره وإحساساته، ويرهقُهُ في جميع أوقاته.. ولتحقيق هذا الهدف السامي، وللوصول إل هذا المستوى الرفيع، أعملَ الإنسانُ فكره وعقله مع حواسِّه وجوارحه، فاستدلَّ بالمشاهدةِ والمحسوسِ على المعقول والمعلوم، واستشفَّ هذه المدركات فأبصر ما وراءها، وأوصله ذلك إلى إدراك مبدع الكون، واجبِ الوجود...
فها هو ذا الإنسانُ في فطرته، ينطقُ بلسان العربي في بداوته، وقد راعَهُ ما رأى، وهو يقطعُ قفارَ الصحراء، ويتأملُ نجومَ السماء، يهتفُ ويقول: الأثرُ يدلُّ على المسير، والبعرة تدلُّ على البعير، أأرضٌ ذاتُ فجاج، وسماءٌ ذات أبراج، لا تدلاَّنِ على اللطيف الخبير؟؟... إي وربّي تدلاَّنِ وتدلاّن...
ومن هذا وأضرابه، يدرك الإنسان المتحضِّرُ اليوم، المستعلي بما اخترع من آلاتٍ ومعدات، أنَّ الإنسان بفطرته، وهو في بداوته، قد وصل دون استعانةٍ بالآلات والمخترعات، إلى الحقيقة الثابتة الراسخة، وهي: أنَّ لهذا الكونِ شأناً، وأنَّ له صانعاً. يقول اللهُ تعالى في سورة الغاشية: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعَت، وإلى الجبال كيف نُصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، فذكِّرْ، إنما انت مذكِّر
ويقول جلَّت قدرته: قل انظروا ماذا في السموات والأرض
إننا لو تأملنا ظواهرَ الكون في آفاقه الشاسعة على ضوء ما اشتمل عليه كتابُ اللهِ الحكيم، لوجدنا أنَّ الآيات المقروءة المعجزة، إن هي إلاّ قطرة من محيط تلكم الآيات والكلمات المنبثَّة في ثنايا الوجود كلِّه، والدَّالةِ على قدرة اللهِ وشمول علمه، وبديع حكمته، وإتقان صنعته، ولأدركنا أنّ الآيات المقروءة عنوانٌ لكتابِ الكون الضخم، الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تحصى غرائبه، وللفت نظرنا أنَّ هذه الآيات المتكاثرة المتطوِّرةَ تلاحقُّ الإنسانَ في جميع أدوارِ حياته، كي تأخذ بيده وترشده إلى سلوك السبيل القويم.
وكما استطاع البدويُّ بفطرته أن يستشفَّ ما وراء الظواهر الكونية من أسرارٍ يدعم بها ثقتهُ وإيمانه، يستطيع الإنسان المتحضر ذلك اليوم، مستعيناً بنا ابتدع من آلاتٍ ومخترعاتٍ ومعامل، فتَّت بها الذَّرة، وأطلق بطاقتها الأقمار تخترق أجواز الفضاء، وتدور حول الكواكب السَّـيَّارة، لقد استطاع أن يخترق ما وراء هذه المادة، ووقف على كثير ٍ ممّا احتوته من خصائص وغرائب، وقد بهره ما رأى، وأخذته الدهشة الفكريُّة من هذا الصنع البديع المتقن، فهتف بلسان علمائه: إنَّ وراء هذه المادة قوَّةً تحرِّكها، وتدير شأنها.. وإلا فهذه الخليةُ المتكاثرة، والمادة واحدة، كيف تنوَّعت وتوجَّهت وتشكَّلت.. هذه شعرةٌ وتلك عصب، وأخرى عظم ورابعةٌ لحم... وهكذا إلى آخره..
ثم كيف حدِّد اتجاه كلِّ واحدة، ومصدر الانقسام واحد.. فهذه في الرأس وأخرى في الأنامل، وثالثةٌ في الساق، وهكذا.. من أصدر لها الأمر لتـتوجَّه إلى المكان المرسوم ؟ وفوق هذا، وأرفع منه مستوى، تلك الخلايا التي ينبعثُ عنها التفكير والتدبير، والتبصير والتقدير، كيف يصدر عنها، ومن أين جاء، وأقول: إلى أين المصير ؟؟
إنَّ الإنسان، وقد نضج عقله، وتقدَّمت مخترعاته، قد هتف بألسنة أساطين العلمِ الحديث من أبنائه، وقد راعه ما رأى،كما هتف أجدادُهم من قبل: إنَّ لهذا الكون صانعاً ومدبِّراً..
وستظلُّ هذه الحقيقة ماثلةً ثابتةً على الدهر، مرفوعة اللواء، ومتجددةً على الأيام، وسيفنى الإنسان وستـتلاشى مخترعاته، ولن يستطيع حجد هذه الحقيقة أو إخفاءها، كما سيعجز عن حصرها وتعدادها. وصدق اللهُ حيث يقول : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنَّه الحق
نوَّر اللهُ بصائرنا، وهدانا سواء السبيل.