المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وقفة أمام عيد التضحيات- المفتي القادري



أيمن أحمد رؤوف القادري
09/01/2008, 09:17 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

وقفة أمام عيد التضحيات
[والدي] الشيخ أحمد رؤوف القادري- مفتي قضاء راشيا في البقاع

الله أكبر، سجدت الجباه لعظمته، وخلق الكون بقدرته، ودبَّر الأمر بحكمته، يحكم ولا معقِّب لحكمه، ويريد الخير ولا رادَّ لفضله، يعلم الخفايا ولا حدود لعلمه، ينصر من ينصره، ويذكر من يذكره، ويضاعف الفضل لمن يشكره.
هذا يوم التضحية والفداء، والبذل والعطاء، والطاعة والوفاء، حيث ابتلى الله فيه خليله إبراهيم أيَّ ابتلاء، إذ أراه في المنام أن يذبح ولده اسماعيل، فأطاع الوالد والولد أمر الرب الجليل، وكان عاقبة ذلك فداء الولد بذبحٍ عظيم، والثناء على الوالد ثناءً خالداً في الآخرين، وتبشيره بولده إسحق نبياً من الصالحين:
قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ.
وهل تبلغ الطاعة حداً أعظم من هذا: ولدٌ يسلِّم رقبته لوالده ليذبحه، وهو يرى والده وقد تلَّه للجبين، وأعدَّ العدة لذبحه، وهمَّ بتنفيذ أمر ربِّه؟ وهل تبلغ التضحية مبلغاً أقوى من هذه التضحية: والدٌ ينظر إلى فلذة كبده، وهو يهمُّ ليذبحه بيده، ثمَّ يستسلم للقضاء بقلبٍ سلِم من رَيـبِه، وعقلٍ لا يطيشُ بكرْبِه.
وقد علَّمنا الله تعالى كيف يجزى المؤمنين المخلصين المحسنين، إذا ما آمنوا حقاً، وأخلصوا لله بنيةٍ طيبةٍ لا يتسرَّب إليها أيُّ تزعزعٍ أو تضعضع، وإذا ما نفَّذوا أوامره بغير توانٍ أو خوف، وبصبرٍ على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النـتائج مهما بعدت، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، لأنَّ الإيمان الصحيح، لا يعتدُّ به، ولا ينوَّه بشأنه، ولا يعتمد عليه إلاّ إذا خضع للابتلاء الذي يختبره، فإمّا كشف عن طيِّبه، وإما كشف عن زيفه.
فالتضحية هي البرهان العمليُّ على قوة العقيدة، والمثل الحيُّ على إنسانية الإنسان، والركيزة الأولى لحيوية الأمة وقوَّتها. وكلُّ قلبٍ فارغٍ من العقيدة، لا يقدم على التضحية، ولا يعرف لها معنى، وكلُّ إنسانٍ لا يبصر إلا نفسه، ولا يتحرك إلاّ ليشبع أنانيَّته، حيوانٌ شره، يشقى بحيوانيته، ويشقى به مجتمعه. وكلُّ أمَّةٍ يدور كلُّ فردٍ فيها حول نفسه، ويظنُّ بمقدرته وكفايته على غيره، أمةٌ مفككةٌ متعادية، تاكل الأنانية قواها، وتجعلها فريسةً للضياع والهوان.
والتضحية هي الإقدام في مواطن الخطر، والبطولة في ميدان القتال، وتبلغ التضحية غايتها بالإستشهاد في ساحات الجهاد، دفاعاً عن حق، وحفاظاً على عرض، واستنقاذاً لشرف. وهذا النوع من التضحية أسمى درجاتها، وأشرف منازلها. وهو ليس بالأمر الهين، ولا بالمطلب السهل المنال، إلا على أصحاب العقيدة الراسخة.
والتضحية في هذا المجال محسوبة في ميزان الله بهبَّة الريح، وذرَّة التراب، وعضَّة الجوع، وحرقة الظمأ، وخفقة القلب، وفتحة الجفن، ونقطة الدم.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم في سورة التوبة:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أيّها الراجمون الجمار في منى، هل تعلمون أنّ سيدنا إبراهيم، عليه السلام، قد تعرّض له الشيطان في تلك الأمكنة، ووسوس له حتى يعود عن عزمه، ويتراجع عن تنفيذ أمر ربّه، فرماه بالحصى تصميماً منه على التضحية، وامتثالاً لأمر ربّه؟ وهاهم زبانيةُ الشيطان اليوم في لبنان وفلسطين، يوسوسون ويشككون، ويذبحون ويقتلون، ويحتلون ويدمّرون، ويفجّرون ويفجرون، وهو يستحقّون حجارتكم بقدر ما يستحقّها الشيطان.
ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، فبمشيئتك وقدرتك لن يضيع لبنان، وبمشيئك وقدرتك لن تطول غربة المسجد الأقصى وما باركت حوله. فأنت القادر والناصر، ونحن من عبادك المؤمنين. فلا تعاملنا بما فعل الجهلاء والسفهاء منـّا، وأعدنا إلى دينك عوداً حميداً.. واجعلنا من أهل الوعد، ولا تجعلنا من أهل الوعيد.
ربّنا ولا تحلمنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، واجعل أعيادنا أعياد خيرٍ وترابطٍ وتحررٍ لجميع المسلمين، وكن معنا على الصهاينة وسائر المغتصبين المحتلين.
والله اكبر. الله أكبر، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرةً وأصيلا...