المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جنوب السودان وآفاق المستقبل ج1-لأحمد أبو سعدة



آداب عبد الهادي
14/01/2008, 12:43 PM
جنوب السودان وآفاق المستقبل كتاب جديد ومهم يتحدث عن مشكلة الجنوب ولأهمية الكتاب وضرورة الإطلاع عليه قامت الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب بتقديم التهاني للكاتب والباحث الكبير الاستاذ أحمد أبو سعدة بمناسبة الأعياد وقدوم السنة الجديدة وطلبت منه إذناً خطياً لنشر الكتاب في مركز واتا للدراسات الإفريقية وقد حصلنا على موافقة حصرية لنشره في هذا المركز ونقوم بنشره علىحلقات.



جنوب السودان
و
وآفاق المستقبل


ذات يوم من أيام الخريف الجميلة كان شاب طويل القامة يخطو بثبات نحو بركة للماء وخلفه عدد من الأولاد والنسوة.
بجانب البركة جثى شاب آخر يغرف الماء ويعبئه بقربته الجلدية والناس ملتفون حول البركة يفعلون مثلما يفعل الشاب الجاثي.
كل شيء هادىء في المكان إلا صوت الماء الذي يغرف ويوضع في القرب.
دقق الشاب الطويل يتفحص البركة وجوانبها ليأخذ له مكاناً يعبىء
منه الماء.
انقطع الهدوء حين سأل الشاب الطويل الشاب الجاثي:
ماذا تفعل هنا يا عثمان؟.
مثلما تفعل أنت يا لام.
أنا هنا بفعل الحياة.
وأنا هنا بفعل الوجود.
أربع جمل تبادلها عثمان ولام وكان ما كان؟؟.

* * *


جنوب السودان وآفاق المستقبل

إهداء

إلى روح صديقيَّ
العقيد السوداني خليفة كرار بلة
والمناضل الأرتري صالح أحمد آياي
اللذين ناضلا في سبيل تحقيق الاستقلال التام والوحدة الوطنية في كل من السودان الشقيق وأرتريا، فكان للأول ما أراد، أما صالح فلقد توفاه الله وهو يناضل من أجل إعادة الحق إلى نصابه.
وإلى روح شهيد فلسطين والوطن العربي والإسلامي المجاهد
عبد العزيز الرنتيسي
غفر الله لهم
دمشق في 1/6/2006
أحمد أبو سعدة


«أينما ذهبت وأمعنت في التوغل.. في القرى والغابات وعلى قمم الجبال وجدت اللغة العربية منتشرة بين السكان.. وعليه يجب إعادة النظر وبحذر شديد فيما يجري وعلينا بذل الجهد والمال لوقف الدين الإسلامي واللغة العربية..»
ر. س. أوين
الحاكم العام الانكليزي للسودان

المقدمـة
- سألني أحد أصدقائي عن سبب كتابتي لمواضيع وكتب، لا يقرؤها ولا يهتم بها سوى عدد قليل من الناس؟
- ابتسمت وأردت الإجابة، لكنه لم يتركني أرد على كلامه بل تابع مندفعاً:
- أنت تكتب عن الصراع والاضطرابات العلنية والمخفية في مناطق متعددة وبعيدة جغرافياً و...
- قاطعته وبقوة:
- نعم إنني أكتب عن ما ذكرته، أكتب في التاريخ السياسي الحديث عن أفريقيا وهموم شعوبها؟
- عاد صديقي العزيز ليسألني ساخراً: هل تكتب الآن عن قبائل (الماوماو)؟ وأطلق لضحكته العنان.
- ضحكت بدوري وأجبته بجدية: أكتب الآن عن جنوب السودان و......
- /حلو/ عن (كرنغ) وصديقه الترابي؟
- اسمع يا صديقي: إنني أكتب عن السودان هذا البلد العربي المسلم الأصيل، صحيح وأكيد إنني لا أدعي الإنابة أو الأصالة عن الشعب السوداني الطيب، إلا أن عليك أن لا تنسى أنني عربي وأتعامل مع الناس على هذا الأساس، وهذا الأمر يماشي ويناسب معتقدي الوطني والقومي والإنساني...
إن الوقائع التي جرت وتجري على أرض السودان تخيفني وترعبني؟
- هذا كلام مغامر وليس كلام كاتب ومحلل سياسي؟ أيها العزيز، أنت تحب المغامرة؟
- أي مغامرة هذه؟ يا صديقي... إنها هموم ومتاعب أمتي، حاضرها ومستقبلها... وجودها... تلاشيها...: لذلك عليّ البحث والسعي لدرء الخطر عنها، علينا أن نقلب الكثير من صفحات التاريخ لنأخذ منها العبر، بعد ذلك نقدمها إلى أبناء أمتنا، كي يستفيدوا منها.
- أنت تحب السرد.
- لا يهم، قل ما تشاء وسمِّ الحقيقة بما يحلو لك تسميتها /سرد/ حكاية - رواية - تاريخ - صراع،... لا يهم قل ما تشاء. لكن عليك أن لا تنس أمراً حقيقياً واحداً وهو تسابق المستعمرين الأوروبيين الذي كان وما زال مزيجاً من الحقد والأنانية والسيطرة والتهافت على كسب المغانم والحصول على المواد الخام والحماسة الدينية /الفرنجية/ ونشرها في القارة السمراء.
- هز صديقي /العتيق/ رأسه وقال مازحاً... اكتب كان الله بعونك... اكتب وسنقرأ ما سوف تكتبه؟...
- حسناً سأكتب لكن عليك أن تعلم بأن ماضي أفريقيا يكاد يكون غير معلوم لكثير من الناس، وإن ما كتب عنها كان من وجهة نظر المستعمرين الأوروبيين والأمريكان واليهود الذين جاؤوا إليها واغتصبوا منها الحرية وإنسانية إنسانها، جاء المستعمرون وإرسالياتهم التبشيرية وقالوا سوف نهدي هؤلاء الأفارقة المتوحشين الضالين؟ جاؤوا وعلى وجوههم الغضب وفي قلوبهم الحقد... لكن هؤلاء المستعمرين نسوا أو تناسوا أن للإفريقيين /جذوراً/ وأن هذه الجذور أعطت وتعطي الحياة الحرة الكريمة، قبل أن تكون لهؤلاء المستعمرين حياة.
إنني في كتابي هذا لا أنقب عن ماضي القارة السمراء بشكل عام إنما أبحث عن كرامة الإنسان الإفريقي عامة والشعب السوداني العريق خاصة أننا وبلا شك أمام مسؤولية دقيقة وهامة وهي مشكلة جنوب السودان، إنني كعربي لا أقبل وأرفض وبكل قوتي ما جرى ويجري الآن في السودان بشكل عام وجنوبه بشكل خاص، إننا أمام خطر فظيع وهو لا يقل عن خطر الضياع المؤقت /لفلسطين وعربستان والإسكندرون و..... احتلال العراق....
أيها العرب إن العواصف الشيطانية التي تهب علينا من القوى المعادية لعروبتنا هي عواصف مؤقتة، فليس عيباً أن تزلزل الأرض وينشق البنيان، لكن العيب أن نقف وننظر إلى قضايانا المصيرية ببصر زائغ وأيدٍ مغلولة؟
نحن في مرحلة خطرة /الوجود أو عدمه/ مرحلة فرضتها علينا القوى الظالمة، هل نكون أو نتلاشى؟
وكتابي هذا يهدف إلى شرح بعض جوانب قضية جنوب السودان وخاصة أنَّنا على بعد خطوات قليلة من ضياع هذا الجزء الهام من أرض السودان.
إنَّ الدوائر السياسية الغربية ذات الأغراض الاستعمارية، والجمعيات التبشيرية الأوروبية والأمريكية ومعهما الإعلام العالمي المتصهين هؤلاء كلهم يحاولون تصوير مشكلة الجنوب على أنَّها مشكلة دينية وبأنَّها مشكلة شعب جائع محروم مقهور من جانب العرب السودانيين، ونظراً إلى عدم استيعاب المشكلة على أساس موضوعي أضحى المشهد مضطرباً في الأذهان.
من هنا رأيت أنَّ من واجبي كعربي تعصف به الأحداث الأليمة والمفروضة علينا من قبل قوى التجبر والبغي، أن أقدم صورة مجملة للقارئ العربي عما يجري في السودان، وخاصة في جنوبه، ونستطيع القول أنَّ الأمر وصل إلى حد الخطر الحقيقي، وما اعتمد من /حلول/ لقضية الجنوب في مباحثات (ماشاكوس)، ليس هو بالوضع الأفضل والصحيح؟
إن حرصي وخوفي على وحدة السودان شعباً وأرضاً هو الذي دفعني للمساهمة في إعداد هذا الكتاب، فلعلّي أساهم مع المخلصين في الوصول إلى حل مشرِّف تفادياً لوقوع كارثة قد تحل ليس في السودان فحسب بل في الوطن العربي كافة؟ وأنَّ ما يحصل في السودان الآن «شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً» سوف ينعكس ويهم جميع الدول الأفريقية أيضاً، يجب ألاَّ يغيب عن أذهاننا بأنَّ استمرار السودان واضطلاعه بدوره العربي يعد جسراً مهماً بين العرب الأفارقة وغيرهم من الأفارقة، وبقية شعوب العالم.
علينا التمسك بقيمنا الروحية والمادية من أجل وجودنا الذي أراده الله لنا وأبته قوى الطغيان والأنانية.

دمشق في 1/5/2006
أحمد أبو سعدة


مـدخــل
من المؤكد أن يسأل قراء هذا الكتاب عن معلوماتي التي دونتها من أين أتيت بها؟ والجواب عن ذلك في الآتي:
أراد الله عز وجل أن أعيش حياة ميدانية مع عدد من الشعوب الأفريقية وأن أساهم في أكثر من ثورة لهذه الشعوب، وهذا ما يسعدني ويمدني بالعزيمة للكتابة عن أفريقيا وأوضاعها، هذا أولاً وثانياً مطالعتي لكثير من الكتب والمصادر الأدبية والسياسية والتاريخية كذلك لقاءاتي مع العديد من قادة وزعماء الشعوب الأفريقية، ناضلت سياسياً، قاتلت كمناضل عربي إنساني بالسلاح في أكثر من بلد في القارة السمراء...
من هنا استمديت معرفتي بالقضايا والمسائل الأفريقية والكتابة عنها.


الـبـاب الأول
تعريف السودان

السودان
السودان بلد شاسع، إذ تبلغ مساحته مليون ميل مربع، وعاصمته الخرطوم والمسافة بين حدوده الشمالية والجنوبية المتاخمة لجمهورية يوغندة والكونغو تصل إلى /1400/ ميل بينما يبلغ عرضه من الشرق إلى الغرب في بعض الأماكن حوالي /1000/ ميل.
أما مساحته الإجمالية فتبلغ مليون ميلٍ مربع، كذلك تبلغ مساحة
مياهه /129810/ كم مربع ويمر في السودان نهرا النيل وهما النيل الأزرق
والنيل الأبيض.
النيل الأبيض: يبلغ طوله من بحيرة فكتوريا إلى العاصمة الخرطوم 1530 ميل.
أما النيل الأزرق: وينبع من منطقة بحر دار في أثيوبيا، ويلتقي النيلان في الخرطوم بمنطقة المقرن.
وأهم موارده: النفط /اكتشف مؤخراً/ خام الحديد - نحاس - كروم - زنك - تنجستين - ميكا - فضة - ذهب.
استقل السودان في 1/1/1956.
عدد سكانه حسب تقديرات عام /2000م/ تبلغ /35079814/ نسمة.
اللغة: العربية وهي اللغة الرسمية والوطنية ثم - النوبية - النيلية - الحامية - وعدد من اللهجات المحلية، وأدخلت الإنكليزية في عهد الاستعمار البريطاني.
الدين: الإسلام إذ يبلغ عدد المسلمين فيه 85%.
النظام السياسي: جمهوري.
عدد محافظاته: /26/ محافظة / ولاية.
العملة: الدينار السوداني.
قوته العسكرية حسب تقديرات عام /2000/ هي /94700/ فرد.
ينقسم السودان إلى قسمين هما: الشمال - الجنوب.
الأول : الشمالي الذي يعتبر أكثر تجانساً من الجنوب.
الثاني: الجنوب ويقع في قلب القارة الأفريقية وهو موضوع كتابي هذا /الجنوب وملامح المستقبل/.

الفصل الأول
السودان الحديث


تم تشكيل السودان الحديث أثناء الحكم العثماني والإدارة المصرية، ففي عام /1821م/ توجه جيش (محمد علي باشا) إلى كلٍّ من مناطق البحر الأحمر وسنار.
وفي عام /1838/ فتح منطقة شرقي السودان التي تسمى بلاد /التاكا/، ثم سواحل البحر الأحمر، وفي العقد السابع تم فتح جنوب السودان أي منطقة مديرية خط الاستواء.
وفي عام /1874/ تم فتح غرب السودان أي منطقة /دارفور/...
أثار الدخول العثماني المصري حفيظة الكثير من السودانيين فقاموا بثورات عدة لم يستطع الحكم العثماني المصري القضاء على حركة المقاومة نهائياً إلا في عام /1840/.
وفي عام /1870/ عين الخديوي الإنكليزي (صموئيل بيكر) حاكماً عاماً على المديريات الجنوبية وبعد ثلاث سنوات عاد (بيكر) للقاهرة وذهب بدلاً عنه (شارلس جورج غوردون) ومنذ عام 1873 بدأت علاقات (غوردون) بالسودان، فقد عين مديراً للاستوائية وانتهى بترفيعه إلى حاكم للسودان. ويعتبر (غوردون) آخر حاكم للسودان خلال فترة الحكم /المصري العثماني/.
في السنوات الخمس الأولى من عهد (غوردون) ( ) تدهورت الأحوال الاجتماعية والحياتية بسبب الإسراف الحكومي - كما لم تدفع رواتب الموظفين لعدة شهور وتراكمت الضرائب على الأفراد مما أدى إلى الاضطرابات والمشاكل.
وفي عام 1864 انفجر تمرد بالغ الخطورة داخل صفوف الجيش بمدينة كسلا وفي عام 1865 تمردت القوات العسكرية وانضم إليها الفيلق الرابع الذي كان معسكراً في مدينة كسلا، وجاء أحد الضباط وأقنع هذه القوات بإلقاء السلاح واعداً إياهم بالعفو.
لم تفِ الحكومة بالوعد وأعدمت الكثير من أفراد القوات المسلحة مما أثار غضب الجنود السودانيين - كذلك اندلعت نيران العصيان في كل من سواكن - سنار - كسلا وبعدها عمدت الحكومة إلى تخفيض القوات العسكرية... هكذا كان وضع السودان عندما اندلعت الثورة المهدية في شهر آب /أغسطس/ عام 1880 ومن الممكن القول بأن الثورة المهدية( ) كانت عامل احتجاج ضد النظام الذي هز وضع المجتمع السوداني نتيجة الضرائب الباهظة وسخط العسكريين وعدم رضا الكثير من الطوائف الدينية وزعمائها التقليديين... وفي خصوص الثورة المهدية ذكر اللورد (كرومر) الآتي:
«كان على الحكومة المصرية أن تواجه ثورة عارمة استمدت قوتها من عنصرين الأول ديني روحي - وناجم عن سوء الإدارة الحكومية ما أدى إلى كراهية الموظفين للنظام التركي المصري».
وهنا لابد أن نشير إلى أن الدعوة إلى المهدية قد قضت على كل ولاء قبلي وديني.
والجماهير التي انخرطت في الثورة المهدية كانت من المضطهدين والفقراء - كما أن تعاليم المهدي هي تقبّل الناس لأحكام الله على الأرض كذلك شددت تعاليمه على الجهاد حيث نادى بضرورة التخلص من كل أعراض الدنيا الفانية.
انقضت المرحلة الأولى من مراحل الثورة المهدية، أي مرحلة الثورة والانتصار عندما مات (المهدي) وبعد وفاته بدأت المرحلة الثانية وهي تأسيس الدولة السودانية، حاول الخليفة (عبدالله) مواصلة الحرب وقد قبض بقوة على الجهاز الإداري والعسكري إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
قبائل الجنوب والثورة:
في عام 1890 ثارت قبائل الجنوب على الخليفة (عبدالله) وفي نفس الوقت أخذت الدولة توسع نشاطها في أقصى الجنوب، ففي عام 1888 أنشئت الشركة التي عرفت باسم /شركة أفريقيا الشرقية البريطانية/ وكان عملها الظاهر هو تبيان الحدود داخل مناطق النفوذ البريطانية أما الباطن لهذه الشركة فهو بسط النفوذ الإنكليزي سياسياً وتنصير أهالي الجنوب، وفي عام 1890 أصبحت يوغندة مستعمرة بريطانية وفي عام 1891 وقع كل من بريطانيا وإيطاليا بروتوكولاً عينت بموجبه مصالح الدولتين والحدود الفاصلة بين السودان وأرتريا المستعمرة الجديدة لإيطاليا، وخلال السنتين اللتين أعقبتا هذه الاتفاقية حدثت تطورات كثيرة، منها ازدياد أطماع الفرنسيين والدول الأوروبية، ودفع الحكومة البريطانية إلى التخلي عن سياسة التدخل في السودان، وبعد سقوط الخرطوم والضعف الذي لحق بالدولة المهدية - ذلك كله كان إيذائاً للقوات التركية والمصرية بالزحف إلى السودان.
بدأ احتلال السودان من جديد عام 1896 وفي عام 1897 قتل الخليفة (عبدالله) وكانت جيوش الخليفة قد هزمت، وقد أطلقت القوات الغازية سراح السجناء الذين بلغ عددهم 10.654 سجيناً في أم درمان - ومن الأعمال المؤلمة لدى السودانيين قيام الجيوش الغازية بتحطيم /قبة المهدي/ كذلك أخذ ما بقي من جثته وإحراقها في أحد مواقد السفن ثم نثر رمادها في نهر النيل، رفع بعدها العلمان الإنكليزي والمصري فوق مدينة الخرطوم.
ومن هنا نعتبر قيام السودان الإنكليزي المصري.
«جنوب السودان» جغرافياً وسكانيّاً:
يعرَّف جنوب السودان بأنَّه الجزء الذي يمتد جنوباً حتى بحيرة /البرت/ بيوغندة، ويشتمل الجنوب على ثلاث مديريات هي:
أ - بحر الغزال.
ب - الاستوائية.
ت - أعالي النيل.
وتبلغ مساحة هذه المديريات /250/ ألف ميل مربع أي ربع مساحة البلاد، ومما لا شك فيه أن نهري النيل هما اللذان وهبا الحياة للسودان ولشعبه ولشعوب أخرى – أمّا في الجنوب فقد أوجد النهر مساحات واسعة تغطيها المستنقعات وهذه المنطقة تعرف بـ/السدود/، كما أن مجرى النهر يتبدل على الدوام، هنا وفي هذه المناطق تقع الغابات الاستوائية، وتعلو الجبال التي تموج بالأزهار وبأشجار الفاكهة، وفيها تعيش الحيوانات المفترسة الكبيرة، هنا تدب قطعان الفيلة الكبيرة والصغيرة وفيها تمشي أفراس الماء كما أن وحيد القرن يهجم على كل ما يقف أمامه بقوة جارفة، في هذه المنطقة تزأر الأسود، من هنا تنطلق الظباء هاربة من ملاحقيها، هنا تتواجد الأفاعي الكبيرة الضخمة والتي تعرف بـ /الأصلة/، هذا هو الجنوب بمديرياته الثلاث...
سكان الجنوب:
ينقسم سكان الجنوب إلى ثلاث قبائل أساسية هي:
أ - النيليون الذين يتكونون من الدينكا والنوير والشلك والأنواك( ).
ب - النيليون الحاميّون: الذين يتكونون من القبائل التالية: المورلي (الديدنجا) و(البويا) و(التبوسا) و(الأتوكا) وتعيش أكثرية هذه القبائل في مديرية الاستوائية كما يعيش جزء منهم في يوغندة وكينيا.
ت - السودانيون: يتكونون من عدة قبائل صغيرة، وتعيش في الجزأين الغربي والجنوبي، وأهم هذه القبائل هي قبيلة (الزاندي)، أما القبائل الأخرى فهي (البااي) و(النيانجورا) و(الماندراي) و(الفوجلو) و(المورو) و(اللالوبا) وهذه غير قادرة على بسط نفوذها على بقية القبائل كما أنَّها لم تستقر منذ زمن قديم في جنوب السودان، أما (الشلك) فقد هاجرت من المناطق الواقعة شرق بحيرة فكتوريا بيوغندة، أما قبيلة (الدينكا) فقد هاجرت من مناطق البحيرات العظمى في شرق أفريقيا، وقبيلة (الزاندي) فقد هاجرت من أواسط أفريقيا، بينما القبائل السودانية فقد هاجرت من قرب بحيرة تشاد، وكل هذه القبائل لا تستطيع الادعاء بأنَّها من السكان الأصليين، ويعيش أكثرهم في أراضي بحر الغزال وأعالي النيل.
اللهجات:
إنَّ اللهجات الرئيسية هي لهجات النيلين والتي تشتمل على لهجات قبائل (الدينكا) و(النوير) و (الشلك) و (الأشولي) و (البرن)، أما لهجات قبائل (الباري) فهي تشمل كلاً من القبائل التالية: (الياري) و (الأتوكا)، وكذلك تشتمل لهجات قبيلة (الديدنجا) على (الديدنجا) أنفسهم وكذلك قبيلة (التوبوسا) وكذلك لهجات (الماوي) تشمل كلاً من قبيلة (الماوي والمورو)، وكذلك لهجة الزاندي على قبيلة (لموندي والكريش) والذي نفهمه من ذلك أنَّ في جنوب السودان عدة لهجات يتم التخاطب بها، ويقدّر ورد عدد اللهجات المستخدمة بـ اثنتي عشرة لهجة، وبالرغم من أنَّ هذه اللهجات يتم التخاطب بها إلاَّ أنَّها لم تستطع أن تكون لغةً أساسية حضارية، وبقيت اللغة الأساسية للمخاطبة والتفاهم هي اللغة العربية المحلية بين كافة القبائل بالرغم من كل المحاولات الأجنبية لإخفائها.
الديانة:
توجد في جنوب السودان الديانات التالية:
1 - الإسلام.
2 - الوثنية.
3 - المسيحية من كاثوليك، وبروتستانت.
النظم السياسية:
توجد في جنوب السودان تنظيمات سياسية عديدة تتباين من قبيلة إلى أخرى، فقبيلة الشلك مثلاً تمتاز بنظام ملكي يقوم على تقديس الملك، أما لدى قبيلتي (الدينكا) و (الباري) فالسيادة يتمتع بها «صانع المطر» وهي سيادة مطلقة، بينما السلطة لدى قبيلة (النوير) فهي بأيدي أشخاص من ذوي النفوذ الديني الموروث، وبعيداً عن متناول أيدي رجال السياسية، وانطلاقاً مما ذُكِر آنفاً يمكننا القول بأنَّ لجنوب السودان خصائص متعددة سياسياً وثقافياً وقومياً، وهذا ما يفقده صفة الانسجام والوحدة؟

آداب عبد الهادي
14/01/2008, 12:43 PM
جنوب السودان وآفاق المستقبل كتاب جديد ومهم يتحدث عن مشكلة الجنوب ولأهمية الكتاب وضرورة الإطلاع عليه قامت الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب بتقديم التهاني للكاتب والباحث الكبير الاستاذ أحمد أبو سعدة بمناسبة الأعياد وقدوم السنة الجديدة وطلبت منه إذناً خطياً لنشر الكتاب في مركز واتا للدراسات الإفريقية وقد حصلنا على موافقة حصرية لنشره في هذا المركز ونقوم بنشره علىحلقات.



جنوب السودان
و
وآفاق المستقبل


ذات يوم من أيام الخريف الجميلة كان شاب طويل القامة يخطو بثبات نحو بركة للماء وخلفه عدد من الأولاد والنسوة.
بجانب البركة جثى شاب آخر يغرف الماء ويعبئه بقربته الجلدية والناس ملتفون حول البركة يفعلون مثلما يفعل الشاب الجاثي.
كل شيء هادىء في المكان إلا صوت الماء الذي يغرف ويوضع في القرب.
دقق الشاب الطويل يتفحص البركة وجوانبها ليأخذ له مكاناً يعبىء
منه الماء.
انقطع الهدوء حين سأل الشاب الطويل الشاب الجاثي:
ماذا تفعل هنا يا عثمان؟.
مثلما تفعل أنت يا لام.
أنا هنا بفعل الحياة.
وأنا هنا بفعل الوجود.
أربع جمل تبادلها عثمان ولام وكان ما كان؟؟.

* * *


جنوب السودان وآفاق المستقبل

إهداء

إلى روح صديقيَّ
العقيد السوداني خليفة كرار بلة
والمناضل الأرتري صالح أحمد آياي
اللذين ناضلا في سبيل تحقيق الاستقلال التام والوحدة الوطنية في كل من السودان الشقيق وأرتريا، فكان للأول ما أراد، أما صالح فلقد توفاه الله وهو يناضل من أجل إعادة الحق إلى نصابه.
وإلى روح شهيد فلسطين والوطن العربي والإسلامي المجاهد
عبد العزيز الرنتيسي
غفر الله لهم
دمشق في 1/6/2006
أحمد أبو سعدة


«أينما ذهبت وأمعنت في التوغل.. في القرى والغابات وعلى قمم الجبال وجدت اللغة العربية منتشرة بين السكان.. وعليه يجب إعادة النظر وبحذر شديد فيما يجري وعلينا بذل الجهد والمال لوقف الدين الإسلامي واللغة العربية..»
ر. س. أوين
الحاكم العام الانكليزي للسودان

المقدمـة
- سألني أحد أصدقائي عن سبب كتابتي لمواضيع وكتب، لا يقرؤها ولا يهتم بها سوى عدد قليل من الناس؟
- ابتسمت وأردت الإجابة، لكنه لم يتركني أرد على كلامه بل تابع مندفعاً:
- أنت تكتب عن الصراع والاضطرابات العلنية والمخفية في مناطق متعددة وبعيدة جغرافياً و...
- قاطعته وبقوة:
- نعم إنني أكتب عن ما ذكرته، أكتب في التاريخ السياسي الحديث عن أفريقيا وهموم شعوبها؟
- عاد صديقي العزيز ليسألني ساخراً: هل تكتب الآن عن قبائل (الماوماو)؟ وأطلق لضحكته العنان.
- ضحكت بدوري وأجبته بجدية: أكتب الآن عن جنوب السودان و......
- /حلو/ عن (كرنغ) وصديقه الترابي؟
- اسمع يا صديقي: إنني أكتب عن السودان هذا البلد العربي المسلم الأصيل، صحيح وأكيد إنني لا أدعي الإنابة أو الأصالة عن الشعب السوداني الطيب، إلا أن عليك أن لا تنسى أنني عربي وأتعامل مع الناس على هذا الأساس، وهذا الأمر يماشي ويناسب معتقدي الوطني والقومي والإنساني...
إن الوقائع التي جرت وتجري على أرض السودان تخيفني وترعبني؟
- هذا كلام مغامر وليس كلام كاتب ومحلل سياسي؟ أيها العزيز، أنت تحب المغامرة؟
- أي مغامرة هذه؟ يا صديقي... إنها هموم ومتاعب أمتي، حاضرها ومستقبلها... وجودها... تلاشيها...: لذلك عليّ البحث والسعي لدرء الخطر عنها، علينا أن نقلب الكثير من صفحات التاريخ لنأخذ منها العبر، بعد ذلك نقدمها إلى أبناء أمتنا، كي يستفيدوا منها.
- أنت تحب السرد.
- لا يهم، قل ما تشاء وسمِّ الحقيقة بما يحلو لك تسميتها /سرد/ حكاية - رواية - تاريخ - صراع،... لا يهم قل ما تشاء. لكن عليك أن لا تنس أمراً حقيقياً واحداً وهو تسابق المستعمرين الأوروبيين الذي كان وما زال مزيجاً من الحقد والأنانية والسيطرة والتهافت على كسب المغانم والحصول على المواد الخام والحماسة الدينية /الفرنجية/ ونشرها في القارة السمراء.
- هز صديقي /العتيق/ رأسه وقال مازحاً... اكتب كان الله بعونك... اكتب وسنقرأ ما سوف تكتبه؟...
- حسناً سأكتب لكن عليك أن تعلم بأن ماضي أفريقيا يكاد يكون غير معلوم لكثير من الناس، وإن ما كتب عنها كان من وجهة نظر المستعمرين الأوروبيين والأمريكان واليهود الذين جاؤوا إليها واغتصبوا منها الحرية وإنسانية إنسانها، جاء المستعمرون وإرسالياتهم التبشيرية وقالوا سوف نهدي هؤلاء الأفارقة المتوحشين الضالين؟ جاؤوا وعلى وجوههم الغضب وفي قلوبهم الحقد... لكن هؤلاء المستعمرين نسوا أو تناسوا أن للإفريقيين /جذوراً/ وأن هذه الجذور أعطت وتعطي الحياة الحرة الكريمة، قبل أن تكون لهؤلاء المستعمرين حياة.
إنني في كتابي هذا لا أنقب عن ماضي القارة السمراء بشكل عام إنما أبحث عن كرامة الإنسان الإفريقي عامة والشعب السوداني العريق خاصة أننا وبلا شك أمام مسؤولية دقيقة وهامة وهي مشكلة جنوب السودان، إنني كعربي لا أقبل وأرفض وبكل قوتي ما جرى ويجري الآن في السودان بشكل عام وجنوبه بشكل خاص، إننا أمام خطر فظيع وهو لا يقل عن خطر الضياع المؤقت /لفلسطين وعربستان والإسكندرون و..... احتلال العراق....
أيها العرب إن العواصف الشيطانية التي تهب علينا من القوى المعادية لعروبتنا هي عواصف مؤقتة، فليس عيباً أن تزلزل الأرض وينشق البنيان، لكن العيب أن نقف وننظر إلى قضايانا المصيرية ببصر زائغ وأيدٍ مغلولة؟
نحن في مرحلة خطرة /الوجود أو عدمه/ مرحلة فرضتها علينا القوى الظالمة، هل نكون أو نتلاشى؟
وكتابي هذا يهدف إلى شرح بعض جوانب قضية جنوب السودان وخاصة أنَّنا على بعد خطوات قليلة من ضياع هذا الجزء الهام من أرض السودان.
إنَّ الدوائر السياسية الغربية ذات الأغراض الاستعمارية، والجمعيات التبشيرية الأوروبية والأمريكية ومعهما الإعلام العالمي المتصهين هؤلاء كلهم يحاولون تصوير مشكلة الجنوب على أنَّها مشكلة دينية وبأنَّها مشكلة شعب جائع محروم مقهور من جانب العرب السودانيين، ونظراً إلى عدم استيعاب المشكلة على أساس موضوعي أضحى المشهد مضطرباً في الأذهان.
من هنا رأيت أنَّ من واجبي كعربي تعصف به الأحداث الأليمة والمفروضة علينا من قبل قوى التجبر والبغي، أن أقدم صورة مجملة للقارئ العربي عما يجري في السودان، وخاصة في جنوبه، ونستطيع القول أنَّ الأمر وصل إلى حد الخطر الحقيقي، وما اعتمد من /حلول/ لقضية الجنوب في مباحثات (ماشاكوس)، ليس هو بالوضع الأفضل والصحيح؟
إن حرصي وخوفي على وحدة السودان شعباً وأرضاً هو الذي دفعني للمساهمة في إعداد هذا الكتاب، فلعلّي أساهم مع المخلصين في الوصول إلى حل مشرِّف تفادياً لوقوع كارثة قد تحل ليس في السودان فحسب بل في الوطن العربي كافة؟ وأنَّ ما يحصل في السودان الآن «شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً» سوف ينعكس ويهم جميع الدول الأفريقية أيضاً، يجب ألاَّ يغيب عن أذهاننا بأنَّ استمرار السودان واضطلاعه بدوره العربي يعد جسراً مهماً بين العرب الأفارقة وغيرهم من الأفارقة، وبقية شعوب العالم.
علينا التمسك بقيمنا الروحية والمادية من أجل وجودنا الذي أراده الله لنا وأبته قوى الطغيان والأنانية.

دمشق في 1/5/2006
أحمد أبو سعدة


مـدخــل
من المؤكد أن يسأل قراء هذا الكتاب عن معلوماتي التي دونتها من أين أتيت بها؟ والجواب عن ذلك في الآتي:
أراد الله عز وجل أن أعيش حياة ميدانية مع عدد من الشعوب الأفريقية وأن أساهم في أكثر من ثورة لهذه الشعوب، وهذا ما يسعدني ويمدني بالعزيمة للكتابة عن أفريقيا وأوضاعها، هذا أولاً وثانياً مطالعتي لكثير من الكتب والمصادر الأدبية والسياسية والتاريخية كذلك لقاءاتي مع العديد من قادة وزعماء الشعوب الأفريقية، ناضلت سياسياً، قاتلت كمناضل عربي إنساني بالسلاح في أكثر من بلد في القارة السمراء...
من هنا استمديت معرفتي بالقضايا والمسائل الأفريقية والكتابة عنها.


الـبـاب الأول
تعريف السودان

السودان
السودان بلد شاسع، إذ تبلغ مساحته مليون ميل مربع، وعاصمته الخرطوم والمسافة بين حدوده الشمالية والجنوبية المتاخمة لجمهورية يوغندة والكونغو تصل إلى /1400/ ميل بينما يبلغ عرضه من الشرق إلى الغرب في بعض الأماكن حوالي /1000/ ميل.
أما مساحته الإجمالية فتبلغ مليون ميلٍ مربع، كذلك تبلغ مساحة
مياهه /129810/ كم مربع ويمر في السودان نهرا النيل وهما النيل الأزرق
والنيل الأبيض.
النيل الأبيض: يبلغ طوله من بحيرة فكتوريا إلى العاصمة الخرطوم 1530 ميل.
أما النيل الأزرق: وينبع من منطقة بحر دار في أثيوبيا، ويلتقي النيلان في الخرطوم بمنطقة المقرن.
وأهم موارده: النفط /اكتشف مؤخراً/ خام الحديد - نحاس - كروم - زنك - تنجستين - ميكا - فضة - ذهب.
استقل السودان في 1/1/1956.
عدد سكانه حسب تقديرات عام /2000م/ تبلغ /35079814/ نسمة.
اللغة: العربية وهي اللغة الرسمية والوطنية ثم - النوبية - النيلية - الحامية - وعدد من اللهجات المحلية، وأدخلت الإنكليزية في عهد الاستعمار البريطاني.
الدين: الإسلام إذ يبلغ عدد المسلمين فيه 85%.
النظام السياسي: جمهوري.
عدد محافظاته: /26/ محافظة / ولاية.
العملة: الدينار السوداني.
قوته العسكرية حسب تقديرات عام /2000/ هي /94700/ فرد.
ينقسم السودان إلى قسمين هما: الشمال - الجنوب.
الأول : الشمالي الذي يعتبر أكثر تجانساً من الجنوب.
الثاني: الجنوب ويقع في قلب القارة الأفريقية وهو موضوع كتابي هذا /الجنوب وملامح المستقبل/.

الفصل الأول
السودان الحديث


تم تشكيل السودان الحديث أثناء الحكم العثماني والإدارة المصرية، ففي عام /1821م/ توجه جيش (محمد علي باشا) إلى كلٍّ من مناطق البحر الأحمر وسنار.
وفي عام /1838/ فتح منطقة شرقي السودان التي تسمى بلاد /التاكا/، ثم سواحل البحر الأحمر، وفي العقد السابع تم فتح جنوب السودان أي منطقة مديرية خط الاستواء.
وفي عام /1874/ تم فتح غرب السودان أي منطقة /دارفور/...
أثار الدخول العثماني المصري حفيظة الكثير من السودانيين فقاموا بثورات عدة لم يستطع الحكم العثماني المصري القضاء على حركة المقاومة نهائياً إلا في عام /1840/.
وفي عام /1870/ عين الخديوي الإنكليزي (صموئيل بيكر) حاكماً عاماً على المديريات الجنوبية وبعد ثلاث سنوات عاد (بيكر) للقاهرة وذهب بدلاً عنه (شارلس جورج غوردون) ومنذ عام 1873 بدأت علاقات (غوردون) بالسودان، فقد عين مديراً للاستوائية وانتهى بترفيعه إلى حاكم للسودان. ويعتبر (غوردون) آخر حاكم للسودان خلال فترة الحكم /المصري العثماني/.
في السنوات الخمس الأولى من عهد (غوردون) ( ) تدهورت الأحوال الاجتماعية والحياتية بسبب الإسراف الحكومي - كما لم تدفع رواتب الموظفين لعدة شهور وتراكمت الضرائب على الأفراد مما أدى إلى الاضطرابات والمشاكل.
وفي عام 1864 انفجر تمرد بالغ الخطورة داخل صفوف الجيش بمدينة كسلا وفي عام 1865 تمردت القوات العسكرية وانضم إليها الفيلق الرابع الذي كان معسكراً في مدينة كسلا، وجاء أحد الضباط وأقنع هذه القوات بإلقاء السلاح واعداً إياهم بالعفو.
لم تفِ الحكومة بالوعد وأعدمت الكثير من أفراد القوات المسلحة مما أثار غضب الجنود السودانيين - كذلك اندلعت نيران العصيان في كل من سواكن - سنار - كسلا وبعدها عمدت الحكومة إلى تخفيض القوات العسكرية... هكذا كان وضع السودان عندما اندلعت الثورة المهدية في شهر آب /أغسطس/ عام 1880 ومن الممكن القول بأن الثورة المهدية( ) كانت عامل احتجاج ضد النظام الذي هز وضع المجتمع السوداني نتيجة الضرائب الباهظة وسخط العسكريين وعدم رضا الكثير من الطوائف الدينية وزعمائها التقليديين... وفي خصوص الثورة المهدية ذكر اللورد (كرومر) الآتي:
«كان على الحكومة المصرية أن تواجه ثورة عارمة استمدت قوتها من عنصرين الأول ديني روحي - وناجم عن سوء الإدارة الحكومية ما أدى إلى كراهية الموظفين للنظام التركي المصري».
وهنا لابد أن نشير إلى أن الدعوة إلى المهدية قد قضت على كل ولاء قبلي وديني.
والجماهير التي انخرطت في الثورة المهدية كانت من المضطهدين والفقراء - كما أن تعاليم المهدي هي تقبّل الناس لأحكام الله على الأرض كذلك شددت تعاليمه على الجهاد حيث نادى بضرورة التخلص من كل أعراض الدنيا الفانية.
انقضت المرحلة الأولى من مراحل الثورة المهدية، أي مرحلة الثورة والانتصار عندما مات (المهدي) وبعد وفاته بدأت المرحلة الثانية وهي تأسيس الدولة السودانية، حاول الخليفة (عبدالله) مواصلة الحرب وقد قبض بقوة على الجهاز الإداري والعسكري إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
قبائل الجنوب والثورة:
في عام 1890 ثارت قبائل الجنوب على الخليفة (عبدالله) وفي نفس الوقت أخذت الدولة توسع نشاطها في أقصى الجنوب، ففي عام 1888 أنشئت الشركة التي عرفت باسم /شركة أفريقيا الشرقية البريطانية/ وكان عملها الظاهر هو تبيان الحدود داخل مناطق النفوذ البريطانية أما الباطن لهذه الشركة فهو بسط النفوذ الإنكليزي سياسياً وتنصير أهالي الجنوب، وفي عام 1890 أصبحت يوغندة مستعمرة بريطانية وفي عام 1891 وقع كل من بريطانيا وإيطاليا بروتوكولاً عينت بموجبه مصالح الدولتين والحدود الفاصلة بين السودان وأرتريا المستعمرة الجديدة لإيطاليا، وخلال السنتين اللتين أعقبتا هذه الاتفاقية حدثت تطورات كثيرة، منها ازدياد أطماع الفرنسيين والدول الأوروبية، ودفع الحكومة البريطانية إلى التخلي عن سياسة التدخل في السودان، وبعد سقوط الخرطوم والضعف الذي لحق بالدولة المهدية - ذلك كله كان إيذائاً للقوات التركية والمصرية بالزحف إلى السودان.
بدأ احتلال السودان من جديد عام 1896 وفي عام 1897 قتل الخليفة (عبدالله) وكانت جيوش الخليفة قد هزمت، وقد أطلقت القوات الغازية سراح السجناء الذين بلغ عددهم 10.654 سجيناً في أم درمان - ومن الأعمال المؤلمة لدى السودانيين قيام الجيوش الغازية بتحطيم /قبة المهدي/ كذلك أخذ ما بقي من جثته وإحراقها في أحد مواقد السفن ثم نثر رمادها في نهر النيل، رفع بعدها العلمان الإنكليزي والمصري فوق مدينة الخرطوم.
ومن هنا نعتبر قيام السودان الإنكليزي المصري.
«جنوب السودان» جغرافياً وسكانيّاً:
يعرَّف جنوب السودان بأنَّه الجزء الذي يمتد جنوباً حتى بحيرة /البرت/ بيوغندة، ويشتمل الجنوب على ثلاث مديريات هي:
أ - بحر الغزال.
ب - الاستوائية.
ت - أعالي النيل.
وتبلغ مساحة هذه المديريات /250/ ألف ميل مربع أي ربع مساحة البلاد، ومما لا شك فيه أن نهري النيل هما اللذان وهبا الحياة للسودان ولشعبه ولشعوب أخرى – أمّا في الجنوب فقد أوجد النهر مساحات واسعة تغطيها المستنقعات وهذه المنطقة تعرف بـ/السدود/، كما أن مجرى النهر يتبدل على الدوام، هنا وفي هذه المناطق تقع الغابات الاستوائية، وتعلو الجبال التي تموج بالأزهار وبأشجار الفاكهة، وفيها تعيش الحيوانات المفترسة الكبيرة، هنا تدب قطعان الفيلة الكبيرة والصغيرة وفيها تمشي أفراس الماء كما أن وحيد القرن يهجم على كل ما يقف أمامه بقوة جارفة، في هذه المنطقة تزأر الأسود، من هنا تنطلق الظباء هاربة من ملاحقيها، هنا تتواجد الأفاعي الكبيرة الضخمة والتي تعرف بـ /الأصلة/، هذا هو الجنوب بمديرياته الثلاث...
سكان الجنوب:
ينقسم سكان الجنوب إلى ثلاث قبائل أساسية هي:
أ - النيليون الذين يتكونون من الدينكا والنوير والشلك والأنواك( ).
ب - النيليون الحاميّون: الذين يتكونون من القبائل التالية: المورلي (الديدنجا) و(البويا) و(التبوسا) و(الأتوكا) وتعيش أكثرية هذه القبائل في مديرية الاستوائية كما يعيش جزء منهم في يوغندة وكينيا.
ت - السودانيون: يتكونون من عدة قبائل صغيرة، وتعيش في الجزأين الغربي والجنوبي، وأهم هذه القبائل هي قبيلة (الزاندي)، أما القبائل الأخرى فهي (البااي) و(النيانجورا) و(الماندراي) و(الفوجلو) و(المورو) و(اللالوبا) وهذه غير قادرة على بسط نفوذها على بقية القبائل كما أنَّها لم تستقر منذ زمن قديم في جنوب السودان، أما (الشلك) فقد هاجرت من المناطق الواقعة شرق بحيرة فكتوريا بيوغندة، أما قبيلة (الدينكا) فقد هاجرت من مناطق البحيرات العظمى في شرق أفريقيا، وقبيلة (الزاندي) فقد هاجرت من أواسط أفريقيا، بينما القبائل السودانية فقد هاجرت من قرب بحيرة تشاد، وكل هذه القبائل لا تستطيع الادعاء بأنَّها من السكان الأصليين، ويعيش أكثرهم في أراضي بحر الغزال وأعالي النيل.
اللهجات:
إنَّ اللهجات الرئيسية هي لهجات النيلين والتي تشتمل على لهجات قبائل (الدينكا) و(النوير) و (الشلك) و (الأشولي) و (البرن)، أما لهجات قبائل (الباري) فهي تشمل كلاً من القبائل التالية: (الياري) و (الأتوكا)، وكذلك تشتمل لهجات قبيلة (الديدنجا) على (الديدنجا) أنفسهم وكذلك قبيلة (التوبوسا) وكذلك لهجات (الماوي) تشمل كلاً من قبيلة (الماوي والمورو)، وكذلك لهجة الزاندي على قبيلة (لموندي والكريش) والذي نفهمه من ذلك أنَّ في جنوب السودان عدة لهجات يتم التخاطب بها، ويقدّر ورد عدد اللهجات المستخدمة بـ اثنتي عشرة لهجة، وبالرغم من أنَّ هذه اللهجات يتم التخاطب بها إلاَّ أنَّها لم تستطع أن تكون لغةً أساسية حضارية، وبقيت اللغة الأساسية للمخاطبة والتفاهم هي اللغة العربية المحلية بين كافة القبائل بالرغم من كل المحاولات الأجنبية لإخفائها.
الديانة:
توجد في جنوب السودان الديانات التالية:
1 - الإسلام.
2 - الوثنية.
3 - المسيحية من كاثوليك، وبروتستانت.
النظم السياسية:
توجد في جنوب السودان تنظيمات سياسية عديدة تتباين من قبيلة إلى أخرى، فقبيلة الشلك مثلاً تمتاز بنظام ملكي يقوم على تقديس الملك، أما لدى قبيلتي (الدينكا) و (الباري) فالسيادة يتمتع بها «صانع المطر» وهي سيادة مطلقة، بينما السلطة لدى قبيلة (النوير) فهي بأيدي أشخاص من ذوي النفوذ الديني الموروث، وبعيداً عن متناول أيدي رجال السياسية، وانطلاقاً مما ذُكِر آنفاً يمكننا القول بأنَّ لجنوب السودان خصائص متعددة سياسياً وثقافياً وقومياً، وهذا ما يفقده صفة الانسجام والوحدة؟

آداب عبد الهادي
14/01/2008, 12:58 PM
الفصل الثاني
المسيحية وتجارة الرقيق
/1889 - 1920/
غزا الجيش المصري الإنجليزي السودان بأكمله في عام 1889، ولقد ترتب على هذا الغزو نزاع بين الدول الغربية وخاصة ما بين إنكلترا وفرنسا، حيث زحفت بعض وحدات الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال (مارشان) واحتلت بعض الأماكن ممَّا أثار حفيظة الإنكليز ممَّا دعاهم إلى مخاطبة الفرنسيين بنوع من القسوة، وكادت أن تشتعل الحرب بين الجانبين فما كان من الفرنسيين إلاَّ الانسحاب من المناطق التي احتلوها ومنها منطقة «فاشودة»، وأمكن بالتالي تفادي الحرب بين الجانبين وكان ذلك في عام 1898، وبعد عام تقريباً وقعت اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا للسودان، وكانت غاية البريطانيين من هذا الاتفاق السيطرة على نهر النيل باعتباره الطريق الوحيد الذي يربط بين طرفي أفريقيا، كما أنَّ لمياه النيل الأبيض الذي ينبع من يوغندة أهمية كبيرة على مصر سابقاً وحاضراً ومستقبلاً.
ومن هنا جاء تفكير الإنكليز ببسط سيطرتهم على جنوب السودان نظراً لأهميته الاستراتيجية، إضافةً إلى مخططات التجار الكبار التي تهدف إلى السيطرة واستغلال الأراضي الصالحة للزراعة في أفريقيا الشرقية.
بدأت المشاكل تتفاقم ما بين الحكم الإنكليزي المصري وبعض قبائل جنوب السودان، فأقامت حاميات عسكرية أشرف عليها ضباط بريطانيون وذلك في عام /1900/، ولقد كسب العسكريون البريطانيون ودّ سكان الجنوب عن طريق استمالتهم بالهدايا حيناً، وبإثارة المشاكل والفتن بينهم أحياناً أخرى، ولكن رضوخ القبائل لم يكن بالأمر السهل، ولقد كانت قبيلة (النوير) وهي من أشد القبائل وأكثرها مقاومة لهذا الرضوخ، ولقد اشتبكت كثيراً مع القوات البريطانية وحاولت بريطانيا مرات عديدة إخضاع (النوير) لها، فأرسلت الحملة تلو الحملة وعلى مدى أعوام متلاحقة ابتدأت من عام /1910 حتى 1928/ ولكنَّها لم تستطع إخضاعهم إلاَّ في عام /1930/.
محاربة الرقّ:
كانت تجارة الرقيق قد انتهت قبل دخول المصريين والبريطانيين لجنوب السودان، ولم تَبْقَ منها سوى حالات خاصة فردية، تتوزع بين خدمة الأراضي الزراعية وخدمة البيوت، إلاَّ أنَّ الإدارة البريطانية المصرية واجهت صعوبات عدة من أهمها الخيار بين أحد أمرين وهما:
أ - الاعتراف المؤقت بالرق الموجود.
ب - التحرير الفوري للرق، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى خلخلة الاقتصاد وإحداث فوضى عارمة، باعتباره سيؤدي إلى هجر الأراضي الزراعية على امتداد النيل الأبيض، وإلى فقدان الماشية وبأعداد كبيرة، وفي النهاية موت الكثير من الناس البؤساء... فالتحرير الفوري كان يعني إطلاق سراح ألوف الرجال والنساء دون أن يتحمل أحد مسؤوليتهم، إضافة إلى احتمال أن يتحولوا إلى مصدر للشغب والفوضى، ولذلك عملت الإدارة الحاكمة على حل هذه المشكلة اعتماداً على المبادئ التالية:
أ - العمل على تخديم الأفراد، وتطوير نظام العمل بالأجر.
ب - اتخاذ إجراءات معادية لتجارة الرقيق.
ت - السماح للرقيق بترك عمله وسيده إذا أراد هو ذلك.
ث - منع السيد أو المالك من استرداد الرقيق الذي فضَّل الحرية.
وبالرغم من أنَّ هذه الإدارة لم تعترف بنظام الرق، ولم تتهاون في محاربته، إلاَّ أنَّها بشكل مباشر وغير مباشر كانت تفضل، بل وترغم الكثير من الرقيق على البقاء تحت رعاية أسيادهم!؟ ورغم ذلك فقد بقي الرق موجوداً، فالحروب القبلية واختطاف الأفراد لم يتوقفا إلاَّ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من أنَّ الحكم المصري البريطاني قد وضع حداً لتجارة الرق التي عمل فيها الكثير من أبناء السودان «شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً» إلاَّ أن أبناء الجنوب المدفوعين من قبل رجال الإرساليات التبشيرية «من أجل إقامة دولة جنوبية مستقلة تكون المسيحية فيها هي الآمر الناهي ويكون ولاؤها للغرب، وتعمل على إغلاق باب دخول الإسلام إلى أفريقيا وبالتالي تعمل على تنصير، وتشتيت الدول الأفريقية المسلمة» هؤلاء ظلوا يثيرون هذه الذكريات المؤلمة حول تجارة الرقيق.
ويقول بهذا الصدد الكاتب مكي عباس في كتابه «المسألة السودانية» والذي حصل على معلومات من أصدقائه سكان الجنوب الذين درسوا في المدارس التبشيرية حيث رأى بأم عينه شجرة ضخمة كان يعتني بها الجنوبيون عناية كبيرة، ولقد كانت في نظرهم الشجرة التي كان يستظل بها تجار الرقيق، ويقصد بهم «المسلمين»؟
ومن الدلائل الثابتة أنَّ رئيس المبشرين في إحدى الإرساليات في «نيروبي» عاصمة كينيا، أرسل خطاباً لزعيم قرية جنوبية /متفرنج/ يقول فيه الآتي: «إنَّ أكثر السكان الأفريقيين من حولنا مسلمون وينتمون للعرب، وكلَّما وقعت عيناي عليهم عادت بي الأفكار والذكريات إلى قصة تجار الرقيق العرب، تلك القصة الدامية في جنوب السودان؛ ذلك أنَّ قادة حملات الرقيق كانوا جميعاً من المسلمين، فيا لها من قصة بشعة دامية لذلك الدين الذي لا يراعي حسن السلوك والآداب فهو يضم تجار الرقيق بين جوانحه! ».
وفي عام 1947، صدرَ في لندن كتاب يحمل عنوان: «السودان سجل للتقدم»، ومما جاءَ فيه: «ومنذ عام 1947 تقريباً، عادت الحكومة لكي تردد من جديد في إحدى المنشورات الرسمية للجنوبيين بأنَّ القبائل العربية في الشمال لم تهجر بعد فكرة تجارة الرقيق، وحذرت من أنَّ البدو ما زالوا يقومون بخطف الأفراد واسترقاقهم» كما قال السير (الإسكندر كاودجان) ممثل بريطانيا في مجلس الأمن، في حديث مع أعضاء المجلس: «لقد كان الجنوبيون السودانيون عرضة دائماً للغارات من جانب تجار الرقيق الشماليين إلى عهد قريب، ولم ينقضِ ذلك إلاَّ بعد احتلالنا للسودان».
ما الذي ترتب على هذا التحريض؟!
زيادة طلب الجمعيات التبشيرية من كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لمساعدتهم في التبشير في كل أنحاء السودان؟
ولقد استجابت الحكومتان الأمريكية والبريطانية لطلب مجلس الكنائس العالمي، وأصدرت الحكومة البريطانية تعليماتها إلى اللورد (كرومر) حاكم مصر، واللورد (كتشنر) حاكم السودان، لمساعدة الإرساليات التبشيرية ودعمها في عملية التنصير؟!
ومما زاد في اندفاع زعماء الكنائس العالمية لدعم الإرساليات التبشيرية اعتبارهم أنَّ (غوردن) الذي قتل على يد الثوار السودانيين شهيداً وبطلاً من أبطال الفرنجة ولقد صور (غوردن) الإسلام بوصفه قوة كبيرة تشجع الرق والعبودية وتعادي المسيحية، ولقد أسس زعماء المبشرين إرسالية تبشيرية سميت باسم (غوردن)، كما أنشأت كل من جمعية الكنيسة الإرسالية وجمعية الروم الكاثوليك في مصر جمعية «السودان في المنفى»!
ولقد تساءل نائب اللورد (كرومر) في مصر الدكتور (هارير) في رسالة بعثها إلى اللورد (كتشنر) عما إذا كان بوسع جمعية إرسال بعثة تبشيرية كبيرة إلى السودان، فردَّ عليه (كتشنر): أنَّه من الممكن ذلك ولكن بعد وقت؟! ولقد كان ذلك في 29/9/1898.
وفي 13/12/1899 اجتمع مجلس الكنائس العالمي وقرر ما يلي:
«إنَّ المشاعر الدينية في بريطانيا تطالب بحق بأن أي مجهودات مبذولة لتخليد ذكرى (غوردن) يتعين أن تنطوي على نشر تعاليم المسيح بين جميع الأجناس والقبائل التي تقطن في حوض أعالي النيل، وإنَّ علينا والحال هذه تقوية مؤسساتنا في مصر، وبحيث تمتد رسالتنا إلى الخرطوم والمناطق المجاورة لها عندما تسمح العناية الإلهية بذلك».
كذلك وصل إلى الخرطوم كل من الأب (لولين) والدكتور (هارير) كممثلين لجمعية الكنائس التبشيرية، وقد رافقهم الأب (هالدر) وعددٌ كبير ممن يمثلون (آباء فيرونا)، كذلك الأب (جرفت) والدكتور (واطسن) كممثلين لبعثة التبشير المتحدة في القاهرة.
لم يقتصر هذا على البريطانيين فحسب، بل تأسست أيضاً بعثة ألمانية تبشيرية للعمل في السودان، ولنشر تعاليم المسيحية في غرب أفريقيا وكان ذلك في عام /1900/، وما لبثت أن أنشأت مركزاً للتبشير في كل من «دنقلا» و«أسوان»، ومركزاً آخر في قبائل (البشارين) التي تقطن في شرق السودان، ولقد سميت هذه البعثة فيما بعد بـ «البعثة السودانية المتحدة»، ولقد ذهب أحد أعضائها العاملين في السودان ويدعى (كارل كوم) إلى الخرطوم من أجل التبشير، وكان ذلك في عام /1910/ ولقد ساند هؤلاء المبشرون الحكومة النمساوية، وبعض المطارنة من ذوي النفوذ وذلك لتدعيم التوجه الكاثوليكي ونشره.
ولقد عملت سياسة الحكومة البريطانية في الأقطار التي تدين بالإسلام على إقناع المسلمين «بأنَّ هذه الإرساليات التبشيرية هي أداة الدول العلمانية» وهذا ما صرَّّح به اللورد (سالزبوري) في إحدى خطبه من عام 1900.
ومن ناحية أخرى فقد كان يسمح للإرساليات التبشيرية بممارسة أعمالها وواجباتها، رغم أنَّ الأمن في الجنوب كان غير مستتب، ورغم ذلك فلقد مارس المسؤولون البريطانيون سياسة تقوم على اعتبار المسيحية بمثابة الدين الرسمي لسكان السودان ومنذ قرون عديدة، ولذلك فإنَّ إعادة فتح السودان أتاح الفرصة لإعادة الوضع الديني إلى ما كان عليه سابقاً، وهذا إنما يعني بأنَّ الكنائس سوف تنتشر من القاهرة إلى رأس الرجاء الصالح؟!
ولقد ذهب بعض القادة الإنجليز في بريطانيا وحكام السودان الجدد إلى حدِّ القول والممارسة بأنَّ الإسلام وتعاليمه لا تصلح ولا تتماشى مع رفاهية وتطور الناس في السودان؟
ومن هنا زاد دعمهم للإرساليات، حيث قالوا: «علينا أن ندعم دور الإرساليات التبشيرية في السودان، وخاصة في الجنوب، لتأييد ودعم دورها الحضاري التربوي» وفي عام 1900 عاد الحاكم البريطاني اللورد (كتشنر) إلى لندن من السودان واجتمع مع ممثلي الإرساليات التبشيرية، وتناقش معهم حول دعمهم في أداء عملهم التربوي الحضاري حسب زعمه؟!
وفي شهر تموز من عام 1901 قدم رئيس أساقفة «كنتربري» والسير (جون كاناواي) مذكرة إلى الحكومة البريطانية تضمنت نقداً لعدم توفر الدعم الكافي للإرساليات، والإخلال بالمبادئ التي تتبعها الدول المسيحية( )، وبعد العمل الدائم والدؤوب للقادة البريطانيين الحاكمين، فُتِحت أبواب الجنوب على مصراعيها أمام الإرساليات التبشيرية، واتخذ قرار مشتركٌ «حكومياً - تبشيرياً» على محاربة الإسلام، واستبعاد نفوذه من كافة أرجاء الجنوب وفي السرعة القصوى( )، ومن ثم قامت الحكومة البريطانية بدعم، وإنشاء مناطق نفوذ لكل إرسالية على حدة من أجل مباشرة أعمالها ونشاطها في زرع بذور الخلاف الديني في أنحاء الجنوب، وكان من الطبيعي أن يؤيد هذا العمل البريطانيون العاملون في السودان، والذين هم في الأساس مرتبطون بالكنيسة الإنكليزية، ويعملون وفق توجيهاتها وإشرافها، ومثال على ذلك قال أحد المسؤولين عن الإرساليات: «لقد أمكن عن طريق نظم كلية (غوردن) التذكارية، وضع أسلحة الجامعة الأزهرية في أيدي الشباب السوداني»؟ !
وقال أيضاً: «لا يعتبر زنوج السودان مسلمين على وجه العموم، كما أنهم ليس لديهم دافع لاعتناق الدين الإسلامي، بل إن قلة ضئيلة هي التي اعتنقت الإسلام عن فهم واقتناع».
وكتب (س. واطسن) مقالاً في مجلة الإرساليات العالمية قال فيه:
«مما لا ريب فيه أنَّ سياسة حكومة السودان تجاه الجنوب لا تتوافق والرأي العام البريطاني، بل إنَّ دواوين الحكومة في السودان تتعطل عن العمل أيام الجمع، وتعمل في السبت؟ بل لقد ذهبت هذه السياسة إلى أبعد من ذلك، وإلى الحد الذي صبغت فيه الحكومة نظام التعليم بطابعها، وغزت معاقل كلية (غوردن) التذكارية في الخرطوم».
هذا ما كتبه (واطسن) حينها، وبعدها قال أحد رجال الإرساليات ما يلي:
«لقد أمكن عن طريق نظم كلية (غوردن) التذكارية، وضع أسلحة الجامعة الأزهرية في أيدي الشباب السوداني، ومن شأن هذا الاعتراف المدعم بمعرفة تامة لأحوال الجماعات، أن يمهد السبيل تدريجياً وضمنياً للتوغل الإسلامي الدموي الذي يستهدف السيطرة كلياً على القارة الأفريقية والقضاء النهائي على كل النفوذ المسيحي».
بمثل هذا الكلام والمقرون بالعمل من قبل الإرساليات التبشيرية وحكومات الغرب التي تمولها وتدعمها، أصبح جنوب السودان أرضاً خصبة لعداء العرب والإسلام وشمال السودان، وما انصراف الإرساليات التبشيرية البروتستانتية وغيرها إلى نشر التعليم الديني على أيدي قسيسين خبراء اشتغلوا مقابل أجر كبير لنشر المسيحية إلاَّ خطة فرنجية لتنصير الجنوب، وما طلب المسؤول (ونجت) من مدير بحر الغزال بعدم تدريس اللغة العربية في مديرية بحر الغزال إلاَّ لكونها تشتمل على عبارات عن الرسول والنبي «محمد» (ص) ولذلك طلب منه جعل الإنجليزية لغة التعليم، ورغم كل المحاولات التي قامت بها بريطانيا، فلم تتمكن من إخفاء أو طمس اللغة العربية، وظلت لغة التخاطب والتفاهم بين كافة أفراد الجنوب كما أن مدارس الشرطة والجيش التي التحق ودرس فيها أبناء الجنوب ساعدت في نشر اللغة العربية، إلاَّ أنَّه ومع العودة إلى الوراء قليلاً أي في عام /1910/ قررت الإرسالية الكاثوليكية الرومانية وجمعية الكنائس الإرسالية وعلى لسان كل من القس (جير) والأب (أ. شو) وكذلك القس (جوين) الآتي:
«بأنَّه ما لم تمنح الأفضلية في تعيين الوظائف لمن درسوا باللغة الإنكليزية فلن يكون هناك حافز لمدارس الإرساليات لتعليم الإنكليزية»؟.
كذلك ذكر القس (جوين لونجت)، بأنَّه «إذا استطاعت الحكومة قدر استطاعتها تشجيع استخدام الإنكليزية حتى تصبح أداة للتفاهم خلال الأعمال والتصرفات التي يقوم بها بعض الأهالي، فإنَّ ذلك سيجبر الباقي على تعلم لغتنا، وسيتيح للإرساليات المسيحية فرصة ضئيلة للعمل بالمقارنة مع المزايا الممنوحة للإسلام في جنوب السودان».
وبعد ذلك اتضح أنَّ تلك هي السياسة الرسمية البريطانية، وبأسلوب الترغيب والترهيب هذا غدت اللغة الإنكليزية هي اللغة الرسمية التي أدت إلى التمييز بين سكان الشمال وسكان الجنوب نتيجة احتكار الإرساليات المسيحية الأوروبية شؤون التعليم، وكنتيجة لتشغيل وتوظيف الجنوبيين.
أما الإرساليات الأمريكية لجنوب السودان فقد بدأت أعمالها في مديرية أعالي النيل، وفي جبل /دوليب/ عام 1902 وقد أخذت وقتاً طويلاً في تلقين الدين المسيحي، وكانت مدة برنامج التعليم للأولاد ست سنوات، وبالطبع كانت اللغة الإنكليزية هي لغة التعليم للمواد الدراسية كلها باستثناء الدين الذي كان يدرس باللهجات المحلية وفي هذه المدارس تخرج أشباه القسس الذين أدخلوا الغشاوة إلى عيون الجنوبيين فيما بعد؟!!


يتبع

آداب عبد الهادي
14/01/2008, 12:58 PM
الفصل الثاني
المسيحية وتجارة الرقيق
/1889 - 1920/
غزا الجيش المصري الإنجليزي السودان بأكمله في عام 1889، ولقد ترتب على هذا الغزو نزاع بين الدول الغربية وخاصة ما بين إنكلترا وفرنسا، حيث زحفت بعض وحدات الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال (مارشان) واحتلت بعض الأماكن ممَّا أثار حفيظة الإنكليز ممَّا دعاهم إلى مخاطبة الفرنسيين بنوع من القسوة، وكادت أن تشتعل الحرب بين الجانبين فما كان من الفرنسيين إلاَّ الانسحاب من المناطق التي احتلوها ومنها منطقة «فاشودة»، وأمكن بالتالي تفادي الحرب بين الجانبين وكان ذلك في عام 1898، وبعد عام تقريباً وقعت اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا للسودان، وكانت غاية البريطانيين من هذا الاتفاق السيطرة على نهر النيل باعتباره الطريق الوحيد الذي يربط بين طرفي أفريقيا، كما أنَّ لمياه النيل الأبيض الذي ينبع من يوغندة أهمية كبيرة على مصر سابقاً وحاضراً ومستقبلاً.
ومن هنا جاء تفكير الإنكليز ببسط سيطرتهم على جنوب السودان نظراً لأهميته الاستراتيجية، إضافةً إلى مخططات التجار الكبار التي تهدف إلى السيطرة واستغلال الأراضي الصالحة للزراعة في أفريقيا الشرقية.
بدأت المشاكل تتفاقم ما بين الحكم الإنكليزي المصري وبعض قبائل جنوب السودان، فأقامت حاميات عسكرية أشرف عليها ضباط بريطانيون وذلك في عام /1900/، ولقد كسب العسكريون البريطانيون ودّ سكان الجنوب عن طريق استمالتهم بالهدايا حيناً، وبإثارة المشاكل والفتن بينهم أحياناً أخرى، ولكن رضوخ القبائل لم يكن بالأمر السهل، ولقد كانت قبيلة (النوير) وهي من أشد القبائل وأكثرها مقاومة لهذا الرضوخ، ولقد اشتبكت كثيراً مع القوات البريطانية وحاولت بريطانيا مرات عديدة إخضاع (النوير) لها، فأرسلت الحملة تلو الحملة وعلى مدى أعوام متلاحقة ابتدأت من عام /1910 حتى 1928/ ولكنَّها لم تستطع إخضاعهم إلاَّ في عام /1930/.
محاربة الرقّ:
كانت تجارة الرقيق قد انتهت قبل دخول المصريين والبريطانيين لجنوب السودان، ولم تَبْقَ منها سوى حالات خاصة فردية، تتوزع بين خدمة الأراضي الزراعية وخدمة البيوت، إلاَّ أنَّ الإدارة البريطانية المصرية واجهت صعوبات عدة من أهمها الخيار بين أحد أمرين وهما:
أ - الاعتراف المؤقت بالرق الموجود.
ب - التحرير الفوري للرق، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى خلخلة الاقتصاد وإحداث فوضى عارمة، باعتباره سيؤدي إلى هجر الأراضي الزراعية على امتداد النيل الأبيض، وإلى فقدان الماشية وبأعداد كبيرة، وفي النهاية موت الكثير من الناس البؤساء... فالتحرير الفوري كان يعني إطلاق سراح ألوف الرجال والنساء دون أن يتحمل أحد مسؤوليتهم، إضافة إلى احتمال أن يتحولوا إلى مصدر للشغب والفوضى، ولذلك عملت الإدارة الحاكمة على حل هذه المشكلة اعتماداً على المبادئ التالية:
أ - العمل على تخديم الأفراد، وتطوير نظام العمل بالأجر.
ب - اتخاذ إجراءات معادية لتجارة الرقيق.
ت - السماح للرقيق بترك عمله وسيده إذا أراد هو ذلك.
ث - منع السيد أو المالك من استرداد الرقيق الذي فضَّل الحرية.
وبالرغم من أنَّ هذه الإدارة لم تعترف بنظام الرق، ولم تتهاون في محاربته، إلاَّ أنَّها بشكل مباشر وغير مباشر كانت تفضل، بل وترغم الكثير من الرقيق على البقاء تحت رعاية أسيادهم!؟ ورغم ذلك فقد بقي الرق موجوداً، فالحروب القبلية واختطاف الأفراد لم يتوقفا إلاَّ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من أنَّ الحكم المصري البريطاني قد وضع حداً لتجارة الرق التي عمل فيها الكثير من أبناء السودان «شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً» إلاَّ أن أبناء الجنوب المدفوعين من قبل رجال الإرساليات التبشيرية «من أجل إقامة دولة جنوبية مستقلة تكون المسيحية فيها هي الآمر الناهي ويكون ولاؤها للغرب، وتعمل على إغلاق باب دخول الإسلام إلى أفريقيا وبالتالي تعمل على تنصير، وتشتيت الدول الأفريقية المسلمة» هؤلاء ظلوا يثيرون هذه الذكريات المؤلمة حول تجارة الرقيق.
ويقول بهذا الصدد الكاتب مكي عباس في كتابه «المسألة السودانية» والذي حصل على معلومات من أصدقائه سكان الجنوب الذين درسوا في المدارس التبشيرية حيث رأى بأم عينه شجرة ضخمة كان يعتني بها الجنوبيون عناية كبيرة، ولقد كانت في نظرهم الشجرة التي كان يستظل بها تجار الرقيق، ويقصد بهم «المسلمين»؟
ومن الدلائل الثابتة أنَّ رئيس المبشرين في إحدى الإرساليات في «نيروبي» عاصمة كينيا، أرسل خطاباً لزعيم قرية جنوبية /متفرنج/ يقول فيه الآتي: «إنَّ أكثر السكان الأفريقيين من حولنا مسلمون وينتمون للعرب، وكلَّما وقعت عيناي عليهم عادت بي الأفكار والذكريات إلى قصة تجار الرقيق العرب، تلك القصة الدامية في جنوب السودان؛ ذلك أنَّ قادة حملات الرقيق كانوا جميعاً من المسلمين، فيا لها من قصة بشعة دامية لذلك الدين الذي لا يراعي حسن السلوك والآداب فهو يضم تجار الرقيق بين جوانحه! ».
وفي عام 1947، صدرَ في لندن كتاب يحمل عنوان: «السودان سجل للتقدم»، ومما جاءَ فيه: «ومنذ عام 1947 تقريباً، عادت الحكومة لكي تردد من جديد في إحدى المنشورات الرسمية للجنوبيين بأنَّ القبائل العربية في الشمال لم تهجر بعد فكرة تجارة الرقيق، وحذرت من أنَّ البدو ما زالوا يقومون بخطف الأفراد واسترقاقهم» كما قال السير (الإسكندر كاودجان) ممثل بريطانيا في مجلس الأمن، في حديث مع أعضاء المجلس: «لقد كان الجنوبيون السودانيون عرضة دائماً للغارات من جانب تجار الرقيق الشماليين إلى عهد قريب، ولم ينقضِ ذلك إلاَّ بعد احتلالنا للسودان».
ما الذي ترتب على هذا التحريض؟!
زيادة طلب الجمعيات التبشيرية من كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لمساعدتهم في التبشير في كل أنحاء السودان؟
ولقد استجابت الحكومتان الأمريكية والبريطانية لطلب مجلس الكنائس العالمي، وأصدرت الحكومة البريطانية تعليماتها إلى اللورد (كرومر) حاكم مصر، واللورد (كتشنر) حاكم السودان، لمساعدة الإرساليات التبشيرية ودعمها في عملية التنصير؟!
ومما زاد في اندفاع زعماء الكنائس العالمية لدعم الإرساليات التبشيرية اعتبارهم أنَّ (غوردن) الذي قتل على يد الثوار السودانيين شهيداً وبطلاً من أبطال الفرنجة ولقد صور (غوردن) الإسلام بوصفه قوة كبيرة تشجع الرق والعبودية وتعادي المسيحية، ولقد أسس زعماء المبشرين إرسالية تبشيرية سميت باسم (غوردن)، كما أنشأت كل من جمعية الكنيسة الإرسالية وجمعية الروم الكاثوليك في مصر جمعية «السودان في المنفى»!
ولقد تساءل نائب اللورد (كرومر) في مصر الدكتور (هارير) في رسالة بعثها إلى اللورد (كتشنر) عما إذا كان بوسع جمعية إرسال بعثة تبشيرية كبيرة إلى السودان، فردَّ عليه (كتشنر): أنَّه من الممكن ذلك ولكن بعد وقت؟! ولقد كان ذلك في 29/9/1898.
وفي 13/12/1899 اجتمع مجلس الكنائس العالمي وقرر ما يلي:
«إنَّ المشاعر الدينية في بريطانيا تطالب بحق بأن أي مجهودات مبذولة لتخليد ذكرى (غوردن) يتعين أن تنطوي على نشر تعاليم المسيح بين جميع الأجناس والقبائل التي تقطن في حوض أعالي النيل، وإنَّ علينا والحال هذه تقوية مؤسساتنا في مصر، وبحيث تمتد رسالتنا إلى الخرطوم والمناطق المجاورة لها عندما تسمح العناية الإلهية بذلك».
كذلك وصل إلى الخرطوم كل من الأب (لولين) والدكتور (هارير) كممثلين لجمعية الكنائس التبشيرية، وقد رافقهم الأب (هالدر) وعددٌ كبير ممن يمثلون (آباء فيرونا)، كذلك الأب (جرفت) والدكتور (واطسن) كممثلين لبعثة التبشير المتحدة في القاهرة.
لم يقتصر هذا على البريطانيين فحسب، بل تأسست أيضاً بعثة ألمانية تبشيرية للعمل في السودان، ولنشر تعاليم المسيحية في غرب أفريقيا وكان ذلك في عام /1900/، وما لبثت أن أنشأت مركزاً للتبشير في كل من «دنقلا» و«أسوان»، ومركزاً آخر في قبائل (البشارين) التي تقطن في شرق السودان، ولقد سميت هذه البعثة فيما بعد بـ «البعثة السودانية المتحدة»، ولقد ذهب أحد أعضائها العاملين في السودان ويدعى (كارل كوم) إلى الخرطوم من أجل التبشير، وكان ذلك في عام /1910/ ولقد ساند هؤلاء المبشرون الحكومة النمساوية، وبعض المطارنة من ذوي النفوذ وذلك لتدعيم التوجه الكاثوليكي ونشره.
ولقد عملت سياسة الحكومة البريطانية في الأقطار التي تدين بالإسلام على إقناع المسلمين «بأنَّ هذه الإرساليات التبشيرية هي أداة الدول العلمانية» وهذا ما صرَّّح به اللورد (سالزبوري) في إحدى خطبه من عام 1900.
ومن ناحية أخرى فقد كان يسمح للإرساليات التبشيرية بممارسة أعمالها وواجباتها، رغم أنَّ الأمن في الجنوب كان غير مستتب، ورغم ذلك فلقد مارس المسؤولون البريطانيون سياسة تقوم على اعتبار المسيحية بمثابة الدين الرسمي لسكان السودان ومنذ قرون عديدة، ولذلك فإنَّ إعادة فتح السودان أتاح الفرصة لإعادة الوضع الديني إلى ما كان عليه سابقاً، وهذا إنما يعني بأنَّ الكنائس سوف تنتشر من القاهرة إلى رأس الرجاء الصالح؟!
ولقد ذهب بعض القادة الإنجليز في بريطانيا وحكام السودان الجدد إلى حدِّ القول والممارسة بأنَّ الإسلام وتعاليمه لا تصلح ولا تتماشى مع رفاهية وتطور الناس في السودان؟
ومن هنا زاد دعمهم للإرساليات، حيث قالوا: «علينا أن ندعم دور الإرساليات التبشيرية في السودان، وخاصة في الجنوب، لتأييد ودعم دورها الحضاري التربوي» وفي عام 1900 عاد الحاكم البريطاني اللورد (كتشنر) إلى لندن من السودان واجتمع مع ممثلي الإرساليات التبشيرية، وتناقش معهم حول دعمهم في أداء عملهم التربوي الحضاري حسب زعمه؟!
وفي شهر تموز من عام 1901 قدم رئيس أساقفة «كنتربري» والسير (جون كاناواي) مذكرة إلى الحكومة البريطانية تضمنت نقداً لعدم توفر الدعم الكافي للإرساليات، والإخلال بالمبادئ التي تتبعها الدول المسيحية( )، وبعد العمل الدائم والدؤوب للقادة البريطانيين الحاكمين، فُتِحت أبواب الجنوب على مصراعيها أمام الإرساليات التبشيرية، واتخذ قرار مشتركٌ «حكومياً - تبشيرياً» على محاربة الإسلام، واستبعاد نفوذه من كافة أرجاء الجنوب وفي السرعة القصوى( )، ومن ثم قامت الحكومة البريطانية بدعم، وإنشاء مناطق نفوذ لكل إرسالية على حدة من أجل مباشرة أعمالها ونشاطها في زرع بذور الخلاف الديني في أنحاء الجنوب، وكان من الطبيعي أن يؤيد هذا العمل البريطانيون العاملون في السودان، والذين هم في الأساس مرتبطون بالكنيسة الإنكليزية، ويعملون وفق توجيهاتها وإشرافها، ومثال على ذلك قال أحد المسؤولين عن الإرساليات: «لقد أمكن عن طريق نظم كلية (غوردن) التذكارية، وضع أسلحة الجامعة الأزهرية في أيدي الشباب السوداني»؟ !
وقال أيضاً: «لا يعتبر زنوج السودان مسلمين على وجه العموم، كما أنهم ليس لديهم دافع لاعتناق الدين الإسلامي، بل إن قلة ضئيلة هي التي اعتنقت الإسلام عن فهم واقتناع».
وكتب (س. واطسن) مقالاً في مجلة الإرساليات العالمية قال فيه:
«مما لا ريب فيه أنَّ سياسة حكومة السودان تجاه الجنوب لا تتوافق والرأي العام البريطاني، بل إنَّ دواوين الحكومة في السودان تتعطل عن العمل أيام الجمع، وتعمل في السبت؟ بل لقد ذهبت هذه السياسة إلى أبعد من ذلك، وإلى الحد الذي صبغت فيه الحكومة نظام التعليم بطابعها، وغزت معاقل كلية (غوردن) التذكارية في الخرطوم».
هذا ما كتبه (واطسن) حينها، وبعدها قال أحد رجال الإرساليات ما يلي:
«لقد أمكن عن طريق نظم كلية (غوردن) التذكارية، وضع أسلحة الجامعة الأزهرية في أيدي الشباب السوداني، ومن شأن هذا الاعتراف المدعم بمعرفة تامة لأحوال الجماعات، أن يمهد السبيل تدريجياً وضمنياً للتوغل الإسلامي الدموي الذي يستهدف السيطرة كلياً على القارة الأفريقية والقضاء النهائي على كل النفوذ المسيحي».
بمثل هذا الكلام والمقرون بالعمل من قبل الإرساليات التبشيرية وحكومات الغرب التي تمولها وتدعمها، أصبح جنوب السودان أرضاً خصبة لعداء العرب والإسلام وشمال السودان، وما انصراف الإرساليات التبشيرية البروتستانتية وغيرها إلى نشر التعليم الديني على أيدي قسيسين خبراء اشتغلوا مقابل أجر كبير لنشر المسيحية إلاَّ خطة فرنجية لتنصير الجنوب، وما طلب المسؤول (ونجت) من مدير بحر الغزال بعدم تدريس اللغة العربية في مديرية بحر الغزال إلاَّ لكونها تشتمل على عبارات عن الرسول والنبي «محمد» (ص) ولذلك طلب منه جعل الإنجليزية لغة التعليم، ورغم كل المحاولات التي قامت بها بريطانيا، فلم تتمكن من إخفاء أو طمس اللغة العربية، وظلت لغة التخاطب والتفاهم بين كافة أفراد الجنوب كما أن مدارس الشرطة والجيش التي التحق ودرس فيها أبناء الجنوب ساعدت في نشر اللغة العربية، إلاَّ أنَّه ومع العودة إلى الوراء قليلاً أي في عام /1910/ قررت الإرسالية الكاثوليكية الرومانية وجمعية الكنائس الإرسالية وعلى لسان كل من القس (جير) والأب (أ. شو) وكذلك القس (جوين) الآتي:
«بأنَّه ما لم تمنح الأفضلية في تعيين الوظائف لمن درسوا باللغة الإنكليزية فلن يكون هناك حافز لمدارس الإرساليات لتعليم الإنكليزية»؟.
كذلك ذكر القس (جوين لونجت)، بأنَّه «إذا استطاعت الحكومة قدر استطاعتها تشجيع استخدام الإنكليزية حتى تصبح أداة للتفاهم خلال الأعمال والتصرفات التي يقوم بها بعض الأهالي، فإنَّ ذلك سيجبر الباقي على تعلم لغتنا، وسيتيح للإرساليات المسيحية فرصة ضئيلة للعمل بالمقارنة مع المزايا الممنوحة للإسلام في جنوب السودان».
وبعد ذلك اتضح أنَّ تلك هي السياسة الرسمية البريطانية، وبأسلوب الترغيب والترهيب هذا غدت اللغة الإنكليزية هي اللغة الرسمية التي أدت إلى التمييز بين سكان الشمال وسكان الجنوب نتيجة احتكار الإرساليات المسيحية الأوروبية شؤون التعليم، وكنتيجة لتشغيل وتوظيف الجنوبيين.
أما الإرساليات الأمريكية لجنوب السودان فقد بدأت أعمالها في مديرية أعالي النيل، وفي جبل /دوليب/ عام 1902 وقد أخذت وقتاً طويلاً في تلقين الدين المسيحي، وكانت مدة برنامج التعليم للأولاد ست سنوات، وبالطبع كانت اللغة الإنكليزية هي لغة التعليم للمواد الدراسية كلها باستثناء الدين الذي كان يدرس باللهجات المحلية وفي هذه المدارس تخرج أشباه القسس الذين أدخلوا الغشاوة إلى عيون الجنوبيين فيما بعد؟!!


يتبع

آداب عبد الهادي
14/01/2008, 01:11 PM
الفصل الثالث
فصل الجنوب عن الشمال


عندما أرغم الفرنسيون على الإنسحاب من فاشودة عام 1899، أعاد الملك (ليوبولد) الثاني مطالبته ببعض أجزاء من جنوب السودان وخاصة منطقة /اللادو/ وعندما توفي الملك عام 1909 خضعت منطقة /اللادو/ لحكومة السودان، وفي عام 1913 تمت تسوية المشاكل الحدودية مع كل من يوغندة وأثيوبيا، وفي عام 1917 أنشئت قوة عسكرية محلية عُرفت باسم قوات الاستوائية بعدها صدر الأمر بمغادرة القوة العسكرية الشمالية الجنوب.
وجاء اقتراح حاكم الاستوائية البريطاني (اوين) بتكوين فرقة عسكرية من الجنوبيين تعمل في منطقة الجنوب، ويكون ضباطها من الإنكليز وولاؤها للدين الفرنجي؟! وتمت الموافقة على ذلك وبدئ في تجنيد الجنوبيين.
وكان الحاكم العام للسودان، وضابط المخابرات السابق في الجيش المصري المدعو (ونجت) يرى أن تكوين الفرق العسكرية الاستوائية هو العلاج الناجح والفعّال لأي ثورة أو تحرك عربي يمكن أن يولد في السودان، فلقد أدرك (ونجت) مدى تأصل روح الدين الإسلامي في السودانيين، هذه الروح التي عبرت عن نفسها من خلال الانفجارات العدائية ضد الغزاة الإنكليز، وكان حفظ الأمن في أنحاء السودان يقع على كاهل القوات السودانية المسلحة، وكان الحاكم العام للسودان (ونجت) مخلصاً تجاه فرنجته الإنكليزية ولذلك عمل على وقف انتشار الإسلام في الجنوب السوداني، بل في كل مكان تصل إليه يده.
كما كان ينظر إلى الإرساليات بوصفها جيشاً احتياطياً للفرنجة الغربية؟
وفي 7/12/1917 غادر آخر عسكري وطني منطقة الاستوائية وأصبحت القوة العسكرية الاستوائية هي الحامية الوحيدة هناك حتى قيام التمرد في الجنوب السوداني عام 1955، ومن الإجراءات التي اتخذت ونفذت في الجنوب بعد مغادرة الجيش السوداني الوطني اعتبار يوم الأحد عطلة رسمية، واعتبار اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية للبلاد، ولقد أمسيا السياسة الرسمية للبلاد منذ عام 1918، وقد أصدر الحاكم البريطاني الأمر التالي:
«لقد لاحظت أنَّه وخلافاً لأوامري المتكررة، ما زالت تعرض كميات كبيرة من الأزياء السودانية الوطنية؟ عليكم أن تراعوا مستقبلاً أنَّ صنع وبيع هذه الملابس يعد أمراً محظوراً، ويجب أن تصنع القمصان القصيرة ذات الياقات المفتوحة من الأمام كما هو الحال بالنسبة للزي الأوروبي، ويجب ألاَّ تكون بياقة دائرية كالتي يرتديها العرب ويجب عدم تفصيل أي ملابس وطنية بدءاً من هذا الحظر، وإنني أمنحكم فترة تمتد من 21/5/1935 أي من تاريخ هذا الحظر وحتى شهر كانون الثاني - يناير القادم وينطبق ما ذكرت على كل الوكلاء الخارجيين والذين يمتلكون ماكينات خياطة».
بعد هذا الأمر العجيب، صدر أيضاً أمرٌ آخر أكثر غرابة وهو:
«من غير المسموح به أيضاً تقليد العادات العربية؟!، كما منع الختان، وكذلك الزواج بين الشماليين والجنوبيين، وإذا ما أراد شمالي الزواج من امرأة من أهل الجنوب – وهذا أمر نادر الوقوع – فيجب عليه الحصول على موافقة الحاكم البريطاني، كما أمر المفتش البريطاني باستبعاد المسلمين من أي قوات بوليسية أو عسكرية، ومن ناحية أخرى تم نقل كافة العاملين المسلمين في الجنوب، كذلك تم إبعاد الضباط الشماليين الوطنيين من الفرقة الاستوائية نهائياً، ثم أقيمت فصول خاصة لتعليم الإداريين والفنيين والبوليس اللغة الإنكليزية في كافة مناطق الجنوب، وكان يكافأ من يتعلم الإنكليزية قراءة وكتابة».
وقد أرسل الحاكم العام البريطاني للسودان أمراً لتنفيذ البنود التالية:
1 - إبعاد الناطقين باللغة العربية من مدينة «واو».
2 - نقل مدارس الإرساليات إلى مكان بعيد عن مدينة «واو».
3 - استبدال اللغة العربية بمجموعة من اللهجات المحلية في مدارس الإرساليات ومنع التخاطب باللغة العربية.
4 - جلب التلاميذ إلى مدارس الإرساليات، وتلقينهم دين الفرنجة واللغة الإنكليزية.
وهكذا سارت محاربة العرب خطوة وراء خطوة، كما لم يسمح للجنوبيين المسلمين بممارسة شعائرهم الدينية علناً، ولقد تم فصل سلطان قبيلة (الفيروج) الجنوبية المدعو (عيسى أحمد مزناك) من وظيفته، وحددت إقامته بأمر من الحاكم العام البريطاني، وذلك لمعارضته لتعليم الإرساليات التبشيري بين أفراد قبيلته المسلمة؟!
ولقد كان لهذه السياسة التي اتبعها البريطانيون في الجنوب الأثر الكبير والفعَّال على المدى البعيد، وفي عام 1941 تمت وبتوجيه من الحاكم العام البريطاني إقامة وحدات قبلية مستقلة من أجل فصل الشمال عن الجنوب.
وفي عام 1944 اقترح السير (دوجلاس نيوبولد) على مجلس الحاكم العام إعادة النظر إزاء الجنوب للتطورات الداخلية والخارجية، وبناءً على اقتراح السير (نيوبولد) وضع الحاكم العام خطة تضمنت حلولاً عدة منها:
1 - ضم الجنوب بأكمله إلى شرق أفريقيا أو ضم الجزء الأكبر منه إلى شرق أفريقيا والباقي ينظر في أمره؟
هذا هو مسار التفكير البريطاني تجاه السودان، والذي يهدف إلى محاولة تقطيع أوصاله وإبعاده عن محيطه العربي وذلك عبر حدوث تمرد من القوات التي أنشأها، وقد حدث التمرد فعلاً فيما بعد...

آداب عبد الهادي
14/01/2008, 03:52 PM
الباب الثاني
جذور التمرد
تمهيد:
تعود جذور التمرد إلى جملة من الأخطاء والممارسات الغير المقصودة من قبل بعض الوطنيين والأحزاب، وإضافة إلى جملة من الأخطاء المقصودة والتي عمقتها الإرساليات التبشيرية والحكام البريطانيون والتي كانت مبيّتة أصلاً، فالمبشرون الفرنجة، قبل وبعد الاستقلال أخذوا يوهمون الجنوبيين بأنهم ليسوا إلاَّ أرقاء للعرب المسلمين ولذلك ينبغي أن ينظروا إلى مصالحهم الجنوبية الخاصة بعين تعلو كثيراً على المصالح الكبرى لعموم السودان؟
وهكذا تضافرت كافة العناصر من مبشرين إلى حكام بريطانيين إلى انفصاليين، هذه الجهود تبلورت في التمرد الذي قامت به الفرقة الاستوائية في شهر آب /أغسطس/ عام 1955.

الفصل الأول
كيف تم تكوين الفرقة الاستوائية
والهدف من تكوينها
1917 - 1955

عملت الإرساليات التبشيرية على نشر /الفرنجية/ تعاليمها بين القبائل في جنوب السودان.
فقد وضع كل من الحاكمين البريطانيين (كرومر) و (ونجت) السياسة الواجب إتباعها في جنوب السودان، وهي /فرنجته/، وإلى حدٍّ ما نجحت السياسة التي عمّقت نفوذ الإرساليات التبشيرية، ولقد كان المخطط الغربي الاستعماري إيجاد شباب /فرنجي/ يكون رأس الحربة في مواجهة شمال السودان وبحيث يكون ثمة توازن بين الإسلام و/الفرنجية/، وبحكم التفوق العددي لقبيلة (الدينكا) فقد ركز البريطانيون والغرب عليها حتى تكون الشوكة في جسم السودان الوطني العربي.
ولقد لعب قادة التبشير الفرنجية دوراً مباشراً في التأسيس لأول حركة تمرد عسكرية في الجنوب عام /1955/ في مواجهة شمال السودان عميق الجذور الوطنية.
ففي عام /1917/ تمَّ إنشاء قوة عسكرية من أبناء الجنوب تحت اسم القوات الاستوائية، كما سبق وذكرنا، وكانت مغادرة القوات الشمالية منطقة الاستوائية إفشالاً للدور الوطني العربي الإسلامي، وقد كان الجنود المنخرطون في الجيش مسلمين، ومعروف أنَّ كل من ينضم للجيش من غير المسلمين يصبح مسلماً، من هنا كان اقتراح /أوين/ بتكوين جيش جنوبي يكون ضباطه من الإنكليز وولاؤه للدين الفرنجي، وكان المذكور يرى في تكوين الجيش الجنوبي دواءً ناجعاً مضموناً ضد أي ثورة وطنية قد تحدث في السودان، حيث أنَّ (أوين) كان يعلم تماماً عمق التأصل الروحي الديني في السودانيين، وما ينتج عن هذا التأصل الديني من مقاومة الغزاة، وخاصة الغرباء والدخلاء هذا من جانب، أما الجانب الداخلي المتمثل في حفظ النظام والأمن فيقع على عاتق الجيش السوداني الوطني، حيث كان الإنكليز يشكّون في ولائه، وبعيداً عن هذا وذاك فقد كان الحاكم العام للسودان (ونجت) متعصباً لدينه الفرنجي، ويرى في انتشار الإسلام وعدالته عدواً لـه، وكان يعمل على تشجيع البعثات التبشيرية المسيسة التي جاءت لتعمل على حسر الدعوة الإسلامية في الجنوب، وكانت نظرته إلى الإرساليات والقبائل الوثنية بوصفها جيشاً احتياطياً للفرنجية المتعصبة.
... «سيأتي يوم في الجنوب سيتم الاختيار فيه بين العربية والقرآن، والإنجليزية والإنجيل» الحاكم الإنكليزي (ونجت).
وكما أسلفنا عمل الحاكم (ونجت) على تشكيل فرقة عسكرية من الجنوبيين فقط، وقد نجح في ذلك وأصبحت الفرقة جاهزة عسكرياً من حيث التدريب والتأهيل وبحيث يمكن الاعتماد عليها، كان ذلك عام 1918، وقد حرص أن يبنى التشكيل العقائدي لهذه الفرقة على أسس دينية فرنجية، وأن تقام فيها الشعائر المسيحية باللغة المحلية، وعلى أن تصدر الأوامر للفرقة باللغة الإنكليزية، وأن تمسح اللغة والعادات العربية في هذه الفرقة؟
كذلك حرصت بريطانيا راعية الإرساليات الغربية المختلفة على محو أية تأثيرات عربية على الفرقة الاستوائية.
ولقد شكلت هذه الفرقة في كلٍّ من منطقة «توريت» الاستراتيجية و«ملكال» رغم أنَّ الفرقة التي شكلت في «توريت» كانت من جموع القبائل القليلة العدد غير أنَّ بقية الفرقة الاستوائية في منطقة «ملكال» كان عمادها الأساسي هو قبيلة (الدينكا) لأنَّ تفوقها العددي كان كبيراً في كل من منطقتي أعالي النيل وبحر الغزال فضلاً عن أن تلقين /الفرنجية/ كان مؤثراً فيهم، ونلاحظ هنا أنَّ القيادة العسكرية الدينكاوية قد تشكلت قدراتها الدينية والعسكرية منذ عام 1918، وبذلك يكون قد ذهب التخطيط السياسي البريطاني في خطين أساسيين لتجسيد هدف أساسي ألا وهو انفصال الجنوب عن الشمال وفق التالي:
الخط الأول: تدريب وتعليم جموع الكوادر السياسية في الكنائس وأماكن تواجد الإرساليات التبشيرية، وذلك من أجل أن تقود الحركة السياسية.
الخط الثاني: تكوين القيادات العسكرية الجنوبية من بين أفراد الفرقة الاستوائية التي أنشئت في /توريت/ و /ملكال/، وهنا نقطة التقاء هذين الخطين والتي تتمثل في مواجهة السودان الوطني العربي.
تمرد الفرقة الاستوائية عام 1955:
أينعت ونبتت بذور الانفصال التي بذرها كلٌّ من (كرومر) و (ونجت) في أرض السودان، فبعد /37/ عاماً، ظهر ما سمي بـ تمرد (توريت)( ) عام 1955، وحدثت مجزرة قام بها أفراد الفرقة الاستوائية وقتلوا /261/ سودانياً، وبالرغم من أنَّ جرائم الفرقة الاستوائية كانت تستهدف أبناء الشمال في الدرجة الأولى إلاَّ أنَّ 75% من أبناء الجنوب لاقوا حتفهم في هذا التمرد ومن هذا التمرد اندلعت الشرارة الأولى التي عملت على انطلاق القوة العسكرية الجنوبية المتمردة.
إنَّ تمرد هذه الفرقة عام /1955/ كان الحربة الأولى الموجهة ضد السودان، نتيجة لهذا التمرد ازداد الفكر القبلي الديني العسكري عامة لدى قادة التمرد من سياسيين وعسكريين مدعومين من الغرب.
التمرد والقتل هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى الهدف:
على الرغم من إخماد التمرد إلاَّ أنَّ بعض القيادات العسكرية، والتي أُوعز لها من قبل الدوائر الغربية باستمرار القتال، لجأت إلى الأحراش والغابات بغية قتال الجيش الوطني السوداني.
بهذا العمل وغيره تكون السياسة الاستعمارية البريطانية قد أثمرت وفق الخطين اللذين ذكرناهما سابقاً...
بعد ذلك تكونت عدة منظمات سياسية عسكرية عملت في السودان وفي خارجه.
ولقد عملت هذه المنظمات على المطالبة بالانفصال عن شمال السودان ومن هنا نستطيع أن نؤكد على أن حركة التمرد هي النتاج الطبيعي للسياسة الاستعمارية في السودان، ولاستمرار هذه السياسة عمد البريطانيون إلى إيجاد جيل وكوادر سياسية وعسكرية في أي منطقة يصلون إليها، وهذا ما تم في جنوب السودان حيث درَّس ودرَّب الكثير من الجنوبيين، وذلك في مدارس الإرساليات التبشيرية وكان ذلك بمثابة النواة الأولى لحركة الانفصال ومواجهة المد الثقافي الوطني في الجنوب السوداني تمهيداً لمحاربته في الأقطار الأفريقية المجاورة.
وقبل مغادرة البريطانيين السودان، خلفوا وراءهم في الجنوب قوة سياسية عسكرية تعمل لإقامة دولة خاصة تكون موالية لهم تماماً. وهكذا برزت على الساحة السودانية حركة سياسية عسكرية ذات تأثير واضح وقوي في مجريات الأحداث.
وكانت البداية في فترة حكم الفريق (إبراهيم عبود) /1958 - 1964/، ولقد ترأست هذه الحركة قبيلة (الدينكا) التي تغلغلت في جميع القبائل، وكان ذلك بفضل تفوقها العددي على بقية القبائل الأخرى، كما أنَّها هيمنت على تشكيل القوات العسكرية الجنوبية عام 1918 من أجل ضمان واستمرار التحكم في مصير السودان وخاصة الجنوب، إضافة إلى محاولة فضل الشمال عن الجنوب، هنا التقى الخطان السياسي والعسكري ليصوغا معاً شكل العلاقة بين الشمال والجنوب خلال الفترة الممتدة من عام 1953 - 1956 والتي سميت بالفترة الانتقالية، وما قيام الحاكم الإنكليزي بتشكيل قوى التمرد من سياسية إلى عسكرية، إلا من أجل البدء بالتحرك الانفصالي الجنوبي.
بدأت العمليات العسكرية الإرهابية ضد الشعب السوداني كافة وبدأ الدعم المالي والعسكري من الغرب، ومن مجلس الكنائس العالمي ومن اسرائيل أيضاً التي وجدت في هذه القوة المتمردة الانفصالية مبتغاها للدخول إلى المنطقة الأفريقية، وبالتالي تواجدها في الجانب السوداني عبر التمرد الجنوبي، ثم ظهرت التظيمات السياسية ومنها رابطة السودان المسيحية والاتحاد الوطني السوداني /سادنو/ ثم حزب /سانو/، وقد فشلت هذه التنظيمات في إيجاد حل للمشكلة التي تغذيها الدوائر الغربية، وهنا ظهرت حركة [ أنانيا واحد وبعدها أنانيا اثنان ] ثم الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، وقد لجأت هذه التنظيمات مع تنظيمات أخرى مماثلة إلى السلاح والقتل والتدمير والتشريد لحل المشكلة ساندها في ذلك القوى الاستعمارية الغربية والصهيونية. يتبع

معتصم الحارث الضوّي
14/01/2008, 04:21 PM
خبطة صحفية وإعلامية رائعة من كاتبة وإعلامية محنكة. أتابع معك هذا الموضوع بشغف يا أستاذة آداب، فالموضوع في غاية الأهمية والحساسية.

مع فائق عرفاني وتقديري

آداب عبد الهادي
15/01/2008, 03:37 PM
الفصل الثاني
من هي الأنانيا
واحد؟هي تكوين عسكري قبلي يختلف كلياً عن أوضاع التنظيمات المسلحة العادية من حيث أنَّها تكوين قبلي، ولقد أنشئت هذه الحركة المسلحة على شكل ألوية مستقلة عن بعضها البعض، فلا ترابط بينها في الأقضية ولا في المناطق المختلفة في جنوب السودان، وإن كانوا قد حملوا جميعاً تعريفاً واحداً هو /الأنانيا/ ومعناه /السم القاتل/، ولقد كان تجييش هذه القوات بهدف مقاتلة بقية السودانيين الوحدويين، وبمعنى أدق قتال المؤمنين بوحدة السودان، وكان كل من يرغب في ذلك عليه أن يتجه إلى الغابات لينضم إلى حركة التمرد /الأنانيا/ أو لأقرب تنظيم أو جماعة في المنطقة، كي يحدد لـه القائد المحلي المكان الذي سيقاتل منه، والرتبة العسكرية التي سيحملها وسيتعامل من خلالها، ولذلك كانت هذه التشكيلات قريبة من الوحدات القبلية في المناطق المختلفة من جنوب السودان، ويمكننا أن نفسِّر ذلك بشكل أبسط:
توجد عصابات /الأنانيا/ في كل من أعالي النيل وبحر الغزال، وقد غلبت على هذه التشكيلات الروح القبلية متمثلة في قبيلة (الدينكا)، وعندما بدأت العمليات العسكرية على شكل وحدات مستقلة في أماكنها، قامت إحدى التجمعات من هذه العصابات في مديرية بحر الغزال برمي مستشفى «رومبك» بالحجارة، وسلبوه كافة المستلزمات( ) الطبية.
توحدت حركات /الأنانيا/ تحت إمرة العقيد المتمرد (جوزيف لاغو) بعد أن تم عزل الجنرال (اميلو نامتح).
وبالرغم من أنَّه عند بداية تكوين هذه الحركة العسكرية الجنوبية المتمردة لم يكن وارداً على الإطلاق اسم /الأنانيا/، فقد قدمت عدة اقتراحات لتسميات مختلفة هي:
1 - جيش حرية الأرض.
2 - جيش أزانيا السري.
3 - محاربو حرية كل أفريقيا.
إلا أنه في النهاية استقر الأمر على اسم /الأنانيا/( ).
وبعد أن تم اختيار الاسم، بدأت حركة [ سم الثعبان ] نشاطها العسكري التخريبي ضد الحكومة السودانية، وكان العمل العسكري يسير من قبيلة (الدينكا) في كافة مناطق الجنوب وكان يقود هذه المجموعات المتمردة القتالية دائماً ضابط أو زعيم /دينكاوي/ فمن هم /الدينكاويين/ الذين لعبوا، ويلعبون دوراً مهماً في انفصال الجنوب عن الشمال؟!...
تعد قبيلة (الدينكا) من أكبر القبائل النيلية في شرق أفريقيا حيث يقع موطن (الدينكا) نوب السودان والذي يتداخل ويتجاور مع موطني (النوير)
و (الشلك).
ويبلغ تعداد شعب (الدينكا) حسب إحصاء أواخر القرن العشرين مليونين وتسعمئة وستين ألف نسمة، ويقطنون في أرض تبلغ مساحتها /250.000/ كيلومتر مربع، وتتعاضد قبائل الدينكا فيما بينها في حالة الحرب أو النزاع مع القبائل الأخرى.
كما أنَّ معظم قادة وضباط وجنود /جيش تحرير جنوب السودان/ هم من قبيلة /الدينكا/ وكذلك زعيم المتمردين /جون كرنغ/ وإلى غاية الآن لم تعرف /الدينكا/ جذوراً في الدول المجاورة للسودان مثل بقية القوميات السودانية الأخرى المتواجدة في الأرض السودانية، كما ينقسم شعب /الدينكا/ إلى عدد من القبائل الكبيرة، ولكل منها اسم خاص بها، ونورد الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر:
1 - بور: ومعناه المغمور بالماء.
2 - علياب: وتسمى أيضاً باسم جعران من الجعارين.
3 - سيك: ومعناه: الرمح المقدس.
4 - تورى معناه الرعد العاصف.
واسم (الدينكا) معناه /قول/ ولقد أطلق عليها هذا الاسم من قبل الأجانب، أما محلياً فيطلق عليهم اسم /مونج يانج/.
وإن قبيلة (الدينكا) كلها تخضع للإرادة الكنسية الفرنجية، وإذا عدنا قليلاً إلى الوراء أي إلى عام 1901 أثناء الحكم الثنائي نورد الآتي:
«مما لا شك فيه مطلقاً أن اتفاقية الحكم الثنائي كانت وليدة الضعف والوصولية، وفيها كان السودان دولة ولكنها خاضعة لحكم الإنكليز ويساعدها في ذلك الموظفون بدءاً من الكلمة إلى الفعل» والآن دعونا ندخل إلى جنوب السودان موضوع كتابي هذا...
بدأ تمرد قبائل الجنوب ضد الغزو الثنائي، ففي عام 1901 قتل بعض أفراد قبيلة (الدينكا) الضابط البريطاني (سكوت باريور) وعلى إثره قامت القوات الثنائية البريطانية - المصرية - بحرق القرى وقتل الشيوخ وصادرت موانىء القرى على إثر ذلك ازداد التمرد.
وفي عام 1903 أرسلت حملة للقضاء على تمرد قبيلة (الدينكا) القاطنة عند نهر /لاو/ ثم أرسل مزيدٌ من الحملات في عامي 1907 - 1910 - لكن هذه الحملات لم تستطع إنهاء التمرد وظل سكان المنطقة يقاومون كلما توفر لهم ذلك حتى عام 1917 حيث أخمد التمرد نهائياً.
وفي عام 1903 ثارت قبيلة (نيام نيام) بقيادة السلطان (يكتا) ابن سلطان (يامبيو) وهاجموا وحدة من الجيش الثنائي وكان يقودها الكابتن (وود) وفي عام 1905 قاد سلطان (يامبيو) بنفسه جيشاً كبيراً ضد القوات الحكومية لكنه هزم ومات متأثراً بجراحه لكن ابنه (ريكتا) ظل على عداء مع الحكومة إلى أن قبض عليه في عام 1914 حيث أبعد إلى الخرطوم ومات فيها عام 1916، هذا بعضٌ مما حصل في الجنوب السوداني الذي يضم 575 قبيلة، لكن السؤال الذي لابد من الإجابة عنه هو: من أين جاءت تسمية جنوب السودان؟!..
إن البريطانيين هم أول من سمى جنوب السودان بهذا الاسم وكان ذلك في عام 1921 وقد هدف البريطانيون من هذه التسمية إيجاد كيان مستقل، يكون دولة في المستقبل.
ولكن هناك رأيان يعتبران أساسيين حول التسمية التي أصبحت فيما بعد مشكلة جنوب السودان.
الرأي الأول: يقول إن المشكلة التي تحولت إلى صراع هي نزاع بين العرب المسلمين والأفارقة المتفرنجين المسيحيين في الجنوب، وبالوقت ذاته صراع بين الشماليين والجنوبيين السودانيين...
الرأي الثاني: أن الطريقة الصحيحة لمعرفة وفهم الصراع في السودان هي في الاطلاع على أحواله الميدانية ثم دراسة خلفيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المواطنين الجنوبيين والحكومات المركزية التي تعاقبت على السودان منذ عام 1821 هذا العام الذي دخل فيه محمد علي باشا السودان.

آداب عبد الهادي
15/01/2008, 03:37 PM
الفصل الثاني
من هي الأنانيا
واحد؟هي تكوين عسكري قبلي يختلف كلياً عن أوضاع التنظيمات المسلحة العادية من حيث أنَّها تكوين قبلي، ولقد أنشئت هذه الحركة المسلحة على شكل ألوية مستقلة عن بعضها البعض، فلا ترابط بينها في الأقضية ولا في المناطق المختلفة في جنوب السودان، وإن كانوا قد حملوا جميعاً تعريفاً واحداً هو /الأنانيا/ ومعناه /السم القاتل/، ولقد كان تجييش هذه القوات بهدف مقاتلة بقية السودانيين الوحدويين، وبمعنى أدق قتال المؤمنين بوحدة السودان، وكان كل من يرغب في ذلك عليه أن يتجه إلى الغابات لينضم إلى حركة التمرد /الأنانيا/ أو لأقرب تنظيم أو جماعة في المنطقة، كي يحدد لـه القائد المحلي المكان الذي سيقاتل منه، والرتبة العسكرية التي سيحملها وسيتعامل من خلالها، ولذلك كانت هذه التشكيلات قريبة من الوحدات القبلية في المناطق المختلفة من جنوب السودان، ويمكننا أن نفسِّر ذلك بشكل أبسط:
توجد عصابات /الأنانيا/ في كل من أعالي النيل وبحر الغزال، وقد غلبت على هذه التشكيلات الروح القبلية متمثلة في قبيلة (الدينكا)، وعندما بدأت العمليات العسكرية على شكل وحدات مستقلة في أماكنها، قامت إحدى التجمعات من هذه العصابات في مديرية بحر الغزال برمي مستشفى «رومبك» بالحجارة، وسلبوه كافة المستلزمات( ) الطبية.
توحدت حركات /الأنانيا/ تحت إمرة العقيد المتمرد (جوزيف لاغو) بعد أن تم عزل الجنرال (اميلو نامتح).
وبالرغم من أنَّه عند بداية تكوين هذه الحركة العسكرية الجنوبية المتمردة لم يكن وارداً على الإطلاق اسم /الأنانيا/، فقد قدمت عدة اقتراحات لتسميات مختلفة هي:
1 - جيش حرية الأرض.
2 - جيش أزانيا السري.
3 - محاربو حرية كل أفريقيا.
إلا أنه في النهاية استقر الأمر على اسم /الأنانيا/( ).
وبعد أن تم اختيار الاسم، بدأت حركة [ سم الثعبان ] نشاطها العسكري التخريبي ضد الحكومة السودانية، وكان العمل العسكري يسير من قبيلة (الدينكا) في كافة مناطق الجنوب وكان يقود هذه المجموعات المتمردة القتالية دائماً ضابط أو زعيم /دينكاوي/ فمن هم /الدينكاويين/ الذين لعبوا، ويلعبون دوراً مهماً في انفصال الجنوب عن الشمال؟!...
تعد قبيلة (الدينكا) من أكبر القبائل النيلية في شرق أفريقيا حيث يقع موطن (الدينكا) نوب السودان والذي يتداخل ويتجاور مع موطني (النوير)
و (الشلك).
ويبلغ تعداد شعب (الدينكا) حسب إحصاء أواخر القرن العشرين مليونين وتسعمئة وستين ألف نسمة، ويقطنون في أرض تبلغ مساحتها /250.000/ كيلومتر مربع، وتتعاضد قبائل الدينكا فيما بينها في حالة الحرب أو النزاع مع القبائل الأخرى.
كما أنَّ معظم قادة وضباط وجنود /جيش تحرير جنوب السودان/ هم من قبيلة /الدينكا/ وكذلك زعيم المتمردين /جون كرنغ/ وإلى غاية الآن لم تعرف /الدينكا/ جذوراً في الدول المجاورة للسودان مثل بقية القوميات السودانية الأخرى المتواجدة في الأرض السودانية، كما ينقسم شعب /الدينكا/ إلى عدد من القبائل الكبيرة، ولكل منها اسم خاص بها، ونورد الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر:
1 - بور: ومعناه المغمور بالماء.
2 - علياب: وتسمى أيضاً باسم جعران من الجعارين.
3 - سيك: ومعناه: الرمح المقدس.
4 - تورى معناه الرعد العاصف.
واسم (الدينكا) معناه /قول/ ولقد أطلق عليها هذا الاسم من قبل الأجانب، أما محلياً فيطلق عليهم اسم /مونج يانج/.
وإن قبيلة (الدينكا) كلها تخضع للإرادة الكنسية الفرنجية، وإذا عدنا قليلاً إلى الوراء أي إلى عام 1901 أثناء الحكم الثنائي نورد الآتي:
«مما لا شك فيه مطلقاً أن اتفاقية الحكم الثنائي كانت وليدة الضعف والوصولية، وفيها كان السودان دولة ولكنها خاضعة لحكم الإنكليز ويساعدها في ذلك الموظفون بدءاً من الكلمة إلى الفعل» والآن دعونا ندخل إلى جنوب السودان موضوع كتابي هذا...
بدأ تمرد قبائل الجنوب ضد الغزو الثنائي، ففي عام 1901 قتل بعض أفراد قبيلة (الدينكا) الضابط البريطاني (سكوت باريور) وعلى إثره قامت القوات الثنائية البريطانية - المصرية - بحرق القرى وقتل الشيوخ وصادرت موانىء القرى على إثر ذلك ازداد التمرد.
وفي عام 1903 أرسلت حملة للقضاء على تمرد قبيلة (الدينكا) القاطنة عند نهر /لاو/ ثم أرسل مزيدٌ من الحملات في عامي 1907 - 1910 - لكن هذه الحملات لم تستطع إنهاء التمرد وظل سكان المنطقة يقاومون كلما توفر لهم ذلك حتى عام 1917 حيث أخمد التمرد نهائياً.
وفي عام 1903 ثارت قبيلة (نيام نيام) بقيادة السلطان (يكتا) ابن سلطان (يامبيو) وهاجموا وحدة من الجيش الثنائي وكان يقودها الكابتن (وود) وفي عام 1905 قاد سلطان (يامبيو) بنفسه جيشاً كبيراً ضد القوات الحكومية لكنه هزم ومات متأثراً بجراحه لكن ابنه (ريكتا) ظل على عداء مع الحكومة إلى أن قبض عليه في عام 1914 حيث أبعد إلى الخرطوم ومات فيها عام 1916، هذا بعضٌ مما حصل في الجنوب السوداني الذي يضم 575 قبيلة، لكن السؤال الذي لابد من الإجابة عنه هو: من أين جاءت تسمية جنوب السودان؟!..
إن البريطانيين هم أول من سمى جنوب السودان بهذا الاسم وكان ذلك في عام 1921 وقد هدف البريطانيون من هذه التسمية إيجاد كيان مستقل، يكون دولة في المستقبل.
ولكن هناك رأيان يعتبران أساسيين حول التسمية التي أصبحت فيما بعد مشكلة جنوب السودان.
الرأي الأول: يقول إن المشكلة التي تحولت إلى صراع هي نزاع بين العرب المسلمين والأفارقة المتفرنجين المسيحيين في الجنوب، وبالوقت ذاته صراع بين الشماليين والجنوبيين السودانيين...
الرأي الثاني: أن الطريقة الصحيحة لمعرفة وفهم الصراع في السودان هي في الاطلاع على أحواله الميدانية ثم دراسة خلفيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المواطنين الجنوبيين والحكومات المركزية التي تعاقبت على السودان منذ عام 1821 هذا العام الذي دخل فيه محمد علي باشا السودان.

آداب عبد الهادي
15/01/2008, 03:42 PM
الباب الثالث
البريطانيون ومحاولاتهم
لحكم جنوب السودان

بعد سقوط الدولة المهدية عام 1898 ظهرت على السطح أوضاع السودان عامة والجنوب خاصة على البريطانيين الذين استولوا على الأوضاع السياسية والاجتماعية... خدمة لأغراضهم، وفي ظل هذا الوضع اقترح القنصل البريطاني في مصر (اللورد كرومر) حلاً وسطاً يمكن عبره حكم السودان من قبل الدولتين بريطانيا - مصر وضمان مصالحهما...
وفي كانون الثاني /يناير/ من عام 1899 اتفق الجانبان /البريطاني والمصري/ ووقعا على حكم السودان وكانا قد وضعا أسساً لما سمي فيما بعد بالحكم الثنائي /الأنكلو - مصري/ في السودان وكانت حجة الدولتين قائمة على الآتي:
1 - حجة البريطانيين كانت تقوم على ما سموه بحق الغزو.
2 - أما المصريون فكانت حجتهم مبنية على حجة تاريخية وهي أن بعض المحافظات التابعة لمصرفي السودان تمردت ضد سلطة الخديوي...
إذاً، الغزو البريطاني وتمرد بعض المحافظات ضد الخديوي هما اللذان دفعا البريطانيين والمصريين لاحتلال السودان الذي أصبح تحت الاحتلال الإنكليزي والوصاية المصرية، إلا أن الإدارة المصرية دعمت العمل الثقافي الإسلامي فأنشأت المدارس العربية الإسلامية الحديثة، من أجل تعميق ارتباط السودان بالعالم العربي، غير أنَّ الحكم المصري لم يعطَ الوقت اللازم في جنوب السودان لكي يحقق التحول اللازم في الوضع الديني الوثني الذي كان سائداً في المنطقة الجنوبية، إلا أن أبناء الشمال الذين كانوا يعملون في المديرية الاستوائية تكفلوا بواجبهم الأخوي تجاه إخوتهم أبناء الجنوب، فعملوا على تنويرهم من حيث الدين والثقافة العربية الإسلامية..
عند هذا الأمر قام الإنكليز الذين كانوا يخشون انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية فأشعلوا ثورات قبلية هنا وهناك، وفيما يلي بعض مما كان يحدث:
في الجنوب:
كان يحكم قبيلة (الشلك) زعيم روحي يدعى (الريث) وكان يحكم قبيلة (لأنواك) زعيم اسمه (نييا) وكانت هاتان القبيلتان تخوضان حروباً قبلية متعددة مع قبيلة (النوير) التي تعيش في أعالي النيل وكانت القرية بالنسبة لكل هؤلاء القبائل تعني كياناً اجتماعياً جامعاً، أما السلطة عند قبيلة (الدينكا) فكانت تُورث كما كان جنوب السودان يحكم من قبل زعماء روحيّين وثنيين وكذلك سكانه وأرضه غير معروفين للعالم أيضاً.
لقد كان الذهاب إلى جنوب السودان مغامرة قد لا يعود منها المرء أحياناً( )؟

آداب عبد الهادي
15/01/2008, 03:42 PM
الباب الثالث
البريطانيون ومحاولاتهم
لحكم جنوب السودان

بعد سقوط الدولة المهدية عام 1898 ظهرت على السطح أوضاع السودان عامة والجنوب خاصة على البريطانيين الذين استولوا على الأوضاع السياسية والاجتماعية... خدمة لأغراضهم، وفي ظل هذا الوضع اقترح القنصل البريطاني في مصر (اللورد كرومر) حلاً وسطاً يمكن عبره حكم السودان من قبل الدولتين بريطانيا - مصر وضمان مصالحهما...
وفي كانون الثاني /يناير/ من عام 1899 اتفق الجانبان /البريطاني والمصري/ ووقعا على حكم السودان وكانا قد وضعا أسساً لما سمي فيما بعد بالحكم الثنائي /الأنكلو - مصري/ في السودان وكانت حجة الدولتين قائمة على الآتي:
1 - حجة البريطانيين كانت تقوم على ما سموه بحق الغزو.
2 - أما المصريون فكانت حجتهم مبنية على حجة تاريخية وهي أن بعض المحافظات التابعة لمصرفي السودان تمردت ضد سلطة الخديوي...
إذاً، الغزو البريطاني وتمرد بعض المحافظات ضد الخديوي هما اللذان دفعا البريطانيين والمصريين لاحتلال السودان الذي أصبح تحت الاحتلال الإنكليزي والوصاية المصرية، إلا أن الإدارة المصرية دعمت العمل الثقافي الإسلامي فأنشأت المدارس العربية الإسلامية الحديثة، من أجل تعميق ارتباط السودان بالعالم العربي، غير أنَّ الحكم المصري لم يعطَ الوقت اللازم في جنوب السودان لكي يحقق التحول اللازم في الوضع الديني الوثني الذي كان سائداً في المنطقة الجنوبية، إلا أن أبناء الشمال الذين كانوا يعملون في المديرية الاستوائية تكفلوا بواجبهم الأخوي تجاه إخوتهم أبناء الجنوب، فعملوا على تنويرهم من حيث الدين والثقافة العربية الإسلامية..
عند هذا الأمر قام الإنكليز الذين كانوا يخشون انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية فأشعلوا ثورات قبلية هنا وهناك، وفيما يلي بعض مما كان يحدث:
في الجنوب:
كان يحكم قبيلة (الشلك) زعيم روحي يدعى (الريث) وكان يحكم قبيلة (لأنواك) زعيم اسمه (نييا) وكانت هاتان القبيلتان تخوضان حروباً قبلية متعددة مع قبيلة (النوير) التي تعيش في أعالي النيل وكانت القرية بالنسبة لكل هؤلاء القبائل تعني كياناً اجتماعياً جامعاً، أما السلطة عند قبيلة (الدينكا) فكانت تُورث كما كان جنوب السودان يحكم من قبل زعماء روحيّين وثنيين وكذلك سكانه وأرضه غير معروفين للعالم أيضاً.
لقد كان الذهاب إلى جنوب السودان مغامرة قد لا يعود منها المرء أحياناً( )؟

آداب عبد الهادي
15/01/2008, 03:58 PM
الفصل الأول
عقيدة الإنكليز

«علينا أن نعلم هؤلاء الوحوش السلوك والطاعة».
هذا هو شعار المحتلين البريطانيين لجنوب السودان وهو الذي كانوا يرددونه ويعملون به.
في الوقت الذي كانت فيه قوات الحكم الثنائي تعمل لإخضاع قبائل الجنوب ووضعها تحت سيطرتها كانت الحكومة المركزية في الخرطوم تعمل لإيجاد أسس حضارية لإدارة مناطق الجنوب التي تم إخضاعها بالقوة - ومن ثم تخليصها من السيطرة البريطانية.
في عام 1921 اقترحت الحكومة المركزية أن تحكم الجنوب السلطات المحلية الأصلية ويكون هذا الحكم تحت إشراف الحكومة، هذا من جهة أما الجهة الأخرى فهي اقتراح الحاكم البريطاني أن يتخذ عدة خطوات لتثبيت وتقوية وضع الحكومة المركزية لتثبت وجودها علماً بأن الحكومة المركزية كانت توجه وتُؤتمر من قبل الحاكم العام الإنكليزي للسودان وبهذا يكون الاقتراح الذي تقدمت به الحكومة السودانية قد أُملي وفرض عليها من قبل البريطانيين، ومن هذه الاقتراحات:
أ - تأسيس جيش مستقل لجنوب السودان بحجة أن السودانيين مسلمون ويوجههم الإمام لحفظ القرآن.
ب - وعلى إثر الاقتراح الأول تم تشكيل الفرقة الاستوائية وكانت كافة عناصرها من الجنوبيين كما أسلفنا سابقاً، كما كانت لغة التخاطب هي اللغة الإنكليزية التي فرضت فرضاً، والشرط الأساسي لجنود هذه الفرقة أن يكونوا أصحاب عقيدة فرنجية مسيحية!
وهكذا تم الإعداد لقيام التمرد وبشكل غير منظور إنما بشكل خفي.
«شكل هذا الجيش وأصبح الأنانيا /1/ والأنانيا /2/ وبعدها أضحت الحركة الشعبية لتحرير السودان... والتي جلست الند للند مع الحكومة المركزية السودانية بمفاوضات ما سمي بالسلام»... وفيما يأتي نقدم مثالاً آخر وهو في منتهى الأهمية:

البلاغ رقم /واحد/:
إن الحاكم العام للسودان والذي كان أيضاً ضابطاً ممتازاً في الجيش البريطاني قد قتل قتلاً فظيعاً وبناءً عليه تطلب حكومة حضرة صاحبة الجلالة من الحكومة المصرية الآتي:
1 - أن تقدم اعتذاراً كافياً عن الجناية.
2 - أن تدفع في الحال إلى حكومة حضرة صاحبة الجلالة غرامة قدرها نصف مليون جنيه [ حينها أما الآن فثمن الفرد يبلغ عشرة ملايين دولار، وقد دفع (العقيد القذافي) هذا المبلغ للفرد الغربي الواحد ]؟؟!
«هذا ثمن الرجل الإنكليزي أما ثمن الرجل العربي فكان عشرين جنيهاً وقد ارتفع ثمنه الآن وخاصة في العراق وقد يصل إلى /100/ دولار هذا إذا تكرمت قوات الاحتلال الأمريكية الإنكليزية ودفعت؟ أما في فلسطين المحتلة فلا ثمن لـه /بلاش/».
3 - أن تصدر في خلال /24 ساعة/ الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصري البحتة من السودان «موت رجل إنكليزي واحد يعادل جيش مصري كامل»!
4 - أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة من (300) ألف فدان إلى مقدار غير محدد تبعاً لما تقتضيه الحاجة. /طبعاً البريطانية/.
5 - إذا لم تلب هذه المطالب في الحال تتخذ حكومة صاحبة الجلالة على الفور التدابير المناسبة لصيانة مصالحها في مصر والسودان؟!
لقد استغلت بريطانيا حادث قتل الضابط الإنكليزي وعملت على إتمام أهدافها.

طرد الجيش المصري من السودان:
طرد الإنكليز الجيش المصري من السودان وأرغمت مصر على دفع النفقات العسكرية لعودة الجيش من السودان إلا أن الزعيم المصري (سعد زغلول) لم يقبل بذلك فقدم استقالته احتجاجاً على التصرف البريطاني وعلى إثر الاستقالة تألفت وزارة جديدة برئاسة (زيور باشا) الذي قبل وقبلت معه حكومته هذا الطرد بعدها أصدرت الحكومة المصرية المعينة من قبل الإنكليز أمراً بعودة القوات المصرية إلى البلاد، وفعلاً تمت إعادة الجيش المصري للبلاد، وقد ادعى البريطانيون أن السودانيين أبدوا ارتياحهم ورضاهم للوضع الجديد الذي أوجدوه، لكنه ثبت عكس ذلك فقد تمرد الجيش السوداني ورفض الوجود البريطاني، وفي ما يلي أورد الرواية التالية للدلالة على أن الدم العربي لا يمكن أن ينفصل وأن يتلاشى مهما طغت وتجبرت القوى الاستعمارية ومهما رضخ البعض:

اللورد اللنبي:
في السادس من شهر كانون الثاني عام 1924 أرسل اللورد (اللنبي) إلى السير (أوستين شمبرلين) التقرير التالي:
في يوم الثلاثاء 27 تشرين الثاني /نوفمبر/ من عام 1924 وأثناء القيام بعملي في مكتبي بوزارة الحربية، وصل في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر المستر (كيرلس) المفتش في الخرطوم وأبلغني أن ضابطاً من الكتيبة الحادية عشرة السودانية هددني بمسدسه، فاعترتني دهشة بالغة جعلتني أكاد لا أتصرف، فتوجهت لمكتب المركز لمقابلة الكولونيل (ماك كوان) وفي أثناء الحديث جاءني أحد رجال المكتب السوداني القدامى وقال لي وقد بدت عليه علامات الانفعال، إنه رأى قوميين من الكتيبة الحادية عشرة السودانية متوجهين بسرعة نحو المعسكرات البريطانية، فخرج الكولونيل (كوان) على الفور بسيارته ليرى ماذا يجري، بعدها ذهب إلى المكان الذي به كتيبة المستر (ليستر) فقلت لهم أن يعطوا إشارات الإنذار والوقوف على أهبة الاستعداد وتنبيه الكتيبة الأخرى، كتيبة /اركليز/ للقيام بنفس الاحتياط... في الساعة الخامسة من بعد الظهر، عاد الكولونيل (كوان) وأخبرني أن جزءاً من المتمردين بمدافعهم الرشاشة قد أوقف في مواجهة الشرف في شارع الخديوي بجانب المستشفى العسكري المصري... تركت الكولونيل (كوان) وتوجهت بسيارتي لمقابلة الضابط المتولي قيادة الأركيلز (الميجور كوير)... أبلغته الحالة.
وأمرته بأن يعزز موقفه بكافة المدافع وعددها /6/ فلما أتم استعداده ذهبنا معاً في الطريق وصلت إلى الخطّ الفاصل وقلت لهم /يقصد للسودانيين/ إني السردار، أطيعوا الأوامر؟
رفض /السودانيون/ وعدت إلى الميجر (ماجركوير) وطلبت منه أن يفتح النار بكل المدافع، رد السودانيون علينا النار بالنار... لم تقع بيننا إصابات...
وفي الصباح تقدمنا من جديد غير متوقعين معارضة جدية، إذ كنا نعتقد أنهم قد هزموا، ولكن عندما قربنا من المبنى الطبي قوبلنا من جديد بضرب شديد وأثناء الضرب وصلت المدافع... فتحنا النار على الجانب الشمالي الشرقي من المنطقة... لكن الرجال السودانيين ظلوا صامدين حتى النهاية.
حاولت الكتيبتان /لستر/ و /اركل/ اقتحام المنازل المتحصن فيها السودانيون فردوا في كل مرة على أعقابهم بخسائر... حاصرنا مبنى كان فيه السودانيون وأطلقنا عليهم /40/ طلقة مدفع... اعتقدنا أنهم قد ماتوا ولم يبق منهم أحدٌ حياً.
ولكننا أخطأنا التقدير وحصلت معركة كبيرة لمدة ساعات طويلة ولما اقتحمنا المنزل - أخرجنا من بين الأنقاض أجساد ضابط وأربعة عشر جندياً سودانياً.
إن أولئك الرجال السودانيين قاوموا مقاومة جبارة حتى بدا مستحيلا أن ينجو أحد من الموت المحتم( ).

ما الهدف من وراء إبعاد الجيش المصري إلى مصر وضرب الجيش السوداني؟
الهدف واضح ولا يحتاج إلى كثير من التفسير والشرح.
الهدف هو إبعاد السودان، خاصة الجنوب، عن مصر، وقد ادعى البريطانيون أنهم يعملون لحماية القبائل الجنوبية /وهذا عكس ما كان يفعله البريطانيون/ من التأثير الثقافي السوداني وقد أوصل البريطانيون إلى الحكومة السودانية طلبهم بأن عليها أن تحكم جنوب السودان بشكل منفصل عن الشمال، ثم اقترحت الحكومة البريطانية على الحكومة السودانية إمكانية قطع الجزء الجنوبي وضمه إلى بعض أجزاء المناطق التابعة للمستعمرات البريطانية في شرق أو وسط أفريقيا.
كما اقترح البريطانيون في مذكرة مكتوبة سلمها سكرتير التعليم والصحة إلى السكرتير المدني الآتي:
«السياسة البريطانية في الجنوب يجب أن تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال بهدف خلق مجموعتين عرقيتين لكل منهما خصائص مختلفة وتطلعات مختلفة أيضاً» وبعد فترة سلمت مذكرة ثانية تحوي نفس العبارات ثم جاءت المذكرة الثالثة للحكومة البريطانية تقول المذكرة الآتي:
أ - يجب ترسيم الحدود بين الجنوب والشمال على خط يسير من الشرق إلى الغرب ويتبع نهري /بارو/ و /سوباط/ والنيل الأبيض وبحر الغزال.
ب - بدأت الحكومة البريطانية تنفيذ ما تريده عن طريق ضغطها على الحكومة السودانية التي استجابت لها.
وفي عام 1920 وإلى عام 1930 وخلال هذه الأعوام العشرة بدأت الحكومة بأخذ الخطوات التالية في الجنوب من أجل قطعه وضمه إلى مستعمراتها ثم بدأت بأخذ الخطوات في الجنوب وفق الترتيب الآتي:
أ - كان حكام الجنوب وعددهم ثلاثة أشخاص أي لكل إقليم حاكم يحضرون اجتماعات الحكام التسعة في الشمال، إلا أن الحاكم العام البريطاني طلب منهم عدم الذهاب إلى الخرطوم لحضور الاجتماعات، وأن عليهم أن يقيموا اجتماعاتهم في الجنوب وأن يلتقوا نظراءهم في كل من يوغندة وكينيا، وبرر الحاكم العام البريطاني خطواته هذه بقوله:
«أن خطوته هذه بُنيت على أساس طبيعي وديمقراطي ولكون المحافظات الثلاثة قريبة من الدول التي عنيناها؟!.
والحقيقة أن خطوة الحاكم الإنكليزي هي بهذا الخصوص: عزل أبناء البلد الواحد عن بعضهم البعض تقديماً للانفصال المؤجل».
ب - في العام نفسه أي عام 1922 صدر قانون استخراج جوازات السفر وتوابعه وكان الغرض من ذلك تقوية مركز وقوة الحاكم العام مما يمكنه من إعلان أي منطقة أو جزء من الجنوب منطقة مغلقة أمام كافة السودانيين أو غير السودانيين، كما فوض البند الـ /22/ من القانون بقفل أي جزء من جنوب السودان أمام التجارة، وكذلك فوض البند الـ /28/ الحاكم العام الإنكليزي منع العمال وفي أي جزء من السودان من العمل داخل السودان وخارجه إلا بموجب تصريح ممهور بتوقيع الحاكم الإنكليزي العام؟.
ت - أصدر الحاكم العام قانوناً تحت اسم قانون «المناطق المغلقة» وبموجبه أعلن كلاً من المناطق التالية مناطق مغلقة، وكذلك سمح الحاكم بدخول هذه المناطق للسودانيين الذين يحملون أذوناً مدونة من الحاكم أو السكرتير المدني أو من حاكم المحافظة:
1 - دارفور ـ
2 - الاستوائية ـ
3 - بحر الغزال ـ
4 - أعالي النيل ـ
5 - جزء من شمال كردفان ـ
6 - قيسان - قيسان ـ
7 - كسلا ـ
ث - في عام 1921 قررت الحكومة دعم الإرساليات الفرنجية في الجنوب إذ قرر الحاكم العام أن تأخذ الحكومة مسؤولية التنظيم والإشراف على الإرسالية وقد منحت الحكومة المال اللازم لهذه الإرساليات وتم صرف المال لهم وبعد 6 سنوات صادقت الحكومة على قانون منح المال للإرساليات.
ج - شدد القانون الذي صدر عام /1925/ على عدم السماح لغير الجنوبيين بالتجارة كما منع التجار الشماليين من ممارسة التجارة إلا بعد موافقة الحاكم العام.
عند قراءتنا وتمعننا لهذه الفقرات نجد أن البريطانيين كانوا يستعدون لفصل الجنوب عن الشمال وهناك من يقول أن السلطات البريطانية لم يكن لها تفكير ثابت حول الفصل وكانوا يقولون أيضاً أن الأفكار السائدة في السنوات الأولى من الحكم البريطاني للجنوب كانت غير واضحة! والحقيقة هي أن البريطانيين كانوا يعملون وبتنسيق كبير فيما بينهم، لأنهم كانوا خائفين من انتشار الثقافة السودانية الوطنية، لأن انتشارها كان من الممكن أن يهدد الوجود البريطاني لذلك عملوا على إنهاء الوجود العربي المتمثل في اللغة والثقافة العربية، أما انتشار الدين /الفرنجي/ فهو أمر عادي ولا يهدد الوجود البريطاني بل يزيد في إرسائه وبهذا الخصوص قال الحاكم العام الإنكليزي للسودان الآتي: إذا ما اقتنع الزنجي بتعاليم الدين /الفرنجي/ فإنه سيتحول إلى وغد زنديق وعاطل وسفيه ماكر؟!
لقد أريد للجنوب أن يكون قاعدة استعمارية غربية دينية متهودة، حتى يصد انتشار العقيدة والثقافة الإسلامية فيه وفي الدول التي تجاوره.
وبهذا الخصوص كتب اللورد (كتشنر) عام 1882 قائلاً:
ليس من شك في أن الدين الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً في هذه البلاد /ويقصد طبعاً الجنوب السوداني/ فإذا لم تقبض القوى النصرانية على ناحية الأمر في أفريقيا فأعتقد أن العرب سيحظون حظوة كبيرة في هذه البلاد وسيصبح لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل وستقع هذه البلاد تحت العبودية.

النبي الزائف!
في عام 1909 قال القس (أرشيدكون شو) التالي عن القبائل الإفريقية: إن لم تتغير هذه القبائل السوداء في الأيام القليلة القادمة /يقصد بالتغيير التبدل الديني/ فإنهم سيصيرون /محمديين/ فهذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض التبشير، إنها تمتد في عمق أفريقيا وهي منتصف الطريق بين القاهرة والكاب ثم يتابع قوله، أن الكنيسة في حاجة لإيوائها لصد انتشار الإسلام والقضاء على تعاليم النبي /الزائف/؟؟!! وبعد حوالي /100/ عامٍ تأتي صور الدانمارك الكاريكاتيرية لتثبت أن الفكر والمنهج الغربي المتصهين لا يتغير.
بعد ذلك جاءت وصية مؤتمر /ادنبره/ التنصيري عام 1910 وأهم ما جاء في هذا المؤتمر الوثيقة التي تقول:
إذا كانت أفريقيا ستكسب لمصلحة المسيح يجب أن تقوم قوة تنصيرية قوية في قلب أفريقيا لمنع تقدم الإسلام؟ وعلى أثر ذلك بدأت الإرساليات عملها خوفاً من التغلغل الإسلامي المتزايد ثم عمدت هذه الإرساليات إلى استخدام نفوذها لفصل الجنوب.
إن الانفصال قضية وطنية معقدة وأي خيار فيها لـه خسائره الكبيرة لكن الأمر الوحيد الذي يجب أن ندركه جيداً هو أن هذه القوى الغربية المتصهينة تعمل على عدم تمكن الإسلام من التغلغل في الجنوب والمناداة بضرورة إيجاد سودان خالٍ من العروبة بشكل عام والجنوب بشكل خاص وهذا هو مطلب المتمردين الذين يقف وراءهم الفرنجة.
وهذا هو السبب الرئيسي للغزو والاحتلال الإنكليزي للسودان وهو بداية التغيير في تاريخ جنوب البلاد هذا الغزو الذي أقام حكماً ثنائياً والحقيقة هو حكم أحادي إنكليزي ديني وكلنا يعرف ذلك، المهم أن الحكم هذا مهّد الطريق للدول الغربية للدخول إلى الجنوب كذلك سعى الحكم الإنكليزي الاستعماري لمحاربة انتشار الثقافة واللغة العربية وكان واضحاً أن هذا العمل يهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال وذلك عبر إيهام الجنوبيين بأنهم مظلومون ومضطهدون من قبل الشماليين العرب، وقد وضعت سياسات عديدة لبث التفرقة وفصل الجنوب عن الشمال ومن بين هذه السياسات الظالمة التي وضعها الفرنجة ونفذتها دوائره: عام 1922 صدر قانون بجعل جنوب السودان منطقة مقفولة.
س : ما القصد من ذلك؟
ج - منع قدوم الجنوبيين إلى شمال البلاد خوفاً من تعلمهم اللغة العربية واعتناقهم للعقيدة الإسلامية كذلك أنشأت الإدارة الإنكليزية جيشاً محلياً مكوناً من أبناء الجنوب فقط وهذا الجيش يرأسه ويقوده ضباط إنكليز.
والنتيجة الطبيعية لتولي الإنكليز إدارة الجنوب أن تقوم الإرساليات التبشيرية الأوربية والأمريكية بتنصير الجنوبيين عبر الترغيب والترهيب، وهذا ما أدى إلى إضعاف التطور الاقتصادي في الجنوب، وأدى كذلك إلى التخلف وعدم مواكبة التطور في شمال البلاد وهذه سياسة من السياسات التي وضعتها ونفذتها الدوائر الاستعمارية الإنكليزية.
في عام 1938 حاول مؤتمر الخريجين السودانيين إيجاد صلة مع الجنوبيين بعد أن أثار قانون المناطق الجنوبية المقفولة الكثير من الشكوك، فأرسل المؤتمرون بعثة وطنية أصيلة إلى الجنوب لإلقاء ما أثاره القانون الإنكليزي، لكن دون جدوى وفي عام 1942 رفضت مذكرة من قبل الخريجين إلى الحاكم الإنكليزي يطلبون فيها إلغاء ذلك القانون، وفي عام 1944 تم تكوين المجلس الاستشاري في الجنوب إلا أن الأحزاب الشمالية قاطعته ولم تعترف به ثم أنشأت الجمعية التشريعية بديلاً للمجلس الاستشاري، ونتيجة لمعارضة الوطنيين لما وضعه الجنوبيون المتفرنجون فقد عارض الإداريون الجنوبيون مؤتمر /إداريي/ الذي دعا إلى الوحدة بين الجنوب والشمال.
وفي عام /1947/ انعقد مؤتمر /جوبا/( ) وفيه اعترف الجانبان بضرورة الوحدة بين الشمال والجنوب وقد مهد هذا المؤتمر لاشتراك الجنوبيين في الجمعية التشريعية وتوحيد السياسة التعليمية وكذلك إدخال اللغة العربية إلى مدارس الجنوب، هذه السياسة بالإضافة إلى خطط التنمية الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية أدت إلى نوع من التعاون والالتصاق والوفاق بين شطري البلاد، لم يرق هذا الأمر للبريطانيين فعمدوا إلى إثارة الفتن بين أبناء البلد الواحد.

آداب عبد الهادي
15/01/2008, 03:58 PM
الفصل الأول
عقيدة الإنكليز

«علينا أن نعلم هؤلاء الوحوش السلوك والطاعة».
هذا هو شعار المحتلين البريطانيين لجنوب السودان وهو الذي كانوا يرددونه ويعملون به.
في الوقت الذي كانت فيه قوات الحكم الثنائي تعمل لإخضاع قبائل الجنوب ووضعها تحت سيطرتها كانت الحكومة المركزية في الخرطوم تعمل لإيجاد أسس حضارية لإدارة مناطق الجنوب التي تم إخضاعها بالقوة - ومن ثم تخليصها من السيطرة البريطانية.
في عام 1921 اقترحت الحكومة المركزية أن تحكم الجنوب السلطات المحلية الأصلية ويكون هذا الحكم تحت إشراف الحكومة، هذا من جهة أما الجهة الأخرى فهي اقتراح الحاكم البريطاني أن يتخذ عدة خطوات لتثبيت وتقوية وضع الحكومة المركزية لتثبت وجودها علماً بأن الحكومة المركزية كانت توجه وتُؤتمر من قبل الحاكم العام الإنكليزي للسودان وبهذا يكون الاقتراح الذي تقدمت به الحكومة السودانية قد أُملي وفرض عليها من قبل البريطانيين، ومن هذه الاقتراحات:
أ - تأسيس جيش مستقل لجنوب السودان بحجة أن السودانيين مسلمون ويوجههم الإمام لحفظ القرآن.
ب - وعلى إثر الاقتراح الأول تم تشكيل الفرقة الاستوائية وكانت كافة عناصرها من الجنوبيين كما أسلفنا سابقاً، كما كانت لغة التخاطب هي اللغة الإنكليزية التي فرضت فرضاً، والشرط الأساسي لجنود هذه الفرقة أن يكونوا أصحاب عقيدة فرنجية مسيحية!
وهكذا تم الإعداد لقيام التمرد وبشكل غير منظور إنما بشكل خفي.
«شكل هذا الجيش وأصبح الأنانيا /1/ والأنانيا /2/ وبعدها أضحت الحركة الشعبية لتحرير السودان... والتي جلست الند للند مع الحكومة المركزية السودانية بمفاوضات ما سمي بالسلام»... وفيما يأتي نقدم مثالاً آخر وهو في منتهى الأهمية:

البلاغ رقم /واحد/:
إن الحاكم العام للسودان والذي كان أيضاً ضابطاً ممتازاً في الجيش البريطاني قد قتل قتلاً فظيعاً وبناءً عليه تطلب حكومة حضرة صاحبة الجلالة من الحكومة المصرية الآتي:
1 - أن تقدم اعتذاراً كافياً عن الجناية.
2 - أن تدفع في الحال إلى حكومة حضرة صاحبة الجلالة غرامة قدرها نصف مليون جنيه [ حينها أما الآن فثمن الفرد يبلغ عشرة ملايين دولار، وقد دفع (العقيد القذافي) هذا المبلغ للفرد الغربي الواحد ]؟؟!
«هذا ثمن الرجل الإنكليزي أما ثمن الرجل العربي فكان عشرين جنيهاً وقد ارتفع ثمنه الآن وخاصة في العراق وقد يصل إلى /100/ دولار هذا إذا تكرمت قوات الاحتلال الأمريكية الإنكليزية ودفعت؟ أما في فلسطين المحتلة فلا ثمن لـه /بلاش/».
3 - أن تصدر في خلال /24 ساعة/ الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصري البحتة من السودان «موت رجل إنكليزي واحد يعادل جيش مصري كامل»!
4 - أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة من (300) ألف فدان إلى مقدار غير محدد تبعاً لما تقتضيه الحاجة. /طبعاً البريطانية/.
5 - إذا لم تلب هذه المطالب في الحال تتخذ حكومة صاحبة الجلالة على الفور التدابير المناسبة لصيانة مصالحها في مصر والسودان؟!
لقد استغلت بريطانيا حادث قتل الضابط الإنكليزي وعملت على إتمام أهدافها.

طرد الجيش المصري من السودان:
طرد الإنكليز الجيش المصري من السودان وأرغمت مصر على دفع النفقات العسكرية لعودة الجيش من السودان إلا أن الزعيم المصري (سعد زغلول) لم يقبل بذلك فقدم استقالته احتجاجاً على التصرف البريطاني وعلى إثر الاستقالة تألفت وزارة جديدة برئاسة (زيور باشا) الذي قبل وقبلت معه حكومته هذا الطرد بعدها أصدرت الحكومة المصرية المعينة من قبل الإنكليز أمراً بعودة القوات المصرية إلى البلاد، وفعلاً تمت إعادة الجيش المصري للبلاد، وقد ادعى البريطانيون أن السودانيين أبدوا ارتياحهم ورضاهم للوضع الجديد الذي أوجدوه، لكنه ثبت عكس ذلك فقد تمرد الجيش السوداني ورفض الوجود البريطاني، وفي ما يلي أورد الرواية التالية للدلالة على أن الدم العربي لا يمكن أن ينفصل وأن يتلاشى مهما طغت وتجبرت القوى الاستعمارية ومهما رضخ البعض:

اللورد اللنبي:
في السادس من شهر كانون الثاني عام 1924 أرسل اللورد (اللنبي) إلى السير (أوستين شمبرلين) التقرير التالي:
في يوم الثلاثاء 27 تشرين الثاني /نوفمبر/ من عام 1924 وأثناء القيام بعملي في مكتبي بوزارة الحربية، وصل في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر المستر (كيرلس) المفتش في الخرطوم وأبلغني أن ضابطاً من الكتيبة الحادية عشرة السودانية هددني بمسدسه، فاعترتني دهشة بالغة جعلتني أكاد لا أتصرف، فتوجهت لمكتب المركز لمقابلة الكولونيل (ماك كوان) وفي أثناء الحديث جاءني أحد رجال المكتب السوداني القدامى وقال لي وقد بدت عليه علامات الانفعال، إنه رأى قوميين من الكتيبة الحادية عشرة السودانية متوجهين بسرعة نحو المعسكرات البريطانية، فخرج الكولونيل (كوان) على الفور بسيارته ليرى ماذا يجري، بعدها ذهب إلى المكان الذي به كتيبة المستر (ليستر) فقلت لهم أن يعطوا إشارات الإنذار والوقوف على أهبة الاستعداد وتنبيه الكتيبة الأخرى، كتيبة /اركليز/ للقيام بنفس الاحتياط... في الساعة الخامسة من بعد الظهر، عاد الكولونيل (كوان) وأخبرني أن جزءاً من المتمردين بمدافعهم الرشاشة قد أوقف في مواجهة الشرف في شارع الخديوي بجانب المستشفى العسكري المصري... تركت الكولونيل (كوان) وتوجهت بسيارتي لمقابلة الضابط المتولي قيادة الأركيلز (الميجور كوير)... أبلغته الحالة.
وأمرته بأن يعزز موقفه بكافة المدافع وعددها /6/ فلما أتم استعداده ذهبنا معاً في الطريق وصلت إلى الخطّ الفاصل وقلت لهم /يقصد للسودانيين/ إني السردار، أطيعوا الأوامر؟
رفض /السودانيون/ وعدت إلى الميجر (ماجركوير) وطلبت منه أن يفتح النار بكل المدافع، رد السودانيون علينا النار بالنار... لم تقع بيننا إصابات...
وفي الصباح تقدمنا من جديد غير متوقعين معارضة جدية، إذ كنا نعتقد أنهم قد هزموا، ولكن عندما قربنا من المبنى الطبي قوبلنا من جديد بضرب شديد وأثناء الضرب وصلت المدافع... فتحنا النار على الجانب الشمالي الشرقي من المنطقة... لكن الرجال السودانيين ظلوا صامدين حتى النهاية.
حاولت الكتيبتان /لستر/ و /اركل/ اقتحام المنازل المتحصن فيها السودانيون فردوا في كل مرة على أعقابهم بخسائر... حاصرنا مبنى كان فيه السودانيون وأطلقنا عليهم /40/ طلقة مدفع... اعتقدنا أنهم قد ماتوا ولم يبق منهم أحدٌ حياً.
ولكننا أخطأنا التقدير وحصلت معركة كبيرة لمدة ساعات طويلة ولما اقتحمنا المنزل - أخرجنا من بين الأنقاض أجساد ضابط وأربعة عشر جندياً سودانياً.
إن أولئك الرجال السودانيين قاوموا مقاومة جبارة حتى بدا مستحيلا أن ينجو أحد من الموت المحتم( ).

ما الهدف من وراء إبعاد الجيش المصري إلى مصر وضرب الجيش السوداني؟
الهدف واضح ولا يحتاج إلى كثير من التفسير والشرح.
الهدف هو إبعاد السودان، خاصة الجنوب، عن مصر، وقد ادعى البريطانيون أنهم يعملون لحماية القبائل الجنوبية /وهذا عكس ما كان يفعله البريطانيون/ من التأثير الثقافي السوداني وقد أوصل البريطانيون إلى الحكومة السودانية طلبهم بأن عليها أن تحكم جنوب السودان بشكل منفصل عن الشمال، ثم اقترحت الحكومة البريطانية على الحكومة السودانية إمكانية قطع الجزء الجنوبي وضمه إلى بعض أجزاء المناطق التابعة للمستعمرات البريطانية في شرق أو وسط أفريقيا.
كما اقترح البريطانيون في مذكرة مكتوبة سلمها سكرتير التعليم والصحة إلى السكرتير المدني الآتي:
«السياسة البريطانية في الجنوب يجب أن تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال بهدف خلق مجموعتين عرقيتين لكل منهما خصائص مختلفة وتطلعات مختلفة أيضاً» وبعد فترة سلمت مذكرة ثانية تحوي نفس العبارات ثم جاءت المذكرة الثالثة للحكومة البريطانية تقول المذكرة الآتي:
أ - يجب ترسيم الحدود بين الجنوب والشمال على خط يسير من الشرق إلى الغرب ويتبع نهري /بارو/ و /سوباط/ والنيل الأبيض وبحر الغزال.
ب - بدأت الحكومة البريطانية تنفيذ ما تريده عن طريق ضغطها على الحكومة السودانية التي استجابت لها.
وفي عام 1920 وإلى عام 1930 وخلال هذه الأعوام العشرة بدأت الحكومة بأخذ الخطوات التالية في الجنوب من أجل قطعه وضمه إلى مستعمراتها ثم بدأت بأخذ الخطوات في الجنوب وفق الترتيب الآتي:
أ - كان حكام الجنوب وعددهم ثلاثة أشخاص أي لكل إقليم حاكم يحضرون اجتماعات الحكام التسعة في الشمال، إلا أن الحاكم العام البريطاني طلب منهم عدم الذهاب إلى الخرطوم لحضور الاجتماعات، وأن عليهم أن يقيموا اجتماعاتهم في الجنوب وأن يلتقوا نظراءهم في كل من يوغندة وكينيا، وبرر الحاكم العام البريطاني خطواته هذه بقوله:
«أن خطوته هذه بُنيت على أساس طبيعي وديمقراطي ولكون المحافظات الثلاثة قريبة من الدول التي عنيناها؟!.
والحقيقة أن خطوة الحاكم الإنكليزي هي بهذا الخصوص: عزل أبناء البلد الواحد عن بعضهم البعض تقديماً للانفصال المؤجل».
ب - في العام نفسه أي عام 1922 صدر قانون استخراج جوازات السفر وتوابعه وكان الغرض من ذلك تقوية مركز وقوة الحاكم العام مما يمكنه من إعلان أي منطقة أو جزء من الجنوب منطقة مغلقة أمام كافة السودانيين أو غير السودانيين، كما فوض البند الـ /22/ من القانون بقفل أي جزء من جنوب السودان أمام التجارة، وكذلك فوض البند الـ /28/ الحاكم العام الإنكليزي منع العمال وفي أي جزء من السودان من العمل داخل السودان وخارجه إلا بموجب تصريح ممهور بتوقيع الحاكم الإنكليزي العام؟.
ت - أصدر الحاكم العام قانوناً تحت اسم قانون «المناطق المغلقة» وبموجبه أعلن كلاً من المناطق التالية مناطق مغلقة، وكذلك سمح الحاكم بدخول هذه المناطق للسودانيين الذين يحملون أذوناً مدونة من الحاكم أو السكرتير المدني أو من حاكم المحافظة:
1 - دارفور ـ
2 - الاستوائية ـ
3 - بحر الغزال ـ
4 - أعالي النيل ـ
5 - جزء من شمال كردفان ـ
6 - قيسان - قيسان ـ
7 - كسلا ـ
ث - في عام 1921 قررت الحكومة دعم الإرساليات الفرنجية في الجنوب إذ قرر الحاكم العام أن تأخذ الحكومة مسؤولية التنظيم والإشراف على الإرسالية وقد منحت الحكومة المال اللازم لهذه الإرساليات وتم صرف المال لهم وبعد 6 سنوات صادقت الحكومة على قانون منح المال للإرساليات.
ج - شدد القانون الذي صدر عام /1925/ على عدم السماح لغير الجنوبيين بالتجارة كما منع التجار الشماليين من ممارسة التجارة إلا بعد موافقة الحاكم العام.
عند قراءتنا وتمعننا لهذه الفقرات نجد أن البريطانيين كانوا يستعدون لفصل الجنوب عن الشمال وهناك من يقول أن السلطات البريطانية لم يكن لها تفكير ثابت حول الفصل وكانوا يقولون أيضاً أن الأفكار السائدة في السنوات الأولى من الحكم البريطاني للجنوب كانت غير واضحة! والحقيقة هي أن البريطانيين كانوا يعملون وبتنسيق كبير فيما بينهم، لأنهم كانوا خائفين من انتشار الثقافة السودانية الوطنية، لأن انتشارها كان من الممكن أن يهدد الوجود البريطاني لذلك عملوا على إنهاء الوجود العربي المتمثل في اللغة والثقافة العربية، أما انتشار الدين /الفرنجي/ فهو أمر عادي ولا يهدد الوجود البريطاني بل يزيد في إرسائه وبهذا الخصوص قال الحاكم العام الإنكليزي للسودان الآتي: إذا ما اقتنع الزنجي بتعاليم الدين /الفرنجي/ فإنه سيتحول إلى وغد زنديق وعاطل وسفيه ماكر؟!
لقد أريد للجنوب أن يكون قاعدة استعمارية غربية دينية متهودة، حتى يصد انتشار العقيدة والثقافة الإسلامية فيه وفي الدول التي تجاوره.
وبهذا الخصوص كتب اللورد (كتشنر) عام 1882 قائلاً:
ليس من شك في أن الدين الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً في هذه البلاد /ويقصد طبعاً الجنوب السوداني/ فإذا لم تقبض القوى النصرانية على ناحية الأمر في أفريقيا فأعتقد أن العرب سيحظون حظوة كبيرة في هذه البلاد وسيصبح لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل وستقع هذه البلاد تحت العبودية.

النبي الزائف!
في عام 1909 قال القس (أرشيدكون شو) التالي عن القبائل الإفريقية: إن لم تتغير هذه القبائل السوداء في الأيام القليلة القادمة /يقصد بالتغيير التبدل الديني/ فإنهم سيصيرون /محمديين/ فهذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض التبشير، إنها تمتد في عمق أفريقيا وهي منتصف الطريق بين القاهرة والكاب ثم يتابع قوله، أن الكنيسة في حاجة لإيوائها لصد انتشار الإسلام والقضاء على تعاليم النبي /الزائف/؟؟!! وبعد حوالي /100/ عامٍ تأتي صور الدانمارك الكاريكاتيرية لتثبت أن الفكر والمنهج الغربي المتصهين لا يتغير.
بعد ذلك جاءت وصية مؤتمر /ادنبره/ التنصيري عام 1910 وأهم ما جاء في هذا المؤتمر الوثيقة التي تقول:
إذا كانت أفريقيا ستكسب لمصلحة المسيح يجب أن تقوم قوة تنصيرية قوية في قلب أفريقيا لمنع تقدم الإسلام؟ وعلى أثر ذلك بدأت الإرساليات عملها خوفاً من التغلغل الإسلامي المتزايد ثم عمدت هذه الإرساليات إلى استخدام نفوذها لفصل الجنوب.
إن الانفصال قضية وطنية معقدة وأي خيار فيها لـه خسائره الكبيرة لكن الأمر الوحيد الذي يجب أن ندركه جيداً هو أن هذه القوى الغربية المتصهينة تعمل على عدم تمكن الإسلام من التغلغل في الجنوب والمناداة بضرورة إيجاد سودان خالٍ من العروبة بشكل عام والجنوب بشكل خاص وهذا هو مطلب المتمردين الذين يقف وراءهم الفرنجة.
وهذا هو السبب الرئيسي للغزو والاحتلال الإنكليزي للسودان وهو بداية التغيير في تاريخ جنوب البلاد هذا الغزو الذي أقام حكماً ثنائياً والحقيقة هو حكم أحادي إنكليزي ديني وكلنا يعرف ذلك، المهم أن الحكم هذا مهّد الطريق للدول الغربية للدخول إلى الجنوب كذلك سعى الحكم الإنكليزي الاستعماري لمحاربة انتشار الثقافة واللغة العربية وكان واضحاً أن هذا العمل يهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال وذلك عبر إيهام الجنوبيين بأنهم مظلومون ومضطهدون من قبل الشماليين العرب، وقد وضعت سياسات عديدة لبث التفرقة وفصل الجنوب عن الشمال ومن بين هذه السياسات الظالمة التي وضعها الفرنجة ونفذتها دوائره: عام 1922 صدر قانون بجعل جنوب السودان منطقة مقفولة.
س : ما القصد من ذلك؟
ج - منع قدوم الجنوبيين إلى شمال البلاد خوفاً من تعلمهم اللغة العربية واعتناقهم للعقيدة الإسلامية كذلك أنشأت الإدارة الإنكليزية جيشاً محلياً مكوناً من أبناء الجنوب فقط وهذا الجيش يرأسه ويقوده ضباط إنكليز.
والنتيجة الطبيعية لتولي الإنكليز إدارة الجنوب أن تقوم الإرساليات التبشيرية الأوربية والأمريكية بتنصير الجنوبيين عبر الترغيب والترهيب، وهذا ما أدى إلى إضعاف التطور الاقتصادي في الجنوب، وأدى كذلك إلى التخلف وعدم مواكبة التطور في شمال البلاد وهذه سياسة من السياسات التي وضعتها ونفذتها الدوائر الاستعمارية الإنكليزية.
في عام 1938 حاول مؤتمر الخريجين السودانيين إيجاد صلة مع الجنوبيين بعد أن أثار قانون المناطق الجنوبية المقفولة الكثير من الشكوك، فأرسل المؤتمرون بعثة وطنية أصيلة إلى الجنوب لإلقاء ما أثاره القانون الإنكليزي، لكن دون جدوى وفي عام 1942 رفضت مذكرة من قبل الخريجين إلى الحاكم الإنكليزي يطلبون فيها إلغاء ذلك القانون، وفي عام 1944 تم تكوين المجلس الاستشاري في الجنوب إلا أن الأحزاب الشمالية قاطعته ولم تعترف به ثم أنشأت الجمعية التشريعية بديلاً للمجلس الاستشاري، ونتيجة لمعارضة الوطنيين لما وضعه الجنوبيون المتفرنجون فقد عارض الإداريون الجنوبيون مؤتمر /إداريي/ الذي دعا إلى الوحدة بين الجنوب والشمال.
وفي عام /1947/ انعقد مؤتمر /جوبا/( ) وفيه اعترف الجانبان بضرورة الوحدة بين الشمال والجنوب وقد مهد هذا المؤتمر لاشتراك الجنوبيين في الجمعية التشريعية وتوحيد السياسة التعليمية وكذلك إدخال اللغة العربية إلى مدارس الجنوب، هذه السياسة بالإضافة إلى خطط التنمية الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية أدت إلى نوع من التعاون والالتصاق والوفاق بين شطري البلاد، لم يرق هذا الأمر للبريطانيين فعمدوا إلى إثارة الفتن بين أبناء البلد الواحد.

آداب عبد الهادي
15/01/2008, 04:04 PM
اللورد بالمرستون
وعندما نعود إلى عام 1851 وإلى كتاب اللورد (بالمرستون) الذي تضمن البحث عن إمكانية تحويل مجرى النيل كي يمنع ري الأراضي المصرية نعرف سبب السياسة البريطانية تجاه العرب وخاصة في السودان.
قال اللورد (بالمرستون) حول ذلك الآتي:
إن السيطرة على النيل مشكلة معقدة كثيراً، ونهر النيل يستمد مياهه من النيل الأزرق الذي ينبع من منطقة بحر دار في الحبشة كما أن النيل الأبيض الذي ينبع من يوغندة لا يوفر إلا كميات قليلة من المياه.
إن تحويل مجرى النيل الذي اقترحه (سالزبوري) كان يهدف إلى موت الشعب المصري، إن وجود الشعب المصري مرتبط بالنيل والنيل يعني وجود الشعب السوداني ولهذا فإن الشعبين المصري والسوداني مرتبطان ارتباط الروح والجسد.
ومن يسيطر على النيل يمسك بقبضته مصير الشعبين ونتيجة لذلك تحولت مسألة السيطرة على وادي النيل إلى هدف أساسي من الأهداف الإنكليزية والغربية، وبهذا الخصوص كتب (سالزبوري) إلى (بارنغ) عام 1891 ما يلي:
- لقد اتفقنا على أن نعمل للسيطرة على كل روافد النيل التي تقع في دائرة نفوذ الممتلكات المصرية..؟!
نعم الهدف هو النيل لأن المياه تكمن فيه، إنني آسف للظروف التي ساعدت المستعمرين على غزو واحتلال السودان فقد أعلن اللورد الكنسي (سالزبوري) اجتياح السودان في 12/3/1896 ومثل ما فعل المستعمر (سالزبوري) فعل (بوش وبلير) وقاما بغزو العراق من أجل النفط والماء وضرب الإنسان العراقي أيضاً؟![/size]



يتبع

آداب عبد الهادي
15/01/2008, 04:04 PM
اللورد بالمرستون
وعندما نعود إلى عام 1851 وإلى كتاب اللورد (بالمرستون) الذي تضمن البحث عن إمكانية تحويل مجرى النيل كي يمنع ري الأراضي المصرية نعرف سبب السياسة البريطانية تجاه العرب وخاصة في السودان.
قال اللورد (بالمرستون) حول ذلك الآتي:
إن السيطرة على النيل مشكلة معقدة كثيراً، ونهر النيل يستمد مياهه من النيل الأزرق الذي ينبع من منطقة بحر دار في الحبشة كما أن النيل الأبيض الذي ينبع من يوغندة لا يوفر إلا كميات قليلة من المياه.
إن تحويل مجرى النيل الذي اقترحه (سالزبوري) كان يهدف إلى موت الشعب المصري، إن وجود الشعب المصري مرتبط بالنيل والنيل يعني وجود الشعب السوداني ولهذا فإن الشعبين المصري والسوداني مرتبطان ارتباط الروح والجسد.
ومن يسيطر على النيل يمسك بقبضته مصير الشعبين ونتيجة لذلك تحولت مسألة السيطرة على وادي النيل إلى هدف أساسي من الأهداف الإنكليزية والغربية، وبهذا الخصوص كتب (سالزبوري) إلى (بارنغ) عام 1891 ما يلي:
- لقد اتفقنا على أن نعمل للسيطرة على كل روافد النيل التي تقع في دائرة نفوذ الممتلكات المصرية..؟!
نعم الهدف هو النيل لأن المياه تكمن فيه، إنني آسف للظروف التي ساعدت المستعمرين على غزو واحتلال السودان فقد أعلن اللورد الكنسي (سالزبوري) اجتياح السودان في 12/3/1896 ومثل ما فعل المستعمر (سالزبوري) فعل (بوش وبلير) وقاما بغزو العراق من أجل النفط والماء وضرب الإنسان العراقي أيضاً؟![/size]



يتبع

آداب عبد الهادي
16/01/2008, 04:28 PM
الفصل الثاني
اندفاع الأوروبيين
اندفعت الدول الأوربية الاستعمارية لاحتلال أفريقيا، وأخذت تتنافس على ذلك، ولكن كان قد أصابهم الخوف عندما أرسل خديوي مصر (إسماعيل) عام /1869/ البعثة المصرية إلى السودان، وعندما تمكن الإنكليز من الاستيلاء على مصر وحصل التدخل الرابع من قبل الإنكليز والأوروبيين في الجنوب السوداني ولا سيما في الناحيتين الدينية والاقتصادية، ثم جاء تعيين الجنرال (غوردون) حاكماً للجنوب السوداني الذي أخذ يعمل على تشجيع الإرساليات، وحيث وجه أمراً في عام /1871/ يدعو فيه إلى اتحاد الإرساليات الإنكليزية، ويدعوها إلى العمل تحت إمرته.
ولقد عانى الكثير من أفراد الإرساليات أثناء وجودهم في مناطق السودان وذلك بسبب الظروف السيئة والمناخ، ولقد هلك قسم كبير منهم، ممّا دفع الطليان لإغلاق مراكز البعثات نهائياً في عام /1862/، ولقد قامت الإرساليات بإرسال بعض الطلاب إلى إنكلترا ليساهموا في نقل التعاليم الفرنجية من اللغة الإنكليزية إلى اللهجة /الدينكاوية/، ولقد نشرت هذه التعاليم الدينية في عام /1866/.
الرقيق:
عند دخول الجيش /الإنكليزي المصري/ إلى السودان سنة /1898/ أثار خلافاً حاداً بين إنكلترا وفرنسا، وكاد هذا الخلاف أن يؤدي إلى نشوب حرب بينهما، فقد زحفت فصائل الجيش الفرنسي بقيادة (مارشان) واحتلت منطقة /فاشوده/، وبعد عدة أسابيع وصل الجنرال (كتشنر) إلى قرب منطقة /فاشوده/، أبلغ (مارشان) وقال لـه بأنَّ وجود جيش في هذه المنطقة أي /فاشوده/ يعتبر اعتداءً سافراً على حقوق بريطانيا ومصر، وعندما أدرك الفرنسيون أنَّ الإنكليز جادون في كلامهم هذا، انسحبوا من المنطقة تفادياً لوقوع الحرب بينهم وبين الإنكليز والمصريين، وكان ذلك في كانون الأول عام /1898/ وبذلك دخلت السودان في مضمار السياسة العالمية، نظراً لوجود نهر النيل الأبيض الذي يعتبر الطريق الوحيد الذي يربط السودان بطرفي أفريقيا، وهناك جانب آخر هو أن مياه النيل الأبيض لها أثر كبير على مصر حاضراً ومستقبلاً، فقد كان الإنكليز حاضرين لهذا الأمر بعكس العرب الذين كانوا غائبين أو مغيبين؟
وفي عام /1900/ شرع الإنكليز في إيجاد قوى عسكرية، وذلك بإنشاء حاميات يشرف عليها الضباط الإنكليز، وتمَّ التواجد الإنكليزي، واختلط الإنكليز مع المواطنين إلاَّ أنهم لم يستطيعوا أن يجذبوا أو يكسبوا ثقة وولاء الناس لـهم، فعمدوا كعادتهم إلى إغراء الناس هناك بالهدايا تارة، وترهيبهم بالقوة تارة أخرى، ثم عمد الإنكليز إلى إثارة الفتن والأحقاد بين المواطنين ثم بين القبائل، وقوبل ذلك بتمرد القبائل على الإنكليز الذين عملوا بدورهم بقوة من أجل إخماد كل تحرك وطني معادٍ لهم.
وفي عام /1902/ قام الإنكليز بشن حملة عسكرية على قبيلة (النوير) وعلى رئيسها المدعو (موت ونج)، وتتابعت الحملات على هذه القبيلة سنوات عديدة بدءاً من عام /1910/ إلى /1928/ كانت تتخللها سنوات توقف أو مهادنة إلاَّ أنَّ هذه القبيلة الجسورة لم تخضع للإنكليز إلاَّ في عام /1930/.
بعد ذلك أرسلت حملات عسكرية إلى أعالي النيل للقضاء على تلك القبائل المتقاتلة فيما بينها، لقد كانت لهذا القتال آثار سلبية على مجالات عديدة منها المجال الاقتصادي حيث أدى إلى إصابته بالشلل، إضافة إلى تعميق التباعد بين الشمال والجنوب، والأمر الأهم هو تمركز السلطات في أيدي الإنكليز الذين كانوا يعملون وفق مبدأ «فرِّق تسد»، وإنْ سَمح الإنكليز للمواطنين الجنوبيين بالعمل والحكم وفق عرفهم، إلاَّ أنهم كانوا هم الفاعلين الحقيقيين ولكن بالخفاء فلقد عمل الإنكليز على تقويض سلطة زعماء ورؤساء العشائر وذلك تحت ستار فض المنازعات القبلية.
علمنا التاريخ أنَّ الأوروبيين وتحديداً الإنكليز هم من الأوائل الذين مارسوا تجارة الرق، ولكنهم كانوا يشيرون بأصابع الاتهام للعرب والمسلمين، إلا أننا سوف نبرهن على أن هؤلاء الفرنجة هم الذين مارسوا تجارة الرق وذلك من المثال التالي والذي تخاطب به إحدى البعثات التبشيرية في /كينيا/ أحد السودانيين الجنوبيين المتنفذين:
«إنَّ أكثرية السكان الأفريقيين من حولنا مسلمون وينتهجون الثقافة العربية، وكلما وقعت عيناي عليهم عادت بي الأفكار والذكريات دائماً إلى قصة تجارة الرقيق، تلك القصة الدامية في جنوب السودان، ذلك أنَّ قادة حملات الرقيق كانوا جميعاً من المسلمين، فيا لها من قصة بشعة دامية لذلك الدين الذي لا يراعي حسن السلوك والآداب فيضم تجار الرقيق بين جوانبه».
انتهى مثال ممثل البعثة التبشيرية في /كينيا/ ليبدأ كلام ممثل بريطانيا في مجلس الأمن (الإسكندر كاودجان) الذي تحدث إلى أعضاء المجلس المذكور لافتاً انتباههم إلى أن الجنوبيين النصارى كانوا إلى وقت احتلالنا للسودان، عرضة لغارات المسلمين العرب، وأخذهم أرقاء»، ويقصد هنا: السودانيين الشماليين؟!
هذه الأقوال الصادرة من رجل دين ورجل سياسة تحمل في معانيها الكثير الكثير ضد السودانيين الوطنيين، وما قاله المبشر الديني: «فيا لها من قصة بشعة دامية لذلك الدين الذي لا يراعي حسن السلوك والآداب»؟! هذه الأقوال هي ما يجيش في صدور الفرنجة من كره وحقد على العرب والمسلمين.

آداب عبد الهادي
16/01/2008, 04:37 PM
الفصل الثالث
سياسة الحكومة الإنكليزية
عملت السياسة الإنكليزية وما زالت على بث الشقاق بين أهل البلد الواحد، ولذلك حاول الإنكليز إقناع المواطنين بأن وجودهم هو خدمة للناس..؟!! حسب ادعائهم؟!
وفي شهر شباط من عام /1899/ طالب السير (جون كناواي) البرلمان الإنكليزي بدعوة إنكلترا إلى دعم ومساندة النشاط التبشيري الكنسي في السودان وخاصة الجنوب، هنا سارعت الإرساليات وطلبت من الحكومة إبعاد الدين الإسلامي من كافة أنحاء الجنوب، وما كان من الحكومة الإنكليزية إلاَّ أن استجابت لهذا الطلب؟!
وقسم الجنوب إلى عدة أقسام، بحيث يتبع كل قسم بعثة تبشيرية معينة.
وقد كتب (واطسن) في هذا الخصوص مقالاً بمجلة البعثات، قال فيه: «مما لا ريب فيه، أنَّ سياسة حكومة السودان تجاه الجنوب لا تتوافق مع الرأي العام الإنكليزي /النصراني/ حيث أن الأعمال كلها تعطل يوم الجمعة( ) وتعمل السبت والأحد»؟! بعد ذلك كتب أحد القساوسة من البعثات التبشيرية في الجنوب الآتي:
«إنَّ زنوج جنوب السودان لا يعتبرون مسلمين، كما ليس لهم دافع لاعتناق الدين الإسلامي، وإنَّ القلة القليلة منهم هي التي اعتنقت الإسلام فهذا الدين يتسامح أخلاقياً، ويؤمن بتعدد الزوجات والصاحبات، ويؤمن سرعة إجراءات الطلاق، كما يوافق عواطف ومزاج الزنجي، مثلما يوافق كل الشعوب والأمم الهمجية وغير المتحضرة»؟! تحت هذه الضغوط تحول جنوب السودان إلى أرض خصبة لعداء العرب وثقافتهم وبعد ذلك طلب الإنكليزي (ونجت) من مسؤول منطقة بحر الغزال عدم تدريس اللغة العربية في المنطقة مدعياً بأنَّها ليست لغة القبائل هذا أولاً، وثانياً لأنَّ اللغة العربية تحتوي على جمل وعبارات عن الرسول، وثالثاً لعدم وجود رغبة في نشر الدين الإسلامي بين القبائل الوثنية من قبل (ونجت)؟! ورابعاً - يجب جعل اللغة الإنكليزية لغة التعليم؟ وخامساً - يجب نشر اللغة الإنكليزية بين كافة القبائل.
هذا هو الخطاب الذي أرسله (ونجت) إلى حاكم منطقة بحر الغزال، ولكن كل هذه التعليمات والأوامر لم تؤدِّ إلى اختفاء أو إخفاق اللغة العربية، حيث بقيت وسيلة التفاهم بين كافة قبائل الجنوب.
وفي عام /1910/ صدر قرار من البعثة الرومانية، ومن جمعية الكنائس بأن تُعطى الوظائف الحكومية لمن درسوا باللغة الإنكليزية، وكانت الحكومة الإنكليزية تشجع وتطلب المخاطبة باللغة الإنكليزية، وتكثر من استخدامها في المصالح الرسمية والوطنية، وحتى يصبح الأمل حقيقة عملت الدوائر الإنكليزية على تنفيذ رغبتها تلك دون أي ضجيج.
وكان اتخاذ قرار محاربة اللغة العربية الذي صاغته البعثات التبشيرية الفرنجية وعملت به الدوائر الإنكليزية، نابعاً من الخوف من انتشار الإسلام في الجنوب السوداني خاصة والقارة الأفريقية عامة وللتأكيد على ذلك تم عقد مؤتمر دولي عام /1910/ في مدينة /ادنبرة/ بإنكلترا يبحث في شؤون البعثات التبشيرية، ولقد اتخذ المؤتمر عدة قرارات كان أهمها التسابق مع الإسلام المنتشر في أفريقيا لتحقيق الفوز عليه ولذلك لابد من إعطاء واجبات ذات أهمية تنصيرية كبرى تنفذ من قبل بعثات التبشير الموجودة في القارة الأفريقية.
العمل التربوي:
بدأ العمل التربوي الفعلي في الجنوب فقد قام آباء /فيرونا/ بإنشاء مدرستين الأولى في /ديتول ولول/ الواقعة في منطقة أعالي النيل عام 1901، والثانية في /واودكايانجو/ بمديرية بحر الغزال عام 1905 ثم في عام /1913/ وبعد ثماني سنوات أنشئت عدة مدارس في المنطقة الاستوائية ثم تبعها إنشاء عدة مدارس أخرى مولتها البعثات التبشيرية الأمريكية التي بدأت أعمالها في أعالي النيل( )، وكانت تعلم تلاميذ هذه المدارس القراءة وتعمل على نقل التعاليم الدينية الفرنجية إلى اللهجات المحلية، وتخرج في هذه المدارس الكثير من التلاميذ الذين /تفرنجوا/ فيما بعد، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فأوقفت تقدم التعليم لأنَّ أغلب المبشرين كانوا إيطاليين وألمانيين ونمساويين، فخاف أن يتحول هؤلاء المبشرون إلى أداة ضد بريطانيا، واتخذت الحكومة إجراءاتها في هذا الخصوص وقالت: من غير المرغوب فيه السماح لبعثات التبشير النمساوية والألمانية بمزاولة واستمرار نشاطها في الجنوب، وبعدها قامت لجنة الحكومة بطرد كل الإرساليات المذكورة من الجنوب، وأغلقت معظم مدارس آباء /فيرونا/، وهيمنت بعد ذلك البعثات التبشيرية الإنكليزية والعاملة تحت لوائها على الساحة السودانية، بينما كان التعليم في شمال السودان مقتصراً على إمداد الحكومة بالكوادر والموظفين، أخذ التعليم في الجنوب منحى آخر، أي اتجه إلى نشر التعاليم الدينية الفرنجية والحدِّ من انتشار الإسلام ويهدف هذا إلى غرس بذور الانفصال والتي بدأت منذ زمن بعيد، أي منذ دخول المبشرين الفرنجة، إلاَّ أنها نبتت وحُصِدت ثمارها بعد الحرب العالمية الأولى، وكان نضوج بذور الانفصال في عام /1924/ ولقد كان الحكام الإنكليز والمبشرون هم من أوجدها، وربَّ قائل بأنَّ هناك عوامل داخلية أيضاً ساهمت في رعايتها، إلاَّ أن هذه الأسباب الداخلية إنْ وجدت فهي من صنع خارجي، فسياسة الفصل ما هي إلاَّ سياسة استعمارية لفصل الجنوب وتمزيقه حسب المصالح الأمريكية الأوروبية الطامعة في ثروات وخيرات السودان.
ولقد نضج وصدر القرار الرسمي للفصل في عام /1920/ وبعد أكثر من /83/ عاماً على صدور هذا القرار، نجد أن كثيراً من محاولات الفصل تجري ليلاً نهاراً وعلى قدم وساق، لم تتغير هذه السياسة بل استمرت وتزايدت وتيرتها.
وبعد /83/ ثلاثة وثمانين عاماً يصرح السيد (بونا ملوال) وزير الإعلام السوداني الأسبق قائلاً: العرب لا يعرفون السودان؟ إنهم يتحدثون عن السودان العربي المسلم، وعن وحدة التراب السوداني، وكأن الجنوب بلا بشر إنهم يخشون مسألة مبدأ تقرير المصير، وخشيتهم أن يفضي الاستفتاء - في حالة الوصول إلى اتفاق سلام - إلى انفصال... وقلنا إنه بوجود الإدارة البريطانية كنا مواطنين من درجة ثانية، ولكن بعد الاستقلال أصبحنا مواطنين من درجة رابعة، فالعربي درجة أولى، والجنسيات الأخرى درجة ثالثة، والجنوبي درجة رابعة، إذاً، لابد للجنوب أن ينفصل؟ ومما أخشاه أن تؤدي اتفاقية السلام إلى تقطيع السودان وفصل الجنوب عن الشمال... هذا أولاً، وثانياً تأتي بقية الأقاليم /الغرب/ و /الشرق/...

آداب عبد الهادي
16/01/2008, 04:55 PM
الباب الرابع
الجنوب من عام 1930 إلى 1945
قام الإنكليز في مناطق الجنوب بتشجيع التجار الشماليين على مغادرته، ومن كان يرفض المغادرة طوعاً، يتعرض لأنواع عديدة من المضايقة مما يضطره في النهاية إلى المغادرة، وما يؤكد ذلك رسالة مسؤول منطقة بحر الغزال إلى السكرتير الإداري، والتي جاء فيها:1 - هناك عدد كبير من التجار الشماليين في المنطقة، وخاصة بمدن (واو) و (اويل) و (راجا) و (كافي كنجي) و (مبيك).
2 - إنَّ رُخَصَ بعض التجار على وشك الانتهاء، بسبب سوء سلوكهم؟!
وإنني أعتقد أنَّ من الضروري اتخاذ إجراءات مشددة أكثر من أن نقوم بتخفيض عدد تجار الشمال فحسب؟.
ولقد سبق وأن تقدمت باقتراحات بشأن التجار المقيمين (براجا)
و(كافي كنجي).
وأما بالنسبة للمدن الأخرى في المنطقة، فإنِّي أقترح بأن أمنح كل تاجر شمالي إنذاراً لمغادرة الجنوب خلال خمس سنوات على الأكثر.
3 - إنَّ معظم التجارة بأيدي الشماليين في هذه المديرية! فليس هناك في (روبيك) مثلاً تجار من الإغريق أو السوريين، وأولئك التجار كقاعدة عامة أكثر نشاطاً وتجارتهم أكثر ازدهاراً من غيرهم، فإذا أبعدوا دفعة واحدة فلن نجد من أبناء الجنوب من يحلّ محلهم؟
وإبعاد مثل هؤلاء سيكون مفيداً من ناحية السياسة حيال الجنوب، وإضافة لكونه لن يكون ضاراً بالتجارة بأي حال من الأحوال.
هذا بعض ما جاء في رسالة مدير بحر الغزال الإنكليزي إلى المسؤول الإداري، فماذا كان رد المسؤول الإنكليزي عليها:«إن إبعاد تجار الشمال يجب أن يكون تدريجياً، بل يتعين أن تبذل عناية خاصة بشأن ذلك في كل حالة على حده، حتى أنَّه إذا ما طلب منا توضيح الأمر، فإنه ينبغي أن نكون في وضع يسمح لنا بالرد الشافي على أي شكاوي أو تحقيقات من الجهات المعنية هنا».
- من هي الجهات المعنية المقصودة في كلام المسؤول الإنكليزي؟
- هي الشركات الوطنية السودانية في كل من الخرطوم وأم درمان، حيث أن معظم التجار الذين يقطنون في الجنوب هم وكلاء عنها.
ثم كتب مسؤول (بحر الغزال) إلى مفتش مركز (راجا) ما هو آتٍ:
1- لا أعتقد أنَّ الظروف التي ذكرها السكرتير الإداري قد تسبب لنا قلقاً، ولكن يجب علينا أن نعمل بحذر.
2- إنني أعتقد أنه من الأفضل أن نقابل كل تاجر على حده، ونسأله عما إذا كان يرغب في الرحيل إلى الشمال.
3- لا يتعين عليك أن تخبر أياً منهم بأنَّ الحكومة ستقوم بدفع تكاليف سفره في حال عدم امتلاكه النقود اللازمة، ولكن إن حدث وأن ذكر أيُّ منهم بأنَّ السبب الوحيد لعدم سفره هو عجزه عن تدبير المال اللازم، فإنه يمكن لك أن تخبره بأنني سأسعى إلى مساعدته.
4- يجب أن نقدم أسباباً معقولة لترحيل أي تاجر حتى تتسنى لنا الإجابة عن أي شكاوى أو أسئلة في هذا الشأن من الجهات المعنية في الخرطوم.
5- إنَّ السبب الوحيد الذي يمكن أن نقدمه هو أن التجار قد رغبوا في العودة إلى الشمال لأنَّ أعمالهم لم تعد رابحة، ولقد رغبوا في ذلك منذ أمد بعيد ولكنهم لم يمتلكوا آنذاك إمكانيات السفر، كما أنَّه من المستحسن الحصول على إقرار مكتوب من التاجر بأنَّه موافق على الرحيل إلى الشمال، ويستطيع تسجيل نوع المساعدة التي يحتاجها في هذا الشأن، وإذا كان هناك بعض التجار لا يرغبون في العودة إلى الشمال، ولكنك تعتقد أنَّه يتوجب عليهم الرحيل فإني أرجوكم أن تذكروا أسباباً كافية لذلك، كحاجته إلى بضائع جديدة، أو لكونه لم يعد يمارس أي نوع من الأعمال التجارية فعلاً، أو لأنَّه سيئ السلوك... بعد كلَّ ما تقدم تم ترحيل التجار الشماليين من الجنوب بكل صفاقة وقسوة، وذلك بعد أن سُحِبت منهم رخص التجارة وبكل لؤم.
وقد تم تقديم عدة اقتراحات لسد الفراغ الناتج عن تسفير التجار التعسفي، ومن هذه المقترحات الآتي:
1 - قيام البعثات التبشيرية بأعمال التجارة.
2 - إقامة تنظيمات تقوم على مبدأ الإدارة المحلية تحت إشراف لجنة من موظفي الحكومة والإرساليات، وتمويل بواسطة الحكومة.
3 - تشجيع التجار الأجانب من البريطانيين واليونانيين والأوروبيين.
4 - تعيين وكلاء محليين.
ولكن كل هذه الاقتراحات لم تنفع، وجاء تاجر يوناني، واقترح الآتي: «إنَّ أفضل وسيلة لتشجيع نشوء طبقة تجار سودانيين جنوبيين هي أن يطلب من السلاطين والرؤساء أن يختاروا أشخاصاً موثوقاً بهم، لكي يمدهم التاجر اليوناني بالبضائع بأسعار أدنى من الأسعار التي يبيع بها عادة التاجر السوداني الشمالي، وأن يحث المفتشون السلاطين وزعماء القبائل لضمان أي خسارة ممكن أن تلحق بالتاجر اليوناني».
بهذا المخطط الإنكليزي تمَّ تفريغ الجنوب من التجار السودانيين العرب ولم يبقَ من أصل /23/ تاجراً سوى /4/ تجار في الجزء الغربي من منطقة /بحر الغزال/، وما إن أطلَّ عام /1933/ حتى كان الجنوب خالياً من التجار الوطنيين، ولم يبقَ في الجنوب غير التجار اليونانيين واليهود، ولقد ترك هذا العمل بصماته السلبية على أبناء الجنوب لسنين طويلة، هذا هو الوجه الأول للسياسة الإنكليزية، أما الوجه الآخر فكان زرع الفتن بين أبناء الجنوب وأبناء الشمال، وخاصة في أماكن الجوار بين القبائل الزنجية والقبائل العربية، ومثالاً على هذا، نجد بعض قبائل الجنوب مثل (الباندا) و(دونجو) و(كريش) و(وتوجيو) و(فيروج) و(نيانجولوجولا) هذه القبائل كانت متأثرة تأثراً كبيراً بالثقافة العربية وحيث كانت على اتصال دائم مع القبائل العربية في كل من /دارفور/ و/كردفان/ هذه القبائل الجنوبية هاجرت إلى مناطق أخرى بعيدة عن القبائل العربية التي كانت تجاورها، أما في بقية مناطق الجنوب فلم يسمح لأي سوداني جنوبي أن يعيش في منطقة تبعد حوالي /20/كم عن منطقته الأصلية.
وهكذا فرضت الإدارة الإنكليزية سياسة التباعد بين أبناء الوطن الواحد، ولقد أدت هذه السياسة إلى إيجاد مناطق محايدة، تشكل حزاماً يفصل بين قبائل الشمال وقبائل الجنوب، إضافة إلى أعمال الشغب والاعتداء حيث حُرقت المساجد، ودمرت الدكاكين، وامتد التدمير والحرق إلى البيوت وإلى قرى كاملة، كما أُجبرت القبائل المسلمة القادمة من غرب أفريقيا والمستوطنة في الجنوب على مغادرته إلى منطقة /دارفور/ حيث وطنوا هناك كما تم منع مواطني /كردفان/ و/دارفور/ من الدخول والتنقل في منطقة /بحر الغزال/ وكذلك منع مواطني /بحر الغزال/ الدخول والتنقل في منطقتي /دارفور/ و/كردفان/، وكل ذلك تم وفقاً للسياسة البريطانية المرسومة لفصل الجنوب عن الشمال.
وفي عام /1942/ اجتمع كل من مدير منطقة /دارفور/، ومدير منطقة /بحر الغزال/ واتفق المجتمعون على إصدار جوازات تكون مكتوبة باللغة الإنكليزية، يتم بموجبها دخول الجنوب.
وكان هدف هذا الإجراء الحدِّ من التواصل بين الشماليين والجنوبيين، الذين هم في الأصل سودانيون.
ثم قدمت الإدارة البريطانية اقتراحاً آخر ينص على الآتي:1
-من الأفضل سجن الرعايا الذين يتواجدون بطرق غير مشروعة في منطقة الآخر، على أن تأمر بترحيلهم بعد قضاء فترة العقوبة.
2- يعتقل كل من وجد في منطقة بحر الغزال إذا لم يملك البطاقة الجديدة التي تم إصدارها من قبل الإدارة الإنكليزية.
وبذلك قيدت وانحسرت حركة المواطن السوداني الشمالي والجنوبي على السواء؟
3- نصح الزعماء والرؤساء ونوابهم بتغيير أسمائهم الأصلية العربية إلى أسماء /مفرنجة/.
4- منع المواطنين الجنوبيين من ارتداء الزي العربي.
5- إصدار أمر إلى التجار والباعة بعدم بيع أي زي لأبناء الشمال؟!
- وفي عام /1935/ كتب مسؤول غرب /بحر الغزال/ الأمر التالي إلى ثلاثة من التجار:
1 - عمانوئيل لارغو لاريس.
2 - وكيل إخوان بابوليدس.
3 - وكيل شيخ عامر الطيب.
ولقد جاء الأمر على الشكل التالي:
- لقد لاحظت أنَّه خلافاً لأوامري المتكررة، فإنَّه ما زالت تعرض في الأسواق كميات كبيرة من الأزياء العربية؟!
إنَّ صنع وبيع هذه الملابس أمر محظور...
يجب أن يتم صنع القمصان القصيرة بياقة مفتوحة من أمام، كما هو الحال بالنسبة للزي الأوروبي... كما يجب عدم بيع /الطواقي/ التي يرتديها العرب، ويجب عدم تفصيل أي ملابس عربية منذ تاريخ هذا الأمر، وإنني أمنحكم مدة سبعة أشهر تمتد من 21/5/1935 إلى 1/1/1936، للتخلص من كل ما هو مجمع في المخازن، وهذا الأمر ينطبق على التجار والوكلاء وأصحاب ماكينات الخياطة أيضاً.
وممنوع اتباع التقاليد العربية مثل الختان، كما يمنع الزواج ما بين الشماليين والجنوبيين، ويمنع ويستبعد المسلمون من قوات البوليس في الجنوب وعليه يتم نقل كافة الموظفين الشماليين العاملين في الجنوب إلى الشمال كما تم إبعاد كافة الضباط المسلمين الشماليين من الفرقة الاستوائية نهائياً، وتم فتح فصول دراسة لتعليم أفراد البوليس الجنوبيين اللغة الإنكليزية وذلك في كافة أنحاء الجنوب، وكل من كان يجيد الإنكليزية بشكل جيد يكافأ مكافأة ثمينة.

آداب عبد الهادي
16/01/2008, 05:07 PM
الحرب ضد اللغة العربية

أرسل مسؤول منطقة /بحر الغزال الإنكليزي/ رسالة إلى الحاكم البريطاني يقول لـه فيها: «سيدي الحاكم إني أرسل لكم مقترحاتي حول الحد من انتشار الثقافة واللغة العربية، وإذا تم تنفيذ هذه المقترحات نكون قضينا تماماً على الثقافة واللغة العربية، وننشر هنا أهم هذه المقترحات:
أ - يجب إبعاد كل الناطقين باللغة العربية من منطقة /واو/.
ب - إغلاق المدارس التي تعطى فيها الدروس باللغة العربية.
جـ - استبدال اللغة العربية بمجموعة من اللهجات المحلية في /واو/ وعدم تشجيع التخاطب باللغة العربية.
د - جلب التلاميذ لمدرسة الإرسالية من منطقة /واو/ فقط».
تقسيم الجنوب:في عام /1937/
تقرر دمج مديرية الاستوائية وبحر الغزال في مديرية واحدة، وسمّيت بالمنطقة الاستوائية، علماً أنَّ الاستوائية كانت منطقة واحدة تضم المناطق الثلاث ولقد هدف التقسيم إلى تنفيذ السياسة الخاصة بالجنوب وهي العمل على وضع المنطقة بأسرها ضمن دائرة النفوذ البريطاني استعداداً لفصل الجنوب عن الشمال بشكل نهائي وكامل، وما دمج منطقتي /الاستوائية/ و/بحر الغزال/ إلاَّ بمثابة الخطوة الأولى لجعل منطقة أعالي النيل مركزاً للحكومة المقبلة عند قيام دولة الجنوب.
ولكن هذا التقسيم التعسفي لم ينجح، ولم يستجب لـه المواطن السوداني، ولكن سرعان ما تم وضع (الاستوائية) و(بحر الغزال) تحت إشراف ورعاية مسؤول بريطاني واحد، يقيم في مدينة (جوبا).
وفي عام /1945/ أعيد تقسيم (الاستوائية) وفقاً لما كانت عليه، ألاَّ وهي منطقة (الاستوائية) و(بحر الغزال).
وفي عام /1945/ أرسل المندوب البريطاني في القاهرة رسالة إلى الحاكم العام الإنكليزي يقول فيها الآتي:
1 - إنَّ السياسة المتفق عليها هي العمل على أساس أن سكان جنوب السودان أفارقة زنوج، ويختلفون عن سكان الشمال، وإنَّ واجبنا الظاهر هو الإسراع بقدر الإمكان في تنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية والثقافية صوب اتجاه افريقي زنجي، وليس وفق الاتجاه العربي السائد في منطقة الشرق الأوسط والذي يتفق مع مصالح شمال السودان.
2 - ذلك أنَّه من خلال ذلك الطريق وحده، يمكن إعداد الجنوبيين لمستقبل أفضل، سواء أكان مصيرهم الانضمام إلى شمال السودان أو شرق أفريقيا.
3 - وفي حالة الانضمام للشمال، سيكون لزاماً على الجنوبيين باعتبارهم أقلية تقدمية التصدي لأي توغل من جانب عرب الشمال.
4 - وفي حالة الانضمام لأي من بلدان أفريقيا فإنَّه يتعين عليهم بذل جهود كبيرة للحاق بالأقطار المتقدمة في شرق أفريقيا.
كانت قد أخفيت هذه الاقتراحات البريطانية عن مصر، وعن الرأي العام السوداني خوفاً من إحراج حكومة السودان في مواجهة الحكومة المصرية.
وهذه التوجيهات هي في الحقيقة أوامر مشددة لتنفيذ السياسة البريطانية الرامية إلى فصل الجنوب عن الشمال.
ازدادت الحملات الغربية التي تتحدث عن غزو ثقافي عربي للجنوب المسيحي، وهذا هو الافتراء بحدِّ ذاته، فالجنوب لم يكن يضم أكثر من خمسة عشر بالمئة من بين سكانه من تعداد مسيحيي السودان بينما يبلغ تعداد المسلمين في الجنوب 37% من سكانه؟ معظمهم سودانيون وطنيون.
وقبل المتابعة لا بد من وقفة قصيرة عند الحركات الوطنية السودانية.



الدول المتصهينة
عندما عمدت الدول الغربية المتصهينة كبريطانيا وبعدها أمريكا إلى إخضاع الكثير من الأمم والشعوب لإرادتها ومصالحها نبتت ثمرة الكفاح لتعيد الحياة إلى نفوس وأراضي هذه الأمم والشعوب من خلال الحركات الوطنية، وقد شمل نشاط وكفاح الحركات الوطنية، السودان العربي المسلم، وهنا أخصّ وأوجز تاريخ الحركات الوطنية الاستقلالية لهذا البلد العربي عبر التاريخ الحديث...
1 - المهدية: إن الحركة المهدية كانت تكافح وتقاتل الاستعمار البريطاني من أجل التحرير وتوحيد الأمة الإسلامية لأنها تعتبر تحرير السودان هو الخطوة الحقيقية لتوحيد الأمة الإسلامية والتي تعتبر السودان جزءاً منها.
2 - كانت الانتفاضات الوطنية في السودان عديدة وقادها كل من (عبد القادر ود حبوبة) و(السحيني) و(الفكي سنيني) و(الفكي علي الميرادي) والسيد (محمد حامد)، وهؤلاء قاتلوا الاستعمار البريطاني كما أنهم خلقوا تياراً قوياً لمقاتلة وتحدي الاستعمار البريطاني.
3 - حركة الخريجين الأنصار: عندما دخل البريطانيون السودان شنوا على إسلام /الأنصار/ حرباً دموية بشعة، فقد كان الحكم الاستعماري البريطاني بالمرصاد ضد أي تحرك وطني وخاصة في أواسط الخريجين، وتقول الوثائق البريطانية أن السياسة البريطانية نحو الأنصار مرت بأربع مراحل وهي:
1 - المرحلة الأولى: بدأت هذه المرحلة منذ احتلال السودان عام 1899م واستمرت ضد الاحتلال حتى قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م وتميزت هذه المرحلة بالعنف والقمع وكذلك التصفية الجسدية، إن هذه المرحلة كانت سياسة الحكم الثنائي تجاه /الأنصار/.
2 - المرحلة الثانية: تبدأ هذه المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية فقد وضعت الحكومة سياسة محددة نحو السيد (عبد الرحمن المهدي) وفحواها شغله بالعمل الاقتصادي لتقليل نشاطه السياسي الوطني.
المرحلة الثالثة: تبدأ المرحلة الثالثة في عام 1935 فقد أدرك الحاكم العام الجديد (سير ستيورات) أن سياسة إنهاء الإمام (عبد الرحمن) بالكسب المادي سياسة فاشلة لأن السيد (عبد الرحمن) استخدم المال الذي حصل عليه في توسيع صلاته بالأنصار في كل أنحاء السودان ووظفه للمسألة السودانية.
المرحلة الرابعة: وتقع هذه المرحلة في فترة ما بعد عام 1951 أو
أثنائها وقد أدركت السياسة البريطانية إخفاق كل وسائلها في احتواء السيد (عبد الرحمن المهدي) والأنصار ومن ثم قررت الدخول ضده في صراع سياسي مكشوف بتكوين حزب سياسي مضاد لـه اسمه الحزب الجمهوري الاشتراكي وهو حزب كونته الإدارة البريطانية في السودان بإشراف مساعد السكرتير العام الإداري المستر (هكسوبرت) ثم قدم الخريجون مذكرة إلى حكومة السودان التي لم تعرها أي اهتمام.

آداب عبد الهادي
20/01/2008, 04:58 PM
الباب الخامس
السودان بعد عام 1946

الفصل الأول
تشكيل المجلس الاستشاري لجنوب السودان
وبدء عمليات المتمردين

(1946):
في هذا العام كونت الحكومة السودانية المجلس الاستشاري لشمال السودان وقد قبله الاستقلاليون بينما رفضه الاتحاديون، لأن تصورهم لمستقبل السودان هو الاتحاد مع مصر، ومن داخل المجلس تم العمل لإيجاد جمعية تشريعية، وفي عام 1948 وبعد قيام الجمعية التشريعية وقعت بين الاستقلاليين وبقيادة حزب الأمة صراعات عديدة منها زيادة وزن الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية والعمل على جلاء البريطانيين عن مصر والسودان وتحقيق وحدة وادي النيل، إلا أن المفاوضات مع البريطانيين أخفقت ومن نتائج هذه المفاوضات إلحاق السودان بالتاج المصري.
(1952):
في هذا العام قامت ثورة 23 تموز /يوليو/ وتم تشكيل مجلس قيادة الثورة الذي رئسه اللواء (محمد نجيب) كما رئس الوزارة (علي ماهر) وكان (ماهر) صديقاً شخصياً للإمام (عبد الرحمن) كذلك كان اللواء (نجيب) صديقاً لعدد من القادة السودانيين وعلى معرفة بحقائق السياسة السودانية، بل كان يعتبر نفسه نصف سوداني لأن ولادته وتعليمه كانا في السودان وفي هذا العام سافر الإمام (عبد الرحمن) إلى بريطانيا لمطالبة حكومتها بالموافقة على دستور الحكم الذاتي وبعد المحادثات مع الحكومة البريطانية رهنت موافقتها بموافقة الحكومة المصرية عليها، وفي شهر تشرين الأول أكتوبر من نفس العام زار الإمام (عبد الرحمن) مصر وقوبل بترحيب حار ومن ثم أجرى محادثات مع قادة الثورة المصرية وقد تمخضت هذه المحادثات عن عدة نقاط نذكر بعضاً منها:
1 - عقد اتفاق عرف باسم اتفاقية المهدي - نجيب ومضمونها تعديل دستور الحكم الذاتي لصالح السودان وفق الآتي:
أ - إتمام السودنة.
ب - جلاء القوات البريطانية، وبعد قيام هذا الوضع وفي ظل دستور الحكم الذاتي المعدل يقرر السودانيون بحرية تامة مصيرهم /الاستقلال/ أو /الاتحاد مع مصر/.
2 - عقد اتفاقية بين الحكومة المصرية وحزب الأمة السوداني ومضمونها التزام مصر بالحياد التام في السياسة المصرية قبل وأثناء حق تقرير المصير.
هذا الاتفاق قد أخرج مصر من موقفها الضعيف تجاه المفاوضات مع البريطانيين الذي استؤنف دون شروط مسبقة.
(1953):
في هذا العام أجريت أول انتخابات عامة في السودان وفي ظل دستور الحكم الذاتي بهذه الانتخابات فاز الحزب الاتحادي بـ /54/ مقعداً وكان صاحب الأغلبية وفاز أيضاً حزب الأمة بـ /21/ مقعداً كذلك فاز الجنوبيون بعدد مماثل.
(1955):
أطل هذا العام وقد أصبحت الحركة الاستقلالية هي التيار القوي في الشارع السوداني.
(1956) عام الحرية والاستقلال:
في شهر كانون الثاني /يناير/ من هذا العام قام الرئيس (إسماعيل الأزهري) والسيد (محمد أحمد محجوب) زعيم المعارضة برفع العلم السوداني ليصبح السودان بلداً حراً مستقلاً، إلا أن هناك سؤالاً لابد من الإجابة عنه وتوضيحه:
هل السودان شعباً، وأرضاً، سيبقى موحداً؟
أم أن مقولة الزعيم المصري (النحاس باشا) التي قال فيها:
«تقطع يدي ولا يقطع السودان»
أصبحت تاريخاً منسياً كما حدث حينها وكما سيأتي به المستقبل عند تطبيق اتفاقية مشاكوس ؟؟!!
بدء عمليات المتمردين:
بعد المجازر التي قام بها الجنود الجنوبيون، غادروا ثكناتهم إلى الغابات والمستنقعات وكان ذلك في شهر آب - أغسطس - عام 1952، وهنا أصيبت الدولة السودانية إصابة بالغة في الصميم، واستشرى الضعف فيها وانتقل أثره إلى الدول العربية الإسلامية.
بعد ذلك تعاقبت تنظيمات جنوبية متفرنجة رافضة للحكم السوداني الوطني وظهرت شخصيات تقود هذه التنظيمات وهي ما سمي بـ:
1 - المتمردين.
2 - الحركة السياسية الإفريقية.
3 - العمل الجنوبي.
4 - الخوارج.
5 - الأنانيا.
6 - الحركة الشعبية.
ولقد صرَّح هؤلاء وعملوا عبر السلاح لأنَّ مبتغاهم هو تحرير السودان بأكمله من الشماليين، وعليهم ردّه إلى الجزيرة العربية، ولقد عملت قبيلة (الدينكا) أكثر من غيرها من أجل تحقيق ذلك سياسياً وعسكرياً.
وقد جرى التعامل مع الوضع في الجنوب من قبل كافة حكومات السودان التي تعاقبت عليه باعتباره جزءاً من السودان الواحد، رغم قول بعض الذين تبنوا تصريح أحد وزراء الخارجية السودانية السابقين حيث قال: «فضوها سيرة، وليذهب الجنوب حيث يشاء»؟!.
كذلك لم تقف دول الجوار موقفاً واحداً، بل كانت أكثر دول الجوار تتآمر على وحدة السودان كأثيوبيا مثلاً التي طلبت من السودان مقايضتها وفق قاعدة أرتيريا مقابل جنوب السودان؟
كذلك يوغندة وكينيا اللتان وفرتا ملاذاً آمنا للمتمردين الجنوبيين فضلاً عن دعم الغرب والصهيونية لهم.
وبإيعاز من القوة الاستعمارية البريطانية ومسؤولي الإرساليات قامت قوة من الجنود الجنوبيين في منطقة /توريت/ الاستراتيجية بتقتيل العرب السودانيين الوطنيين، وجاء تبريرهم لهذا العمل الشنيع أنهم يُعاملون في الشمال عندما ينقلون إليه معاملة الرقيق؟!

آداب عبد الهادي
20/01/2008, 05:09 PM
الفصل الثاني
«التمرد الأول» 1955 – 1972

انشغلت حكومات السودان الوطنية المتعاقبة بمشكلة الجنوب، فلقد استنفذت هذه المشكلة الخطيرة القدر الأكبر من طاقات السودان: السياسية - المادية - العسكرية كما كانت أحد أهم الأسباب التي أطاحت بالحكومات الديمقراطية والعسكرية ولقد أنشئت عدة تنظيمات سياسية جنوبية في الخارج والداخل، وكان أهم هذه المنظمات «الاتحاد السوداني الأفريقي للمناطق المغلقة»، وقد اتخذ هذا التنظيم مدينة «ليوبولدفيل» الكنغولية مقراً لـه، ولكن ما لبث أن غيَّر اسمه ليصبح «الاتحاد السوداني الأفريقي القومي» واختصاراً «سانو» ونقل مقره إلى مدينة «كمبالا»( ) اليوغندية، وكان من أبرز قادة الاتحاد السوداني (جوزيف أودهو)( ) الذي أصبح رئيساً للتنظيم و(وليم دنيق)( ) الذي أصبح سكرتيراً عاماً للتنظيم، و(باركورومي)( ) نائباً لرئيس التنظيم، و(ساترنيتو لاهور)( ) و(فرد اديناق) و (بانكر اسيواوشنق)( ) الذي عين أميناً للصندوق المالي، و(جيمس وول اشيان)( ) و(فالوياو) الذي عين معاوناً لأمين صندوق التنظيم، و(اقري جادين) الذي عين مساعداً لسكرتير التنظيم و(باسيار تريه)( ) و(كرت اثيم) و(الكسيس مايالي يانجو) و(فيليب يداك) و(ناثينال أويت)( ).
الأنانيا:استطاع الاتحاد السوداني الأفريقي في الداخل والخارج أن يستقطب عدداً لا بأس به من الجنوبيين «طلاباً وموظفين...»، كذلك اتصل ببقايا المقاتلين المتمردين المختبئين في الأدغال منذ تمرد عام /1955/ وبهؤلاء تم تكوين قوة عسكرية مقاتلة أطلقوا عليها اسم «الأنانيا»( ) التي أصبحت الجناح العسكري للاتحاد السوداني الأفريقي «سانو» منذ عام 1962.
في عام 1964 تمكن القس والنائب السابق والعضو في «سانو» من الحصول على أسلحة وذخائر وبكميات كبيرة من «إسرائيل» وهذا بهدف تسليح «الأنانيا»، وبالتالي مهاجمة الجيش السوداني الوطني في مديرية بحر الغزال، ففي كانون الثاني - يناير - 1964 قامت «الأنانيا» بمحاولة الاستيلاء على مدينة «واو» عاصمة مديرية «بحر الغزال»، ورأس مجموعة المتمردين هذه أحد أبناء سلاطين قبيلة (الدينكا) ويدعى (برنابا ديني ماو)( )، ولقد فشل المتمردون في محاولتهم هذه وقتل عدد كبير منهم الأمر الذي توقف عنده التنظيم كثيراً، ولقد تفاعلت الأحداث وانعكست على «سانو» حيث أخذت الخلافات تطفو على السطح، وانفصل عنه أحد قادته المهمين وهو (وليم دنيق)، وخرج معه جناح كبير، وعاد (دنيق) إلى السودان وبشكل سري، حيث عمل كمنافس لما يسمى بجبهة الجنوب، وقد أعلن في 27/2/1965 استعداده الدخول في مفاوضات مع الحكومة السودانية.
في الوقت نفسه ظهرت تنظيمات جديدة وعديدة منها:
1 - حزب الوحدة بقيادة (سانتينو دنيق).
2 - الجبهة الجنوبية الحرة وقادها (بون ديو).
3 - الاتحاد السوداني الأفريقي الذي قاده أحد أقطاب الحزب الشيوعي السوداني (جوزيف كرنغ)( ).
ازدادت الخلافات في داخل «سانو» وأنصاره في الخارج والداخل، ولم تكن هذه الخلافات عقائدية أو سياسية، بل قبلية وشخصية.
وكذلك انشقت عناصر عديدة من منظمات مختلفة متنافسة ومتصارعة فيما بينها ومثال على ذلك الحكومة التي شكلها (كرنغ) وحملت اسم «حكومة فاشوده الوطنية المؤقتة» كذلك «جبهة التحرير الأفريقية» ومنظمة « المحاربون السودانيون من أجل الحرية»، إلاَّ أنَّه ومع مجيء عام 1965 - وتحديداً في شهر حزيران - 1965، وقع انشقاق وسط قادة تنظيم الاتحاد السوداني الأفريقي، ومن جراء هذا الانشقاق خرج عدد من القياديين الجنوبيين المهمين وكونوا «جبهة تحرير/ أذانيا» بقيادة (جوزيف أودهو) الذي كان أول رئيس لـ «سانو» كما انشق معه قيادي آخر هو (أقري جادين) الذي كوَّن تنظيماً خاصاً به، وقد أطلق عليه اسم «جبهة التحرير السودانية الأفريقية» إلاَّ أنَّه لم تمض أشهر إلاَّ وعاد وانضم إلى «جبهة تحرير أذانيا» وأصبح نائباً لرئيسها.
أطل عام 1967، وأطلت معه الانقسامات في صفوف القادة المتمردين فقد انشق الاتحاد السوداني الأفريقي الذي يعمل داخل السودان - إلى قسمين، حيث خرج القائد (الفريد وول) عن قيادة الزعيم (وليم دنيق) وقد تتالت الانشقاقات بين صفوف المتمردين في الداخل، إلاَّ أنَّها سجلت نسبة أكبر في الخارج ولاسيما في يوغندة.
وفي ضوء هذه الانشقاقات دعا بعض المثقفين الجنوبيين إلى ضرورة وحدة الكلمة والصف ضد عدوهم الشمالي، ولقد لاقت هذه الدعوة قبولاً قوياً وسط العناصر السياسية الفاعلة التي تقف وراءها القوى الغربية، وفي شهر آب - أغسطس - عام 1967 انعقد مؤتمر كبير في منطقة «انجودين» في جنوب السودان، ولقد شاركت في هذا المؤتمر عدة فصائل جنوبية متمردة، كما شارك فيه قادة «الأنانيا» وعدد من السياسيين المحترفين.
ولقد ساد المؤتمر جو من الوفاق والوئام، وعلا صوت الدعوة لجمع الشمل وخاصة بعد فشل القس المتمرد (ساترنينولاهور) الذي قتلته القوات اليوغندية، وغياب (جوزيف أودهو) الذي زادت أموره السياسية تدهوراً فوقع في عزلة لا يحسد عليها، مع العلم بأنَّ المذكور لا يحظى بالتأييد إلاَّ في منطقة شرق الاستوائية.
ولقد صدرت عن مؤتمر «انجوديت» عدة قرارات أهمها الإعلان عن قيام حكومة مؤقتة في جنوب السودان، وقد رأسها المتمرد الانفصالي (أقري جادين)، كما ضمت هذه الحكومة معظم القوى القبلية والسياسية المتمردة في جنوب السودان، كذلك تم اختيار (اميدوتافنج) قائداً عاماً لقوات الأنانيا.
بدأت حكومة التمرد عملها، وقبل أن تقوم بأي عمل فعّال دبَّت الانشقاقات السياسية والقبلية فيها، وفقدت نفوذها في كافة أنحاء الجنوب إلاَّ في محافظة الاستوائية، والتي يسيطر على شرقها المتمرد (جوزيف أودهو)، ولقد ابتعدت عنها القوى السياسية والقبلية في مديريتي «بحر الغزال» و«أعالي النيل» إلاَّ أنَّ أحد أهم الأسباب التي عجَّل بنهايتها هو رفض قبيلة (الزاندي)( ) لها، والسبب يعود إلى اختيار (اميدوتافنج) قائداً عاماً لقوات الأنانيا، وانسحاب ممثل القبيلة من الحكومة في شهر أيلول - سبتمبر - عام 1968، بعد ذلك أعلن رئيس الحكومة (أقري جادين) بأنَّ نائبه (كاميلودول) يكيد المؤامرات ضده، وأنَّه قد تحالف مع أعداء الجنوب لإسقاطه.
فجأة غادر «رئيس حكومة المتمردين» (أقري جادين) الجنوب واتجه إلى «نيروبي» عاصمة «كينيا» ليعيش لاجئاً هناك، وقد ترك وراءه الحكومة المؤقتة التي استمرت بعض إداراتها تعمل لغاية عام 1969.
وجاء عام 1968، وجلب معه النكسات للجنوبيين فقد تم اغتيال الزعيم (وليم دنيق) في الجنوب أثناء قيامه بزيارات سياسية في شهر - أيار - مايو - عام 1968، وباغتيال (دنيق) تكون قد فقدت قبيلة (الدينكا) زعيماً مهماً لها، وكان الجنوب قد فقد زعيماً من زعمائه الذي عمل على انفصال الجنوب عن الشمال وهو المتمرد الأب (ساترنينولاهور)( ) الذي دُعِم مالياً وعسكرياً من قبل الغرب واسرائيل، وكان هذا في سبيل تسليح تنظيم الأنانيا، وبعد انهيار الحكومة المؤقتة الجنوبية، تم تكوين حكومة جديدة أطلق عليها اسم «حكومة النيل المؤقتة» وقد رأسها (تمورون مورتادماين)( ) لم تستطع النيل الصمود والمتابعة أمام الصراعات القبلية والعنصرية، وقد أُخِذَ على رئيسها (غوردون مورتا) أنّه جاء بأغلبية وزرائه من قبيلة (الدينكا) هذا الأمر أغضب زعماء وقادة القبائل الأخرى وخاصة القبائل الاستوائية التي تعتبر أنَّ الفضل في إشعال /الثورة/ أي التمرد عام 1955، ورعايته إنما يعود إليها، ولذلك اعتبرت أنَّ رئيس الوزراء قد انحرف عن طريق الثورة والتمرد، بعد ذلك عمل القادة والزعماء المتمردون وعلى رأسهم القس (ساترنينولاهر) على إعادة تنظيم الجناح العسكري في «الأنانيا» الذي جلبَ لـه المال والسلاح من اسرائيل والدول الغربية.
ازدادت الصراعات بين قادة وزعماء حكومة «النيل المؤقتة» ممَّا أدى إلى ظهور عدة تنظيمات شكَّلت خطراً مباشراً عليها، وأهم هذه التنظيمات:
1 - منظمة نهر سو الجمهورية.
2 - منظمة أزانيا السودانية.
وقد ترأس منظمة /أزانيا/ المتمرد الانفصالي (أزيوني منديري)( ) ولقد كان وزيراً للمواصلات في حكومة (سر الختم الخليفة)، كذلك أعلن الجنرال (اميدو نفتح) معارضته لحكومة /النيل/، وأطلق أيضاً «مجلس الثورة» ثم قاد الحكومة ومجلس الثورة، علماً أنَّ المجلس ضمَّ كبار العسكريين من «الأنانيا» ثم أصدر بياناً قوياً أدان فيه السياسيين الجنوبيين الذين اتهمهم فيه بأنهم أضاعوا سبع سنوات من كفاح الأفريقيين الجنوبيين ضد العرب.
نجم جديد؟
في خضم الصراع القبلي السياسي على القيادة خرج متمرد جديد من رحم الانفصال وضباب الجنوب، إنَّه الضابط السوداني السابق والمتمرد في قوات الأنانيا لاحقاً إنَّه (جوزيف لاغو)( ) الذي استطاع أن يقوي مركزه وسط حركة التمرد «الأنانيا» في شرق الاستوائية في الفترة الممتدة من شباط - فبراير - إلى تشرين الثاني - نوفمبر 1969، واستطاع أن يشكل خطورة كبيرة وتحدياً أكبر للقائد الجنوبي المتمرد (اميديوتارنخ) ولقد كسب (لاغو) ولاء قوة التمرد «الأنانيا» في غرب الاستوائية، وعندما استتب الأمر قام بما يشبه الانقلاب وبعد نجاحه أطلق على قواته اسم «الأنانيا الوطنية»؟
إنَّ القوى الغربية والكنسية وإسرائيل والتي عملت وتعمل على فصل الجنوب عن شقيقه الشمال، وجدت ضالتها وشخصها القوي في (جوزيف لاغو) فهو الرجل الذي يستطيع فصل الجنوب، وإقامة دولة متفرنجة موالية للغرب واسرائيل، وبدأت تنهال المساعدات العسكرية والمالية من هذه الدول، كما بدأت أعداد كبيرة من المرتزقة الأوروبيين والذين كانوا يعملون في «الكونغو» و«بيافرا»( ) بالعمل معه، وتدريب قواته ومنهم المرتزق الألماني (رودلف شتاينر) الذي اعتقلته قوات الجيش السوداني وحوكم في الخرطوم، وحكم عليه بالسجن ثم أطلق سراحه فيما بعد، بعد تدخلات كثيرة؟..

آداب عبد الهادي
20/01/2008, 05:15 PM
الباب السادس
اليد الصهيونية
الفصل الأول
الانتقاء الصهيوني

انتقت اسرائيل «26» جنوبياً متمرداً من قوات (لاغو)، واستقدمتهم إلى «إسرائيل» ودربتهم تدريباً عالياً، كذلك أرسلت اسرائيل بعثة عسكرية من المستشارين إلى الجنوب( ) لدعم حركة التمرد، ولكي يثبت (لاغو) قوته ووجوده كقائد جديد لحركة التمرد بدأ في شن هجمات عسكرية مكثفة ضد الجيش السوداني، وقد وصلت هذه الهجمات إلى ذروتها في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - عام 1969، وكان نتيجة هذا التصعيد ما يلي:
إقناع كافة قوات المتمردين ولا سيما التي لم تقبل (لاغو) كقائدٍ لها بأنَّه يستطيع أن يقود قوات التمرد، وأن يخلق منها قوة عسكرية قوية تستطيع أن تصمد وترد وتواجه العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش السوداني، هذا من جانب، أما من جانب آخر، فهو الضغط على حكومة الرئيس جعفر النميري التي تبذل مجهودات عالية من أجل تسوية مشكلة الجنوب حسب رؤيتها.
في عام 1970 - 1971 ازدادت العمليات العسكرية بين الجيش السوداني وحركة التمرد، ولقد قامت قوات التمرد بقيادة (جوزيف لاغو) في نهاية عام 1969 وبداية عام 1970 بشن عمليات عسكرية قوية ضد الجيش السوداني الوطني، ورداً على عمليات «الأنانيا» قام الجيش السوداني بالرد وبقوة على قوات المتمردين المتواجدة ضمن الحدود السودانية( ) والدول المجاورة وفي بداية عام 1971 قامت القوات العسكرية السودانية بشن هجوم عنيف ومنظم شارك فيه سلاح الطيران السوداني، ولقد كان هذا الهجوم مركزاً ومخططاً لـه وبدقة متناهية.
ولقد خسر المتمردون كثيراً من المناطق والمعسكرات التي كانوا يهيمنون عليها وكان أول معسكر قد سقط للمتمردين يدعى (مورونو) وكان تحت قيادة الزعيم القس المتمرد (اميدو تفنج) وضم هذا المعسكر الحصين عدداً من الجنود المرتزقة وعلى رأسهم المرتزق الكبير (رودلف شتابتر)، وكذلك المرتزق الإنجليزي المدعو (إلكسندر بولنجهام).
رغم الهزائم الكبيرة والعديدة المتلاحقة لقوات التمرد فقد استمرت في هجماتها ضد الجيش السوداني والضحايا الذين قتلوا بيد المتمردين كانوا من الجنوبيين المدنيين؟!
وصمدت «الأنانيا» رغم الهزائم الكبيرة التي تعرضت لها، ولقد أثار هذا الصمود إعجاب الكثير من المتمردين، ولا سيما الحركات التي لم تعترف ولم تقبل بـ (جوزيف لاغو)، وهكذا دفعهم هذا الصمود والقتال إلى القبول بـ (جوزيف لاغو) زعيماً ولقد أعلنت هذه الحركات في بيان لها ولاءها وقبولها العمل تحت جناحه، وبذلك أصبح المتمرد (جوزيف لاغو) أهم القادة الجنوبيين.

آداب عبد الهادي
20/01/2008, 05:22 PM
الفصل الثاني
الملازم الهارب يرقي نفسه!

في شهر تموز - يوليو - عام 1970، أصبح القائد المتمرد (جوزيف لاغو) القائد العام لحركة الأنانيا، وذلك بعد أن حلت حكومة أعالي النيل، كذلك بدأ نفوذ السياسيين الجنوبيين يتقلص بشكل سريع، وبدأ هؤلاء السياسيون يطلبون ود المذكور، والتقرب إليه، والعمل تحت قيادته، وهكذا تضاعفت قوة العسكريين المتمردين، وأصبحت كلمتهم هي العليا في أوساط السياسيين الجنوبيين، وذلك بعد الانطواء تحت جناح (لاغو) ثم أعلن بعد ذلك قيام «جبهة تحرير السودان» تحت راية الملازم الأول الهارب من الجيش السوداني الوطني، وانضمامه إلى قوات التمرد الجنوبية، ولقد رقى الملازم الهارب نفسه إلى رتبة لواء، ولقد نشطت العمليات العسكرية من جديد ما بين [ كَرٍّ وفَرّ ] والجيش السوداني الوطني الضامن لوحدة السودان وبين قوات التمرد الإنفصالية، ولقد حقق الجيش السوداني الانتصار تلو الانتصار على قوات جبهة تحرير السودان، إلاَّ أنَّ هذه القوات كانت تجد من يرفدها بمقاتلين ومستشارين وفرنجة، هذا الأمر مكَّنها من الوقوف مرات عديدة وتصديها للقوات العسكرية السودانية أحياناً، هذا على صعيد العمل العسكري، أما على الصعيد السياسي فقد كان هناك سباق بين الحكومة السودانية من جهة، وجبهة تحرير السودان المدعمة غربياً وإسرائيلياً من جهة أخرى، فالاثنتان تعملان على إطلاع الرأي العام العالمي والإقليمي، بالإضافة إلى الرأي العام السوداني ومحاولة كسب المعركة.
ولقد دعت الحكومة السودانية العديد من الوفود والهيئات الأجنبية لزيارة السودان والتحقق من جدية خطواتها الوطنية السلمية لحل مشكلة الجنوب، وبالفعل قدمت إلى السودان عدة وفود، من بينها وفد «مجلس الكنائس العالمي» و«مجلس كنائس عموم أفريقيا»، ومندوبون عن «مجلس العموم البريطاني»، وكذلك مندوبون عن «اتحاد العمال في بريطانيا»، و«حركة تحرير المستعمرات»، ولقد عبَّر هؤلاء المندوبون عما رؤوه وهو أنَّ الحكومة السودانية تعمل بجد وإخلاص للوصول إلى تسوية سلمية لمشكلة الجنوب.
وفي مقابل جدية الحكومة السودانية للتوصل إلى حل سلمي لمشكلة الجنوب كان رد فعل جبهة تحرير جنوب السودان وباقي المنظمات الجنوبية وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي أن صعدت حربها العسكرية والإعلامية ضد الجيش السوداني، أما من الجهة الإعلامية فلقد قدمت هذه التنظيمات المتمردة مذكرة تم توزيعها على الصحافة، تعدِّد فيها توجَّهات الحكومة السودانية وضلوعها في مشاريع عربية وهذا في زعمها يمثل تهديداً لهوية أبناء السودان، ولقد أوردت في هذه المذكرة اتهاماً للدول العربية والاتحاد السوفييتي بتقديم المساعدات العسكرية والمالية للحكومة السودانية من أجل استمرارها في قهر أبناء الجنوب، ولقد طالبت المذكرة الأمين العام للأمم المتحدة التدخل لإنقاذ شعب جنوب السودان من الضياع ومحاولة طمس ثقافته وقيمه من قبل العرب... ولقد وقع هذه المذكرة كل من (د. لورنس وول) كممثل عن السياسيين، والعقيد (فردريك براين ماقوت) من الأنانيا.
وهكذا لم تثمر دعوة الحكومة السودانية لهذه المنظمات لأنَّ معظمهم كان ممن زرعوا في عقول الجنوبيين فكرة الانفصال.
وفي نهاية عام 1971 ظهرت الصورة واضحة، فقد تمكن كل من الحكومة السودانية وحركة التمرد «الأنانيا» من تثبيت أقدامهم ولكن كلّ في مكانه، فالرئيس (جعفر النميري) ذبح رفاق الأمس الذين جاؤوا به إلى السلطة وانتهى منهم، كذلك تغلب (جوزيف لاغو) قائد حركة التمرد على كل زملائه الطامحين والمنافسين لـه في الجنوب من سياسيين وعسكريين، ونتيجة لذلك خاضَ الجيش السوداني معارك شرسة ضد قوات التمرد التي كانت تشن هجماتها الواحدة تلو الأخرى، ولقد اكتسح الجيش السوداني أكبر المناطق والمعسكرات الواقعة في أيدي قوات «الأنانيا» وأخذ يطارد فلولهم، ولقد نُصِح قائد قوات التمرد (جوزيف لاغو) من قبل الدوائر الغربية أنَّه لا جدوى من القتال ضد قوات الجيش السوداني الوطنية، ولذلك فإنَّ عليه أن يلجأ إلى حل آخر؟
وهكذا لجأت قيادة التمرد «الأنانيا واحد» وقائدها الملازم (لاغو) الذي كان قد رفعَ نفسه إلى رتبة لواء، إلى التفكير جدياً بحل آخر...
فقد صرَّح قائد الأنانيا (لاغو) قائلاً:
«لقد تأكدت أنَّ الحكومات المتعاقبة في الخرطوم لم تكن راغبة، ولا قادرة للتوصل إلى اتفاق، فعندما وافقت ثورة /مايو - أيار/ على مطلب المشاركة لم يكن هناك مبرر لكي نستمر في إزهاق الأرواح وإهدار الدماء، فما ينقصنا هو توفر الثقة، وقد توفرت في شخص (النميري).
وفي تصريح آخر يقول (لاغو): «لقد بذل (جعفر النميري) جهداً ليعرف الحقيقة، فلما عرفها كانت لديه الشجاعة ليقبلها ويعلنها، ومن ثم امتلك القدرة على حل كل مشاكلها».

آداب عبد الهادي
22/01/2008, 02:55 PM
الفصل الثالث
البحث عن السلام
بدأت الاتصالات السرية بين حكومة (النميري) وقيادة حركة تحرير جنوب السودان، وكانت قد سبقتها اتصالات بغاية السِّرية من قبل أجهزة الأمن الغربية، يعاونهم ويباركهم في ذلك القسيسون الفرنجة، وكانت بداية الاتصالات التمهيدية قد تمت في لندن برعاية أمنية غربية وإسرائيلية، وقد مثل الطرف الحكومي السوداني سفير السودان في لندن (فيليب أوباتق) وهو جنوبي، ومثَّل حركة التمرد الدكتور (لورنس وول)، وقد اتفق هؤلاء على تحقيق السلام في الجنوب من خلال المحادثات بينهم وبرعاية أصدقاء كِلا الطرفين، وبعد فترة عقدت عدة لقاءات بينهما في «أثيوبيا» و«زائير»، وقد مثل الحكومة السودانية (أبل ألير) واللواء (الباقر محمد أحمد)، ومن قادة المتمردين الدكتور (لورنس وول) وغيره.
تتويج الاتصالات السرية:
تحت جنح الظلام وبسرية تامة وصل إلى «أديس أبابا» وفدا الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان وبعد أن تبادلا القبل والمصافحة، اجتمع معهما الإمبراطور (هيلا سيلاسي)، ولقد تبادلا الأنخاب فيما بينهما، وتوجَّت الاتصالات السرية والمباحثات الرسمية بين الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان بتوقيع اتفاقية السلام التي عُرفت باتفاقية أديس أبابا وذلك في شهر شباط /فبراير/ من عام 1972 وتحت رعاية الإمبراطور (هيلا سيلاسي) في أديس أبابا.
ونصت اتفاقية السلام هذه على منح جنوب السودان الحكم الذاتي، ففي 3/3/1972 أصدرت حكومة السودان قانون الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان والذي ترجم اتفاقية أديس أبابا إلى تشريع وطني كما تم تعديل الدستور السوداني في شهر نيسان - أبريل - من عام 1973 بحيث يتضمن روح المبادئ والنصوص الواردة في الاتفاقية وتضمنت اتفاقية أديس أبابا ثلاث اتفاقيات أساسية وهي:
الأولى: مسودة القانون الأساسي للحكم الذاتي الإقليمي.
الثانية: اتفاقية وقف إطلاق النار في الإقليم الجنوبي.
الثالثة: بروتوكولات خاصة بأحكام انتقالية، والتي تتضمن الإجراءات المؤقتة بتشكيل القوات المسلحة في الجنوب.
وبعد أسابيع من توقيع هذه الاتفاقية أصدر رئيس الجمهورية (جعفر النميري) القرار رقم /40/ لشهر 4 وعام 1972 الذي ينص على تعيين (أبل ألير) رئيساً للمجلس التنفيذي مع احتفاظه بمنصب نائب رئيس الجمهورية، كما تم تعيين ثلاثة وزراء جنوبيين في الحكومة المركزية وهم:
1 - الدكتور (لورانس وول) وزيراً للتخطيط.
2 - (بوناموال) وزيراً للإعلام.
3 - (صمويل نوباي) وزيراً لشؤون الحكم المحلي.
بعد هذه الاتفاقية وتعيين المذكورين أجمع المواطنون غير العارفين بخفايا وبواطن الأمور أن الحرب التي اشتعلت في عام 1955 بين الأشقاء والتي استمرت سبعة عشر عاماً قد انتهت، وأن مرحلة جديدة في تاريخ السودان قد بدأت.هنا لابد أن نتساءل: هل ستؤول اتفاقية مشاكوس إلى ما آلت إليه اتفاقية أديس أبابا؟ أم أن الانفصال وقيام دولة جديدة قد تجسد بجدية؟

آداب عبد الهادي
22/01/2008, 02:55 PM
الفصل الثالث
البحث عن السلام
بدأت الاتصالات السرية بين حكومة (النميري) وقيادة حركة تحرير جنوب السودان، وكانت قد سبقتها اتصالات بغاية السِّرية من قبل أجهزة الأمن الغربية، يعاونهم ويباركهم في ذلك القسيسون الفرنجة، وكانت بداية الاتصالات التمهيدية قد تمت في لندن برعاية أمنية غربية وإسرائيلية، وقد مثل الطرف الحكومي السوداني سفير السودان في لندن (فيليب أوباتق) وهو جنوبي، ومثَّل حركة التمرد الدكتور (لورنس وول)، وقد اتفق هؤلاء على تحقيق السلام في الجنوب من خلال المحادثات بينهم وبرعاية أصدقاء كِلا الطرفين، وبعد فترة عقدت عدة لقاءات بينهما في «أثيوبيا» و«زائير»، وقد مثل الحكومة السودانية (أبل ألير) واللواء (الباقر محمد أحمد)، ومن قادة المتمردين الدكتور (لورنس وول) وغيره.
تتويج الاتصالات السرية:
تحت جنح الظلام وبسرية تامة وصل إلى «أديس أبابا» وفدا الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان وبعد أن تبادلا القبل والمصافحة، اجتمع معهما الإمبراطور (هيلا سيلاسي)، ولقد تبادلا الأنخاب فيما بينهما، وتوجَّت الاتصالات السرية والمباحثات الرسمية بين الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان بتوقيع اتفاقية السلام التي عُرفت باتفاقية أديس أبابا وذلك في شهر شباط /فبراير/ من عام 1972 وتحت رعاية الإمبراطور (هيلا سيلاسي) في أديس أبابا.
ونصت اتفاقية السلام هذه على منح جنوب السودان الحكم الذاتي، ففي 3/3/1972 أصدرت حكومة السودان قانون الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان والذي ترجم اتفاقية أديس أبابا إلى تشريع وطني كما تم تعديل الدستور السوداني في شهر نيسان - أبريل - من عام 1973 بحيث يتضمن روح المبادئ والنصوص الواردة في الاتفاقية وتضمنت اتفاقية أديس أبابا ثلاث اتفاقيات أساسية وهي:
الأولى: مسودة القانون الأساسي للحكم الذاتي الإقليمي.
الثانية: اتفاقية وقف إطلاق النار في الإقليم الجنوبي.
الثالثة: بروتوكولات خاصة بأحكام انتقالية، والتي تتضمن الإجراءات المؤقتة بتشكيل القوات المسلحة في الجنوب.
وبعد أسابيع من توقيع هذه الاتفاقية أصدر رئيس الجمهورية (جعفر النميري) القرار رقم /40/ لشهر 4 وعام 1972 الذي ينص على تعيين (أبل ألير) رئيساً للمجلس التنفيذي مع احتفاظه بمنصب نائب رئيس الجمهورية، كما تم تعيين ثلاثة وزراء جنوبيين في الحكومة المركزية وهم:
1 - الدكتور (لورانس وول) وزيراً للتخطيط.
2 - (بوناموال) وزيراً للإعلام.
3 - (صمويل نوباي) وزيراً لشؤون الحكم المحلي.
بعد هذه الاتفاقية وتعيين المذكورين أجمع المواطنون غير العارفين بخفايا وبواطن الأمور أن الحرب التي اشتعلت في عام 1955 بين الأشقاء والتي استمرت سبعة عشر عاماً قد انتهت، وأن مرحلة جديدة في تاريخ السودان قد بدأت.هنا لابد أن نتساءل: هل ستؤول اتفاقية مشاكوس إلى ما آلت إليه اتفاقية أديس أبابا؟ أم أن الانفصال وقيام دولة جديدة قد تجسد بجدية؟

آداب عبد الهادي
22/01/2008, 04:19 PM
الفصل الرابع
تمرد الكتيبة /104/

بداية أنانيا /2/:
في 2/3/1975 تفجَّر الموقف من جديد في الجنوب وتحديداً في منطقة /اكوير/ فقد أعلنت الكتيبة /104/( ) عصيانها، وقتلت قائدها الجنوبي المدعو (ابل كول ارثر) وهو من قوات /أنانيا واحد/ وقد قادَ هذا التمرد الملازم (بتسون كراج) الذي انسحب وقواته إلى الأراضي الأثيوبية بعد أن علم بتحرك قوات الجيش الوطنية في منطقة /الناصر/ وبقيادة العقيد (عبدالله الياس) ولقد كان هذا التمرد هو البداية الفعلية للتمرد الثاني الذي عُرف بحركة أنانيا/2/ بعد ذلك.
... كيف بدأ التمرد؟
قبل أعياد الوحدة:
كان من المفروض أن ينفذ المتمردون هذا العصيان مع باقي الكتائب المدمجة في الجيش السوداني الوطني في يوم واحد وساعة واحدة، وعلى مستوى الجنوب بأكمله، وقبل أعياد الوحدة بيوم واحد.
ولقد تم الإعداد لهذا التمرد بدقة متناهية، إلاَّ أنَّ الأوامر والتعليمات وأثناء إرسالها إلى المتآمرين في بقية محافظات الجنوب وقعت في أيدي الاستخبارات السودانية، فقامت بأخذ الحيطة، وتم إلقاء القبض على بعض العناصر المتآمرة الذي اعترف بالخطّة وبأنَّه كان قد خطط لها من قبل عناصر أمنية في دول الغرب واسرائيل.
بعد هذا العصيان من قبل الكتيبة /104/ جاء تمرد النقيب (ألفريد أقويت) فالمذكور من الضباط الذين تم استيعابهم على أسس قبلية، وكان قد انضم إلى «الأنانيا واحد».
استوعب النقيب (أقويت) ضمن مجموعة «الأنانيا» التي كانت في مدينة «رومبيك» ثم نقل إلى الكتيبة «110» المعروفة بعدم انضباطها ورفضها الانصهار في بوتقة القوات المسلحة الوطنية وقد نقل المذكور في عام 1976 إلى مدينة «واو» ومعه سريته، وبدلاً من أن يسكن هو وجنوده في المعسكر سكن داخل المدينة وصار مصدراً للإزعاج ولتهديد أمن المواطنين فيها، ممَّا دعا قائده آنذاك العميد (نور الدين المبارك) أن يشكوه إلى محافظ المديرية المدعو (ازاياطكولانق) الذي زاره في مكان إقامته في المدينة وتحدث إليه وإلى جنوده، وما كان منه ومن جنوده إلاَّ أن رحلوا من المدينة إلى المعسكر المعَد لهم وانضم البقية إلى وحدتهم العسكرية، والحقيقة أنَّ النقيب المتمرد (الفريد) وجنوده كانوا عبارة عن أحجار شطرنج.
فقد كان السياسيون الانفصاليون المرتبطون بالغرب وإسرائيل يتم تحريكهم وفق مصالح وغايات الفرنجة الانفصالية.
وفي يوم 16 - 2 - 1976 تحرَّك (الفريد) ومجموعته العسكرية وبكامل أسلحتهم ودخلوا الغابة تاركين معسكرهم النظامي معلنين رفضهم لاتفاقية السلام( ).
إنَّ هروب النقيب (الفريد) وتمرد الكتيبة «104» كان ضمن خطة شاملة وواسعة من أجل تمرد كل حركة «الأنانيا»، حيث كان النقيب (الفريد) وعناصره مجرد دمىً في أيدي سياسيي التنظيمات الجنوبية الانفصالية، فهؤلاء الساسة كانوا المحرضين الأساسيين لهروب (الفريد) ومجموعته ولكي يثيروا البلبلة والذعر، بما يمهِّد لنشوء الحرب الأهلية من جديد، وهكذا كان وهكذا صار وهذا ما أظهرته الوثيقة الدافعة التي ضبطت وكان مرسلها (بنجامين يول) من مدينة «واو» إلى (جوزيف أودهو) في مدينة «جوبا» والذي يدعوه فيها إلى تنفيذ خطة الهروب الجماعي لكل فصائل «الأنانيا» الملتحقة بالجيش، وبعد ذلك يلحق بهم جميع السياسيين الذين يؤيدون الانفصال، هؤلاء هم الذين سيقاتلون الجيش السوداني الوطني حامي الأرض والوحدة السودانية.
اعتراف المتمرد (الفريد أقويت):
عندما ألقت قوات الجيش السوداني القبض على المتمرد (أقويت) قُدِم إلى المحاكمة، وهنا قدم اعترافات أدت إلى إدانته والحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص، ونفذ الحكم بحقه.
ومما اعترف به (أقويت) كيف هرب زوجته وأولاده قبل الحركة، حيث قام الرائد الانفصالي (مارتن ماكور) وهو من المشاركين في المخطط الانفصالي، بنقل زوجته وأولاد (أقويت) من مدينة «واو» إلى «رمبيك».
كذلك اعترف بالمكان الذي خبأ به المتمردون سلاحهم، مما مكن الجيش السوداني من استعادته.
هذه الرواية هي الرواية الرسمية، أما الرواية التي رواها أحد الأصدقاء والعسكريين فأوردها كما سمعتها:

آداب عبد الهادي
22/01/2008, 04:41 PM
الفصل الخامس
المؤامرة الكبرى «جوبا»

بعد تناولي لطعام الإفطار في بيت الفريق المتقاعد (د)، قال لي صديقي: «يا أخ أحمد لقد سألتني بالأمس عن مدينة «جوبا» وعن المؤامرة التي حصلت هناك والآن وبعد أن /أكلت/ الكبدة وشربت الشاي باللبن، أكيد أنك أصبحت جاهزاً لسماع هذه الرواية العجيبة».
- تفصل يا سيادة الفريق (د).
- ضحك صديقي الفريق (د) وقال:
«في شهر مايو - أيار - عام 1977 أخبرني جهاز الاستخبارات العسكرية، بأنَّ هناك مؤامرة كبيرة لضرب الوحدة الوطنية يعمل على الإعداد لها في الخفاء، ولقد كان المخطط عبارة عن انقلاب عسكري داخل الجنوب، ويبدأ تنفيذ هذا الانقلاب في مدينة «جوبا» عاصمة الجنوب ثم يعمم ليشمل كافة أنحاء الجنوب، وتشترك فيه قوات المتمردين «الأنانيا»، وبعد أن يتم تأمين الانقلاب، تغلق كافة قطارات الجنوب، وكذلك كافة الطرق التي من الممكن أن تأتي منها القوات النظامية السودانية لسحق انقلاب هؤلاء المتمردين، وهنا وبعد التأمين لهذه المنافذ تعلن القوى الانفصالية المتمردة فصل الجنوب عن الشمال ويفتح على أثر ذلك مطار «جوبا» لتلقي المعونات من الدول الغربية وإسرائيل التي كانت تعلم وتعرف توقيت هذا الانقلاب الانفصالي.
تابعت استخباراتنا مخطط المتآمرين، فقد كان قادة الانقلاب يتحركون وفق خطة سرية للغاية، جعلت من الصعب معرفتهم في البداية، ولقد كان أغلب القادة المتآمرين من العسكريين أصحاب الرتب الصغيرة أي من ضباط الصف، أما القادة الكبار فقد كانوا بعيدين كل البعد، وبالرغم من قناعة أجهزة الأمن العسكرية بأنَّ هؤلاء القادة هم المخططون الرئيسيون والمتورطون في هذا العمل الدنيء إلاَّ أننا لم نلق القبض عليهم لأنَّنا لم نكن نملك الأدلة الكافية لاعتقالهم.. مرَّت الأيام بثقلها وخطورتها ونحن نتابع ونتحرى، ولكننا بدأنا نشعر بأنَّ الوضع قد ينفجر في أيّ لحظة، إلاَّ أنَّ متابعتنا للمتآمرين كشفت الحقيقة من خلال المتآمر (غوردن مورتات) ومجموعته في الخارج، و(فيليب عباس غبوش) الذي يعد بمثابة حلقة الوصل بين المتآمرين والإسرائيليين، و(كارلوكومي) وهو من جبال النوبة.
عمل رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية بجدية لها خصوصية الحياة أو الموت، فاستطاع زرع بعض ضباط الصف بينهم...
الاجتماع الأخير:
في مساء يوم 28 - 6 - 1977 عقد الاجتماع الأخير للانفصاليين، وتم تحديد يوم تنفيذ العملية وهو 2 - 7 - 1977 وفي مساء يوم 30 - 6 - 1977 قامت قيادة الجنوب والاستخبارات العسكرية بمداهمة واعتقال جميع صف الضباط والجنود الذين شاركوا في الاجتماعات، وقد ضبطوا وهم يضعون اللمسات الأخيرة لمخططهم التآمري الانفصالي.
إذاً تم كشف العملية، وأحبطت ساعة الصفر نتيجة اعتقال معظم المتآمرين أما الباقون الذين لم يتم اعتقالهم فقد قرروا الاستمرار في المؤامرة، والعمل على تنفيذ مخططهم يحدوهم أمل بدعم القوات القديمة من الأنانيا والتي انضمت إلى الشرطة والسجون وتقديم دعمها العسكري لهم.
في يوم 2 - 7 - 1977 وفي الساعة الواحدة والدقيقة الخامسة والأربعين صباحاً، غطت سماء عاصمة الجنوب «جوبا» ألوان حمراء تصاحبها أصوات قوية، كان الضرب عشوائياً وغير مركز وكانت أصوات الأسلحة المختلفة تملأ المكان، أما مصدرها فكان من جهة مطار «جوبا».
- إذاً تم تنفيذ المخطط؟
- نعم - لقد نفذت المخطط أفراد سرية الدفاع الجوي الذين كانوا مكلفين بحماية المطار، وكان الضرب العشوائي والكثيف بمثابة إشارة للقوات المستوعبة في الجيش السوداني للانضمام إليهم لتتمة تنفيذ العملية، ولكن هذه الوحدات كانت بدون قيادات توجهها، حيث تم اعتقال قادتهم قبل يوم من تنفيذ الانقلاب.
تمكن الجيش السوداني من إحباط الحركة واستعادة المطار، ومن ثم هرب الجنود وقادتهم بعد أن قتلوا جنود الجيش النظامي الذين كانوا معهم.
كان فشل هذه المؤامرة بمثابة ضربة كبيرة ونكسة خطيرة لاستراتيجية قوى التمرد الانفصالية وأسيادها.
بعد ذلك بدأت قوى الانفصال تركز نشاطها في مديريتي «أعالي النيل» و«جونقلي» وأخذت تعمل على توحيد قوات الانفصال بحيث تجعلها قوى كبيرة ضاربة فعمد كل من القائدين الانفصاليين (قاي توت) و(كوت اتيم) إلى القيام بخطوات تمهيدية للمؤامرة وهي:
أ - توحيد كل الفصائل المتمردة في أعالي النيل، وتجميعها في معسكر واحد يكون ضمن الأراضي الأثيوبية، كي تكون بمأمن من ملاحقة وضرب الجيش السوداني لها، وبالتالي سهولة قيادتها، ولقد عين قائداً عاماً عليها (بنسون كرانج) ولكن بشكل مؤقت إلى حين تعيين قيادة جديدة.
والتي تألفت من الانفصاليين التالية أسماؤهم:
1 - كوت اتيم.
2 - صمويل قاي توت.
3 - جوزيف أودهو.
4 - عبدالله شول.
وهؤلاء جميعهم من قادة «الأنانيا» ومن ذوي النفوذ قبل اتفاقية «أديس أبابا» عام 1972.
ب - تم الاتصال بالسلطات الأثيوبية لتقديم العون المادي والسماح للمتمردين بالانطلاق من أراضيها إلى داخل السودان للقيام بالعمليات العسكرية التخريبية، كما طلب من السلطات الأثيوبية القيام بتدريب المتمردين تدريباً حديثاً من قبل ضباط أثيوبيين متمرسين، وقد وافقت السلطات الأثيوبية على كافة طلبات الانفصاليين وقدمت لهم معسكراً يدعى (بلغام) للتدريب والتسليح، ثم أضيف لـه معسكران آخران يدعى الأولى (برير)، والثاني (ثيرقول) وبحيث يستخدمان كنقطة ارتكاز عند الانطلاق لدخول الأراضي السودانية، وقتال الجيش السوداني الوطني.
جـ - تم الاتصال بالمنظمات الدولية وبمساعدة أثيوبيا، ولقد اُستجيب لطلباتهم.
د - القيام بحركة تجنيد واسعة في أوساط (الدينكا)، وكذلك القبائل الأخرى التي رفضت مؤتمر أديس أبابا.
هـ - كونت شبكة لتهريب السلاح من «الكونغو» و«يوغندة» عبر الحدود، وقد رأس هذه الشبكة (صمويل قاي توت) الذي عمد هو و(جون كرنق) لاستغلال منصبيهما، وقاما بتهريب السلاح بسيارات الدولة، ولقد قبض على الاثنين وحوكما وعوقبا بالسجن لمدة عام.
بعد ذلك اشتدت شوكة المتمردين كافة وخاصة بعد الدعم الذي تلقوه من الغرب ومجالس الإرساليات التبشيرية وإسرائيل، وقاموا بوضع استراتيجية قصيرة الأمد لتمتد من عام 1981 إلى عام 1982 ولتبدأ استراتيجية ثانية، ولقد شملت هذه الاستراتيجية أعمالاً عدة نورد أهمها:
1 - احتلال نقاط على الحدود السودانية الأثيوبية، وإعلانها نقاط محررة واستخدامها كنقاط ارتكاز وعبور إلى عمق أراضي الجنوب للقيام بضرب الجيش السوداني والمليشيات الجنوبية الوحدوية، والعمل على تخريب وإحراق القرى الآمنة وإتلاف المواد الغذائية وحرقها للتأثير على صمود المواطنين الجنوبيين.
2 - قطع الطرق والمواصلات البرية والنهرية، والتعرض للقوافل التجارية وقتل أصحابها لإشاعة الذعر والفوضى في المنطقة.
3 - حرق المتاجر وقتل أصحابها إن كانوا شماليين.
4 - التسلل إلى داخل منطقة أعالي النيل، وضرب مناطق البترول في كل من «عدرا» و«بانيتو».
5 - مهاجمة مخافر الشرطة المنعزلة وقتل أفرادها، وسلبهم السلاح.
6 - مهاجمة نقاط الجيش المنعزلة، وكذلك الأهداف الصغيرة العسكرية وتدمير معداتهم، وقتل أفرادها.
7 - العمل على إلقاء المحاضرات، وتكثيف التدريب من أجل التحضير لانطلاق حركة الأنانيا.
وقبل الدخول إلى معرفة ما هي حركة التمرد الثانية لابد من العودة إلى الأحداث التي تلاحقت وتتلاحق وتمضي مخلفة وراءها نتائجها السلبية على شعب السودان، إنني ربما أشابك الأحداث دون مراعاة لقدمها أو حداثتها إلا أنني أروي قصة واقع جنوب السودان المؤلمة، إن تشابك الأحداث في القصة وعدم ترتيبها زمنياً أريد منه الخروج على المألوف والسرد خدمة لواقع هذه الرواية الحزينة /قصة حياة أو موت/.
إنني أنشد وضع الصورة الحقيقية وبكل ظلالها الميتة والحية لما جرى ويجري في جنوب السودان وتداعياته على السودان.
إنني أحاول تقديم الحقيقة من خلال ما جرى ويجري وما سوف يجري في جنوب السودان؟

آداب عبد الهادي
27/01/2008, 01:41 PM
الباب السابع
اســــتـعـادة
الفصل الأول
المائدة المستديرة

في 14 تشرين الثاني /نوفمبر/ عام 1964 أعلنت الحكومة المدنية الانتقالية التي يرأسها (سر الختم خليفة) عفواً عاماً عن كل السودانيين الذين هربوا من السودان منذ عام 1955 والمحكومين غيابياً ثم ناشدت حكومة (سر الختم) كافة الجنوبيين الذين يعيشون في المنفى أن يتركوا الخلافات كافة دينية - عرقية - سياسية - جانباً ويعودوا إلى وطنهم السودان، وقف رئيس الوزراء موقفاً سودانياً أصيلاً حيث قدم اقتراحاً بمنح الجنوب حكماً ذاتياً وقد عقد مؤتمر في عام 1965 وقد تمثلت فيه معظم الأحزاب السودانية، منها:
1 - سانو (A).
2 - جبهة الجنوب (B).
3 - حزب الوحدة السوداني (C).
ولقد مثل هذه الأحزاب مندوبون لكل منها.
ما هي هذه الأحزاب؟..
من خلال البحث والتقصّي علمت بما هو آتٍ:
A - حزب سانو:
تتلخص أفكار هذا الحزب في إيمانه بتعدد الأعراق في السودان وأن يسود نظام فيدرالي ولا بد هنا من العودة قليلاً إلى الوراء كي تكون الصورة أوضح:
ما بين أعوام 1965 - و1969 في هذه الفترة حدثت تعقيدات سياسية وشخصية ما بين سياسيي الجنوب بحيث أصبح كل من أراد أن يكون لـه تنظيم فهو قادر على ذلك، طالما المال الغربي الكنسي متوفر ودماء الناس فلماذا لا تتعدد التنظيمات الانفصالية المتمردة ولنأخذ مثالاً على ذلك (وليم دنيق) الذي فصل من الحزب رسمياً في عام 1965 لأنه فضل قيام فيدرالية مع الشمال الأمر الذي أدى إلى غضب الغرب عليه.
بدأ (وليم دنيق) حياته السياسية منادياً بانفصال الجنوب عن الشمال وقد قام مع شريكه (جوزيف أودهو) في نشر كتاب /مشكلة جنوب السودان/ كما نظم عدة عمليات /عسكرية/ ضد الجيش والمواطنين السودانيين.
كان انفصالياً من رأسه إلى أخمص قدميه لكنه تغير فجأة وأصبح ينادي بقيام نظام فيدرالي ما بين الشمال والجنوب.
وفي عام 1965 قام (وليم دنيق) وسجل حزبه تحت اسم /سانو/ في الداخل وكان هدف الحزب الرئيسي هو المطالبة بتطبيق نظام الحكم الفيدرالي في السودان وبطريقة سلمية.
وفي عام 1965 أجريت الانتخابات في الشمال واستثني الجنوب منها لأسباب أمنية وعلى أثر الانتخابات شكل (محمد أحمد محجوب) الائتلاف الحكومي بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي وخُصصت لحزب /سانو/ حقيبتان وزاريتان، وكان حزب جبهة الجنوب قد رفضهما... ومع اقتراب الانتخابات العامة في البلاد ازدادت الخلافات بين الحزبين الجنوبيين كما كان لها أيضاً طابع شخصي واستمرت الأوضاع السيئة تتفاقم إلى أن جاء يوم 15 أيار /مايو/ 1968 حيث أعلن عن مقتل (وليم دنيق) وستة من رفاقه في كمين نصب لهم وهم في طريقهم من مدينة /رومبيك/ إلى مدينة /واو/ وقد قتل (دنيق) بطريقة وحشية حيث قطع رأسه مع جزء من الجمجمة وأسند جسده إلى شجرة بجانب رأسه كما تم التمثيل بجثث بقية رفاقه الستة، وقد تم القتل من قبل المتمردين الجنوبيين الذين رفضوا الفيدرالية وعملوا على فصل الجنوب عن الشمال، وقد اعتبر خصومه عودته إلى السودان وتعامله مع الحكومة السودانية خيانة عظمى لقضية الجنوب، وقد اتهم الانفصالي (الفرد وول) زعيم جماعة الستة الكبار الانفصالية بالقتل.
B - حزب جبهة الجنوب:
بدأت جبهة الجنوب بعدد من المواطنين الجنوبيين وطلبة الجامعات إلا أن تاريخ إنشائها غير معروف بالضبط، ومؤسسو جبهة الجنوب يعدون تنظيمهم تنظيماً جماهيرياً، لهم جماهيرهم وتوجهاتهم، وبعد ثورة أكتوبر عام 1964 أسند إلى قادة هذا التنظيم عددٌ من المناصب الوزارية وقد شغل منصب وزارة الدفاع والداخلية المدعو (كلمنت مبورو بيكوبو) في عهد رئيس الوزراء (سر الختم خليفة) وبذلك يكون أول جنوبي يتبوأ هذا المنصب الهام، كذلك شغل منصب وزارة الأشغال المدعو (هيلري بول) كما شغل المدعو (أزيون مونديري) وزارة الاتصالات، وقد رشح حزب جبهة الجنوب المدعو (لويجي أدوك) ليمثل الجنوب في مجلس السيادة كذلك أصدر الحزب أول جريدة لـه باسم /اليقظة/ وهي جريدة يومية وقد ترأس تحرير الجريدة (بوانا ملوال) وقد شارك هذا الحزب في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965.
C - حزب الوحدة السوداني:
لا تختلف أفكار هذا الحزب وتوجهاته عن أهداف وتوجهات الحزبين المذكورين.
أما الأحزاب الشمالية الرئيسية، فقد تمثلت بالأحزاب التالية:
1. حزب الأمة.
2. الحزب الوطني الاتحادي.
3. الحزب الشيوعي السوداني.
4. جبهة الميثاق الإسلامي.
5. جبهة الهيئات.
6. حزب الشعب الديمقراطي.
للحقيقة نقول أن اقتراح (سر الختم خليفة) جاء من قوة وحكمة سودانية لا لثمن ما، وإن الحكمة في استجابة الحكومة السودانية لرسالة (وليم دنيق) الذي اقترح فيها قيام مؤتمر المائدة المستديرة ومن هذا المؤتمر تطرح كافة المشاكل المستعصية، يعني /مشكلة الجنوب/ جاء رد رئيس الوزراء برده الإيجابي تجاه شعبه السوداني وخاصة تجاه الإقليم الجنوبي، فماذا كان رد الجنوبيين المتمردين الذين عفت عنهم الحكومة؟
أول رد فعل جاء من قبل (وليم دنيق)( ) الذي كان يعيش في أوروبا، فقد كتب رسالة لرئيس الوزراء (سر الختم خليفة) وفيها أوضح رغبته بالعودة إلى السودان لكنه اشترط الآتي:
أ - يجب أن تعلن الحكومة عفواً عاماً عن كل اللاجئين؟ إن بيان رئيس الوزراء كان واضحاً وخاصة في موضوع العفو إلا أن المتمردين يريدون أن يفرضوا أقوالهم.
ب - يجب الاعتراف بـ /سانو/ كحزب سياسي حتى يتمكن من الاشتراك في الانتخابات المقبلة متخذاً سياسة الحكم الفيدرالي برنامجاً انتخابياً لـه:
(وفعلاً كان رئيس الوزراء قدم للجنوبيين اقتراحاً بمنحهم الحكم الفيدرالي) إلا أنهم كانوا يضعون العصي أمام عجلات المؤتمر.
ت - يجب أن تبعث الحكومة برسالة إلى الأمين العام لمنظمة الوحدة الإفريقية تتعهد فيها بسلامة اللاجئين السياسيين وقادة /سانو/.
(هنا يريد المتمردون إثبات وجودهم ونزع الاعتراف بهم من قبل الحكومة السودانية).
ث - يجب أن يعقد مؤتمر المائدة المستديرة بحضور كل الأحزاب السياسية السودانية وممثلين عن السلطة القضائية وجامعة الخرطوم واتحاد العمال ومراقبين من الدول العربية والإفريقية والأمين العام لمنظمة الوحدة الإفريقية لمناقشة الخطوط العريضة للعلاقة بين الشمال والجنوب.
جـ - يجب الاعتراف بحقيقة أن السودان دولة أفريقية - عربية ذات ثقافتين مختلفتين وبأن الوحدة في ظل التنوع هي الحل لمشكلة الجنوب والتي تتحقق فقط بفضل دستور فيدرالي.
وبعد تحقيق هذه المطالب فإن المؤتمر من الممكن أن ينعقد في السادس من شهر شباط عام 1965 بمدينة جوبا عاصمة الإقليم الجنوبي، هنا قام المتمردون بتكثيف نشاطهم العسكري حول مدينة جوبا لمنع انعقاد المؤتمر متجاهلين نداء (وليم دنيق) ونتيجة للعمليات العسكرية ساد نوع من البلبلة أوساط حزب /سانو/ وعززت هذه البلبلة الخطوات التي اتخذها (وليم دنيق) أي أنه لم يستشر أي قيادي من الحزب وخاصة أن الحكومة السودانية قبلت اقتراحه.
اجتماع اللجنة التنفيذية:
وفي /20/ كانون الثاني عام 1965 اجتمعت اللجنة التنفيذية لحزب /سانو/ في مدينة كمبالا اليوغندية واتخذت قراراً بتكوين لجنة ثلاثية من:
1 - وليم دنيق نيال.
2 - مايكل وال دوانج.
3 - إيليا لوبي.
وضعت هذه اللجنة شروط التفاوض مع الحكومة السودانية وهي:
1 - تعهد حزب سانو بمناشدة الجنوبيين المتمردين بوقف العمليات العسكرية ضد الحكومة، كما يجب على الحكومة أن ترفع حالة الطوارئ في الجنوب.
2 - يجب أن تتعهد الحكومة بضمان سلامة الأطراف المفاوضة ويجب أن ترفع حالة الطوارئ داخل مدينة «جوبا».
3 - دعوة الصحافة المحلية والعالمية لحضور المفاوضات.
4 - يجب أن تتاح حرية العودة إلى شرق أفريقيا لأعضاء /سانو/ المفاوضين لتقديم التقدير حول ما جاء في المفاوضات إلى قاعدتهم وقيادييهم في المنفى.
5 - على المؤتمر أن يجد حلاً لمشكلة الجنوب.
تسلمت الحكومة السودانية مطالب /سانو/ ودرستها وقررت بالتعاون مع جبهة الجنوب إرسال مبعوثين إلى الدول الإفريقية المتواجد فيها قادة /سانو/ لإقناعهم بالعودة إلى الخرطوم بدل /جوبا/ وبررت الحكومة السودانية هذا الطلب بأن الأمن في /جوبا/ غير مستقر.
طار المندوبون إلى دول أفريقيا الشرقية واجتمعوا فيها إلى المتمردين غير أن البعض منهم تمسك بموقفه وهو عقد المؤتمر خارج السودان طالما الوضع الأمني متدهور في /جوبا/ ولا يسمح بذلك، بعد مفاوضات طويلة اقتنع
(وليم دنيق) بالسفر إلى الخرطوم وسافر في 27 /شباط/ فبراير 1965 بصحبة ستة من السياسيين الجنوبيين وكان (دنيق) قدم نفسه للحكومة السودانية على أنه ممثل حزب /سانو/ ولأن فكرة عقد مؤتمر المائدة المستديرة كانت فكرته رفض بعض السياسيين القدوم للخرطوم وتمسكوا بفكرة عقد المؤتمر في دولة أفريقية، وهنا طلب (وليم دنيق) من الحكومة السودانية ألا تهتم بهؤلاء الذين رفضوا العودة إلى الوطن وأن تعمل على انعقاد المؤتمر في حينه!
نتيجة للأجواء التي سادت وعدم اهتمام الحكومة السودانية بمجيء المتمردين وعلى رأسهم مجموعة (جادين) ودعوة (وليم دنيق) بعدم الاهتمام بكافة هؤلاء.
وجد هؤلاء المتمردون أنهم قد أصبحوا في عزلة، فأرغموا أنفسهم على حضور مؤتمر المائدة المستديرة وفق ما اقترحته الحكومة السودانية وخوفاً من اعتراف الحكومة بـ(دنيق) ومجموعته، هنا برز شيء مهم وهو: كيف يمكن التوفيق بين مجموعة (دنيق) وحزب /سانو/؟ لذلك تم نقاش طويل وقاسٍ.
وافقت مجموعة (جادين) على قبول (وليم دنيق) عضواً في وفد حزب /سانو/ المتحد وقد جاء ترتيبه السادس في قائمة /سانو/ الذي بلغ عدد أعضائه تسعة، وقد تم الاتفاق على حل وسط يقضي بأن يمثل وفد هؤلاء المتمردون على الشكل التالي:
1 - مجموعة (وليم دنيق) أربعة أعضاء.
2 - مجموعة (جادين) خمسة أعضاء.
كما تم الاتفاق على أن يكون رئيس الوفد للمفاوضات من مجموعة (جادين) وقد ترأس (ايليا لوبي) حزب /سانو/ وعضوية كل من:
لورنس وول وول
جورج أكومبيك
أوليفر نتالي البينو
جورج لومورد
وليم دنيق نيال
هنري أوكيلا أكونو
نيكانورا أقوير
ابليا دوانق
أما أعضاء وفد جبهة الجنوب فكان يرأسه (غوردون مورتات ميان)، وكان كل من (أبل الير كواي) و(غوردن أبياي) و(أوطون داك) و(أطون بوغو) و(نتالي أولواك) و(لوباري رامبا) و(بونا ملوال دنيق) و(دومانوحس) كانوا أعضاء الوفد.
وقد رفضت جبهة الجنوب أن يمثل الحزب( ) الليبرالي كذلك حزب السلام السوداني الذي يرأسه (فليمون مجوك) و(ساتينو دنيق) هذا هو الجانب الجنوبي أما الأحزاب الشمالية والتي أصرت أن تمثل الأحزاب الجنوبية المناهضة لجبهة الجنوب وحزب سانو أما الأحزاب الشمالية وكان عددها ستة وكان يرأس كل حزب رئيسه وأمينه العام، وتبين فيما يلي أسماء المشاركين في المؤتمر:
1 - (الصادق الصديق المهدي) ممثلاً عن حزب الأمة.
2 - (علي عبد الرحمن) ممثلاً عن حزب الشعب الديمقراطي.
3 - (عبد الخالق محجوب) ممثلاً عن الحزب الشيوعي السوداني.
4 - (حسن عبدالله الترابي) ممثلاً عن جبهة الميثاق الإسلامي.
5 - (مكاوي مصطفى) ممثلاً عن جبهة القوى العاملة.
6 - (اسماعيل أحمد الأزهري) ممثلاً عن الحزب الوطني الاتحادي.
المؤتمر:
عقد مؤتمر المائدة المستديرة في 16 آذار مارس عام 1965 وترأسه رئيس جامعة الخرطوم (نذير دفع الله) وساعده البروفسور (محمد عمر بشير) وحضره مراقبون من البلدان التالية:
1 - الجزائر ـ
2 - مصر ـ
3 - غانا ـ
4 - كينيا ـ
5 - نيجيريا ـ
6 - تنزانيا ـ
7 - يوغندة ـ
وافتتح الجلسة الأولى رئيس الوزراء السوداني (سر الختم خليفة) الذي حمل في خطابه الإنكليز مسؤولية خلق مشكلة الجنوب وناشد رئيس الوزراء المؤتمرين التوصل لحل المشكلة، ولكن حدث أمرٌ غريبٌ وهو أن الأعضاء التسعة أعلنوا دعمهم لأهداف حزب /سانو/ وجبهة الجنوب، وتعبيراً عن موقفهم المفاجئ الداعم قام هؤلاء وتركوا مقاعدهم التي خصصت لهم وجلسوا بجانب وفدي /سانو/ و/جبهة الجنوب/.
هذا التصرف المفاجئ أصاب وفود الأحزاب الشمالية بالدهشة وألقى (وليم دنيق) خطاباً قال فيه أن الحل يكمن بإيجاد نظام فيدرالي على غرار النظام الأمريكي، أما جبهة الجنوب فقد طالب رئيس وفدها بحق تقرير المصير( ).
رفضت الحكومة السودانية برئاسة (سر الختم خليفة) هذا المبدأ.
أما كلمة حزب /سانو/ فقد ألقاها رئيس الحزب (أقري جادين) الذي تناول فيها علاقات الجنوب بالشمال وقد ارتكز في خطابه على المعلومات التي أوردها الغربيون /العبودية/ وعدم المساواة /؟/ ثم اختتم خطابه بقوله:
- إنه من مصلحة الشمال والجنوب أن ينفصلا /بسلام/ وبرر ذلك قائلاً:
- في السودان منطقتان مختلفتان جغرافياً وعرقياً وثقافياً، فلا قاسم مشترك بين المجموعات السودانية ولا معتقدات مشتركة وليست هناك مصلحة مشتركة من ناحية الهوية ولا بوادر محلية لتشجيع الوحدة، وفوق كل ذلك فشل السودان في أن يشكل كياناً موحداً، ولا أمل في حل الخلافات حتى يمنح الجنوب الانفصال والاستقلال.
إن مشكلة جنوب السودان قد تضر بالعلاقات الإفريقية العربية، بالإضافة إلى كونها سبباً لعدم الاستقرار في إفريقيا وتفادياً لذلك يجب أن يمنح جنوب السودان استقلاله..؟!!
أما الأحزاب الشمالية فقد اقترحت قيام حكم ذاتي يحفظ الوحدة الوطنية والبلاد موحدة، وبعد مداولات طويلة لاح في الأفق الفشل وهكذا حصل!..

آداب عبد الهادي
27/01/2008, 01:41 PM
الباب السابع
اســــتـعـادة
الفصل الأول
المائدة المستديرة

في 14 تشرين الثاني /نوفمبر/ عام 1964 أعلنت الحكومة المدنية الانتقالية التي يرأسها (سر الختم خليفة) عفواً عاماً عن كل السودانيين الذين هربوا من السودان منذ عام 1955 والمحكومين غيابياً ثم ناشدت حكومة (سر الختم) كافة الجنوبيين الذين يعيشون في المنفى أن يتركوا الخلافات كافة دينية - عرقية - سياسية - جانباً ويعودوا إلى وطنهم السودان، وقف رئيس الوزراء موقفاً سودانياً أصيلاً حيث قدم اقتراحاً بمنح الجنوب حكماً ذاتياً وقد عقد مؤتمر في عام 1965 وقد تمثلت فيه معظم الأحزاب السودانية، منها:
1 - سانو (A).
2 - جبهة الجنوب (B).
3 - حزب الوحدة السوداني (C).
ولقد مثل هذه الأحزاب مندوبون لكل منها.
ما هي هذه الأحزاب؟..
من خلال البحث والتقصّي علمت بما هو آتٍ:
A - حزب سانو:
تتلخص أفكار هذا الحزب في إيمانه بتعدد الأعراق في السودان وأن يسود نظام فيدرالي ولا بد هنا من العودة قليلاً إلى الوراء كي تكون الصورة أوضح:
ما بين أعوام 1965 - و1969 في هذه الفترة حدثت تعقيدات سياسية وشخصية ما بين سياسيي الجنوب بحيث أصبح كل من أراد أن يكون لـه تنظيم فهو قادر على ذلك، طالما المال الغربي الكنسي متوفر ودماء الناس فلماذا لا تتعدد التنظيمات الانفصالية المتمردة ولنأخذ مثالاً على ذلك (وليم دنيق) الذي فصل من الحزب رسمياً في عام 1965 لأنه فضل قيام فيدرالية مع الشمال الأمر الذي أدى إلى غضب الغرب عليه.
بدأ (وليم دنيق) حياته السياسية منادياً بانفصال الجنوب عن الشمال وقد قام مع شريكه (جوزيف أودهو) في نشر كتاب /مشكلة جنوب السودان/ كما نظم عدة عمليات /عسكرية/ ضد الجيش والمواطنين السودانيين.
كان انفصالياً من رأسه إلى أخمص قدميه لكنه تغير فجأة وأصبح ينادي بقيام نظام فيدرالي ما بين الشمال والجنوب.
وفي عام 1965 قام (وليم دنيق) وسجل حزبه تحت اسم /سانو/ في الداخل وكان هدف الحزب الرئيسي هو المطالبة بتطبيق نظام الحكم الفيدرالي في السودان وبطريقة سلمية.
وفي عام 1965 أجريت الانتخابات في الشمال واستثني الجنوب منها لأسباب أمنية وعلى أثر الانتخابات شكل (محمد أحمد محجوب) الائتلاف الحكومي بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي وخُصصت لحزب /سانو/ حقيبتان وزاريتان، وكان حزب جبهة الجنوب قد رفضهما... ومع اقتراب الانتخابات العامة في البلاد ازدادت الخلافات بين الحزبين الجنوبيين كما كان لها أيضاً طابع شخصي واستمرت الأوضاع السيئة تتفاقم إلى أن جاء يوم 15 أيار /مايو/ 1968 حيث أعلن عن مقتل (وليم دنيق) وستة من رفاقه في كمين نصب لهم وهم في طريقهم من مدينة /رومبيك/ إلى مدينة /واو/ وقد قتل (دنيق) بطريقة وحشية حيث قطع رأسه مع جزء من الجمجمة وأسند جسده إلى شجرة بجانب رأسه كما تم التمثيل بجثث بقية رفاقه الستة، وقد تم القتل من قبل المتمردين الجنوبيين الذين رفضوا الفيدرالية وعملوا على فصل الجنوب عن الشمال، وقد اعتبر خصومه عودته إلى السودان وتعامله مع الحكومة السودانية خيانة عظمى لقضية الجنوب، وقد اتهم الانفصالي (الفرد وول) زعيم جماعة الستة الكبار الانفصالية بالقتل.
B - حزب جبهة الجنوب:
بدأت جبهة الجنوب بعدد من المواطنين الجنوبيين وطلبة الجامعات إلا أن تاريخ إنشائها غير معروف بالضبط، ومؤسسو جبهة الجنوب يعدون تنظيمهم تنظيماً جماهيرياً، لهم جماهيرهم وتوجهاتهم، وبعد ثورة أكتوبر عام 1964 أسند إلى قادة هذا التنظيم عددٌ من المناصب الوزارية وقد شغل منصب وزارة الدفاع والداخلية المدعو (كلمنت مبورو بيكوبو) في عهد رئيس الوزراء (سر الختم خليفة) وبذلك يكون أول جنوبي يتبوأ هذا المنصب الهام، كذلك شغل منصب وزارة الأشغال المدعو (هيلري بول) كما شغل المدعو (أزيون مونديري) وزارة الاتصالات، وقد رشح حزب جبهة الجنوب المدعو (لويجي أدوك) ليمثل الجنوب في مجلس السيادة كذلك أصدر الحزب أول جريدة لـه باسم /اليقظة/ وهي جريدة يومية وقد ترأس تحرير الجريدة (بوانا ملوال) وقد شارك هذا الحزب في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965.
C - حزب الوحدة السوداني:
لا تختلف أفكار هذا الحزب وتوجهاته عن أهداف وتوجهات الحزبين المذكورين.
أما الأحزاب الشمالية الرئيسية، فقد تمثلت بالأحزاب التالية:
1. حزب الأمة.
2. الحزب الوطني الاتحادي.
3. الحزب الشيوعي السوداني.
4. جبهة الميثاق الإسلامي.
5. جبهة الهيئات.
6. حزب الشعب الديمقراطي.
للحقيقة نقول أن اقتراح (سر الختم خليفة) جاء من قوة وحكمة سودانية لا لثمن ما، وإن الحكمة في استجابة الحكومة السودانية لرسالة (وليم دنيق) الذي اقترح فيها قيام مؤتمر المائدة المستديرة ومن هذا المؤتمر تطرح كافة المشاكل المستعصية، يعني /مشكلة الجنوب/ جاء رد رئيس الوزراء برده الإيجابي تجاه شعبه السوداني وخاصة تجاه الإقليم الجنوبي، فماذا كان رد الجنوبيين المتمردين الذين عفت عنهم الحكومة؟
أول رد فعل جاء من قبل (وليم دنيق)( ) الذي كان يعيش في أوروبا، فقد كتب رسالة لرئيس الوزراء (سر الختم خليفة) وفيها أوضح رغبته بالعودة إلى السودان لكنه اشترط الآتي:
أ - يجب أن تعلن الحكومة عفواً عاماً عن كل اللاجئين؟ إن بيان رئيس الوزراء كان واضحاً وخاصة في موضوع العفو إلا أن المتمردين يريدون أن يفرضوا أقوالهم.
ب - يجب الاعتراف بـ /سانو/ كحزب سياسي حتى يتمكن من الاشتراك في الانتخابات المقبلة متخذاً سياسة الحكم الفيدرالي برنامجاً انتخابياً لـه:
(وفعلاً كان رئيس الوزراء قدم للجنوبيين اقتراحاً بمنحهم الحكم الفيدرالي) إلا أنهم كانوا يضعون العصي أمام عجلات المؤتمر.
ت - يجب أن تبعث الحكومة برسالة إلى الأمين العام لمنظمة الوحدة الإفريقية تتعهد فيها بسلامة اللاجئين السياسيين وقادة /سانو/.
(هنا يريد المتمردون إثبات وجودهم ونزع الاعتراف بهم من قبل الحكومة السودانية).
ث - يجب أن يعقد مؤتمر المائدة المستديرة بحضور كل الأحزاب السياسية السودانية وممثلين عن السلطة القضائية وجامعة الخرطوم واتحاد العمال ومراقبين من الدول العربية والإفريقية والأمين العام لمنظمة الوحدة الإفريقية لمناقشة الخطوط العريضة للعلاقة بين الشمال والجنوب.
جـ - يجب الاعتراف بحقيقة أن السودان دولة أفريقية - عربية ذات ثقافتين مختلفتين وبأن الوحدة في ظل التنوع هي الحل لمشكلة الجنوب والتي تتحقق فقط بفضل دستور فيدرالي.
وبعد تحقيق هذه المطالب فإن المؤتمر من الممكن أن ينعقد في السادس من شهر شباط عام 1965 بمدينة جوبا عاصمة الإقليم الجنوبي، هنا قام المتمردون بتكثيف نشاطهم العسكري حول مدينة جوبا لمنع انعقاد المؤتمر متجاهلين نداء (وليم دنيق) ونتيجة للعمليات العسكرية ساد نوع من البلبلة أوساط حزب /سانو/ وعززت هذه البلبلة الخطوات التي اتخذها (وليم دنيق) أي أنه لم يستشر أي قيادي من الحزب وخاصة أن الحكومة السودانية قبلت اقتراحه.
اجتماع اللجنة التنفيذية:
وفي /20/ كانون الثاني عام 1965 اجتمعت اللجنة التنفيذية لحزب /سانو/ في مدينة كمبالا اليوغندية واتخذت قراراً بتكوين لجنة ثلاثية من:
1 - وليم دنيق نيال.
2 - مايكل وال دوانج.
3 - إيليا لوبي.
وضعت هذه اللجنة شروط التفاوض مع الحكومة السودانية وهي:
1 - تعهد حزب سانو بمناشدة الجنوبيين المتمردين بوقف العمليات العسكرية ضد الحكومة، كما يجب على الحكومة أن ترفع حالة الطوارئ في الجنوب.
2 - يجب أن تتعهد الحكومة بضمان سلامة الأطراف المفاوضة ويجب أن ترفع حالة الطوارئ داخل مدينة «جوبا».
3 - دعوة الصحافة المحلية والعالمية لحضور المفاوضات.
4 - يجب أن تتاح حرية العودة إلى شرق أفريقيا لأعضاء /سانو/ المفاوضين لتقديم التقدير حول ما جاء في المفاوضات إلى قاعدتهم وقيادييهم في المنفى.
5 - على المؤتمر أن يجد حلاً لمشكلة الجنوب.
تسلمت الحكومة السودانية مطالب /سانو/ ودرستها وقررت بالتعاون مع جبهة الجنوب إرسال مبعوثين إلى الدول الإفريقية المتواجد فيها قادة /سانو/ لإقناعهم بالعودة إلى الخرطوم بدل /جوبا/ وبررت الحكومة السودانية هذا الطلب بأن الأمن في /جوبا/ غير مستقر.
طار المندوبون إلى دول أفريقيا الشرقية واجتمعوا فيها إلى المتمردين غير أن البعض منهم تمسك بموقفه وهو عقد المؤتمر خارج السودان طالما الوضع الأمني متدهور في /جوبا/ ولا يسمح بذلك، بعد مفاوضات طويلة اقتنع
(وليم دنيق) بالسفر إلى الخرطوم وسافر في 27 /شباط/ فبراير 1965 بصحبة ستة من السياسيين الجنوبيين وكان (دنيق) قدم نفسه للحكومة السودانية على أنه ممثل حزب /سانو/ ولأن فكرة عقد مؤتمر المائدة المستديرة كانت فكرته رفض بعض السياسيين القدوم للخرطوم وتمسكوا بفكرة عقد المؤتمر في دولة أفريقية، وهنا طلب (وليم دنيق) من الحكومة السودانية ألا تهتم بهؤلاء الذين رفضوا العودة إلى الوطن وأن تعمل على انعقاد المؤتمر في حينه!
نتيجة للأجواء التي سادت وعدم اهتمام الحكومة السودانية بمجيء المتمردين وعلى رأسهم مجموعة (جادين) ودعوة (وليم دنيق) بعدم الاهتمام بكافة هؤلاء.
وجد هؤلاء المتمردون أنهم قد أصبحوا في عزلة، فأرغموا أنفسهم على حضور مؤتمر المائدة المستديرة وفق ما اقترحته الحكومة السودانية وخوفاً من اعتراف الحكومة بـ(دنيق) ومجموعته، هنا برز شيء مهم وهو: كيف يمكن التوفيق بين مجموعة (دنيق) وحزب /سانو/؟ لذلك تم نقاش طويل وقاسٍ.
وافقت مجموعة (جادين) على قبول (وليم دنيق) عضواً في وفد حزب /سانو/ المتحد وقد جاء ترتيبه السادس في قائمة /سانو/ الذي بلغ عدد أعضائه تسعة، وقد تم الاتفاق على حل وسط يقضي بأن يمثل وفد هؤلاء المتمردون على الشكل التالي:
1 - مجموعة (وليم دنيق) أربعة أعضاء.
2 - مجموعة (جادين) خمسة أعضاء.
كما تم الاتفاق على أن يكون رئيس الوفد للمفاوضات من مجموعة (جادين) وقد ترأس (ايليا لوبي) حزب /سانو/ وعضوية كل من:
لورنس وول وول
جورج أكومبيك
أوليفر نتالي البينو
جورج لومورد
وليم دنيق نيال
هنري أوكيلا أكونو
نيكانورا أقوير
ابليا دوانق
أما أعضاء وفد جبهة الجنوب فكان يرأسه (غوردون مورتات ميان)، وكان كل من (أبل الير كواي) و(غوردن أبياي) و(أوطون داك) و(أطون بوغو) و(نتالي أولواك) و(لوباري رامبا) و(بونا ملوال دنيق) و(دومانوحس) كانوا أعضاء الوفد.
وقد رفضت جبهة الجنوب أن يمثل الحزب( ) الليبرالي كذلك حزب السلام السوداني الذي يرأسه (فليمون مجوك) و(ساتينو دنيق) هذا هو الجانب الجنوبي أما الأحزاب الشمالية والتي أصرت أن تمثل الأحزاب الجنوبية المناهضة لجبهة الجنوب وحزب سانو أما الأحزاب الشمالية وكان عددها ستة وكان يرأس كل حزب رئيسه وأمينه العام، وتبين فيما يلي أسماء المشاركين في المؤتمر:
1 - (الصادق الصديق المهدي) ممثلاً عن حزب الأمة.
2 - (علي عبد الرحمن) ممثلاً عن حزب الشعب الديمقراطي.
3 - (عبد الخالق محجوب) ممثلاً عن الحزب الشيوعي السوداني.
4 - (حسن عبدالله الترابي) ممثلاً عن جبهة الميثاق الإسلامي.
5 - (مكاوي مصطفى) ممثلاً عن جبهة القوى العاملة.
6 - (اسماعيل أحمد الأزهري) ممثلاً عن الحزب الوطني الاتحادي.
المؤتمر:
عقد مؤتمر المائدة المستديرة في 16 آذار مارس عام 1965 وترأسه رئيس جامعة الخرطوم (نذير دفع الله) وساعده البروفسور (محمد عمر بشير) وحضره مراقبون من البلدان التالية:
1 - الجزائر ـ
2 - مصر ـ
3 - غانا ـ
4 - كينيا ـ
5 - نيجيريا ـ
6 - تنزانيا ـ
7 - يوغندة ـ
وافتتح الجلسة الأولى رئيس الوزراء السوداني (سر الختم خليفة) الذي حمل في خطابه الإنكليز مسؤولية خلق مشكلة الجنوب وناشد رئيس الوزراء المؤتمرين التوصل لحل المشكلة، ولكن حدث أمرٌ غريبٌ وهو أن الأعضاء التسعة أعلنوا دعمهم لأهداف حزب /سانو/ وجبهة الجنوب، وتعبيراً عن موقفهم المفاجئ الداعم قام هؤلاء وتركوا مقاعدهم التي خصصت لهم وجلسوا بجانب وفدي /سانو/ و/جبهة الجنوب/.
هذا التصرف المفاجئ أصاب وفود الأحزاب الشمالية بالدهشة وألقى (وليم دنيق) خطاباً قال فيه أن الحل يكمن بإيجاد نظام فيدرالي على غرار النظام الأمريكي، أما جبهة الجنوب فقد طالب رئيس وفدها بحق تقرير المصير( ).
رفضت الحكومة السودانية برئاسة (سر الختم خليفة) هذا المبدأ.
أما كلمة حزب /سانو/ فقد ألقاها رئيس الحزب (أقري جادين) الذي تناول فيها علاقات الجنوب بالشمال وقد ارتكز في خطابه على المعلومات التي أوردها الغربيون /العبودية/ وعدم المساواة /؟/ ثم اختتم خطابه بقوله:
- إنه من مصلحة الشمال والجنوب أن ينفصلا /بسلام/ وبرر ذلك قائلاً:
- في السودان منطقتان مختلفتان جغرافياً وعرقياً وثقافياً، فلا قاسم مشترك بين المجموعات السودانية ولا معتقدات مشتركة وليست هناك مصلحة مشتركة من ناحية الهوية ولا بوادر محلية لتشجيع الوحدة، وفوق كل ذلك فشل السودان في أن يشكل كياناً موحداً، ولا أمل في حل الخلافات حتى يمنح الجنوب الانفصال والاستقلال.
إن مشكلة جنوب السودان قد تضر بالعلاقات الإفريقية العربية، بالإضافة إلى كونها سبباً لعدم الاستقرار في إفريقيا وتفادياً لذلك يجب أن يمنح جنوب السودان استقلاله..؟!!
أما الأحزاب الشمالية فقد اقترحت قيام حكم ذاتي يحفظ الوحدة الوطنية والبلاد موحدة، وبعد مداولات طويلة لاح في الأفق الفشل وهكذا حصل!..

آداب عبد الهادي
27/01/2008, 02:00 PM
الفصل الثاني
فشــل المؤتـمـر

فشل مؤتمر المائدة المستديرة أما أسباب فشله فتعود إلى الأسباب التالية:
1 - هناك من يؤول الفشل للطرفين المتحاورين، ولكن حقيقة الفشل تعود إلى تباين وجهات نظر الجانب الجنوبي بالإضافة إلى ممارسة ضغط قوات /الأنانيا/ على مجموعة (جادين) التي طلبت فيها ألا تقبل بأقل من انفصال الجنوب.
2 - اهتمام الأحزاب الشمالية بالانتخابات التي أعلن عن موعد إجرائها، أكثر من اهتمامها بالمفاوضات، والحقيقة أن هذا الإهمال ناتج عن انقسامات الجهات الجنوبية في المؤتمر، كما سبق وذكرنا.
3 - استياء وغضب الأحزاب الشمالية، المشاركة في المؤتمرين الجنوبيين، الذين كانوا يصرحون ويتحدثون عن أخطاء الشماليين والأحاديث كانت تتم في قاعة المؤتمر وأمام وسائل الإعلام وتصرف الجنوبيين أغضب وفود الأحزاب الشمالية مما دفع بعضها لمقاطعة المؤتمر.
الطريق المسدود:
في هذا الجو المشحون بالتناقضات والضغوط التي أثارتها وبدأتها الوفود الجنوبية فشل المؤتمرون وأدركوا أنهم توصلوا إلى طريق مسدود، ولكي لا يظهروا أمام الرأي العام السوداني بأنهم المسببون لهذا الفشل لملموا فشلهم واتفقوا على الآتي:
1 - تأجيل المؤتمر لثلاثة أشهر.
2 - تكوين لجنة من اثني عشر عضواً لدراسة وتقديم توصيات حول العلاقات الدستورية والإدارية والاقتصادية بين الجنوب والحكومة المركزية.
3 - قيام برنامج إسعافي انتقالي في الجنوب.
ثلاثة بنود خرج بها المؤتمرون الذين يدّعون وصايتهم على الشعب السوداني ومصالحه، خرجوا بها، فهل انعقد المؤتمر مرة ثانية؟!!!
وقبل الإجابة عن ذلك دعونا نقدم التحليل التالي:
س 1: جاءت قرارات المؤتمر النهائية على شكل إعلان للتوصل إلى اتفاقيات بين الطرفين بشأن بعض المواضيع؟
ج : كيف ذلك، وجوهر القضية لم يؤتَ على ذكره من قريب أو بعيد، وهو الإطار الدستوري لمستقبل السودان.
س 2: لماذا اتفق المجتمعون على تشكيل لجنة سميت /لجنة الإثني عشر/؟
ج : حتى تتم مراضاة من لم يكن حاضراً أو ممثلاً في المؤتمر المذكور!
إنَّ اللجنة المقترحة والمتكونة من ممثلي التجمعات السياسية المختلفة ستعمل على مناقشة المسألة الدستورية.
س - هل كان لزاماً على هذه اللجنة مناقشة مسألة الدستور بعد فشل المؤتمر؟
ج - ......
س - لماذا لم تتكون اللجنة قبل مؤتمر /المائدة المستديرة/؟
ج - ......
إن الجواب يكمن في الآتي، وكما يقول أحد القادة الجنوبيين:
«إنَّ لجنة الإثني عشرية هي وليدة مؤتمر المائدة المستديرة، لنترك الوليد ونأخذ الأم».
ويتابع قائلاً: «لقد استبعدنا من الاشتراك في المفاوضات، ونحن الذين قدنا الحملة السياسية والعسكرية ضد الحكومة المركزية وقواتها في الجنوب، إنَّ حركتنا /الأنانيا/ لم توجه إليها دعوة لحضور المفاوضات، ونحن لم نهتم لذلك واستمرينا في حملتنا، تركناهم يتفاوضون... ليفعلوا ما يشاؤون...».
وبينما كانت تجري المفاوضات في الخرطوم، كانت تصعّد حركة التمرد /الأنانيا/ من هجماتها على الجيش السوداني، والشيء المهم أنَّ عدداً من الجنوبيين المفاوضين كانوا على علاقات جيدة مع حركة /الأنانيا/ وهكذا بقيت الحركة على تواصل مع كل ما يتم في المؤتمر وعلى هامشه، وفي الحقيقة نستطيع القول بأنَّ هؤلاء كانوا جواسيس للحركة، ويمكننا أن نستنتج أنَّ فشل المفاوضات يعود إلى هؤلاء المشاركين فهم لم يكونوا في موقف يتيح لهم تقديم أي تنازلات أو تسويات حقيقية، إنَّهم أدركوا جيداً أنَّ التوصل إلى حل نهائي مرهون بقبول /الأنانيا/ ترفض أي تنازلات يتقدم بها ممثلو الأحزاب الجنوبية الذين يعتبرون أنَّ مهمة لجنة /الاثني عشر/ هي البحث عن حل في إطار سودان موحَّد، ولكن بشرط أن يبقى هذا الحل سرياً ولا ينشر تداركاً لردة فعل حركة /الأنانيا/ التي قد تقوم عندها بتصفية أفراد هذه التنظيمات.
ما الذي حدث بعد فشل المؤتمر؟
بعد انتهاء المؤتمر بقيت مجموعة (وليم دنيق) في الخرطوم وتم الاعتراف بهم كحزب سياسي، فقد ساعد انعقاد المؤتمر على انشقاق وخروج (وليم دنيق) من حزب /سانو/ بينما قبع (أقري جادين) ومنافسه (جوزيف أودهو) في كمبالا عاصمة يوغندة.
فشل المؤتمر كما ذكرنا سابقاً إلا أنه أعطى فرصة للحكومة والمتمردين أن يلتقيا ويسمع كل منهما وجهة نظر الآخر، هذا أهم حدث في المؤتمر، إلا أن الشارع السوداني شعر بنكسة جديدة تضاف إلى الأمة وجروحها التي تزداد وتتعمق يوماً بعد يوم.
وقد فضل (وليم دنيق) ومجموعته البقاء في عاصمة بلاده السودان، بينما جلس زملاؤه في كمبالا وزادت الخلافات بين الجنوبيين مما أدى إلى انشقاق جديد في الحزب وتزعم هذا الانشقاق (جوزيف أودهو) الذي كون جبهة جديدة سماها /جبهة أزانيا التحريرية/ وقدموا برنامجهم الذي تضمن بنوداً عدة ومن أهمها توحيد الجناح العسكري والسياسي للحركة الجنوبية وتحرير الجنوب من حكم الشماليين كما ادعوا؟
وكان هذا الطرح هو الهدف الرئيسي لهم، أما قيادة /سانو/ فقد تألفت من المتمردين الجنوبيين التالية أسماؤهم:
1 - جوزيف أودهو رئيساً.
2 - الأب ساترنينولو هورو: نائباً للرئيس.
3 - أزيون مونديري: مسؤولاً عن الدفاع.
4 - جورج أكومبيك كواناي: مسؤولاً عن العلاقات الخارجية.
5 - جوزيف لاغويانقا: قائداً أعلى للجيش.
6 - وليم حسن - مساعداً للقائد الأعلى.
7 - ايليا لوبي: عضواً.
8 - فانكاراسيسو أوشيانق: عضواً.
9 - ماركو رومي: عضواً.

آداب عبد الهادي
27/01/2008, 02:00 PM
الفصل الثاني
فشــل المؤتـمـر

فشل مؤتمر المائدة المستديرة أما أسباب فشله فتعود إلى الأسباب التالية:
1 - هناك من يؤول الفشل للطرفين المتحاورين، ولكن حقيقة الفشل تعود إلى تباين وجهات نظر الجانب الجنوبي بالإضافة إلى ممارسة ضغط قوات /الأنانيا/ على مجموعة (جادين) التي طلبت فيها ألا تقبل بأقل من انفصال الجنوب.
2 - اهتمام الأحزاب الشمالية بالانتخابات التي أعلن عن موعد إجرائها، أكثر من اهتمامها بالمفاوضات، والحقيقة أن هذا الإهمال ناتج عن انقسامات الجهات الجنوبية في المؤتمر، كما سبق وذكرنا.
3 - استياء وغضب الأحزاب الشمالية، المشاركة في المؤتمرين الجنوبيين، الذين كانوا يصرحون ويتحدثون عن أخطاء الشماليين والأحاديث كانت تتم في قاعة المؤتمر وأمام وسائل الإعلام وتصرف الجنوبيين أغضب وفود الأحزاب الشمالية مما دفع بعضها لمقاطعة المؤتمر.
الطريق المسدود:
في هذا الجو المشحون بالتناقضات والضغوط التي أثارتها وبدأتها الوفود الجنوبية فشل المؤتمرون وأدركوا أنهم توصلوا إلى طريق مسدود، ولكي لا يظهروا أمام الرأي العام السوداني بأنهم المسببون لهذا الفشل لملموا فشلهم واتفقوا على الآتي:
1 - تأجيل المؤتمر لثلاثة أشهر.
2 - تكوين لجنة من اثني عشر عضواً لدراسة وتقديم توصيات حول العلاقات الدستورية والإدارية والاقتصادية بين الجنوب والحكومة المركزية.
3 - قيام برنامج إسعافي انتقالي في الجنوب.
ثلاثة بنود خرج بها المؤتمرون الذين يدّعون وصايتهم على الشعب السوداني ومصالحه، خرجوا بها، فهل انعقد المؤتمر مرة ثانية؟!!!
وقبل الإجابة عن ذلك دعونا نقدم التحليل التالي:
س 1: جاءت قرارات المؤتمر النهائية على شكل إعلان للتوصل إلى اتفاقيات بين الطرفين بشأن بعض المواضيع؟
ج : كيف ذلك، وجوهر القضية لم يؤتَ على ذكره من قريب أو بعيد، وهو الإطار الدستوري لمستقبل السودان.
س 2: لماذا اتفق المجتمعون على تشكيل لجنة سميت /لجنة الإثني عشر/؟
ج : حتى تتم مراضاة من لم يكن حاضراً أو ممثلاً في المؤتمر المذكور!
إنَّ اللجنة المقترحة والمتكونة من ممثلي التجمعات السياسية المختلفة ستعمل على مناقشة المسألة الدستورية.
س - هل كان لزاماً على هذه اللجنة مناقشة مسألة الدستور بعد فشل المؤتمر؟
ج - ......
س - لماذا لم تتكون اللجنة قبل مؤتمر /المائدة المستديرة/؟
ج - ......
إن الجواب يكمن في الآتي، وكما يقول أحد القادة الجنوبيين:
«إنَّ لجنة الإثني عشرية هي وليدة مؤتمر المائدة المستديرة، لنترك الوليد ونأخذ الأم».
ويتابع قائلاً: «لقد استبعدنا من الاشتراك في المفاوضات، ونحن الذين قدنا الحملة السياسية والعسكرية ضد الحكومة المركزية وقواتها في الجنوب، إنَّ حركتنا /الأنانيا/ لم توجه إليها دعوة لحضور المفاوضات، ونحن لم نهتم لذلك واستمرينا في حملتنا، تركناهم يتفاوضون... ليفعلوا ما يشاؤون...».
وبينما كانت تجري المفاوضات في الخرطوم، كانت تصعّد حركة التمرد /الأنانيا/ من هجماتها على الجيش السوداني، والشيء المهم أنَّ عدداً من الجنوبيين المفاوضين كانوا على علاقات جيدة مع حركة /الأنانيا/ وهكذا بقيت الحركة على تواصل مع كل ما يتم في المؤتمر وعلى هامشه، وفي الحقيقة نستطيع القول بأنَّ هؤلاء كانوا جواسيس للحركة، ويمكننا أن نستنتج أنَّ فشل المفاوضات يعود إلى هؤلاء المشاركين فهم لم يكونوا في موقف يتيح لهم تقديم أي تنازلات أو تسويات حقيقية، إنَّهم أدركوا جيداً أنَّ التوصل إلى حل نهائي مرهون بقبول /الأنانيا/ ترفض أي تنازلات يتقدم بها ممثلو الأحزاب الجنوبية الذين يعتبرون أنَّ مهمة لجنة /الاثني عشر/ هي البحث عن حل في إطار سودان موحَّد، ولكن بشرط أن يبقى هذا الحل سرياً ولا ينشر تداركاً لردة فعل حركة /الأنانيا/ التي قد تقوم عندها بتصفية أفراد هذه التنظيمات.
ما الذي حدث بعد فشل المؤتمر؟
بعد انتهاء المؤتمر بقيت مجموعة (وليم دنيق) في الخرطوم وتم الاعتراف بهم كحزب سياسي، فقد ساعد انعقاد المؤتمر على انشقاق وخروج (وليم دنيق) من حزب /سانو/ بينما قبع (أقري جادين) ومنافسه (جوزيف أودهو) في كمبالا عاصمة يوغندة.
فشل المؤتمر كما ذكرنا سابقاً إلا أنه أعطى فرصة للحكومة والمتمردين أن يلتقيا ويسمع كل منهما وجهة نظر الآخر، هذا أهم حدث في المؤتمر، إلا أن الشارع السوداني شعر بنكسة جديدة تضاف إلى الأمة وجروحها التي تزداد وتتعمق يوماً بعد يوم.
وقد فضل (وليم دنيق) ومجموعته البقاء في عاصمة بلاده السودان، بينما جلس زملاؤه في كمبالا وزادت الخلافات بين الجنوبيين مما أدى إلى انشقاق جديد في الحزب وتزعم هذا الانشقاق (جوزيف أودهو) الذي كون جبهة جديدة سماها /جبهة أزانيا التحريرية/ وقدموا برنامجهم الذي تضمن بنوداً عدة ومن أهمها توحيد الجناح العسكري والسياسي للحركة الجنوبية وتحرير الجنوب من حكم الشماليين كما ادعوا؟
وكان هذا الطرح هو الهدف الرئيسي لهم، أما قيادة /سانو/ فقد تألفت من المتمردين الجنوبيين التالية أسماؤهم:
1 - جوزيف أودهو رئيساً.
2 - الأب ساترنينولو هورو: نائباً للرئيس.
3 - أزيون مونديري: مسؤولاً عن الدفاع.
4 - جورج أكومبيك كواناي: مسؤولاً عن العلاقات الخارجية.
5 - جوزيف لاغويانقا: قائداً أعلى للجيش.
6 - وليم حسن - مساعداً للقائد الأعلى.
7 - ايليا لوبي: عضواً.
8 - فانكاراسيسو أوشيانق: عضواً.
9 - ماركو رومي: عضواً.

آداب عبد الهادي
27/01/2008, 02:14 PM
الفصل الثالث
تعزيز قوة تنظيم الأنانيا

أرسل رئيس /أنانيا/ (أودهو) مسؤول الدفاع في التنظيم (أزيون) إلى غرب المحافظة الاستوائية وبحر الغزال لشرح واستقطاب العسكريين والسياسيين لحركة /الأنانيا/ أما (أودهو) فقد سافر إلى شرق محافظته الاستوائية التي قابل فيها القادة العسكريين المتمردين وشرح لهم أسباب خروجه من /سانو/ وتشكيله /جبهة أزانيا/ كان (أودهو) يدرك تماماً بأنه يمكن أن يحصل على دعم حركة التمرد /الأنانيا/ لجبهته، وبعد جهد كبير بذله رئيس /جبهة أزانيا/ أودهو نجح بشكل بسيط في دعم الجناح العسكري لتنظيمه في كل من /بحر الغزال/ و/الاستوائية/ ودعم أقل في منطقة أعالي النيل، لم يستثمر هذا الدعم فقد عادت الخلافات على أشدها في /الجبهة/ مما أدى إلى سقوط الدعم الجزئي لـ (أودهو) وجبهته.
إذاً، عادت الخلافات بين رفاق الأمس (أودهو) والأب (ساترنينو)، ذهب (أودهو) إلى يوغندة لحشد الدعم لـه من الجنوبيين الهاربين والحكومة اليوغندية ومن ممثلي مجلس الكنائس الإفريقية.
لكن الرياح ذهبت بعكس تطلع (أودهو) فقد سجنته السلطات اليوغندية، لم تطل فترة سجنه حيث تدخلت الكنيسة العالمية والإفريقية وأُطلق سراحه وعاد إلى شرق المحافظة الاستوائية، عادت الخلافات من جديد لكن هذه المرة بين (أودهو) وبين القائد الأعلى للمتمردين (جوزيف لاغو) الذي اعتقله( ) - حكم على (أودهو) بالإعدام؟ لم ينفذ الإعدام به وعلل ذلك لكبر سنه ومرضه، لكن الحقيقة تقول أن مجلس الكنائس العالمي هو الذي طلب عدم تنفيذ الحكم خوفاً من قتال أهلي بين الجنوبيين مما قد يضعفهم وتستغله الحكومة السودانية.
تم الإفراج عن (أودهو) وذهب إلى شرق أفريقيا.
هنا قرر (أقري جادين) تغيير اسم تنظيمه وأطلق عليه اسم /جبهة تحرير السودان الإفريقي/؟! وفي شهر آب /أغسطس/ عام 1965 حدث انشقاق آخر في /سانو/ جاء هذا الانشقاق من بعض السياسيين المتمردين الذين لم يتفقوا مع كل من (أودهو) و (أقري جادين) كون هؤلاء تنظيماً جديداً ولم يعمر هذا التنظيم كثيراً فقد اختفى دون أن يعرف أحد السبب كما لم يعرف عنه، ولا عن برنامجه، حتى أعضاؤه لم يعرف عنهم شيئاً؟؟
تدخل قادة الكنائس العالمية والإفريقية الذين حاولوا حل الخلافات داخل التنظيم وأسفرت جهودهم عن اجتماع عقد في مدينة /كمبالا/ اليوغندية في
25 آب /أغسطس/ عام 1965 وقد حضر الاجتماعات هذه قادة الفصائل المتمردة أصحاب العلاقة، جرت المفاوضات بين الأطراف في أجواء صعبة إلا أن ضغط الكنيسة عليهم جعلهم يصدرون بياناً مشتركاً يدعون فيه للمصالحة فيما بينهم وهذا ما تم فقد تم اتخاذ عدد من القرارات وفيما يلي نذكر القسم المهم منها:
1 - اتفق أعضاء حزب /سانو/:
أ - جناج /جادين/.
ب - جناج A - L - F.
وقرر هذان الخصمان أن تكون المصالحة تحت اسم /جبهة تحرير السودان الإفريقي/؟
2 - التخلي عن اسمي حركتيهما - وقد اتفق الجانبان على هدف واحد مشترك هو الاستقلال الكامل لجنوب السودان من الشمال، كذلك اتفقا على استخدام القوة لتحقيق هذا الهدف؟ كما اتفق أيضاً على دعم حركة /الأنانيا/ قبل وبعد الاستقلال، وتسمية قيادة التنظيم الجديد وفق ما يلي:
1 - أقري جادين: رئيساً عاماً.
2 - دومنيك موريل: رئيساً وطنياً.
3 - فيليب بيداك ليان: نائباً للرئيس.
وقد استنكر التنظيم الجديد تصرفات العرب ودعمهم للحكومة السودانية التي تقدم الدعم للشماليين ضد الجنوبيين.
كذلك استنكر التنظيم القوى الخارجية خاصة الاتحاد السوفييتي والصين اللتين تساندان العرب لإبادة الأفارقة السود في جنوب السودان...؟!!
هذه أهم القرارات التي اتخذها تنظيم جبهة تحرير السودان الإفريقي والحقيقة أن هذه القرارات قد أمليت على قادة التنظيمين اللذين أصبحا تنظيماً واحداً هو قادة الكنائس كما سبق وأن أشرنا، هذا هو المطلوب /دولة جنوبية مسيحية(فرنجية)/ تقف ضد العرب والمسلمين.
اختلاف المتمرِّدين من جديد!
لم تمضِ فترة طويلة حتى اختلف المتمردان وعاد كل متمرد إلى فصيله السابق، كان الخلاف خلاف زعامة وليس مبادئ، عاد الوسطاء وضغطوا على الزعيمين وأعوانهما، وتمت المصالحة من جديد وأصبح المتمرد (أودهو) رئيساً و(جادين) نائباً لـه بعد ذلك صيغت مسودة جديدة للدستور الذي وضعه المتمردون وقد جاء في مقدمة الدستور التالي:
«نحن شعب أفريقيا أصحاب هذه البلاد المعروفة حالياً بجنوب السودان ضحايا الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية والظلم وكل أنواع السياسات التي يمارسها الاستعمار( ) لتحطيم القارة الإفريقية... لقد اتحدنا ووضعنا لأنفسنا دستوراً يهدف إلى شيء واحد هو تحرير جنوب السودان وإنشاء دولة لشعب أفريقي حر لكي يتمتع الإفريقي الأسود في هذا الجزء من قارته بالأمن والعدالة والرفاهية بالإضافة إلى حقوق الإنسان والكرامة؟؟!!».
لم تدم المصالحة بين المتمردين (جادين) و(أودهو) وعاد الخلاف أشد مما كان عليه، وكما قلنا سابقاً الخلاف هو خلاف زعامة وليس خلاف مبادئ.
إن كافة المتمردين متفقون على انفصال الجنوب وقيام دولة مذهبية تدين للغرب وقيادته الكنائسية المتصهينة؟
عادت الجهود لجمع شمل المتمردين المتآمرين على بعضهما البعض، هنا قرر مؤيدو المتمرد الزعيم (جادين) نقل التنظيم من المنفى إلى جنوب السودان وبالتحديد إلى منطقة /لوميريا/ إلى قرب الحدود الزائيرية وبالتحديد إلى منطقة /انجوري/ وكان سبب النقل هو الوضع الأمني وانتصارات الجيش السوداني وضربه للمتمردين.
إلا أن المتمردين الانفصاليين يبررون هذا النقل بقولهم الآتي:
إن الجناح العسكري للحركة الجنوبية شعر بأن الانشقاقات المستمرة وسط قادة الحركة السياسية قد أضعفت الحركة التحريرية الجنوبية وبناءً على هذا التصوير قرر الجناح العسكري التدخل من أجل المصالحة العامة في الحركة، وتمت الدعوة إلى انعقاد مؤتمر وطني جامع يحضره جناحا الحركة السياسي والعسكري
لا على أن يعقد هذا المؤتمر في /انجوري/ المقر الرئيسي الجديد للحركة.
والحقيقة أن سبب النقل كما سبق وأشرنا هو الانتصارات العسكرية التي حققها الجيش السوداني - فكان لا بد من إيجاد مكان آمن وهذا المكان وجد في أراضي زائير الداعمة للتمرد والانفصال.
تشكيل حكومة جنوب السودان /للمتمردين/:
انعقد مؤتمر عام للمتمردين بغية تقويم مسار السياسيين المتطاحنين فيما بينهم وقد عقد المؤتمر ضمن الأراضي الزائيرية في الفترة ما بين 15 - 18 آب /أغسطس/ عام 1967 وقد حضر السياسيون وقادة تنظيم حركة التمرد العسكرية /الأنانيا/ وكان الموضوع المطروح على المؤتمرين هو إصلاح حركة التمرد بشكليها السياسي والعسكري، وبعد مناقشات طويلة كان قادة هذه الحركة قد أخذوا تعليماتهم من قادة مجلس الكنائس العالمي وهي /عليكم أن تخرجوا من هذا المؤتمر وأنتم متفقون على إيجاد حكومة جنوبية تعمل لانفصال الجنوب عن الشمال/ وبناءً على ذلك اتفق المؤتمرون على ما يلي:
1 - تشكيل حكومة وطنية: تسمى الحكومة الانتقالية لجنوب السودان.
2 - نقل رئاسة الحركة من شرق أفريقيا إلى أدغال الجنوب.
3 - تحل كل التنظيمات السياسية وتدمج جميعها في حركة واحدة بجناحيها العسكري والسياسي.
4 - تتم المصادقة على شكل أول علم لجنوب السودان.
بعدها قرر المؤتمرون أن يعقد مؤتمر عام سنوياً وبانتظام.
هذا فيما يخص العمل الداخلي، أما العمل السياسي الخارجي للحركة فقد تم العمل فيه وفق ما يلي:
أ - على الحكومة الانتقالية أن تسعى للتعاون مع الحركات التحررية( ).
ب - تحرير جنوب السودان من الحكم العربي في السودان...
ت - يدعم المؤتمرون حركات السلام العالمية مثل مجلس الكنائس العالمي ومؤتمر الكنائس الإفريقية ومجلس الكنائس السودانية.
ث - وافق المؤتمر على مساندة السوق المشتركة لشرق أفريقيا..
وقد تم تشكيل مكتب سياسي ومجلس تنفيذي، والمكتب السياسي شكل من أربعة أشخاص وهم:
1 - أقري جادين : رئيساً.
2 - كاميلو ضوال كواج : نائباً للرئيس.
3 - فرانسيس ميار : وكيلاً عاماً.
4 - سفرينو فولي : وزيراً لشؤون الرئاسة.
أما المجلس التنفيذي فقد كُون من اثني عشر شخصاً /6/ منهم من قبيلة (الدينكا) واثنان من قبيلة (الشلك) والباقي من القبائل التالية:
1 - كاكوا.
2 - فاجولو.
3 - لاتوكا.
4 - النوير.
وهؤلاء يمثلون المحافظات الجنوبية التالية:
أ : الاستوائية.
ب : أعالي النيل.
ت : بحر الغزال.
بعد المؤتمر انتقلت القيادة من المنطقة المتداخلة بين السودان وزائير والمعروفة باسم /انجوري/ إلى منطقة أكثر أماناً تعرف باسم /بلوجو بندي/ غرب المحافظة الاستوائية وهي منطقة حدودية متداخلة أيضاً بعد ذلك غيرت القيادة اسم الجناح العسكري المعروف بـ /الأنانيا/؟
أما النقطة المهمة التي ركزت عليها الحكومة الانتقالية هي تأسيس إدارات في المناطق التي تسيطر عليها، كما أنها عملت من أجل تقوية نفسها فتبنت اقتراحاً تقدم به (أزيون مونديري) عام 1965 وهو تقسيم المحافظات الجنوبية الثلاث إلى تسع مناطق إدارية وأن يحكم كل منطقة مفوض سياسي ينسق مع القائد العسكري المعين بنفس المنطقة، الهدف من ذلك كان إظهار قوة التنظيم وعلى أنه يستطيع حماية مناطق الجنوب كافة من الجيش السوداني.
ما الذي نستخلصه من هذا المؤتمر الذي دعي باسم /انجوري/؟!
حسب رأي الحكومة والقيادات السودانية مؤتمر منظم من قبل الكنائس المتصهينة لخلق دولة معادية للسودان وعالمه العربي الإسلامي.
أما الرأي الجنوبي المتمرد والضروري أن نعرفه هو الآتي:
أراد القادة الجنوبيون المتمردون في الداخل أن يثبتوا أن سياسيي الخارج قد أخذوا الدروس والعبر من الخلافات التي كانت دائرة بينهم، وأن حسهم بالمسؤولية تجاه شعبهم أصبح هاجس بعضهم.
وقد أرادوا بانعقاد المؤتمر أن يثبتوا للغرب أنهم يعملون لإقامة دولتهم الإفريقية الفرنجية الكنائسية التي يساعدهم ويدعمهم الغرب لإقامتها خدمة لهم، وبهذا الشأن نستطيع القول الآتي:
في شهر أيلول /سبتمبر/ عام 1969 وجهت حركة التمرد /الأنانيا/ اللوم إلى السياسيين الذين يعيشون في مدن شرق أفريقيا وأوروبا وأمريكا.
وكان قادة الأنانيا يقولون أننا نعيش في الغابات والجبال بين الوحوش والحشرات بينما نظراؤنا السياسيون يعيشون في المنتجعات والفنادق الفخمة، كنا نأكل الثعابين والأفاعي بينما هم يأكلون /القريدس/ والكافيار.
وبناءً على هذه الأقاويل الحقيقية والكاذبة، بدأ العقيد (جوزيف لاغو) قائد الأنانيا في منطقة شرق الاستوائية مهمة شاقة وهي توحيد القيادات الجنوبية في الأقطار الموجودة فقد تبنى (لاغو) برنامجاً يبدأ بالتدريج في البداية لتوحيد قوات الحركة ثم توحيد السياسيين في الخارج ثانياً.
لم يستطع (لاغو) توحيد السياسيين في الخارج ولا في الداخل وبهذا الشأن قال:
- كانت أصعب الأمور التي واجهتني في الأدغال هي كيفية التعامل مع السياسيين، لقد رفضت التعاون معهم والحقيقة هي أن السياسيين في الداخل والخارج هم الذين رفضوا التعاون معه أي /مع (لاغو)/ ورأى المقاتلون أن عملي جيد فقاموا بعزل السياسيين.
حصل قائد التمرد (لاغو) على ولاء وتأييد معظم ضباط حركة التمرد /الأنانيا/ في الجنوب وعلى أثر ذلك شكل (لاغو) مجلساً سماه /مجلس القيادة الوطني الأعلى /للأنانيا/ ومهمة هذا المجلس قيادة العمليات العسكرية وتوفير الدعم والمعدات العسكرية، بعد أن تمكن المتمرد (لاغو) من حل الحكومات الجنوبية /غير الشرعية/ وقد استخدم القوة تارة والسياسة تارة أخرى لتنفيذ خطته بإسقاط الحكومات الجنوبية.
وفي شهر نيسان /أبريل/ عام 1970 أقنع (لاغو) ما يسمى برئيس حكومة /ايندي الثورية/ الجنرال (اميديو تافنج) بحل حكومته، وفعلاً تم حل هذه الحكومة المصطنعة.
بعد ذلك حلت حكومة /النيل الانتقالية/ فقد تآمر (لاغو) مع العقيد (فريدريك ماقوت) رئيس هيئة الأركان في حكومة /النيل/ وتم حلها وتشريدها.
بعد هذه النجاحات التآمرية الجنوبية دعا (لاغو) قيادات حركة /الأنانيا/ وبعض القادة السياسيين لعقد مؤتمر عام في شهر آب /أغسطس/ من عام /1971/ عقد المؤتمر في منطقة /أوينجبول/ وأعلن فيه عن قيام /حركة تحرير جنوب السودان وترقية المتمرد (جوزيف لاغو) إلى رتبة لواء كذلك احتفل بذكرى مرور ست عشرة سنة على عصيان /توريت/ عام 1955 بعد ذلك شكلت قيادة جديدة تحت اسم المجلس الأعلى الذي تكون من المتمردين التالية أسماؤهم:
1 - اللواء - جوزيف لاغو بانقا - القائد الأعلى.
2 - العقيد - جوزيف أكون - قائداً للفرقة الثانية في منطقة أعالي النيل.
3 - العقيد - فريدريك ماقوت - قائداً للفرقة الأولى في منطقة الاستوائية.
4 - العقيد - أمانويل أبور - كبير ضباط الفرقة الثالثة في بحر الغزال.
هذا التعيين للعسكريين أما المدنيون فقد تم تعيينهم وفق ولائهم وانتمائهم القبلي.

آداب عبد الهادي
27/01/2008, 02:14 PM
الفصل الثالث
تعزيز قوة تنظيم الأنانيا

أرسل رئيس /أنانيا/ (أودهو) مسؤول الدفاع في التنظيم (أزيون) إلى غرب المحافظة الاستوائية وبحر الغزال لشرح واستقطاب العسكريين والسياسيين لحركة /الأنانيا/ أما (أودهو) فقد سافر إلى شرق محافظته الاستوائية التي قابل فيها القادة العسكريين المتمردين وشرح لهم أسباب خروجه من /سانو/ وتشكيله /جبهة أزانيا/ كان (أودهو) يدرك تماماً بأنه يمكن أن يحصل على دعم حركة التمرد /الأنانيا/ لجبهته، وبعد جهد كبير بذله رئيس /جبهة أزانيا/ أودهو نجح بشكل بسيط في دعم الجناح العسكري لتنظيمه في كل من /بحر الغزال/ و/الاستوائية/ ودعم أقل في منطقة أعالي النيل، لم يستثمر هذا الدعم فقد عادت الخلافات على أشدها في /الجبهة/ مما أدى إلى سقوط الدعم الجزئي لـ (أودهو) وجبهته.
إذاً، عادت الخلافات بين رفاق الأمس (أودهو) والأب (ساترنينو)، ذهب (أودهو) إلى يوغندة لحشد الدعم لـه من الجنوبيين الهاربين والحكومة اليوغندية ومن ممثلي مجلس الكنائس الإفريقية.
لكن الرياح ذهبت بعكس تطلع (أودهو) فقد سجنته السلطات اليوغندية، لم تطل فترة سجنه حيث تدخلت الكنيسة العالمية والإفريقية وأُطلق سراحه وعاد إلى شرق المحافظة الاستوائية، عادت الخلافات من جديد لكن هذه المرة بين (أودهو) وبين القائد الأعلى للمتمردين (جوزيف لاغو) الذي اعتقله( ) - حكم على (أودهو) بالإعدام؟ لم ينفذ الإعدام به وعلل ذلك لكبر سنه ومرضه، لكن الحقيقة تقول أن مجلس الكنائس العالمي هو الذي طلب عدم تنفيذ الحكم خوفاً من قتال أهلي بين الجنوبيين مما قد يضعفهم وتستغله الحكومة السودانية.
تم الإفراج عن (أودهو) وذهب إلى شرق أفريقيا.
هنا قرر (أقري جادين) تغيير اسم تنظيمه وأطلق عليه اسم /جبهة تحرير السودان الإفريقي/؟! وفي شهر آب /أغسطس/ عام 1965 حدث انشقاق آخر في /سانو/ جاء هذا الانشقاق من بعض السياسيين المتمردين الذين لم يتفقوا مع كل من (أودهو) و (أقري جادين) كون هؤلاء تنظيماً جديداً ولم يعمر هذا التنظيم كثيراً فقد اختفى دون أن يعرف أحد السبب كما لم يعرف عنه، ولا عن برنامجه، حتى أعضاؤه لم يعرف عنهم شيئاً؟؟
تدخل قادة الكنائس العالمية والإفريقية الذين حاولوا حل الخلافات داخل التنظيم وأسفرت جهودهم عن اجتماع عقد في مدينة /كمبالا/ اليوغندية في
25 آب /أغسطس/ عام 1965 وقد حضر الاجتماعات هذه قادة الفصائل المتمردة أصحاب العلاقة، جرت المفاوضات بين الأطراف في أجواء صعبة إلا أن ضغط الكنيسة عليهم جعلهم يصدرون بياناً مشتركاً يدعون فيه للمصالحة فيما بينهم وهذا ما تم فقد تم اتخاذ عدد من القرارات وفيما يلي نذكر القسم المهم منها:
1 - اتفق أعضاء حزب /سانو/:
أ - جناج /جادين/.
ب - جناج A - L - F.
وقرر هذان الخصمان أن تكون المصالحة تحت اسم /جبهة تحرير السودان الإفريقي/؟
2 - التخلي عن اسمي حركتيهما - وقد اتفق الجانبان على هدف واحد مشترك هو الاستقلال الكامل لجنوب السودان من الشمال، كذلك اتفقا على استخدام القوة لتحقيق هذا الهدف؟ كما اتفق أيضاً على دعم حركة /الأنانيا/ قبل وبعد الاستقلال، وتسمية قيادة التنظيم الجديد وفق ما يلي:
1 - أقري جادين: رئيساً عاماً.
2 - دومنيك موريل: رئيساً وطنياً.
3 - فيليب بيداك ليان: نائباً للرئيس.
وقد استنكر التنظيم الجديد تصرفات العرب ودعمهم للحكومة السودانية التي تقدم الدعم للشماليين ضد الجنوبيين.
كذلك استنكر التنظيم القوى الخارجية خاصة الاتحاد السوفييتي والصين اللتين تساندان العرب لإبادة الأفارقة السود في جنوب السودان...؟!!
هذه أهم القرارات التي اتخذها تنظيم جبهة تحرير السودان الإفريقي والحقيقة أن هذه القرارات قد أمليت على قادة التنظيمين اللذين أصبحا تنظيماً واحداً هو قادة الكنائس كما سبق وأن أشرنا، هذا هو المطلوب /دولة جنوبية مسيحية(فرنجية)/ تقف ضد العرب والمسلمين.
اختلاف المتمرِّدين من جديد!
لم تمضِ فترة طويلة حتى اختلف المتمردان وعاد كل متمرد إلى فصيله السابق، كان الخلاف خلاف زعامة وليس مبادئ، عاد الوسطاء وضغطوا على الزعيمين وأعوانهما، وتمت المصالحة من جديد وأصبح المتمرد (أودهو) رئيساً و(جادين) نائباً لـه بعد ذلك صيغت مسودة جديدة للدستور الذي وضعه المتمردون وقد جاء في مقدمة الدستور التالي:
«نحن شعب أفريقيا أصحاب هذه البلاد المعروفة حالياً بجنوب السودان ضحايا الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية والظلم وكل أنواع السياسات التي يمارسها الاستعمار( ) لتحطيم القارة الإفريقية... لقد اتحدنا ووضعنا لأنفسنا دستوراً يهدف إلى شيء واحد هو تحرير جنوب السودان وإنشاء دولة لشعب أفريقي حر لكي يتمتع الإفريقي الأسود في هذا الجزء من قارته بالأمن والعدالة والرفاهية بالإضافة إلى حقوق الإنسان والكرامة؟؟!!».
لم تدم المصالحة بين المتمردين (جادين) و(أودهو) وعاد الخلاف أشد مما كان عليه، وكما قلنا سابقاً الخلاف هو خلاف زعامة وليس خلاف مبادئ.
إن كافة المتمردين متفقون على انفصال الجنوب وقيام دولة مذهبية تدين للغرب وقيادته الكنائسية المتصهينة؟
عادت الجهود لجمع شمل المتمردين المتآمرين على بعضهما البعض، هنا قرر مؤيدو المتمرد الزعيم (جادين) نقل التنظيم من المنفى إلى جنوب السودان وبالتحديد إلى منطقة /لوميريا/ إلى قرب الحدود الزائيرية وبالتحديد إلى منطقة /انجوري/ وكان سبب النقل هو الوضع الأمني وانتصارات الجيش السوداني وضربه للمتمردين.
إلا أن المتمردين الانفصاليين يبررون هذا النقل بقولهم الآتي:
إن الجناح العسكري للحركة الجنوبية شعر بأن الانشقاقات المستمرة وسط قادة الحركة السياسية قد أضعفت الحركة التحريرية الجنوبية وبناءً على هذا التصوير قرر الجناح العسكري التدخل من أجل المصالحة العامة في الحركة، وتمت الدعوة إلى انعقاد مؤتمر وطني جامع يحضره جناحا الحركة السياسي والعسكري
لا على أن يعقد هذا المؤتمر في /انجوري/ المقر الرئيسي الجديد للحركة.
والحقيقة أن سبب النقل كما سبق وأشرنا هو الانتصارات العسكرية التي حققها الجيش السوداني - فكان لا بد من إيجاد مكان آمن وهذا المكان وجد في أراضي زائير الداعمة للتمرد والانفصال.
تشكيل حكومة جنوب السودان /للمتمردين/:
انعقد مؤتمر عام للمتمردين بغية تقويم مسار السياسيين المتطاحنين فيما بينهم وقد عقد المؤتمر ضمن الأراضي الزائيرية في الفترة ما بين 15 - 18 آب /أغسطس/ عام 1967 وقد حضر السياسيون وقادة تنظيم حركة التمرد العسكرية /الأنانيا/ وكان الموضوع المطروح على المؤتمرين هو إصلاح حركة التمرد بشكليها السياسي والعسكري، وبعد مناقشات طويلة كان قادة هذه الحركة قد أخذوا تعليماتهم من قادة مجلس الكنائس العالمي وهي /عليكم أن تخرجوا من هذا المؤتمر وأنتم متفقون على إيجاد حكومة جنوبية تعمل لانفصال الجنوب عن الشمال/ وبناءً على ذلك اتفق المؤتمرون على ما يلي:
1 - تشكيل حكومة وطنية: تسمى الحكومة الانتقالية لجنوب السودان.
2 - نقل رئاسة الحركة من شرق أفريقيا إلى أدغال الجنوب.
3 - تحل كل التنظيمات السياسية وتدمج جميعها في حركة واحدة بجناحيها العسكري والسياسي.
4 - تتم المصادقة على شكل أول علم لجنوب السودان.
بعدها قرر المؤتمرون أن يعقد مؤتمر عام سنوياً وبانتظام.
هذا فيما يخص العمل الداخلي، أما العمل السياسي الخارجي للحركة فقد تم العمل فيه وفق ما يلي:
أ - على الحكومة الانتقالية أن تسعى للتعاون مع الحركات التحررية( ).
ب - تحرير جنوب السودان من الحكم العربي في السودان...
ت - يدعم المؤتمرون حركات السلام العالمية مثل مجلس الكنائس العالمي ومؤتمر الكنائس الإفريقية ومجلس الكنائس السودانية.
ث - وافق المؤتمر على مساندة السوق المشتركة لشرق أفريقيا..
وقد تم تشكيل مكتب سياسي ومجلس تنفيذي، والمكتب السياسي شكل من أربعة أشخاص وهم:
1 - أقري جادين : رئيساً.
2 - كاميلو ضوال كواج : نائباً للرئيس.
3 - فرانسيس ميار : وكيلاً عاماً.
4 - سفرينو فولي : وزيراً لشؤون الرئاسة.
أما المجلس التنفيذي فقد كُون من اثني عشر شخصاً /6/ منهم من قبيلة (الدينكا) واثنان من قبيلة (الشلك) والباقي من القبائل التالية:
1 - كاكوا.
2 - فاجولو.
3 - لاتوكا.
4 - النوير.
وهؤلاء يمثلون المحافظات الجنوبية التالية:
أ : الاستوائية.
ب : أعالي النيل.
ت : بحر الغزال.
بعد المؤتمر انتقلت القيادة من المنطقة المتداخلة بين السودان وزائير والمعروفة باسم /انجوري/ إلى منطقة أكثر أماناً تعرف باسم /بلوجو بندي/ غرب المحافظة الاستوائية وهي منطقة حدودية متداخلة أيضاً بعد ذلك غيرت القيادة اسم الجناح العسكري المعروف بـ /الأنانيا/؟
أما النقطة المهمة التي ركزت عليها الحكومة الانتقالية هي تأسيس إدارات في المناطق التي تسيطر عليها، كما أنها عملت من أجل تقوية نفسها فتبنت اقتراحاً تقدم به (أزيون مونديري) عام 1965 وهو تقسيم المحافظات الجنوبية الثلاث إلى تسع مناطق إدارية وأن يحكم كل منطقة مفوض سياسي ينسق مع القائد العسكري المعين بنفس المنطقة، الهدف من ذلك كان إظهار قوة التنظيم وعلى أنه يستطيع حماية مناطق الجنوب كافة من الجيش السوداني.
ما الذي نستخلصه من هذا المؤتمر الذي دعي باسم /انجوري/؟!
حسب رأي الحكومة والقيادات السودانية مؤتمر منظم من قبل الكنائس المتصهينة لخلق دولة معادية للسودان وعالمه العربي الإسلامي.
أما الرأي الجنوبي المتمرد والضروري أن نعرفه هو الآتي:
أراد القادة الجنوبيون المتمردون في الداخل أن يثبتوا أن سياسيي الخارج قد أخذوا الدروس والعبر من الخلافات التي كانت دائرة بينهم، وأن حسهم بالمسؤولية تجاه شعبهم أصبح هاجس بعضهم.
وقد أرادوا بانعقاد المؤتمر أن يثبتوا للغرب أنهم يعملون لإقامة دولتهم الإفريقية الفرنجية الكنائسية التي يساعدهم ويدعمهم الغرب لإقامتها خدمة لهم، وبهذا الشأن نستطيع القول الآتي:
في شهر أيلول /سبتمبر/ عام 1969 وجهت حركة التمرد /الأنانيا/ اللوم إلى السياسيين الذين يعيشون في مدن شرق أفريقيا وأوروبا وأمريكا.
وكان قادة الأنانيا يقولون أننا نعيش في الغابات والجبال بين الوحوش والحشرات بينما نظراؤنا السياسيون يعيشون في المنتجعات والفنادق الفخمة، كنا نأكل الثعابين والأفاعي بينما هم يأكلون /القريدس/ والكافيار.
وبناءً على هذه الأقاويل الحقيقية والكاذبة، بدأ العقيد (جوزيف لاغو) قائد الأنانيا في منطقة شرق الاستوائية مهمة شاقة وهي توحيد القيادات الجنوبية في الأقطار الموجودة فقد تبنى (لاغو) برنامجاً يبدأ بالتدريج في البداية لتوحيد قوات الحركة ثم توحيد السياسيين في الخارج ثانياً.
لم يستطع (لاغو) توحيد السياسيين في الخارج ولا في الداخل وبهذا الشأن قال:
- كانت أصعب الأمور التي واجهتني في الأدغال هي كيفية التعامل مع السياسيين، لقد رفضت التعاون معهم والحقيقة هي أن السياسيين في الداخل والخارج هم الذين رفضوا التعاون معه أي /مع (لاغو)/ ورأى المقاتلون أن عملي جيد فقاموا بعزل السياسيين.
حصل قائد التمرد (لاغو) على ولاء وتأييد معظم ضباط حركة التمرد /الأنانيا/ في الجنوب وعلى أثر ذلك شكل (لاغو) مجلساً سماه /مجلس القيادة الوطني الأعلى /للأنانيا/ ومهمة هذا المجلس قيادة العمليات العسكرية وتوفير الدعم والمعدات العسكرية، بعد أن تمكن المتمرد (لاغو) من حل الحكومات الجنوبية /غير الشرعية/ وقد استخدم القوة تارة والسياسة تارة أخرى لتنفيذ خطته بإسقاط الحكومات الجنوبية.
وفي شهر نيسان /أبريل/ عام 1970 أقنع (لاغو) ما يسمى برئيس حكومة /ايندي الثورية/ الجنرال (اميديو تافنج) بحل حكومته، وفعلاً تم حل هذه الحكومة المصطنعة.
بعد ذلك حلت حكومة /النيل الانتقالية/ فقد تآمر (لاغو) مع العقيد (فريدريك ماقوت) رئيس هيئة الأركان في حكومة /النيل/ وتم حلها وتشريدها.
بعد هذه النجاحات التآمرية الجنوبية دعا (لاغو) قيادات حركة /الأنانيا/ وبعض القادة السياسيين لعقد مؤتمر عام في شهر آب /أغسطس/ من عام /1971/ عقد المؤتمر في منطقة /أوينجبول/ وأعلن فيه عن قيام /حركة تحرير جنوب السودان وترقية المتمرد (جوزيف لاغو) إلى رتبة لواء كذلك احتفل بذكرى مرور ست عشرة سنة على عصيان /توريت/ عام 1955 بعد ذلك شكلت قيادة جديدة تحت اسم المجلس الأعلى الذي تكون من المتمردين التالية أسماؤهم:
1 - اللواء - جوزيف لاغو بانقا - القائد الأعلى.
2 - العقيد - جوزيف أكون - قائداً للفرقة الثانية في منطقة أعالي النيل.
3 - العقيد - فريدريك ماقوت - قائداً للفرقة الأولى في منطقة الاستوائية.
4 - العقيد - أمانويل أبور - كبير ضباط الفرقة الثالثة في بحر الغزال.
هذا التعيين للعسكريين أما المدنيون فقد تم تعيينهم وفق ولائهم وانتمائهم القبلي.

آداب عبد الهادي
30/01/2008, 05:06 PM
الفصل الرابع
ضعف الأحزاب الجنوبية

إنَّ التنافس السلبي بين الأحزاب الجنوبية، جعل منها أحزاباً مهلهلة لا تقدم ولا تؤخر، وهذا ما جعلها غير قادرة على تقديم أي تنازلات أو تسهيلات لإنجاح المؤتمر.
فيما بعد نجحت القوى التقليدية في استبدال هذه الحكومة الجنوبية بحكومة أخرى أقل اندفاعاً وحماساً تجاه مشكلة الجنوب، وهنا تصاعدت الأزمة، وهنا دفنت الآمال حول نجاح المؤتمر، وذلك لاختلاف رؤى الجانبين عن بعضها البعض للأسباب التالية:1
- يرى الشماليون عدم جدوى السير في طريق المفاوضات كوسيلة لإحلال الأمن والسلام والاستقرار في هذا الجزء الجنوبي من الوطن السوداني.
2 - إنَّ موقف السودانيين الجنوبيين وأحزابهم المتصلَّب زادَ المشكلة تعقيداً، ولذلك وصل السياسيون الشماليون إلى استنتاج مفاده أنَّ الحوار مع جنوبيين معادين لا يجدي فتيلا، ومن هنا بدا لهم أنَّ الاعتماد على القوة العسكرية هو الطريق الوحيد لحل هذه المشكلة وبالتالي احتوائها، ولقد تدعم هذا الرأي بعد انتخابات أيار/ عام /1965/ حين حلت حكومة (سر الختم خليفة) وتولي مقاليد الحكم حكومة ائتلاف بين حزبي الأمة والوطني، وتولى منصب رئيس الوزراء محمد أحمد محجوب، إن الأحزاب الجنوبية هي سبب كل المشاكل وهي لم تكن سوى هياكل وضعها الغرب ونماها ليصل إلى هدفه الأساسي وهو فصل الجنوب عن الشمال وهنا لا بد أن نلقي الضوء على بعض هذه الأحزاب العميلة للغرب المتصهين.

الحزب الفيدرالي:
أسس هذا الحزب (أزيون مونديري)( ) مع بعض الخريجين الجامعيين الجنوبيين المتأثرين بالنظام الفيدرالي الأمريكي فقد اجتمع هؤلاء وقرروا تكوين حزب جنوبي يطالب الحكومة السودانية بقيام الفيدرالية بين الشمال والجنوب.
يقول مؤسس الحزب في أحاديثه الخاصة والعامة أن دستور حزبنا يشبه إلى حد ما دستور الولايات المتحدة الأمريكية؟
وبدورنا أخذنا بعض المطالب التي نادى بها هذا الحزب وهي على الشكل التالي:
1- يجب أن تحكم الفيدرالية العلاقات بين جنوب السودان وشماله على أرضية مشتركة ويجب أن يكون دستور الحكومة الفيدرالية علمانياً على أن تكون قوانين السلطة القضائية والتنفيذية متماشية مع القوانين التشريعية لكل محافظة.
2- الاعتراف باللغتين الإنكليزية والعربية كلغتين رسميتين في الدولة دون المس بحقوق الأفراد الذين يؤمنون بمعتقدات أو ديانات أخرى /كالديانات الإفريقية الأخرى/.
3- يجب أن تكون للجنوب إدارة مدنية منفصلة يكون فيها للحكم الفيدرالي في الجنوب الحق في تعيين الموظفين حسب دستورها وقوانينها بالإضافة إلى ذلك، ولكي يُحافظ الجنوب على هويته الثقافية يجب أن يكون لـه نظام تعليمي خاص يشمل كل المراحل التعليمية وجامعة جنوبية تحت سيطرة حكومة الجنوب الفيدرالية.
4- تكوين جيش مستقل للجنوب؟!
5- وأهم نقطة في هذا البرنامج الفيدرالي الجنوبي هي النقطة التالية:
- (تحويل السودان من العالم العربي إلى أفريقيا)؟!
أي طمس هوية السودان العربية الإسلامية وإلحاقه بالدول الأفريقية أو التي فرضت عليها المسيحية الفرنجية فرضاً.
إن هذه الأهداف بمجملها هي أهداف تسعى إلى انفصال الجنوب عن الشمال وهذا ما يخطط لـه الأوروبيون والأمريكان والصهاينة، إنهم يريدون زرع المسيحية المتصهينة في جزء مهم من الوطن العربي الإسلامي.
هذا الحزب تلاشى وانتهى بعد تسلم الجيش السلطة برئاسة الفريق (إبراهيم عبود) في 17/11/ من عام 1958.
وبعد ثورة أكتوبر عام 1964، أي بعد ست سنوات، ظهر الفيدراليون باسم جديد يحمل اسم /حزب جبهة الجنوب/.
«حزب سانو»
عندما تعطلت الحياة البرلمانية بعد عقب تسلم الجيش السلطة عام 1958 حاول عدد من السياسيين الجنوبيين إثارة القلاقل والعبث بأمن السودان فكان رد السلطة العسكرية اعتقال البعض وفرار البعض الآخر إلى الدول المجاورة، فقد هرب كل من (جوزيف أودهو) و(فرديناند أديانق) والأب (ساترنينو لوهورو) - (ناتانيل أويت) - (فانكرا سيد أوشيانق ماركو رومي) - (اليكسيس مبالي يونقو)، هرب هؤلاء إلى الكونغو وبعد عام هرب (دنيق نيال) الذي يعمل مساعداً للمفوض الإداري لمنطقة /كيونا/ ومما يجدر ذكره أن الذين اعتقلوا كانوا من الجنوبيين سكان المنطقة الاستوائية: ويوعز ذلك حسب الباحثين الكنسيين أن سكان المناطق الاستوائية يتمتعون بنشاط ووعي سياسي أكثر من أهالي منطقتي بحر الغزال وأعالي النيل.
وفي شهر كانون الأول /ديسمبر/ من عام 1960 قام السياسيون الذين يعيشون بالخارج وبمؤازرة كنسية غربية قام هؤلاء بمحاولة لتشكيل تنظيم سياسي للجنوب بعد أن تم دعمهم مالياً وإعلامياً وضم هذا التنظيم كلاً من (جوزيف أودهو) (أقري جادين) الأب (ساترنينو لوهور) (اليكسيس مبالي يونقو) وكل هؤلاء هم من المنطقة الاستوائية المتغلغلة فيها الإرساليات التبشيرية.
وجاء عام 1961 وكون بعض السياسيين الموجودين في مدينة كمبالا عاصمة يوغندة منظمة دعيت باسم /اتحاد السودان المسيحي/ تدعو مؤسسيها إلى الظهور بمظهر ديني للتأكيد على الاضطهاد الديني المزعوم للجنوبيين من قبل الحكم الإسلامي في الخرطوم؟
وفي عام 1962 قررت قيادة /اتحاد السودان المسيحي/ تكوين تنظيم سياسي آخر يضم كافة المجموعات القبلية الجنوبية ومقره في كينشاسا( ) بزائير ورعى التنظيم الأب (ستارنينو لوهور) و(جوزيف أودهو) رئيساً للتنظيم و(ماركو رومي) نائباً للتنظيم و(وليم دنيق نيال) سكرتيراً عاماً وقد اجتمع قادة التنظيم في 25 /كانون الأول عام 1963 في مدينة كمبالا اليوغندية وكان الغرض من الاجتماع توسيع التنظيم واستيعاب السياسيين الذين قرروا الانضمام إليه، وكان التنظيم قد وضع دستوره وشكلت اللجنة التنفيذية من العناصر التي ذكرناها في المقدمة.
وفي الاجتماع الثاني الذي عقد في يوغندة تم تغيير اسم المنظمة الانفصالية ومن ثم انتخبوا لجنة تنفيذية جديدة ممثلة في الأسماء التالية:1 - الأب ستارنينو لوهورو - راعيا (لم أدرك تماماً ماذا عني بكلمة راعٍ).
2 - جوزيف أودهو - رئيساً ـ
3 – دومنيلو مورويل - نائباً للرئيس.
4 - أقري جادين - نائباً للرئيس.
5 - وليم دنيق نيال - سكرتيراً عاماً.
6 - فانكراسيو اوشيانق - أميناً للمالية.
7 - فيلييت فيداك ليات - عضواً ـ
هذا ما حصل في الجنوب، أما الشمال فقد كان للأحزاب فيه دورٌ مهمٌ في ما يحدث ولنأخذ رأي بعض الأحزاب المهمة والمشاركة في ما سمي بمشكلة الجنوب دون الأخذ بالزمن ومروره فمواقف هذه الأحزاب لم تتغير في جوهرها بشيء تجاه برنامجها وطرحها فيما يخصّ الجنوب.
«حزب الأمة»
العلاقة بين حركة التمرد وحزب الأمة كانت تميل دائماً إلى المصلحة الذاتية لقادته وخاصة رئيسه (الصادق المهدي) أما ما يشاع عن علاقة الحزب بحركة التمرد فينطلق من النقاط التالية:
1 - عضوية الحزب في التجمع.
2 - النشاط الخاص بالحزب.
3 - النظر من خلال الحكومة التي كان يرأسها الصادق المهدي.
كان (الصادق المهدي) يريد تحقيق مكاسب شخصية لنفسه ولحزبه فقام في 30 حزيران من 1986 بزيارة إلى أثيوبيا حيث يقبع المتمرد (كرنغ) وفي عاصمتها أديس أبابا اجتمع الاثنان (المهدي وكرنغ) لمدة تسع ساعات لم يتفق (المهدي والمتمرد) هكذا أشيع حينها فقد صرح زعيم حركة التمرد بعد اللقاء بالآتي:
- لقد اجتمعت بـ (الصادق المهدي) كرئيس للحزب وليس كرئيس للحكومة؟
وسبب قوله ذلك إنه لا يعترف بالحكومة السودانية التي يرأسها (المهدي)
أما (المهدي) فقد قال بضع جمل لا أكثر حول هذا اللقاء وهي:
- إن لقاءه مع (جون كرنغ) لم يؤد إلى شيء جديد يذكر؟ ثم قال أن (كرنغ) غير واقعي وأنه يتوهم بأن لديه قوة كبيرة وهو لا يتناسب مع حجمه؟
وكما قلنا، لم يكن موضوع اللقاء مهماً لحل المشكلة بقدر ما هو كسب شخصي من أجل البقاء في قمة السلطة؟
«الحزب الاتحادي الديمقراطي»
كان في هذا الحزب رأيان حول حركة التمرد الجنوبية:
الرأي الأول يصفها بحركة التمرد والرأي الآخر يصفها بالحركة الشعبية، وقادة الحزب لم يكونوا واضحين وصريحين في رأيهم حول مشكلة الجنوب، كما لم يشترك الحزب الاتحادي في إعلان /كوكادام/ وقد عمل الاتحاديون على كسب العناصر اليسارية التي تؤيد حركة التمرد من أجل الاشتداد بها، بعدها التقى بعض قادة الحزب بوفد من حركة التمرد في أثيوبيا ونتج عن هذا اللقاء اتفاق على ضرورة لقاء قيادة الحزب وقيادة حركة التمرد.
وقد التقى بعد ذلك كل من زعيم الحزب (محمد عثمان الميرغني) والمتمرد (جون كرنغ) زعيم الحركة الشعبية وكان هذا اللقاء قد تم في أديس أبابا من شهر تشرين الثاني نوفمبر من عام 1988، وصدرت عن هذا اللقاء مبادرة سميت /بمبادرة السلام السودانية/ وكان أهم ما جاء في هذه المبادرة الدعوة لقيام مؤتمر دستوري لحل قضايا السودان على أن تتم تهيئة بعض النقاط لانعقاد هذا المؤتمر والنقاط هذه هي:
1 - رفع حالة الطوارئ.
2 - وقف إطلاق النار.
3 - إلغاء كل الاتفاقات العسكرية المبرمة بين السودان والدول الأخرى.
«إن المعني بالدول الأخرى هو جمهورية مصر العربية».
هذا ما قدمه وطرحه الحزب الاتحادي الديمقراطي.
موقف الحزب الشيوعي:
كان الحزب الشيوعي السوداني على علاقة وثيقة مع /حركة التمرد/ ويرجع سبب هذه العلاقة المتينة إلى الأسباب التالية:
1 - تبنت حركة التمرد المبادئ الماركسية وبشكل واضح وعلني؟
والحقيقة غير ذلك، وهي أن الحركة عملت في اليسار لتصل إلى قمة اليمين وقد كان ذلك واضحاً من خلال علاقاتها مع الصهيونية والامبريالية الأمريكية والغربيين ومجلس الكنائس العالمي، وأنا في اعتقادي أن الحزب قد خدع بالشعارات التي رفضتها حركة التمرد الانفصالية /الحركة الشعبية/.
2 - كان الحزب وهو المعادي للسلطة والذي عاش منذ فشل حركة المناضل (هاشم العطا) /1971/ تحت الأرض وظل ملاحقاً لفترة طويلة جداً.
فقد كان تعاون الحزب مع الحركة من خلال التجمع وقد تم إيفاد سكرتير الحزب (محمد إبراهيم نقد) إلى أثيوبيا للتفاوض مع المتمرد (جون كرنغ) وقد اختير (نقد) نظراً لقربه من حركة التمرد والتي رفعت شعار الماركسية عالياً ولم تعمل به، وكذلك زيارته إلى أثيوبيا، فالنية مبيتة في عقل المتمردين وقلوبهم وهي قيام دولة جنوبية معادية للعرب والمسلمين، وهنا لي رواية تعتبر بالنسبة لي تاريخية، وحقيقة هي تاريخية:
في شهر تشرين الثاني من عام 1970 زرت السودان والتقيت الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني وبعض الرفاق القيادين وبعد 35 عاماً من هذا اللقاء صدقت رؤية الحزب وهي الأصح من بين ما قدمته الأحزاب السودانية الأخرى. وقبل الدخول في الرواية لنقرأ الآتي:
يقول الحزب الشيوعي في أدبياته بخصوص الجنوب ما يلي:
منذ أن تلاشت مجموعة (بولين الير) الوطنية عام 1955 فإن مسؤولية الدفاع عن وحدة بلادنا الديمقراطية قد وقعت بكاملها على عاتق حزبنا الذي خاض وحدة نضالاً متواصلاً من أجل التحالف بين المواطنين في الجنوب والحركة الثورية في الشمال.
العودة إلى روايتي ولقائي مع الرفيق القائد ورفاقه رحمة الله عليهم:
يقع في شارع الجمهورية الكبير في الخرطوم فندق يسمى /الأكسيلسيور/ كان فيه لقاؤنا - (الرفيق عبد الخالق محجوب) الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني - (الرفيق العقيد فاروق حمد الله) وزير الداخلية - (الرفيق المقدم بابكر النور) - (الرفيق الرائد هاشم العطا) - (الأخ خليفة كرار).
حدثني (الرفيق عبد الخالق) قائلاً:
- رفضنا الحل العسكري لمشكلة الجنوب منذ عام 1955 - لكن يجب ألا ننسى أننا نواجه تدخلاً امبريالياً مقيتاً في هذه المنطقة المهمة من بلادنا، سألته مقاطعاً:
- إذا كنتم ترفضون الحل العسكري، والجنوبيون العصاة يرفضون الحل السلمي إلا إذا قام على انفصال الجنوب وقيام دولة تكون ركيزة للغرب المستعمر، في هذه الحالة ماذا تفعلون؟
- يبتسم الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني ويقول:
- أنت تعلم ورفاقنا يعرفون أن أضعف حلقات دفاعنا الثورية هو الجنوب، نحن في سباق مع الامبريالية العالمية وخاصة أن جنوبنا قد أصبح بعد /أبا/( ). فوقف (الرفيق عبد الخالق) ونظر إلى (الرائد الرفيق هاشم العطا) عند ذكر /أبا/.... المهم أن الجنوب أصبح نقطة للإمبريالية العالمية والصهيونية - لقد بدأ الغرب والاسرائيليون يرسلون السلاح إلى جنوب البلاد ومنذ عام 1969 وبكميات كبيرة عبر الحدود الأثيوبية والأوغندية، نعم يا رفيق أحمد - من هنا كان يأتي السلاح والدعم.
- استأذن (الرفيق العقيد فاروق حمد الله) وقال:
- كان يأتي معظم السلاح جواً من مكان ما في أثيوبيا، حيث تنزل الطائرات وهي محملة بالسلاح، كانت هذه الطائرات تهبط أيضاً في منطقة /حمبيلا/ قرب اكوبوا وتحمل أنواعاً مختلفة من قطع السلاح ومنها المدافع الصغيرة المضادة للطائرات وهي سوفييتية الصنع أتت من إسرائيل، كذلك /البرنات/ والمدافع الأوتوماتيكية البريطانية - توقف العقيد الرفيق وقد بدأ الألم على وجهه بينما أخذ مجرى الحديث (الرفيق بابكر النور) حيث تابع ما وقف عنده (الرفيق العقيد فاروق):
- كان السلاح من نوعيات أخرى ومن صنع أمريكا وألمانيا الغربية ومنها البازوكا والمدافع المضادة للدبابات مثل السلاح /آر - ني - اف/ كذلك الألغام ذات الانفجار القوي ومدافع المورتر وكميات كبيرة من الذخائر والأدوية.
رفع (الرفيق الرائد هاشم العطا) يده مستأذناً بالكلام:
- وزيادة على ذلك يا رفيق (أحمد) فقد عثرت قواتنا الأمنية على ملابس لرجال المظلات وأجهزة راديو للاتصال في المعسكرات، وهذا أخونا (خليفة كرار)( ) شاهد على ذلك، أومأ (الأخ الرائد خليفة) برأسه، وقال: نعم لقد قبضنا على قسم من المرتزقة ومنهم الألماني (جوزيف شتاينر).... والحقيقة التي استنتجتها من رفاقي السودانيين هي الآتي:
بدأت حركة /السم القاتل/ أي /الأنانيا/ تزيد نشاطها منذ عام 1969 - 1970 في منطقة الضفة الشرقية للنيل من المديرية الاستوائية، كما بدأت تنتشر في الضفة الغربية على الحدود الأثيوبية كما أن إسرائيل لها اليد الطولى في ذلك حيث أرسلت المال والسلاح والخبراء وأخيراً الضباط، كما أن المرتزقة جاؤوا ليقاتلوا ويدربوا المتمردين، وقد نتج عن عمل هؤلاء، نسف عدد من العربات بواسطة الألغام وشن الهجمات على أطراف المدن والقرى، ونقاط البوليس ونسف الجسور الخ...
لقد صور المتمردون لمواطني الجنوب أن القوات العربية تشترك في ضرب قراهم وحرق بيوتهم وقتل ماشيتهم - كما كانوا يصورون لهؤلاء المواطنين البسطاء أن الغرب ومجلس الكنائس العالمي ومؤتمر الكنائس الإفريقي يقفون معهم ويرعونهم - كما أن المتمردين فتحوا مكاتب لهم في لندن وروما وألمانيا الغربية والدول الإسكندنافية، كما أن أثيوبيا كانت المركز السري لتخزين السلاح الذي تم إرساله، كانت يوغندة هي المركز السياسي للمتمردين، للأسف.
- قال (الرفيق عبد الخالق) محجوب التالي:
للأسف أنه لا توجد أي حكومة أو منظمة أعلنت بشكل رسمي وقوفها بجانب معركة السودان من أجل وحدته يا رفيقي العزيز.
- أجبت عن كلام (الرفيق عبد الخالق):
أن هذه الحكومات والهيئات يتعاطفون مع المتمردين من أجل خلق دولة عنصرية دينية تقف بوجه المد الوطني الثوري - تابعت كلامي وقلت لرفاقي:
إنه لمن المؤسف أن يقود /الأنانيا/ ضباط خدموا في الجيش السوداني الوطني مثل (جوزيف لاغو) و(ابوجون) و(تافنق).
تابع (الرفيق عبد الخالق) كلامه:
يحاول الامبرياليون خلق (بيافرا)( ) أخرى في جنوب السودان بهدف إسقاط النظام الثوري القائم الآن كما يأملون بتحويل الوضع إلى نزاع عربي أفريقي أي أنهم يضغطون بشكل كبير على الحكومة مما سيضطرها للاستعانة بالدول العربية الشقيقة...
ما هي اقتراحاتكم كحزب شيوعي:
يجيب الرفيق الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني (عبد الخالق محجوب) قائلاً:
أقرت اللجنة المركزية للحزب اقتراحات عدة وهذه الاقتراحات تستهدف التصدي للعمل الانفصالي في الجنوب وهذه الاقتراحات هي:
1 - القيام بحملات نقاش واسعة حول تنفيذ برنامج الجنوب عن طريق /السمتيارات/ والصحافة وندوات المثقفين ويمكن أن نكون من بينهم.
2 - الإعداد الفوري لمؤتمر الجنوب لإدانة التدخل الإمبريالي وعمليات /الأنانيا/.
3 - القيام بمناقشات داخلية بين قيادة الحزب والديمقراطيين الثوريين.
4 - أن تساعد منظمات المهنيين العناصر الجيدة فيها لكي تنقل إلى الجنوب.
5 - بالإضافة إلى واجبنا لعقد مؤتمر في الجنوب ضد التدخل الاستعماري وعمليات الأنانيا علينا أن نعقد مؤتمراً مماثلاً في الشمال للتعريف بأهمية المشروع في تنفيذ الحل الديمقراطي للجنوب.
6 - أن يعمل رفاقنا لمضاعفة اهتمام المنظمات الديمقراطية بالعمل في الجنوب وذلك بخلق مسؤوليات محددة في تلك المنظمات لهذا الغرض.
7 - أن تقوم النقابات بدورها في تحسين شروط الخدمة ومستوى الأجور بالنسبة إلى العمال الجنوبيين ووقف تشريدهم والعمل على تثبيتهم في الخدمة ومواصلة النضال من أجل مساواتهم مع العمال الشماليين.
8 - إيجاد الظروف الملائمة لهزيمة التمرد بالعمل ضد تصاعد المؤتمرات الاستعمارية وتحركات المرجعيين في البلدان الإفريقية، وهذا يعتمد على سياستنا الإفريقية.
وهذا يعتمد على سياستنا الإفريقية - إننا نحتاج لتعبئة أجهزتنا الديبلوماسية وتقويتها واختيار خيرة العناصر وأقدرها على العمل في بعثاتنا هناك، كما أن على المنظمات الديمقراطية والتقدمية في البلدان الإفريقية وعلى النطاق العالمي في أوروبا وغيرها لمواجهة الدعاية الاستعمارية وتلك التي تقوم بها /الأنانيا/.
أُطفئت الأنوار في صالون فندق /الأكسيلسيور/ وهنا علمنا أن الوقت أصبح متأخراً جداً وعلينا الرحيل.
أنا إلى فندق /الخليل/ والذي يقع في السوق العربي وبقية الرفاق إلى عملهم، وأطل الصبح على الخرطوم عاصمة السودان الحبيب ونحن نغادر فندق /الأكسيلسيور/.

آداب عبد الهادي
03/02/2008, 04:22 PM
الباب الثامن

الفصل الأول
العودة إلى ما قبل انعقاد
مؤتمر المائدة المستديرة

نتيجة إحكام قبضة الجيش السوداني على زمام الأمور المتدهورة والتي كان يغذيها الغرب، أدى هذا الاتجاه إلى هروب عدد من الجنوبيين المتمردين ومن يساندهم إلى خارج السودان وخاصة إلى يوغندة وكينيا وأثيوبيا وأفريقيا الوسطى، ثم حدثت هجرة جماعية عام 1960 إلى يوغندة والكونغو، وكان من بين المهاجرين شخصيات سياسية من أعضاء البرلمان، ولقد أنشأ هؤلاء المهاجرون المغرّر بهم عدة تنظيمات، منها:1
- رابطة المسيحيين السودانيين.
2 - الاتحاد السوداني الأفريقي الوطني لجنوب السودان.
واستمرت المعارضة «ممثلة في هذين التنظيمين» في عملها المناوئ لنظام الفريق عبود حتى عام 1963، كذلك استمرت كنائس الغرب في تقديم دعمها لها من مال وسلاح.
وفي عام 1963، تقدَّم حزب الاتحاد السوداني الأفريقي بخطاب إلى الأمم المتحدة يعلن فيه سياسته ألا وهي المطالبة باستقلال الجنوب السوداني، ومما جاء في هذا الخطاب الآتي:
«إنَّ الحزب لم يتقدم بذلك إلاَّ لفشله في إقرار النظام الفيدرالي من جانب الشمال؟»
ولقد تركزت رئاسة الحزب في الكونغو (ليوبولدفيل) ولكنَّ نشاطه اقتصر على إرسال الرسائل إلى هيئة الأمم المتحدة وإلى منظمة الوحدة الأفريقية، ومن ثم إرسالها إلى الصحف والمنظمات المسيحية والغربية، وكان قد اقترح الحزب في رسالة وجهها إلى منظمة الوحدة الأفريقية أن تتولى هيئة دولية أو شبه دولية معالجة قضية الجنوب أسوة بقضايا أنغولا وموزامبيق وجنوب أفريقيا، وكذلك أرسل الحزب مذكرة إلى لجنة تحرير أفريقيا وطلب فيها أن تسعى اللجنة إلى تكوين هيئة محايدة لتقصي الحقائق، وأصرَّ حزب /سانو/ على إعطاء الجنوب الحق في تقرير المصير، بدأ الشغب ينتشر في الجنوب ورغم ذلك فإنَّ هذه الحوادث لم تكن من أولئك الذين هربوا إلى الغابات بعد تمرد عام 1955، على كلٍّ استمرت الحوادث هنا وهناك إلى أن ظهرت منظمة الأنانيا في عام 1962.
نفذ صبرنا... استخدام القوة سيؤدي إلى الوصول... إلى دولة جنوبية
- إننا عقدنا العزم أن نشرع في العمل فوراً.
- أما وقد نفذ صبرنا واقتنعنا بأنَّ استخدام العنف والقوة سيؤدي إلى الوصول إلى قرار حاسم في الأمر...
- هذا هو هدف تنظيم الأنانيا الانفصالي، والذي اعتمدوه شعاراً لهم، ولقد شرعت الأنانيا في شن حرب العصابات، ولقد ازداد نشاطها كثيراً وفي مقابل هذا الازدياد ازدادت أيضاً قوة الجيش في مواجهة التمرد، ولقد كان ضحية هذا الازدياد المتوازن السكان المدنيون، حيث حرقت القرى وسقط الأبرياء والشهداء من الجيش والوطنيين ولقد ترتبت على هذا الدمار هجرة الكثيرين إلى يوغندة المجاورة، وقدّر عدد اللاجئين في عام /1964/ بحوالي خمسين ألف نسمة!
وبعد حوالى ثماني سنوات على نيل الإستقلال، كانت قد ازدادت الأحوال سوءاً في الجنوب، وازداد معه قلق الرأي العام في الإقليم الشمالي على وضع الجنوب، ولقد تبلور هذا القلق في مبادرة المجلس المركزي الذي أُنشئ في عهد الفريق عبود في طرح حوار حقيقي وجاء حول مشكلة الجنوب، وخاصة بعد ورود تقارير تقول: «إنَّ كثيراً من أبناء الشمال والجنوب قد قتلوا»، مما أثار القلق العام لدى كافة المواطنين السودانيين.
وفي الوقت ذاته تم تكوين تنظيم جديد في الخرطوم انضم إليه الجنوبيون المتعلمون ولقد اعترف هذا التنظيم بأنَّ جبهة الجنوب ممثلة لرأي الجنوب، ولقد وجهت لها الدعوة لتمثل في الحكومة ولكن الواقع... أنَّ جبهة الجنوب هي /حزب سانو/ داخل السودان فجبهة الجنوب ومنذ إنشائها كانت على صلة وثيقة وقوية بحزب /سانو/ الذي كانت رئاسته في مدينة كمبالا بـ /يوغندة/.
بعد القتل والتدمير وأنهار الدماء التي سالت كان لابد من دعوة للسلام وجاءت المحاولة الأولى للوصول إلى السلام.

آداب عبد الهادي
03/02/2008, 04:26 PM
الفصل الثاني
المحاولة الأولى للوصول إلى السلام

في أعقاب تمرد جنود الحامية الإستوائية في شهر آب من عام /1955/ ساد وضع من عدم الاستقرار والأمن في جنوب السودان، عند هذا الوضع بدأت المواجهة بين الشمال والجنوب، فقد رفض السياسيون الوطنيون في عام /1956 - 1958/ مطالب السياسيين الجنوبيين المتمثَّلة في منح الجنوب حكماً فيدرالياً، هذا الرفض فسّره كثير من الساسة الجنوبيين بأنَّه يشكل عذراً واضحاً من قبل أشقائهم سياسيي الشمال، وفي هذا الشأن قال أحدهم: «لقد ساندنا استقلال السودان حتى نأخذ حكماً فيدرالياً لم ندعمه كي يغدر بنا»؟ وهنا حصل الانفجار المتوقع، حيث نشبت الحرب الأهلية، وأخذ يتذمر بعض الساسة الجنوبيين من انتشار الإسلام واللغة العربية اللذين هما دين البلاد ولغتها واتهم في هذا نظام الفريق (إبراهيم عبود) الذي حكم من عام 1958 إلى عام 1964، والحقيقة غير ذلك...
لن نمنح رحمتنا لأحد؟
رفع المتمردون شعارات جديدة لهم بعد أن تدفق السلاح والمال من الغرب وإسرائيل.
«لقد بلغ الصبر مداه، وفي يقيننا أنَّنا لن نصل إلى شيء إلاَّ باستخدام القوة، وسنقوم من الآن وصاعداً بتحرير أنفسنا؟ وإنَّنا لن نطلب الرحمة من أحد، ولن نمنح رحمتنا لأحد».
هكذا ابتدأ القتال من جديد، وبدأت أنهار الدم تتدفق وتزكم الأنوف؟! وتزعمت قبيلة (الدينكا) قيادة معظم حركات التمرد ذات الاتجاه الانفصالي، ويمكننا أن نستعرض بعض الشخصيات الدينكاوية التي أجادت لعب أدوارها المرسومة لها وبدقة متناهية، كي نصل إلى أن التمرد والدعوة للانفصال رسمت بدقة متناهية من قبل الغرب الصهيوني.

آداب عبد الهادي
03/02/2008, 04:31 PM
الفصل الثالث
الحركات المتمردة كافة مدعومة صهيونياً
1 - /بيرنا ندينوماو/:
أحد زعماء (الدينكا) في مديرية /بحر الغزال/ وهو من الذين تخرجوا في الفرقة الإستوائية والذي أعاد تشكيل هذه الفرقة عام 1964، ولقد قامت هذه الفرقة بتقتيل العديد من الجنود والمواطنين السودانيين الشماليين، وسدت الطرق في محاولة منها للاستيلاء على مدينة «واو» الواقعة في بحر الغزال، إلاَّ أنَّ الفشل كان حليفها نتيجة المقاومة الباسلة التي أبداها الجيش السوداني الوطني، ولقد تم القبض على المتمرد (بيرنا)، وصدر ضده حكم الإعدام الذي نفذته الحكومة السودانية به لاحقاً.
ولقد كانت هذه الحركة المسلحة النواة الأولى للتمرد والحرب في مواجهة الشمال، ولقد أضحت قيادات قبيلة (الدينكا) وبفضل الدعم الغربي قوة كبيرة عملت على تجميع معظم القبائل حولها.
2 - فيليب وول:
أحد القادة العسكريين الدينكاويين، ولقد رافق المتمرد (بيرناندنيوماو) في حركة عام 1964، ولقد قُبِض عليه من قبل الحكومة السودانية والتي حاكمته وأصدرت بحقه حكم الإعدام الذي نفذته فيما بعد وبناءً على هذا بدأ توجه جديد للحركات العسكرية، وذلك عبر قيادات قبيلة (الدينكا) العسكرية التي صعَّدت الموقف في ساحات القتال بغية الوصول إلى ما تصبو إليه.
بدأت مشكلة الجنوب تكبر، وبدأ العمل العسكري يتصاعد وقد رأى بعض السودانيين من سياسيين وعسكريين ضرورة التوصل إلى حل لها، وهذا الحل بدوره لن يأتي إلاَّ بالعمل العسكري ضد التمرد؟! قاتلت قيادات (الدينكا) في أنحاء جنوب السودان معتمدة على قبيلتها وعلى المساعدات الأجنبية، وفي عام 1966 ركزت قتالها في «بحر الغزال» فهاجمت الحركة قرية «جدر» وقتلت /90/ جندياً بعد قتال مستميت معهم ثم قتلت سبعة من العاملين في إدارة الأشغال، كذلك قتلت سبعة من رجال البوليس، وأربعة من المدنيين العزّل.
وفي 14 - كانون الثاني من العام نفسه، وعلى مقربة من مدينة /واو/ قام متمردو الحركة بقتل عدد من جنود الجيش السوداني، كذلك قامت عصابات الأنانيا بمحاصرة مدينة «واو»، واشتبكت مع قوات الجيش التي استطاعت أن تفك الحصار، كما دمرت محكمة تابعة للمتمردين، وقد أصبح من الواضح بعد صدِّ الجيش السوداني لقوات المتمردين أنَّ القيادات الجنوبية قد دخلت في أزمة، فبدأت بضرب المدنيين العزل الذين اتهمتهم بأنهم يتعاونون مع قوات الجيش والوطنيين، ونتيجة لأعمال المتمردين العسكرية تأثرت المدن الواقعة في /أعالي النيل/، وقد تمكنت قوات المتمردين من اغتيال الزعيم (وليم ونج) في أطراف مدينة «واو» ومعه «6» من معاونيه في كمين نصب لهم في الطريق ما بين «واو» و«الرميك» وذلك في شهر أيار - مايو - 1968.
ونتيجة لهذه العمليات العسكرية في الجنوب، غابَ عنه الاستقرار، ولقد انعكس عدم الاستقرار هذا على كافة الحكومات منذ عام 1965 حتى 2005م. ولقد سعت دول الجوار للإسهام في التوصل إلى حل سلمي لهذه النزاعات ومع تزايد الدور السلبي والمؤامراتي لكل من الغرب وإثيوبيا وإسرائيل ويوغندة ودون أدنى شك فلقد كانت عمليات حركة «الأنانيا واحد» موجعة بالنسبة للسودان ككل وللشمال خاصة، فقد استشهد الكثير من أبنائه من أجل الحفاظ على وحدة الشعب وأرضه.

آداب عبد الهادي
03/02/2008, 04:38 PM
الفصل الرابع
انقلاب جعفر النميري

في 25 أيار - مايو - 1969 قام (اللواء جعفر النميري) بانقلابه المعروف، وفي بيانه الذي أعده وألقاه تبين منه أنه اعتراف من النظام العسكري( ) الجديد بالنجاح العسكري القتالي للجنوبيين.
وترجمةً لتوجهات نظام (النميري) أعدت طاولة للمفاوضات بين الحكومة السودانية والمتمردين الجنوبيين، وتم اختيار الأشخاص التالية أسماؤهم من الحكومة السودانية والمتمردين ليديروا هذه المفاوضات وهم:
1 - الوزير: جوزيف كرانغ.
2 - السفير: عابدين اسماعيل.
عن الحكومة السودانية أما عن المتمردين فهم الآتي:
1 - العقيد (جوزيف لاغو) القائد العسكري والسياسي لحركة الأنانيا.
2 - (مادينج دي كرانغ) القائد العسكري /لحركة تحرير الجنوب/.
ولقد أجريت اللقاءات ضمن السودان وخارجه، وبنتيجتها طلبت حركة الأنانيا الدخول في المفاوضات مع الحكومة السودانية بشرط أن تلتزم الحكومة بالآتي:
أ - وقف الأعمال العدائية حسب ما نسميها مع وقف إنشاء نقاط عسكرية جديدة.
ب - تعيين فريق مراقبين من منظمة الوحدة الأفريقية.
ت - ضرورة اعتراف حكومة السودان بحركة الأنانيا كممثل وحيد للجنوب في المحادثات.
ث - تكون المحادثات خارج السودان وتحت إشراف منظمة الوحدة الأفريقية.
جـ - ضرورة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعلى رأسهم (كلمنت إمبورو) وبعد أن قدم وفد الأنانيا شروطه هذه، قال أحد أعضاء الوفد وهو (مادينج دي قرنق): «إنَّ الأنانيا على استعداد لوقف إطلاق النار». ومن الواضح أنَّ قوة المتمردين كانت هي القوة السائدة حينذاك، وهذا ما دفع بالسودان لوضع كافة موارده في خدمة العمل العسكري وهذا ما ساهم في استنزاف طاقاته، ولقد جلس الطرفان السودانيان إلى طاولة المفاوضات في المكان الذي اختير وهو أديس أبابا عاصمة أثيوبيا ولقد توصلا إلى اتفاق سمي بـ اتفاق أديس أبابا عام 1972 وبعد الاتفاق تم استيعاب ضباط وجنود حركة «الأنانيا واحد» في الجيش السوداني الوطني، كما عمل سياسو الحركة في النشاط السياسي العام للسودان، إلاَّ أن قسماً من الضباط والجنود والسياسيين رفضوا اتفاق أديس أبابا وذهبوا إلى أثيوبيا وعاشوا على الحدود الأثيوبية - السودانية في انتظار مرور الوقت ليعيدوا نشاطهم الانفصالي وهكذا حصل؟!! أما لماذا تم توقيع اتفاقية أديس أبابا وما هو المراد من وراء توقيعها فسوف نتناوله بعد أن نعرف محتوى هذه الاتفاقية.
فكيف تمت اتفاقية «أديس أبابا»؟

آداب عبد الهادي
03/02/2008, 04:47 PM
الفصل الخامس
اتفاقية أديس أبابا ودور اتحاد مبشري الكنائس
في مشاكل الجنوب

بعد ثورة الحزب الشيوعي السوداني، التي لم يكتب لها النجاح بسبب تآمر بعض الدول العربية والتي أخذت أوامرها من الولايات المتحدة، بعدها تسلّم (أبل الير) منصب وزير لشؤون الجنوب، وكان أول عمل يقوم به لدى تسلمه مهام منصبه الجديد هو الحصول على موافقة الحكومة للبدء في مفاوضة القادة السياسيين الجنوبيين الانفصاليين، وحيث كانت قد بذلت محاولات سابقة في هذا الشأن وعبر الكثير من رؤساء وزعماء السودان، وكذلك كانت تتم الاتصالات مع القادة الجنوبيين المتمردين القاطنين خارج السودان وذلك عن طريق مجلس الكنائس العالمي والمؤتمر الأفريقي العام للبعثات التبشيرية.
فقد قامت البعثة التبشيرية بزيارة إلى السودان في شهر آيار - مايو - من عام 1971، واجتمعت بأعضاء الحكومة السودانية الذين أبدوا استعدادهم لإقرار السلام في الجنوب السوداني، ولقد اقتنعت البعثة التبشيرية بجدية الحكومة السودانية، فقامت بالاتصال مع القادة والزعماء الجنوبيين في كل من أفريقيا وأوروبا، كذلك حررت خطاباً إلى «ممثلي الجنوبيين في أوروبا»، ونقدِّم هنا أهم فقرات هذا الخطاب:
- يسرنا أن نعلن أنَّه بعد إجراء عدة محادثات معكم بصفتكم الممثلين المفوضين «للأنانيا» في أوروبا، وإفادتكم لنا بأوضاع حركتكم الحاضرة، وبعد زيارة وفد مجلس الكنائس العالمي، ووفد مؤتمر عام أفريقيا لبعثات التبشير لمختلف كنائس الخرطوم، وإعلامنا بوجهة نظر حكومة السودان في سبيل إقرار السلام والعفو، أننا أصبحنا في موقف يسمح لنا بأن نساعد في تيسير رحلتكم إلى أفريقيا.
- إننا نقوم بذلك مدفوعون برغبتنا المختلفة في إقرار السلام...
- لقد تم إعلامكم بصورة واضحة بشأن رحلتنا إلى الخرطوم، حيث طُلِب منا الدخول في مفاوضات معكم...
ومن أجل ذلك نتطلع إلى إفادتنا بتقرير عن زيارتكم لدى عودتكم إلى السودان، ونأمل أن يتضمن ما يلي:
أ - رد فعل قيادتكم بالنسبة للمواقف المعلنة من جانب حكومة الخرطوم.
ب - إفادتنا بقائمة تتضمن أسماء الجنوبيين المرشحين من جانب قيادة «الأنانيا» للاشتراك في المفاوضات.
ت - إرسال خطابات ثقة توضح لنا من يوافق على ترشيح (جوزيف لاغو) ويفوضه للتعامل مع مجلس الكنائس العالمي ومؤتمر عموم كنائس أفريقيا، وذلك نيابةً عن «الأنانيا»، واسمحوا لنا أن نكرر أنَّ مجلس الكنائس العالمي قد عرض خدماته عليكم وعلى حكومة الخرطوم، باعتباره تنظيماً إنسانياً عالمياً وليست لديه أي مطامع أو أغراض سياسية.
«وليست لديه أي مطامع أو أغراض سياسية»؟؟!!
وهنا نطرح التساؤل التالي والذي قد يبدو للبعض تساؤلاً سطحياً:
«من الذي أشعل نار الفتنة، ويعمل في سبيل انفصال الجنوب؟»
يتابع المجلس الكنائسي خطابه قائلاً: «إنَّ دافعنا الرئيسي لذلك هو أن نخدم أهالي السودان على أفضل وجه في الشمال أو في الجنوب على حد سواء، مدركين أنَّ إقرار سلام دائم أمر ضروري لابد منه، نرجو إبلاغ تحياتنا «للملازم لاغو» و«للقادة الآخرين في الجنوب».
لا نعلم إن كانت قد جاءت عبارة (الملازم لاغو) عمداً وخاصة بعد أن رفع (لاغو) نفسه إلى رتبة لواء؟ أو أنها جاءت مسايرةً لحكومة الخرطوم؟
شهر آب - أغسطس من عام 1970:
في هذا الشهر أعلن كل من (مادنق دي قرنق) و(لورنس وول) بعد زيارتهما لعدد من الدول الأفريقية أنَّ قيادة الجنوبيين قد أضحت مستعدة للدخول في المفاوضات وصولاً إلى حل سلمي للنزاع في إطار السودان الموحد، إلاَّ أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية مما سبق وذكرناه ألاَّ وهو المفاوضات التي جرت في «لندن» والتي أعدت وعملت لها «حركة تحرير أفريقيا»، ولقد شارك فيها المؤتمر الوطني السنوي للمندوبين الذي انعقد في يومي 14 و 15 آذار - مارس - 1970، ودُعي إلى المؤتمر كل من (مادنيق ديقرانق) و(جاكوب أكول) المنتميين في الأصل إلى اتحاد جنوب السودان في لندن، ومكتب نشر الحزام الأخضر، فضلاً عن مشاركة مندوب عن سفارة السودان في لندن وهو (علي أبوسن) قدم مشروع القرار هذا ولكنه رفض لأنه لم يتطابق مع وجهة بعض الكنائس، وعليه قرر المؤتمر أن على اتحاد مبشري الكنائس محاولة استخدام مواقفه الطيبة لإحداث نوع من المصالحة بين اللاجئين وحكومة السودان.
«لا أعلم متى كانت لاتحاد مبشري الكنائس مواقف طيبة تجاه الشعوب العربية والإسلاميين؟؟!! ومن أشعل نار الفتنة في جنوب السودان غيرهما؟؟» أما (بربارا حاج) فقد عالجت القضية باعتبارها سكرتيرة حركة تحرير المستعمرات مع سفير السودان في لندن، وكذلك مع وزير الدولة لشؤون الجنوب.
كانت نتيجة المفاوضات تنظيم زيارة لمجموعة من النقابيين البريطانيين وأعضاء البرلمان الإنكليزي، باعتبار ذلك من وسائل إعلام الرأي العام البريطاني، بعد ذلك نظمت (بربارا حاج) عقد اجتماع بين السفير (أبو السن)، والمتمرد (مادنيق ديقرانق) وبعد الاجتماع صرّحا بأنَّ هناك أساساً صالحاً لإجراء مفاوضات أولية تقوم على أساس الاقتراحات المقدمة من (مادنيق ديقرانق) نيابة عن حركة «الأنانيا».
أخبرت سلطات الخرطوم بذلك، ثم كتبت (بربارا حاج) إلى (جوزيف كرنغ) في 10/8/1970 قائلة لـه: «عقدت كثيراً من جلسات المناقشة مع (مادنيق ديقرانق) محرر جريدة الحزام الأخضر، فضلاً عن (لورنس وول) الذي يوجد الآن في باريس، ولقد تبين لنا أنه يتوفر احترام كامل لحكومة السودان الحاضرة، وأنَّ كثيراً من إجراءاتهم المقترحة أخذت بعين الاعتبار، وأنَّه متى تأمّن تطبيق البيان الذي أعلنه الحكم الذاتي الإقليمي، تهيأت الفرص لقبوله من جانب «الأنانيا».
لقد أخبرت أنَّ كل الحكومات في المنفى قد حلت، وأنَّ القيادة السياسية أضحت متمثلة في جماعة «الأنانيا» بزعامة (لاغو)، وذهب كل من (مادينق) و(لورنس) إلى أن عودة بعض القادة السياسيين إلى السودان لن يساعد على الحل في المدى البعيد، ذلك لأنَّ الحل السياسي هو الذي سيؤدي إلى إنهاء الصراع، ويهيىء السبيل إلى تحقيق تطور أصيل في جنوب السودان، وقد طلبا مني أن أعرض المقترحات التالية:
1 - أن يصدر تصريح خاص من حكومتكم يحدد بتفصيل أكثر، أوجه وجوانب الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب، كما يجب في الوقت نفسه، وضع جدول زمني لتحقيق المقترحات وتطبيقها عملياً، بشرط الالتزام بوقف إطلاق النار.
2 - يجب أن تقدم هذه المقترحات سراً عن طريقي باعتباري سكرتيراً لحركة تحرير المستعمرات لأقدمها لكل من (لورانس) و(مادينق) اللذين سيقومان بدورهما بزيارة شرق أفريقيا للتفاوض مع قادة «الأنانيا»، وإن كان هناك ما يستوجب إيضاح أي مسألة، يلجأ إلى حكومتكم لتقديم الإيضاح المطلوب.
3 - وعندما يتم الوصول إلى اتفاق بشأن الخطوط العريضة لحل المشكلة، يجب دعوة كل من «تنزانيا ويوغندة وزامبيا» كضيوف مراقبين للاجتماع بين حكومتكم وقادة الأنانيا لإجراء محادثات حول وقف إطلاق النار، والاتفاق على خط الحكم الذاتي الإقليمي.
ومن الضروري أن تكون الخطوتان الأولى والثانية سريتين للغاية، ولا يعلن عنهما إطلاقاً، ويتم تنفيذهما بواسطتي شخصياً.
لقد أوضح لي (مادينق) بجلاء أنهم يعلمون تماماً دوافع مؤيديهم، وأنه بسبب التاريخ الناصع لحركتنا استشعروا أنَّ بوسعهم العمل عن طريقنا.
وقد لا تجد الاقتراحات المذكورة قبولاً من جانب جميع قادة الأنانيا، ولكن إن قُدِم عرض واضح للحكم الذاتي الإقليمي من جانبكم، فإنَّ الظروف تتهيأ لأكبر عدد من القادة لقبول العرض، ومن ثم يمكن أن يُقصى من يصر على استمرار القتال، ولربما يمكِّن ذلك عدداً من السياسيين السابقين الذين ما زالوا في المنفى، من العودة إلى البلاد للمساعدة في بناء الجنوب على نحو لم يحققه عرض العفو الحالي، تمت مناقشة هذه الاقتراحات مرة أخرى في لندن بين الجنوبيين، وتم الاتفاق على قدوم الجنوبيين بمحض إرادتهم إلى لندن للاجتماع مع (مادنيق) وغيره من مؤيدي «الأنانيا» والاتصال بدورهم بالقادة الآخرين وكذلك (بجوزيف لاغو)، عقد الاجتماع في منزل (بربارا حاج)، ولقد كان الأجنبي الوحيد الذي حضر هذا الاجتماع هو رئيس اتحاد جنوب السودان (د. ماكدوموت)، وقد شعر المجتمعون أنَّ مساهمته في المناقشات غير مفيد، أما الجنوبيون الذين اقترحهم (مادنيق) للاشتراك في المناقشات هم: (فرانكو قرانق) - وَ - (صمويل أرو) - وَ - (سلتو حسن) - وَ - (هيلري لوقالي) - وَ - (ناتالي أمواك) - وَ - (كانون عموسا) - ولقد اقترح في هذا الاجتماع كل من يوغندة ولندن لتكونا محلاً للمحادثات، على أن يحضر الاجتماع زعماء «الأنانيا».
وفي نهاية شهر تشرين الأول - أكتوبر - عام 1970 وبعد مناقشات طويلة قدمت لقادة «الأنانيا»، قبلوا المبادئ التي وضعت كأساس للمفاوضات.
سودان موحد:
قبل قائد «الأنانيا» المتمرد (جوزيف لاغو) المبادئ الأساسية وهي:
1 - سودان موحد - 2 - حكم ذاتي إقليمي للجنوب، 3 - ضرورة تحقيق حل سلمي بدلاً من استمرار القتال.
في شهر كانون الثاني - يناير - من عام 1971 قدم (مادنيق ديقرانق) ممثلاً عن قيادة «الأنانيا» حاملاً شروطاً لبدء المفاوضات تمثلت بما يلي:
1 - وقف جميع الاعتداءات سواء عن طريق إقامة مراكز جديدة أو تشييد جسور أو كباري أو أي إعدادات عسكرية.
2 - الاتفاق على تعيين فريق مراقبة أفريقي تابع لمنظمة الوحدة الإفريقية، يكون أعضاؤه من الأقطار الإفريقية ومقره جوبا، على أن تكون لديه حرية الحركة إلى أرجاء الجنوب مثل /ملكال/ و/واو/ من أجل مراقبة الهدنة.
3 - إطلاق سراح (كليمنت أمبورو) وجميع الجنوبيين المهتمين بارتكاب جرائم سياسية.
4 - الاعتراف بالأنانيا من جانب الحكومة باعتبار الأنانيا الهيئة الوحيدة الواجب التفاوض معها وإعلان ذلك على الكافة من إذاعة أم درمان.
5 - أن تجري المفاوضات برئاسة أحد الرؤساء الأفارقة أو شخص منتدب من منظمة الوحدة الإفريقية.
6 - إجراء المفاوضات في خارج السودان.
نُظر إلى هذه المفاوضات باعتبارها مجافية تماماً لما تم الاتفاق عليه.
هذا هو الوضع الذي وصلت إليه المفاوضات بين الجانبين وفي هذا الجو اتصل الأب (بيرقس كار)( ) بسفير السودان في أثيوبيا عارضاً عليه خدمات منظمته للمساهمة في حل المشكلة.
بقي الوضع على حاله إلى أن جاء (أبل ألير) يرافقه بعض الجنوبيين وقدموا عدة مقترحات من جهات عدة بشأن تنفيذ الحكم الذاتي وكانت هذه المقترحات قدمت لمختلف الجماعات والتنظيمات الجنوبية في الخارج ومنها تنظيم الأنانيا.
رغم ذلك بقي الوضع على حاله إلى أن جاء شهر آب من عام 1971 وفيه عين (أبل ألير) بمنصب وزاري فتحرك الوضع وأثمر عن وضع إيجابي وتمت إعادة الاتصالات وعلى مستوى أرفع، بين الجنوبيين في الداخل والخارج، أصدر وزير شؤون الجنوب أمراً بتكوين لجنة من (صموئيل آرو) - (ناتالي ألوك) - (صموئيل لوبي) - (موسى شول) - (هيلري لوقالي) - (اندرو ويي) - (سيلقو حسن).
بوك ديو:
كانت مهمة هذه اللجنة دراسة الوضع ووضع تصورهم للهيكل الدائم لجمهورية السودان الديمقراطية والكيان القانوني للحكم الذاتي الإقليمي هكذا تم وهكذا صار وعلى أساس هذه المناقشات اتخذ مشروع القرار للحكم الذاتي في الجنوب وقد اتفق عليه أيضاً وقد وزع القرار على الجنوبيين داخل السودان وخارجه وضعت العراقيل أمام المشروع إلا أن الحل جاء بعد عدة جلسات سرية لم يعلن عنها فقد غادر الخرطوم - كل من (أبل ألير - الباقر أحمد)( ) إلى أديس أبابا من أجل مقابلة ممثلين للسياسيين الذين يعيشون بالخارج، سلم مشروع قانون الحكم الذاتي الإقليمي للجنوبيين وتم التوصل أيضاً معهم إلى لقاء آخر لإجراء المزيد من المفاوضات.
في هذا الجو الإيجابي، عملت البعثات التبشيرية على تغيير وجهة نظر الجنوبيين من إيجابية إلى عدائية، فما كان من حركة الأنانيا وبعض السياسيين الجنوبيين إلا أن رفضوا عقد أي اجتماع مع الحكومة السودانية؟ إلا أن المساعي الحميدة كانت جارية على قدم وساق بين الطرفين في هذا الوضع الإيجابي وطُلب إلى الجنوبيين العودة إلى البلاد للمساهمة في بناء السلام وعاد الكثير منهم وقد قدر عدد العائدين من الدول المجاورة بـ /49500/ شخص عدا عودة /8000/ شخص من الغابات إلى المناطق المأهولة بالسكان.

آداب عبد الهادي
26/02/2008, 02:05 PM
الفصل السادس
المؤتمر التداولي

بعد تقديم الإعانات للاجئين، عقد مؤتمر تداولي في الخرطوم لمتابعة تقديم الإعانات، وقد تم انعقاد المؤتمر ما بين 21 - 23 شباط /فبراير/ من عام 1971 في نفس الوقت أعدت الإجراءات لانعقاد مؤتمر تداولي بين ممثلي الحكومة والمتمردين /حركة تحرير السودان/ في أديس أبابا.
عقد المؤتمر وحضر عن الحكومة السودانية نائب رئيس الجمهورية (أيل الير) ووزير شؤون الجنوب كذلك وزير الخارجية الدكتور (منصور خالد) والدكتور (جعفر محمد علي نجيت) وزير الحكومات المحلية واللواء (محمد الباقر الأحمد) وزير الداخلية و(عبد الرحمن عبدالله) وزير الخدمة العامة والإصلاح الإداري والقائم مقام (ميرغني سليمان) والمقدم (كمال بشير).
وقد حضر عن المتمردين /حركة تحرير جنوب السودان/ كل من: (أزيوني منديري) (والدكتور لورانس وول وول) و(مادنيق ديقرانق) والملازم (فريدريك بريان ماقوت) و(اليفرتيالي البينو) و(انجلوفوفا مورجان) والأب (بول بوت) و(جوب أدييردي جوك).
أما المراقبون الذين حضروا فكانوا كثيرين ومنهم (نابيلون كيغلي) ممثلاً للأمبراطور (هيلا سيلاسي) و(ليوبولدو جـ . نبلوس) و(كدوا. أ. انكرا) عن مجلس الكنائس العالمي و(بيرقس كار) عن مؤتمر كنائس عموم أفريقيا، و(صموئيل آتي يوقو) عن مجلس كنائس السودان، وقد تم الاتفاق ما بين الكل أن يتولى رئاسة الاجتماعات (بيرقس كار) وبعد نقاشات طويلة وفي 27/2/1972 أقر الوفدان ووقعا على اتفاقية أديس أبابا التي أصبحت العمود الفقري للعلاقة ما بين الشمال والجنوب؟
ومن أبرز ما جاء في هذه الاتفاقية الآتي:

1 - إنه بموجب هذه الاتفاقية والقانون تكون مديريات بحر الغزال الاستوائية وأعالي النيل وحدة للحكم الذاتي للإقليم الجنوبي في إطار جمهورية السودان الديمقراطية.
2 - أن السلطة تعين المجلس التنفيذي العالي في الجنوب، وتعيين رئيس المجلس مهما كان محل خلاف فيما مضى، قد حسم النزاع بشأنه، بحيث كفلته مساهمة كل من مجلس الشعب الإقليمي والحكومة القومية، ممثلة في رئيس الجمهورية.
أما رئيس المجلس التنفيذي العالي فقد كان عليه أن يمثل رئيس الجمهورية ويعمل باسمه.
3 - لم ينص على أن لا تكون لأبناء الجنوب جنسية مستقلة أو منفصلة، فلكل من أبناء الشمال والجنوب جنسية واحدة هي الجنسية السودانية وحقوق كل مواطن مكفولة وتحظى بالحماية القضائية..
4 - موضوع الضرائب الذي كان فيما مضى محل خلاف قد تم حله على نحو يؤكد سيطرة الحكومة المركزية...
5 - إن الإطار الثقافي للعلاقات بين الشمال والجنوب وطّد الاتفاق عن طريق القرار الذي اتخذ بقبول اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للسودان، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قبلت الإنجليزية وهي لغة أجنبية بالنسبة لكل من الشمال والجنوب، لغة رئيسية دون إضرار أو إجحاف باللغات الأخرى.
وكفل للأقليات حرية استخدام لهجاتها ولغاتها وتطوير ثقافاتها.
عند هذه البنود زالت مخاوف الكنائس وجماعات التبشير وذلك عندما منح هؤلاء الآباء الحق في تعليم أبنائهم أي شيء يختارونه.
بعد ذلك أصدر رئيس الجمهورية (جعفر النميري) أمراً بتعيين رئيس المجلس التنفيذي العالي وأحد عشر مفوضاً برئاسة (أبل الير) وعضوية كل من:
هيليري لوتالي - مالية ونقل.
لويي أدول - تعليم.
مادنيق ديقرانق - إعلام وثقافة وسياسة.
أزيوني منديري - نقل وطريق ومواصلات.
جمعة حسن - زراعة وإنتاج حيواني.
توبي مادوست - صحة عامة.
اليالوب - إدارة إقليمية.
جوزيف أودهو - اسكان وخدمات عامة.
مايكل طويل - ثروة وطنية وتنمية ريفية.
صموئيل ارو - خدمات عامة وعمل.
هذه التشكيلة للحكومة الإقليمية المؤقتة التي ضمت ممثلين لمختلف الجماعات والتيارات السياسية وكان أداؤها مقبولاً داخل السودان وخارجه، وسبب هذا الأداء كان لصالح العاملين في جبهة الجنوب وأعضاء الأنانيا السابقين، إلا أن هذا التشكيل لم يرق لبعض الجنوبيين الذين كانوا مقيمين في الجنوب لأنهم شعروا أن اللاجئين العائدين قد حصلوا على أكثر المناصب العليا في الجنوب، كذلك رجحت كفة قبيلة (الدينكا) والاستوائيين أيضاً.
توطين اللاجئين:

شكلت لجنة خاصة للإعانة وإعادة التوطين للعائدين بعد أن أخذت الحكومة الإقليمية على عاتقها المسؤولية وبمشاركة الحكومة المركزية، وبالنظر إلى الأعداد الكبيرة للعائدين وقلة المصادر المادية الداخلية والخارجية فقد ثبت تماماً أن عودة اللاجئين كانت من أصعب المسائل التي نصت عليها اتفاقية أديس أبابا إذ كان من واجب الحكومة إعادة توطين /190000/ لاجئ من يوغندة وزائير وجمهورية أفريقيا الوسطى وأثيوبيا فضلاً عن /500.000/ ألف لاجىء لم يكن لهم مكان واضح ونتيجة لهذه الأوضاع صدر قرار جمهوري بتخصيص ميزانية خاصة للجنوب، كما صدر أيضاً قرار بتشكيل لجنة إعادة وإغاثة اللاجئين برئاسة (كليمنت امبورو) كما أمر بوقف إطلاق النار وانسحاب قوات الأنانيا من الجيش الوطني السوداني. فالاتفاقية قدرت أن تكون نسبة تمثيل الجنوبيين في الجيش بشكل متناسب مع عدد السكان في الجنوب، وبرزت عدة صعوبات في ذلك الأمر منها استيعاب /6000/ آلاف فرد من قوات الأنانيا، إلا أن هذا الموضوع الشائك قد حل، فقد تم استيعاب قوات الأنانيا في معسكرات كانت معدة سلفاً، وكان المسار الذي اتفق عليه هو تمتعه باللياقة الصحية وأن تكون لديه المهمة على العمل في الجندية، وقد تم استيعاب وتوزيع الأنانيا البالغ عددهم /6000/ آلاف الجيش السوداني وثلاث مديريات جنوبية بحيث كان نصيب كل مديرية /2000/ مقاتل لكن لأن العدد كبير يبلغ /15.832/ بما فيهم الـ /6000/ آلاف فقد تم استيعابهم على الشكل التالي:
أ - 6079 مقاتلاً تم استيعابهم في الجيش الوطني.
ب - 1860 في سلك البوليس والسجون.
ت - 5489 في المصالح الحكومية.
كذلك أوصي باستيعاب الباقي وعددهم /2414/ فرداً في مصالح أخرى وبعد الانتهاء من عملية التوزيع، التي قامت بها اللجنة العسكرية الخاصة والتي تكونت بموجب قرار جمهوري، منح رئيس الجمهورية معاشاً خاصاً لأحد عشر ضابطاً كانوا قد خدموا في القوات المسلحة الجنوبية قبل عام /1955/ ومن بينهم (تافنق) و(علي بكارا).
أما (جوزيف لاغو) فقد عين قائداً عاماً للقوات المسلحة في الجنوب وهكذا سارت الأمور على نحو ما ذكرناه والكل ينظر إلى السلام المنشود، فهل تحقق هذا السلام؟
من يستطيع في ذلك الوقت التنبؤ بما يكون عليه المستقبل، إلا أن الذي يعيش الأحداث لحظة بلحظة ميدانياً يستطيع أن يتبين المستقبل [ وكما يقال يرى الخيط الأبيض من الأسود ] ومن الممكن أن يرى ويعرف مستقبل هذه الاتفاقية عبر ما سأقدمه عن الأفراد الجنوبيين الذين وقعوا على اتفاقية أديس أبابا.
أولاً: مادنيق دي كرنغ:
وسط اشتداد المعارك العسكرية لحركة «الأنانيا واحد» مع الجيش السوداني أعلن المتمرد (مادنيق) بأنَّه ينوي إعلان الحرب على الدولة السودانية، ولقد عمل حينها على جمع المال والسلاح من الدول الغربية وإسرائيل( ) وذلك في سبيل إمداد قوات حركة «الأنانيا واحد» بها، كان قد أطلق تصريحه هذا من مدينة «واو»، وهنا خشي المتمرد «مادنيق» من ملاحقته وتقديمه للمحاكمة، فما كان أمامه إلاَّ الهرب إلى أثيوبيا في البداية حيث الماء والهواء والطعام الشهي... الخ، وأصبح (مادنيق) فيما بعد ممثلاً لحركة تحرير جنوب السودان في «لندن» التي أمدته بالسلاح والمال، ولقد مثل هذا المتمرد، الذي تربى وترعرع في الإرساليات الأوروبية، الموقف المتطرف في الحركة في مواجهة شمال السودان..
ورغم أنَّه كان قائداً عسكرياً إلاَّ أنَّه كان في الوقت نفسه يرأس جريدة «كراس كيرينين»، وهذه الصحيفة هي لسان حركة التمرد «الأنانيا واحد» وحركة الثورة التي شكلها المتمردون.
استطاع القائد العسكري ورئيس التحرير أن يؤكد للحكومة السودانية «حكومة (النميري)» بأنَّ القوات العسكرية لحركة الأنانيا على أتم الاستعداد لوقف العمليات العسكرية في حالة قبول شروطها، أي شروط الأنانيا؟
وفي ذلك الوقت عملت الحركة على زيادة نشاطها العسكري فقامت بالضغط على الجيش السوداني عبر القتال وزرع الألغام ضد الآليات، ورغم هذا الضغط العسكري الانفصالي أدركت حركة التمرد أنّها لا تستطيع أن تملي شروطها؟ والسبب أنَّها لم تدرك أنَّ (النميري) قد أصبح حليفاً للغرب وذلك بعد قضائه على حركة الحزب الشيوعي السوداني في 19 - تموز - يوليو - 1971، وبذلك فقدت حركة الأنانيا أقوى الحلفاء الغربيين لها ألاَّ وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
الرقيب كوتن:
وهو أحد أبناء قبيلة (الدينكا) ومن القيادات العسكرية في مديرية أعالي النيل، كان يحمل رتبة رائد في حركة الأنانيا رغم كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولقد رفض التسوية، كما رفض رتبة رقيب في الجيش السوداني تمرَّد مع عدد من الجنود، إلاَّ أنه قبض عليه عند محاولته الهرب وقتل.
جون أوير جوك:
من مدينة «يور» كانت تربطه صداقة قديمة مع الزعيم (أبل ألير)، حيث كانا يدرسان معاً، وقد انضم إلى حركة الأنانيا أثناء محادثات أديس أبابا عام 1972.
وليم كون وينج:
كان يحمل رتبة عسكرية عالية في حركة /الأنانيا/، إلاَّ أنه استوعب برتبة أقل في الجيش الوطني بعد محادثات أديس أبابا، وكان أحد قيادات حركة الأنانيا في أعالي النيل ومنها قاد عدة حركات عسكرية في مواجهة الجيش السوداني، وافق على اتفاق أديس أبابا وهو الذي طارد الرقيب (كوتن) حتى قتله، بعد فترة من وجوده في الجيش السوداني هرب والتحق بحركة التمرد.
جيمس أويانق:
تم انخراط (جيمس) في الجيش السوداني بالرتبة نفسها التي كان يحملها في حركة /الأنانيا واحد/، لكن قبيلة (الأنانيا) وهو أحد أبنائها عادت للتمرد والعصيان، فقد احتلت قوات الأنانيا منطقة «أكوير» وكان على رأس القوى المتمردة عريف يدعى «جيمس بول»، عاونه بعد ذلك اثنان من الضباط وهما الرائد «جيمس أويانق» الذي شغل موقع قائد المنطقة يساعده الملازم «بتسون كور»، ولقد فشل التمرد وقمع، فهرب المتمردون إلى أثيوبيا؟
ما الذي نستنتجه من ذلك؟
بكل بساطة نستنتج أنَّ القيادات العسكرية المنتمية لقبيلة (الدينكا) كانت غير راضية عن اتفاق أديس أبابا عام 1972، بل كانت تسعى إلى عرقلة هذا الاتفاق، وبالتالي التمرد عليه، ومن وراء هذا كانت القوى المعادية للسودان، ومثال على هذه العرقلة نقدم الآتي

في منطقة بحر الغزال حدث التالي:
في شهر شباط - فبراير - 1976 وتحديداً في مدينة «واو» حيث عقد مؤتمر للشرطة، حضره عدد من قيادات الشرطة من كل أنحاء السودان بينما امتنع عن الحضور العميد (أمونويل أيور) وقائد الشرطة في المنطقة المدعو (ويسان أوجاي)، كما امتنع أيضاً عدد من الضباط الذين تم استيعابهم في قوات الشرطة الوطنية، ولم يأت هؤلاء بسبب المخطط الذي وضعه عدد من قيادات الأنانيا بهدف تهريب أكبر عدد من قوات الأنانيا أثناء عقد المؤتمر، ولقد ساعد في عملية التهريب هذه نقيب من الحركة يدعى (أنويت) الذي فرَّ هو أيضاً إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، ولكن ما لبثت أن قبضت عليه حكومتها وسلمته إلى الحكومة السودانية التي حاكمته وأعدمته.
ولقد حدث الآتي أيضاً:
ففي يوم 24 - كانون الثاني - يناير - 1974 قامت عدة وحدات من العصابة العسكرية لحركة الأنانيا، والتي تم استيعابها في الجيش السوداني النظامي، هذه العصابة قامت بحرب خاطفة وكانت بداية عملياتها في مدينة «واو» حيث شنت هجوماً عنيفاً على سكن الضباط والجنود الوطنيين في المدينة مما أدى إلى قتل وجرح عدد كبير من الضباط والجنود.
من خلال استعراضنا للأعمال العسكرية الجنوبية الدينكاوية نستنتج أنَّ أكثر القيادات الدينكاوية رافضة للسلام، ولقد مهَّدت هذه العمليات وغيرها لظهور حركة «الثعبان السام» أو «السم القاتل» رقم «2» وكذلك تشكيل كل من /الحركة الشعبية/ و/الجيش الشعبي لتحرير السودان/.

آداب عبد الهادي
26/02/2008, 02:23 PM
الباب التاسع
التخبط في السودان

وقبل أن نخوض في حركة التمرد الثانية علينا أن نقف مع بعض المكونات الجنوبية التي ظهرت في الإقليم الجنوبي... من هي؟.. ما هي دوافعها ومراميها، ومن كان وراءها؟.. وقبل البدء في ذلك وجدت أنه من الأنسب تقديم فكرة موجزة عن استيلاء الجيش السوداني على السلطة وتشكيل الحكومة العسكرية الوطنية الأولى في السودان.

الفصل الأول
استيلاء الجيش على السلطة

في 17 - تشرين الثاني - نوفمبر - عام 1958 استولى الجيش السوداني برئاسة الفريق (إبراهيم عبود) على السلطة، وبهذا الاستيلاء تكون مشكلة الجنوب قد دخلت مرحلة جديدة، والواقع أنَّ تسلم الجيش للسلطة لم يكن بسبب فشل الأحزاب السياسية في إيجاد حكومة تعمل لحل المشاكل المتفاقمة كإرساء الوحدة الوطنية والاقتصادية، حيث أنَّ حزب الاتحاد الوطني السوداني الأفريقي الذي تكون خارج السودان في نهاية عام 1958، قال بأنَّ تسلم الجيش لمقاليد الأمور في البلاد قد دبر من أجل عزل الجنوب عن الشمال ثم سيطرة الشمال على الجنوب.
ولكن هذا غير صحيح، والحقيقة أنَّ الذي دعا الجيش لتسلم السلطة هو رئيس الوزراء حينها (عبدالله خليل) وذلك من أجل إحباط الجهود الرامية لعقد تحالف بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي، كذلك حل البرلمان لأنَّ معظم أعضائه كانوا قد أظهروا العداء لرئيس الوزراء ولسياسته الداخلية والخارجية وكذلك من أجل إيقاف المعارضة خارج البرلمان والمتمثلة في رجال الخدمة المدنية والنقابيين والمزارعين وكذلك الطلبة، حيث كان هؤلاء متذمرين من سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وبناءً على ذلك وكما يقول العارفون والمطلعون على الأمور الحقيقية للسودان «بأنَّ تسلم الجيش للسلطة كان مؤامرة من أهل الشمال» وهذا أمر يدعو للضحك والسخرية؟
حكومة الفريق (عبود):
جاءت الحكومة العسكرية ممثلة بالفريق (إبراهيم عبود)، ولم تكن تملك ورقة عمل لحل مشكلة الجنوب كمثيلتها الحكومة المقالة.
ولقد عملت الحكومة العسكرية على إيجاد حلول للقضايا الإقتصادية في أعوامها الأولى، ولكنها لم تعط مشكلة الجنوب اهتماماً خاصاً، وكان هناك من ينادي باستخدام القوة في مواجهة تحرك الجنوبيين المتمردين المطالبين بحكم فيدرالي أو أبعد من ذلك وهو انفصال الجنوب، ولكن هذين الأمرين وإن كان الأول منهما مقبولاً ولكن بشروط، دعيا الكثير من الطامحين غير الشرعيين إلى العنف والحرب.
وعلى سبيل المثال نورد الآتي:
قام محافظ الاستوائية المدعو (علي يلدو) بإلقاء خطبة في مدينة «جوبا» عام 1961 نقتطف بعض ما جاء فيها:
1 - إنَّنا نشكر الله العلي القدير الذي يسر بفضل الجهود الضخمة لحكومة الثورة أن تظل بلادنا وتبقى موحدة للأبدية؟
2 - على الشعب ألاَّ يلتفت للشائعات المغرضة، التي قد يروج لها الساسة.
3 - من المؤكد أنكم لا ترغبون في إراقة الدماء مرة أخرى في الجنوب، ولا أحسبني بحاجة لأن أذكركم بأنَّ كل من يجرؤ على الإخلال بالأمن والسلام سنتخذ ضده إجراءات صارمة فوراً.
وهنا لابد لي أن أسجل موقفاً مميزاً للحزب الشيوعي السوداني الذي وقف في وجه الكثير من القرارات الديكتاتورية.
إلاَّ أننا نستطيع أن نسجل موقفاً إيجابياً مميزاً للنظام العسكري وهو إسراعه في إدخال اللغة العربية والثقافة الإسلامية للجنوب من أجل تمتين العلاقة بين الإقليمين.
وقد تم افتتاح عدد من المدارس ذات النهج العربي الإسلامي في كل من /جوبا / كدوك / واو / مريدي / راجا / ياي/، كذلك افتتح معهد عربي إسلامي في مدينة /جوبا/ عاصمة الجنوب.
هكذا انصب نشاط العسكريين على تعليم اللغة العربية ونشر الدين الإسلامي فما كان من غلاة الحكام الذين يطلق عليهم [ المثقفين الجنوبيين ] إلا أن يفرّوا إلى الخارج، وما كان من القساوسة إلاَّ أن كتبوا عريضة وقدموها إلى الفريق عبود ينددون بأعمال الحكومة، هنا قامت السلطات الحكومية باعتقال بعض من هؤلاء القساوسة، وفيما يلي نقدم بعض ما جاء في هذه العريضة:
«ليس هناك من أحد، مهما علا شأنه ملكاً كان أم امبراطوراً، يمكنه إجبارنا على أن نسير في طريق يخالف تعاليم أبينا الذي في السماوات والأرض أو يتجافى مع ضمائرنا».
ثم استطردت العريضة قائلة:
«لقد أضحى القانون سلاحاً لكبح زمام /المسيحية/؟ ولفرض الدين الإسلامي»، لم يكن هذا بالطبع رأي القساوسة والرعية المسيحية السودانية إنما كان إيحاءً من الغرب المتصهين ونتيجة لهذا الموقف الغربي قامت الحكومة العسكرية بطرد الهيئات التبشيرية الغربية وفق الأمر الآتي:
ففي 27/2/1961 أصدرت وزارة الداخلية أمراً بطرد كافة موظفي الهيئات التبشيرية الأجنبية من الجنوب، علماً بأنَّ عدد الهيئات التبشيرية كان 267 هيئة، وكان من بين المطرودين /272/ قساً كانوا تابعين لبطريركية فيرونا، و/28/ قساً من البروتستانتيين، بعد ذلك اتهم وزير الداخلية في الحكومة العسكرية بأنَّ المجلس المركزي للإرساليات يقوم بنشاط يهدد وحدة السودان، وهذا ما ثبت الآن.
وقد ازدادت مخاوف نظام الفريق عبود من كثرة المطبوعات الكاثوليكية التي تحمل الحقد والكره للعرب والإسلام.
ثارت الدوائر الرسمية والدينية في الغرب نتيجة طرد الإرساليات والمبشرين الأجانب وقد صبت الصحف الغربية جام غضبها على حكومة السودان وكذلك فعل الفاتيكان.
ومما جاء في تعليقات الصحف الغربية تعليق مجلة أفريقيا التي تصدر في لندن، حيث كتبت عام 1964 الآتي:
«إنَّ /الكاثوليك/ عموماً، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى كرسي «فيرونا» قد أطلوا برؤوسهم ثانيةً سياسياً وجماهيرياً».
بعد ذلك أخذت الأحوال السياسية في الجنوب السوداني اتجاهاً جديداً؟

آداب عبد الهادي
26/02/2008, 02:26 PM
الفصل الثاني
سقوط النظام العسكري

بعد أن أطيح بالفريق (عبود) في انتفاضة أكتوبر عام /1964/ وقدوم حكومة (سر الختم خليفة) ظهرت ولأول مرة إمكانية الوصول إلى تسوية للمشكلة الجنوبية عبر مفاوضات سلمية، على أن تعمل الحكومة وفق ما يلي:
دعم القوى التقدمية دعماً قوياً، حيث أنَّها ساهمت وبشكل فعّال في إقصاء الفريق عبود، إضافة إلى تمتعها بتأييدٍ شعبي واسع، وقد رفضت عمل سياسات نظام (عبود) في الجنوب الرامي إلى حسم المسألة بالوسائل العسكرية، وبدلاً من لجوء /143/ من المتمردين الانفصاليين إلى التهدئة لجؤوا إلى الدوائر الغربية الكنسية للاستنارة بمشورتهم والعمل بها.
أصبح التآمر وأصبح واضحاً لأبناء السودان وعلى أثر ذلك اتخذت عدة قرارات بهذا الخصوص من قبل القوى الوطنية والقوى المتمردة الانفصالية، وأورد هنا أهم هذه القرارات:
1 - رفض كافة أحزاب الشمال لأي فكرة أو حل يؤدي إلى الانفصال رغم الدعوات الفردية التي ارتفعت والتي تنادي بوجوب الانفصال.
2 - وضوح رؤية كل من «حزب الوحدة السوداني» و«جناح» (وليم دنيق) في حزب «سانو» في المناداة بوحدة السودان أرضاً وشعباً.
3 - مناداة كل من جبهة الجنوب والانفصاليين من حزب «سانو» وحركة «الأنانيا» بالانفصال واستقلال الجنوب، وهناك عدم إمكانية لتغيير توجههم هذا فهم لا يؤيدون إلاَّ الانفصال التام.
بعد ذلك استولى الجيش على مقاليد الأمور في البلاد، وشددت الحكومة الجديدة من مقاومتها (للأنانيا) وزادت من تعاونها مع الجنوبيين الذين يميلون إلى تأييد الوحدة.
ازدادت اعتداءات (الأنانيا) على المواطنين في الوقت الذي قام به رئيس الوزراء بزيارة بعض أقطار شرق أفريقيا من أجل إقناع حكومات هذه الدول بعدم تقديم المساعدة لمن يود أن يبقى في أراضيها.
وقامت أحداث /جوبا/ في 8 - تموز - يوليو - 1965 وكذلك في مدينة «واو» في الحادي عشر من آب /أغسطس/ من العام نفسه.
قتل الكثير من الانفصاليين المتمردين نتيجة مطاردة الجيش والبوليس للمتمردين وأعوانهم، ولقد ولَّد هذا القتل شعور بالمرارة لدى القوى الانفصالية، فهرب عدد لا بأس به منهم إلى يوغندة، وزادت مشكلة الجنوب تعقيداً وتشابكاً أكثر.
ازدادت الأوضاع الاقتصادية تدهوراً مع تزامن إبعاد الحزب الشيوعي من الجمعية التأسيسية، وكذلك ممثل حزب الاتحاد الديمقراطي، هذا في الداخل، أما في الخارج فقد التقى كل من «جبهة التحرير الأفريقية السودانية» وحزب «سانو» في الخارج في جبهة واحدة هي جبهة «الأزانيا» للتحرير، ولقد أعلنت «الأزانيا» أنَّها تعمل في سبيل إقامة دولة أفريقية حرة مستقلة في جنوب السودان تدعى «الأزانيا» وبحيث تحل محل المملكة الأفريقية القديمة في شرق أفريقيا والتي كان «الجنوب» ربَّما جزءاً منها، هذا من جانب «الأزانيا» أما من جهة جبهة الجنوب والتي تعد ثاني أكبر منظمة جنوبية انفصالية، فقد ظلت تمارس نشاطها على وجه «مشروع» في كافة أنحاء السودان، واستمرت جريدتها «الفيبرلانت» تنشر كثيراً من أفكار جبهة أفريقيا للتحرر الوطني.
وهنا يمكننا أن نصل إلى استنتاج ما يلي:
إنَّ وجهات النظر والأهداف لكل من:
1 - جبهة الأزانيا الأفريقية للتحرر.
2 - جبهة سانو.
3 - حركة الأنانيا.
تكاد تكون واحدة ومتطابقة حول محور الانفصال، أي فصل الجنوب عن الشمال، بينما الأحزاب الجنوبية التي تؤمن بوحدة السودان وتدعو إليها فهي:
1 - حزب «سانو» المتمَّثل في جناح (وليم دنيق).
2 - حزب الوحدة السوداني الذي يرأسه (سانتينو دنيق) و (فلمون ماجوك).
وهنا لا بد من القول:
إنَّ من يدعو ويعمل لانفصال الجنوب عن الشمال، إنَّما يعمل لدفع هذا الإقليم إلى الخراب، وهذا طبعاً ليس في مصلحة السودان والدول المجاورة، وكذلك الدول العربية كما أنَّه ليس في مصلحة السلام العالمي، لذلك علينا أن ندرك تماماً أنَّ هناك أسباباً مهمة وجوهرية في بقاء جنوب السودان موحداً مع الإقليم الشمالي، لأنَّ وحدة السودان هي الضامن لاستمراره وقوته وأمنه، ولذلك ينبغي على دول الغرب التي يهمها أمنها أن تتخلى عن سياستها في فصل الجنوب عن الشمال، كذلك ينبغي على رؤساء الدول الأفريقية أن يقبلوا بحدود السودان كما رسمتها الدول الاستعمارية التي لا تقبل مطلقاً بتفتيت بلدانها إلى دويلات صغيرة.
إنَّ النيل الذي يجري في أرض الشمال والجنوب يعد رابطة جغرافية تاريخية طبيعية بين الإقليمين، ولذلك فإنَّ الوحدة السياسية كما رسمها التاريخ والجغرافية ضرورية وهامة لاستمرار الحياة.
«وإن ما أخشاه بعد اتفاقية /مشاكوس/ هو فصل الجنوب عن الشمال وفق المعطيات التي وردت في هذه الاتفاقية»..

آداب عبد الهادي
26/02/2008, 02:31 PM
الفصل الثالث
نموذج من بعض الحكومات المتمردة؟


تسارعت الأحداث وبدأ المتمردون يبحثون عن غنائمهم، يجنون ثمار /تمردهم/ الذي أتى /بحكومة الجنوب/ الانفصالية، لكن حساباتهم لم تكن في مكانها، فالقيادات السياسية والعسكرية في مناطق عدة من الجنوب اختلفت مع الحكومة المؤقتة وكان سبب الخلاف رفض قادة قبيلة (الزاندي) و(مورو) تعيين (اميديو تافينج) قائداً عاماً لحركة التمرد (الأنانيا) كما أن هناك اعتقاداً كان سائداً في أوساط قادة غرب، محافظة الاستوائية والاعتقاد هو أن أهالي شرق الاستوائية وأكثرية مواطني محافظة /بحر الغزال/ و/أعالي النيل/ لم ينضموا إلى صفوف الحركة بالشكل المطلوب وهو وجودهم الكثيف؟ كما أن قادة بعض قبائل المنطقة الاستوائية الصغيرة اجتمعوا على هيمنة قبيلة (الدينكا) على ما سمي بالحكومة المؤقتة /وحركة التمرد (الأنانيا) كما أن هناك شيئاً ما يحدث في داخل (الأنانيا) لم يستطع قادة التمرد من غير قبيلة (الدينكا) أن يعرفوه؟ وخاصة بين القوات المتواجدة في منطقتي /أعالي النيل/ و/بحر الغزال/ نظراً لحرب هاتين المحافظتين مع أثيوبيا وأفريقيا الوسطى وخاصة أن حرية الحركة صعبة جداً في هذه المناطق، هذه الأوضاع كلها أدت إلى ظهور الخلافات في ما سمي بالحكومة المؤقتة وخاصة بين رئيسها (أقري جادين) و(غردون مورتات ميان) وزير الخارجية أما الأسباب المعلنة لهذه الخلافات فهي قول جادين أنه لا يجد احتراماً ولا دعماً من وزير الخارجية (مورتات)( ) كذلك نائبه (كاميلو ضوال) الذي يعمل لعزله من رئاسة الحكومة، نتيجة لهذه الأحداث سعى (جادين) لعقد المؤتمر السنوي، على إثر فشله في ذلك ذهب إلى /نيروبي/ متخلياً عن رئاسة الوزراء.
هنا دعا (كاميلو ضوال) بصفته نائب رئيس الحكومة إلى عقد المؤتمر في منطقة /بولجو بندي/ التي تقع قرب الحدود الزائيرية.
عقد المؤتمر في يوم 29 آذار /مارس/ عام 1969 وفيه تبّنى المؤتمرون مقررات منطقة /انجوري/ بالإضافة إلى قرارات أخرى، نذكر أهم ما ورد فيه:
1 - تغيير اسم حكومة جنوب السودان الانتقالية إلى حكومة النيل الانتقالية برئاسة (غردون مورتات ميان).
2 - أعلن المؤتمر أن الانفصال من الشمال يعتبر الهدف الأساسي لدولة النيل وأن الحركة السياسية الجنوبية ستقبل بالفيدرالية فقط كحل وسط وأن قوات (الأنانيا) ستحارب من أجل تحرير الجنوب؟
3 - رفض فكرة قيام الحكم الذاتي للجنوب.
هذا أهم ما جاء في مقررات المؤتمر وقد شُكلت حكومة النيل الجديدة من ثمانية وزراء...
وفيما يلي أهم الوزارات ومن شغلها:
1 - غردون مورتات ميان: رئيساً للحكومة.
2 - ماركورومي: نائباً للرئيس.
3 - اركانجوباري وانجي: مسؤولاً عن العلاقات الخارجية.
4 - الجنرال اميديوتافينج: قائداً أعلى للجيش.
5 - العميد أمانويل أبور: قائداً للأركان.
ومن الجدير ذكره أن مجموعة رئيس الوزراء السابق (أقري جادين) قد قاطعت المؤتمر وقد كان نصيب قبيلة (الدينكا) كافة المناصب الوزارية.
هذا الأمر أغضب السياسيين من بقية القبائل الذين كانوا يدعمون توجه (غردون مورتات ميان) هذا الأمر أعاد ظهور المشاكل وطفوها على السطح بوجه الحكومة الجديدة /حكومة النيل/ وذلك يعود إلى سيطرة سياسيي منطقتي /بحر الغزال وأعالي النيل/ على الحكومات التي تولت السلطة، ورداً على ذلك قرر قياديو المنطقة الاستوائية قيام حكومة في مناطقهم.
وبدلاً من قيام حكومة واحدة في هذه المنطقة ظهرت عدة حكومات وهي:
1 - حكومة أنيدي الثورية:
بعد خلع رئيس الوزراء (أقري جادين) ولجوئه إلى كينيا، لعب بعض السياسيين المقربين إلى (جادين) دوراً هاماً في كسب ود الجنرال (اميديو تافنج) الذي يشغل منصب القائد الأعلى للجيش في حكومة النيل.
كسب السياسيون ثقة وود (تافنج) وأقنعوه بأنه الرجل القوي والذي يستحق أن يقود الجنوب إلى الاستقلال وعليه أن يتولى رئاسة الحكومة بدلاً من (غوردون مورتات ميان) اختمرت الفكرة برأس قائد الجيش وأقنع نفسه بأنه فعلاً /القائد المنتظر/؟ فعمد إلى الإطاحة برئيس الحكومة صديق الأمس وعدو اليوم لكنه فشل في ذلك، إلا إنه أعاد الكرة ولكن بشكل آخر، فقد حرضه من جديد كل من (جيمس الياباسورو) الذي ينتمي إلى قبيلة (فاجولو) و(سفرينو واني سواكا) من قبيلة (باري) وساعده على تنفيذ خطته تسعة ضباط من حركة التمرد /الأنانيا/.
قام الجنرال (تافنج) بإنشاء حكومة جديدة أطلق عليها اسم /حكومة ايندي الثورية/( ) وكان ذلك في 15 أيلول /سبتمبر/ عام 1969 وقد شكل الجنرال المتمرد حكومته على النحو التالي:
1 - الجنرال اميديو تافنج: رئيساً.
2 - أقري جادين: مسؤولاً عن العلاقات الخارجية.
3 - جيمس اليابالوبوكاسورو: مسؤولاً عن المالية والإعلام.
4 - العقيد نادريك ماقوت: رئيساً للأركان.
5 - سفرينو واني سواكا: عضواً.
لم تعمر حكومة الجنرال طويلاً، فقد ادعى عدد من سياسيي منطقة الزاندي أن حكومتي /النيل/ و/ايندي/ فشلتا فشلاً ذريعاً، وعلى أثر ذلك اجتمع سياسيو وعسكريو منطقة الزاندي وقرروا تشكيل حكومة خاصة بهم وقد دعمهم العقيد (صموئيل أبوجون كباشي) القائد المحلي للمنطقة.
أعلنت الحكومة تحت اسم /نهر سو الثورية/ كذلك قيام جمهورية /سو/( )، كان سبب تشكيل الحكومة الجمهورية الجديدة هو الخلافات بين الجنوبيين وسبب الخلاف يعود إلى قضايا شخصية وهذه الخلافات يغذيها مجلس الكنائس العالمي والغرب حتى تكون كل القوى المتمردة تحت أجنحتهم وتدور في سمائهم، وقد ترأس الحكومة والجمهورية الجديدة (مايكل طويل) الذي يكن العداء الشخصي فقط لرئيس حكومة /النيل الانتقالية/ الذي قال عنها (الطويل) أنها واجهة لسيطرة قبيلة (غردون مورتات).
على إثر قيام حكومة /نهر سو الثورية/ قامت حكومة جنوبية جديدة فقد أعلن السياسي المتمرد (ازيون مونديري) قيامها وأطلق عليها اسم حكومة /أزانيا السودانية في شرق أفريقيا/. لم يعرف إلا القليل القليل عن هذه الحكومة وأهدافها، إلا أنه كان لبعض السياسيين الجنوبيين والمقيمين في كينيا اتصال مباشر مع المتمرد (ازيون مونديري) كانت حكومة أزانيا القبلية حكومة كغيرها، قبلية شخصية؟؟!
وشعارات هذه الحكومة كلها التي تتالت كانت تنادي بالانفصال وإقامة دولة جنوبية معادية للوطن ككل وللعرب والمسلمين.
حكومة الجنوب الإقليمية:
بعد اتفاق أديس أبابا وتعيين (لاغو) في منصب هام وحساس [ تم تعيينه رئيساً للحكومة الإقليمية الجنوبية ] إثرها بدأ زملاؤه الانفصاليون يلعبون لعبة قوية جداً ضده، هذه اللعبة أجلسته على برميل من البارود قابل للانفجار في أي لحظة تريدها وتقررها القوى الانفصالية، وإن كان كل من (لاغو) و(أرو) أشبه بقطبين متناقضين لا يمكن أن يلتقيا، إلاَّ انهما يشتركان بحبهما لكرسي الحكم وتعلقهما به لأبعد الحدود، ويشتركان أيضاً بإصابتهما بمرض يسري في الكثير ممن يعملون في الشؤون السياسية إلاَّ وهو «الغرور» و/العنجهية/.
بعد ستة أشهر على تشكيل حكومة (لاغو) بدأت الصراعات القبلية الخامدة تأخذ طريقها إلى النور، ولقد دبَّ الخلاف في أوصال الحكومة الإقليمية للجنوب، هذه الخلافات كانت تُغذى من قبل القوى السياسية الإنفصالية، ولقد كانت هذه القوى توزع تارة لـ (لاغو) وتارة أخرى لـ (أرو) إلى أن انفجر الصراع، وبدأت تظهر السحب الداكنة في عالم الجنوب، وانشقت المؤسسة الإقليمية على نفسها ما بين مؤيد للرئيس (لاغو) وآخر معارضٍ له.
ووسط هذه السحب تحركت القوى الانفصالية وفق مخططها لاستكمال تنفيذ ما تبقى منه، وكان أول ما قامت به هو ضم كل معارضي (جوزيف لاغو) وعلى رأسهم مؤيدو (أبل ألير) الذين كانوا يتربصون الشر بحكومة (لاغو) ولنيل الثأر منها.
بدأ موقف رئيس الحكومة يضعف شيئاً فشيئاً وسط أعضاء مجلس الشعب، وعندما أدركت المعارضة الانفصالية ذلك دفعت بكل قوتها لإسقاط رئيس الحكومة، فألصقت التهم به ومن هذه التهم تهمة الفساد والرشوة والمحسوبية والتسلط وعدم الكفاءة في إدارة الحكومة والإقليم، وأعقبت ذلك بقولها: «إنَّ (لاغو) يدير الإقليم كما كان يدير حركة «الأنانيا» في الغابة؟» وعلى خط «مواز» بدأت تتصاعد الاتهامات التي تتعلق بزوجته صراحة داخل مجلس الشعب الإقليمي، فقد اتهمت المعارضة الانفصالية زوجة (لاغو) بالفساد، وأنَّها تسلمت رشاوى تقدر بمليونين ونصف المليون دولار وذلك بعد تسلم زوجها مقاليد رئاسة الحكومة، فهذه الأموال كانت مخصصة للحكومة الجنوبية من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكن زوجة (لاغو) قبضتها لصالحها الشخصي كما أشار الاتهام؟
وفي إحدى دورات مجلس الشعب وقف العضو (بنجامين بول) وهو من غلاة الانفصاليين ولقد كان فيما مضى من أكبر المتحمسين لقيادة (جوزيف لاغو) للإقليم الجنوبي، قال عضو المجلس (بول) وسط جلسة مجلس الشعب أنَّ لديه وثائق ومستندات دافعة تدين (لاغو وزوجته) وتفضح سوء تصرفه المشين، وخونه للأمانة التي منحناه إياها، وهنا ثار النواب، وحصل نوع من الشغب، فقد طالب النواب باستقالة (لاغو) وتقديمه للمحاكمة العلنية، ولكن لم تثبت أي تهمة على (لاغو) بعد التحقيق معه، ولا على زوجته أيضاً، إلاَّ أنَّ مكانته اهتزت كثيراً أمام الرأي العام السوداني، والجنوبي خاصة.
هذا هو المخطط الذي وضعته الدوائر الغربية، وعملت على تنفيذه القوى الانفصالية عبر ضرب (لاغو) و(ألير) ببعضهما، بما يمكنها من التفرَّد بالساحة وتمرير مخططها الانفصالي، على إثر ما حدث كان قد هاج وماج رئيس الحكومة الملازم الأول واللواء والفريق (جوزيف لاغو) فما كان منه إلاَّ أن قام - وكرد فعل على ما حدث - بفصل نائبه وكل معارضيه في الحكومة بمن فيهم مستشاره (لويجي أدوك)، ثم أدخل أحد معارضيه المدعو (بيتر جان كوث) وهو من مجموعة خصمه (أبل ألير) وعينه نائباً له.
لم يتوقف (لاغو) عند ذلك بل مضى معانداً ومتحدياً كل من يقف بوجهه وحتى من حاول إرشاده أو نصحه، (ويا ليته سمع كلام الناصحين)؟
مضى (لاغو) إلى المؤسسة التشريعية وفصل رئيسها (كلمنت امبورو)، وكذلك فصل بعض اللجان وبطريقة فظة وغير لائقة به كرئيس حكومة، ولقد وسَّع هذا العمل من دائرة الصراع بشكل عام، وضد (لاغو) بشكل خاص، وأخذت تنعكس على الإقليم الجنوبي سلباً، ثم أخذت الدائرة تكبر وتتوسع، وأخذ يتموج هذا الصراع بألوان عديدة منها «القبلي» و«السياسي» و«العسكري».
إذاً، لقد نجحت القوى الانفصالية في تحقيق هدفها الأول من بين جملة أهدافها المبتغاة، لقد تمثل هذا الهدف في الصراع بين الجنوبيين وضربهم ببعضهم البعض، وكذلك نجحوا في تحقيق الهدف الثاني وهو طلب الرئيس (النميري) من (أبل ألير) عدم ترشيح نفسه لصالح (جوزيف لاغو) الذي أقصاه فيما بعد مع حكومته ثم حل المجلس الإقليمي الثاني في 5 - 2 - 1980 ثم تكليف (بيترجات كوث) بترؤس حكومة انتقالية لفترة أربعة أشهر، تجري بعد ذلك انتخابات مجلس الشعب الإقليمي الثالث.

آداب عبد الهادي
03/03/2008, 10:57 PM
الفصل الرابع
أربع حكومات بعد سقوط لاغو

بعد قرار (النميري) بإعفاء المتمرد السابق ورئيس الحكومة الإقليمية (جوزيف لاغو) تعاقبت على جنوب السودان أربع حكومات، اثنتان منها انتقالية، والباقيتان منتخبتان ولكنهما لم تكملا فترتهما المقررة وهي أربع سنوات، والملاحظ في هذه الحكومات المذكورة أنَّها جاءت ضعيفة ومفككة ومهزوزة، ممَّا جعلها تفقد إمكانية السير على الطريق الصحيح، ولقد تناوب على رئاسة هذه الحكومات عدد من القادة منهم (بيتر جات كوت) إلى (أبل ألير)( ) الذي لم يتمكن من بسط سيطرته على الحكومة وإدارة الإقليم الجنوبي، ثم جاء اللواء (قسم الله عبد الله رصاص) على رأس حكومة شبه عسكرية انتقالية فقد كان معظم وزرائها من الضباط الذين تم استيعابهم في الجيش السوداني الوطني ولم تكن لديهم القدرة على تسيير دفة الحكم بالشكل المطلوب، ثم قدم المهندس (جوزي جيمس طمبره) على رأس حكومة ذات برنامج انفصالي، حيث كانت تحوي وزراء انفصاليين.
لابد من الإشارة إلى أن هذه الحكومات إنما جاءت بمخطط رسمته القوى الانفصالية ربما، باستثناء حكومة (عبدالله رصاص) التي عينها (النميري) شخصياً، برزت في عهد هذه الحكومة كافة أشكال الصراعات التي تطورت فيما بعد فلعبت دوراً مهماً في ازدياد مدى الانقسام وسط أبناء الجنوب.
وتم تكوين عدد من الأحزاب السياسية، علماً أنَّ القانون كان يجرم ويعاقب من يتعاطى في هذا الشأن.
لقد قامت حكومة «قسم الله» بتأجيل الانتخابات، التي أوصت بها وقررتها لجنة (عبد الحميد صالح)، وكان تبرير هذا التأجيل بحجّة أنَّ «الأمن غير مستتب»؟ في كافة الإقليم، وخاصة في مديريتي «أعالي النيل» و«جونقلي»، ولكن نتيجة للضغوط العديدة التي تعرضت لها حكومة (قسم الله) رضخت للأمر الواقع في نهاية الأمر، وبدأت فعلياً في الإعداد لانتخابات مجلس الشعب الرابع الذي سيأتي بحكومة منتخبة، علماً أنَّه كانت هناك ثلاث حكومات انتقالية هي:
1 - الحكومة الأولية: رئيسها (أبل ألير).
2 - الحكومة الثانية: رئيسها (بيترجات كوت).
3 - الحكومة الثالثة: رئيسها (قسم الله رصاص).
بدأ العمل في الإعداد للانتخابات، وأخذ فريق «وحدة السودان» بقيادة (أبل ألير) يعد العدة للفوز بالانتخابات، كذلك بدأ فريق المتمردين الانفصاليين برئاسة الملازم السابق واللواء اللاحق قائد حركة التمرد (جوزيف لاغو) بالعمل للفوز أيضاً، أجريت الانتخابات وكانت نزيهة إلى درجة عدم تشكيك الانفصاليين بنزاهتها، ويعود ذلك إلى خيبة أمل فريق وحدة الجنوب التي ترفض تقسيم البلاد، جاء يوم الثلاثاء الموافق لـ 22/6/1982 ووسط جو سياسي ملتهب ومضطرب حسمت نتائج الانتخابات لصالح الفريق المتآمر الانفصالي وتم انتخاب المهندس (جوزيف جميس طمبرة)( ) رئيساً للمجلس التنفيذي العالي، وكذلك اُنتخب (ماثيو أيور)( ) عضواً في مجلس الشعب.
طرح (جوزيف طمبرة) سياسة حكومته أمام مجلس الشعب الإقليمي، والتي عبر فيها عن الأمل بتحقيق حلم الاستوائية في تقسيم الجنوب، بعدها أصدر عدة قرارات أهمها تطبيق اللامركزية التي ستقود إلى تقسيم الجنوب؟
رحب دعاة الانفصال بالقرارات التي أصدرها (طمبرة) ولكن وفي الوقت نفسه استقبلت هذه القرارات من قبل الجنوبيين دعاة الوحدة بغضب شديد، وبدؤوا العمل وبكل ما استطاعوا من قوة للإطاحة بحكومة (طمبرة).
هنا شعر الانفصاليون بأنَّ فرصتهم لتوسيع وتعميق الخلاف والصراع القبلي والطائفي قد جاءت فعمدوا إلى تصدر المعارضة مع القوى الوحدوية التي انجرفت وراءهم بعد أن خُدِعوا بما قدمته لهم القوى الانفصالية من وعود حول وحدة السودان! حيث كان هدف القوى الوحدوية وقف دعوة التقسيم والعمل على إخفاقها، وإزاء هذا الهدف قبلت هذه القوى التعامل مع مختلف طبقات وقبائل الجنوب، وكذلك مع حكومة الخرطوم، وإزاء إصرار حكومة (جوزيف طمبرة) على تنفيذ برنامجها ومعارضة مجموعة (أبل ألير) لها، إلاَّ أنَّ القوى الانفصالية استطاعت أن تُقنِع المذكور ومجموعته بتشكيل قوة كبيرة معارضة عملت على تمرير خطة تآمرية دقيقة على محورين هما:
المحور الأول: العمل على إطاحة حكومة (جوزيف طمبرة) في وقت قصير، وذلك عن طريق المظاهرات على كافة المستويات والاتجاهات.
المحور الثاني: اختراق القوات العسكرية الجنوبية التي استوعبت في الجيش السوداني الوطني، وإقناعهم برفض فكرة التقسيم، ثم تطور هذا الاختراق الذي بُني على أسس قبلية جنوبية إلى الرفض المطلق لكل أوامر القيادة الجنوبية الخاصة والمؤتمر بأوامر القيادة العامة، وخاصة بالتحرك خارج الإقليم الشمالي، ولقد تزامنت هذه الأعمال مع الصراعات والدعوات إلى تقسيم الجنوب.
هدف اختراق القوات الجنوبية التي استوعبت في الجيش السوداني:
بعد التمحيص والتحليل من قبل القيادة العسكرية الجنوبية حول اختراق القوات الجنوبية المستوعبة في الجيش الوطني السوداني، وجدت أسباب الاختراق متمثلة فيما يلي:
1 - إنَّ سبب اختراق المؤسسة العسكرية هو رفض اتفاق أديس أبابا، وقد جاء الرفض والاختراق من قبل السياسيين المعروفين برفضهم للوحدة السودانية، وتأييدهم للانفصال، فأتت محاولة الاختراق وبشكل مباشر امتداداً لاستراتيجيتهم الهادفة لفصل الجنوب.
2 - سعى ويسعى الانفصاليون لاختراق الجيش السوداني وبكافة قطاعاته وذلك للاستمرار في تحقيق أهدافهم الانفصالية، ولقد لجأ هؤلاء للاختباء خلف المعارضين الوحدويين الذين يرفضون التقسيم والانفصال.
3 - من المعروف أنَّ المعارضة الوحدوية التي ترفض التقسيم كانت تريد اختراق القوات المستوعبة في الجيش وذلك لتحقيق هدفين مهمين لديها هما الآتي:
الهدف الأول: تريد هذه المعارضة الوحدوية التأكيد على وجودها كقوة ضاغطة ومرهبة بالنسبة لرئيس الوزراء (طمبرة) وبحيث ينبغي عليه أ ن يحسب لها ألف حساب قبل محاولته الإقدام على أي خطوة قد تؤدي إلى تقسيم الجنوب، وفي رأينا فهذا عمل مشروع ويخدم السودان تماماً.
الهدف الثاني: تحريك القوات المستوعبة في الجيش السوداني، واستخدامها كقوة ضغط على رئيس الجمهورية وبحيث تجعله يتردد كثيراً في تأييد ومناصرة التقسيم.
وفي 12 - آب - أغسطس عام 1982 قام قائد القوة العسكرية في الجنوب وعرض على رئيس الحكومة (طمبرة) الحضور إلى القيادة الجنوبية، وإذا امتلكته أو انتابته أي شكوك فبمقدوره أن يحضر معه من يثق فيهم، وغاية هذا العرض تقديم شرح كامل وواضح عن الوضع العسكري والأمني في الجنوب، وإعطاء صورة واضحة عن تحرك القوى الانفصالية والمعارضة التي تعمل لإسقاط حكومة (طمبرة).
لم يتأخر رد رئيس الحكومة (طمبرة) فلبى الدعوة وحضر إلى مقر القيادة يرافقه اللواء (هيرمان) مدير الشرطة في رئاسة القيادة الجنوبية.
عرض قائد القيادة الجنوبية الوضع السياسي والعسكري والأمني في الجنوب، وكذلك اختراق القوات المستوعبة في الجيش والتي تم تحريضها على رفض أوامر القيادة العامة، ولقد تم في هذا اللقاء شرح خطة المعارضة بشقيها الانفصالي /والإيجابي/ الذي يرفض التقسيم، وتم التأكيد على هدف المعارضة المتمثل في إسقاط حكومة (طمبرة).
لم يعلق (طمبرة) على هذه المعلومات القيمة التي قدمتها قيادة الإقليم الجنوبي بل اكتفى بهز رأسه؟
كان تخطيط المعارضة يقوم على إيجاد قوات مساندة لها ضمن القوات المستوعبة في الجيش السوداني ومن ثم استقلالها من أجل تحقيق أهدافها المعلنة مثل إسقاط حكومة (طمبرة)، أما غير المعلنة فهي «الانفصال».
كانت قد أعدت القيادة العامة والإقليمية خطة لاحتواء المعارضة بشقيها الإيجابي والانفصالي، كذلك تحركت القيادة الجنوبية في الوقت نفسه للسيطرة على التمرد في «أعالي النيل» و«جونقلي»، والحد من انتشاره إلى المناطق الأخرى في إقليم الجنوب.
بعثت القيادة الجنوبية بخطتها إلى كافة الوحدات العسكرية لتعمل بموجبها، وللوقوف بوجه أي عمل تخريبي قد يقوم به السياسيون سواء من القوى الإنفصالية أو المعارضة للحكومة الجنوبية التي يرأسها (طمبرة)، والتي تعمل لاختراق القوات المستوعبة في الجيش السوداني.
احتدم الصراع بين المعارضة والحكومة الإقليمية، بينما استمرت القيادة العسكرية الجنوبية بالعمل وفق الاستراتيجية التي وضعتها وخاصة ما يتعلق بموضوع استبدال الكتائب التي جرى فيها استيعاب القوات الجنوبية المنحلة والتي سيجري استبدالها بكتائب من الجيش السوداني ومن القيادة الشمالية، على أن يبدأ الاستبدال وينتهي في الفترة ما بين 15 - كانون الأول - ديسمبر - 1982 ونهاية شهر آذار - مارس - من العام نفسه.
بدأ التخطيط والعمل لعقد مؤتمر لقادة الألوية والوحدات العسكرية في القيادة الجنوبية وذلك في مدينة «جوبا».
صدرت الأوامر بالتبديل، وتم تحديد الوحدات العسكرية التي سيشملها التبديل، ولقد كثَّفت المعارضة بشقيها الانفصالي والإيجابي (الداعي إلى وحدة الجنوب) من اختراقها للقوات المستوعبة، وتحريضها لرفض التبديل رفضاً كاملاً، وذلك لتعارضه مع اتفاقية «أديس أبابا» عام /1972/ والتي تنص على عدم نقل الجنود الجنوبيين إلى خارج مناطق الجنوب، وكما تنص اتفاقية «أديس أبابا» على عدم استقدام أو تبديل الجنود الجنوبيين بآخرين شماليين، وهكذا مورس التحريض وبصورة مكثفة على الجنود الجنوبيين لدعوتهم إلى معارضة تقسيم الجنوب حتى ولو استدعى تمردهم العودة بهم إلى الغابات مرة أخرى.
استجاب الجنود الجنوبيون لتحريض السياسيين، ومن ثم بدأت تظهر روح التمرد ورفض الأوامر الصادرة من القيادة العامة والجنوبية.
تمسكت القيادة الجنوبية بتنفيذ القرار بالاستبدال مهما كلف الأمر، وبعد جهد جهيد وطويل استطاعت القيادة الجنوبية تبديل القطع والوحدات العسكرية التابعة لغرب الاستوائية وتنفيذ الأوامر الصادرة لها في هذه الخصوص، أما الكتيبة /105/ المتمركزة في «البيبور» و«بور» رفضت تنفيذ الأوامر، كذلك لم تستطع القيادة احتواء هذه الكتيبة وأمثالها ولكن القوى الداعية لوحدة الجنوب وعلى رأسهم (أبل ألير) تمكنوا من احتوائهم.
وبالرغم من المحاولات المتعددة المبذولة من قبل القيادة الجنوبية ورئيس الحكومة الإقليمية في سبيل إقناعهم بتنفيذ قرار التبديل، إلاَّ أنهم رفضوا هذا القرار رفضاً تاماً، مما أوصلهم إلى مرحلة التمرد الكامل.
بدأت مؤشرات ومظاهر التمرد الشامل تلوح في أفق الجنوب، كما أنَّ وحدات المستوعبين قد رفضت عدداً من القرارات أهمها الآتي:
1 - رفض الذهاب إلى الإقليم الشمالي نهائياً، ومهما كلف الأمر.
2 - رفض التحرك حتى ولو كان داخل الجنوب.
3 - رفض كل ما يصدر من تعليمات من قبل رئاسة اللواء في «ملكال».
4 - اكتشاف اختلاسات كبيرة لم تشهدها القوات المسلحة في تاريخها، بلغت شهرياً حوالي المليوني جنيه شهرياً [ الجنيه الواحد يساوي دولاراً واحداً حينها ] كما فشلت رئاسة الكتيبة في إبراز أي مستند أو دفتر مالي بهذا الشأن، واستمر تمادي رئاسة الكتيبة في تصريف الأمور المادية والعسكرية.
ازداد التآمر عندما وصل الرائد (كاربينو كرانج) إلى «بور»، وانضمامه إلى القوات الانفصالية المتمردة، ثم بدأ في قيادتها وقام بإصدار أوامر عديدة منها الترقيات والتي هي بالأصل ليست من اختصاصه؟
كما تم الاتصال مع حركة التمرد «الأنانيا» وتم التنسيق معها، كما طلب منها التحرك إلى مواقع قريبة من منطقة «بور» ليسهل الاتصال بها وقت الحاجة، كذلك تم إرسال رسالة شفهية إلى قائد الفرقة يهددونه فيها بقتله هو وأسرته إن لم يصرف رواتب المتمردين كاملة.
كما أرسلت كذلك رسالة إلى رئيس الجمهورية وإلى رئيس المجلس التنفيذي وقائد القيادة الجنوبية، تنص على ضرورة إرسال رواتب المتمردين وإلاَّ فإنهم سوف يرسلون جنوداً لقتل قائد القيادة وأسرته وبقية الضباط وأسرهم، كذلك انضم الكثير من الضباط والجنود لقيادة (كاربينو) رغم أنه لم تكن لـه علاقة بهم.
إنَّ الملاحظ وبشكل ملفت للنظر أن الضباط والجنود الذين التحقوا بقيادة الرائد الانفصالي (كاربينو كرانج) أنهم كانوا يتبعون لقيادة الشمال، والسبب وراء تمردهم وتخليهم عن وحداتهم هو انتماؤهم إلى قبيلة (الدينكا).
ازداد تدفق الجنود إلى منطقة «بور» ولقد كان هذا الأمر بمثابة تمهيد للاشتراك في التمرد المنتظر، ولقد تم كل هذا تحت سمع وعلم (أبل الير) الذي كان موجوداً في منطقة «بور»، السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان (ألير) مشتركاً في التمرد؟ أم أنَّ انتماءه القبلي هو الذي جعله يغض النظر عما يحدث؟؟
هل نترك الأيام تجيب عن هذا التساؤل؟ فالوقائع التي ستأتي بها هي البرهان لما حدث وسيحدث، أمّا إذا أجبنا دون انتظار الوقت لقلنا نعم، هو متآمر!..
محاولة القيادة احتواء الموقف:
استدعت القيادة الجنوبية العقيد (استيفن) قائد الكتيبة /105/ من مكان تواجده في منطقة «اكوير» إلى مقر القيادة الجنوبية في «جوبا» لشرح الوضع السيىء في كل من «بور» و«البيبور» و«فشلا»، والبحث في رفض السرايا الانصياع للأوامر، والعمل على تبديل مكان تواجدها ونقلها إلى الشمال بشكل أساسي، كما أصدرت القيادة الجنوبية الوطنية أمراً إلى العقيد (استيفن) للقيام فوراً بالذهاب إلى «بور» وليشرف بنفسه على تنفيذ الأوامر الصادرة بتحرك الكتيبة /105/ إلى الشمال، ويشدد قبضته على الرائد (كاربينو) ويأمره بالعودة إلى مكانه الأول «فشلا» وألاَّ يعود مرة ثانية إلى منطقة «البيبور» و«بور»، وعلى الرائد (كاربينو) أن يعيد كل الضباط والجنود الذين التحقوا به في «بور» فهم في الأصل غير تابعين لوحدته؟
شعبة الاستخبارات:
جاءت «إشارة عاجلة» إلى شعبة الاستخبارات في القيادة الجنوبية مفادها أنَّ رئاسة الكتيبة /105/ تخطط لرفع السلاح في وجه أي قوة قادمة من الشمال لتحل محل الوحدات الجنوبية، وهنا تحركت القيادة بسرعة، ودفعت سرية المشاة الأولى إلى «بور» بقيادة الرائد (الزين)، كما وصل العقيد (استيفن) الذي اجتمع مع ضباط وجنود الكتيبة /105/ وأطلعهم على أهمية التبديل وفوائده في الحياة العسكرية، وما كان من عسكريي الكتيبة إلاَّ أن أبدوا اعتراضهم لإرسال سرية المشاة بقيادة الرائد (الزين) لمراقبتهم ولتأمين منطقة «بور»، كذلك هاجموا رئاسة الفرقة، وقائد الكتيبة الذي وصفوه بالجبان لانصياعه لتعليمات الشماليين.
وفي 26/1/1983 أرسل قائد الكتيبة /105/ إلى العقيد (استيفن) /برقية/ يقول فيها: «إنَّ الموقف سيىء للغاية وإنَّ الجنود والضباط مصرون على حمل أسلحتهم، ويرفضون تسليمها إلى المخازن».
والحقيقة أنَّه لا مجال لإعادة الأمور إلى الوراء، ولا سيما أنَّ التمرد بدأ يطل برأسه في مناطق الجنوب.
وهنا أصدر قائد الفرقة عدة أوامر عسكرية، آخذ منها المهم:
1 - الإعداد لعمليات حربية منذ الآن.
2 - وضع الوحدات العسكرية المكلفة بهذه المهمة في حالة استعداد قصوى.
3 - على الوحدات المنوط بها هذا الأمر أن تتجمع في «جوبا» خلال خمس ساعات.
4 - توضيح طبيعة المهمة للجنود، وهو التحرك نحو الحدود السودانية اليوغندية وذلك بقصد التمويه.
5 - توضيح كافة الأمور لرئيس الحكومة الإقليمية، وكذلك لجنة الأمن عن الموقف المتردي في «بور»، ولقد كلّف قائد الفرقة إرسال وفد سياسي عسكري إلى «بور» لشرح الموقف للضباط والجنود التابعين للكتيبة /105/ وبأنَّ ما يقومون به من رفض للأوامر، والانسياق وراء رغبات السياسيين سوف يجر عليهم المشاكل التي لا طائل لهم بها، ثم إنذارهم نهائياً بعدم اللعب بالنار.
بعد ذلك، تقرر إرسال الوفد السياسي العسكري إلى «بور» وقد اختير عدد من المسؤولين والوجهاء لتمثيل الوفد، وهؤلاء هم:
1 - دول اشويل، نائب رئيس المجلس التنفيذي العالي.
2 - فيليب أوبانق، وزير التربية والتعليم الإقليمي.
3 - عبد اللطيف شول، نائب رئيس هيئة مجلس الشعب.
4 - مايكل وول، عضو مجلس الشعب.
5 - اكوت ايتم، وزير الدفاع في الأنانيا، ومن أبناء منطقة «بور».
6 - صموئيل قاي توت، وزير سابق ومن أبناء محافظة جونقلي.
7 - الرائد (أروك طون) ممثل القوات المسلحة في مجلس الشعب، ورئيس لجنة الأمن في المجلس.
8 - العميد جيمس لورو القائد الثاني للفرقة الأولى.
9 - العميد مساعد النويري، قائد اللواء /13/ التابعة له الكتيبة /105/.
10 - المقدم أسامة أمين المرضي - من استخبارات اللواء /13/.
11 - المقدم السر أحمد سعيد من استخبارات الفرقة.
12 - المقدم بينيامين أجوك، قائد ورشة الصيانة ومن أبناء النوير.
ما هي الأسباب التي من أجلها تكون الوفد؟
إنِّها الآتي:
أ - تعدُّ مدينة «بور» مركز الثقل الذي انطلقت منه المعارضة الرافضة للتقسيم كما أنَّها معقل قبيلة (الدينكا)، وكما توجد فيها نسبة عالية من المتعلمين.
ب - إنَّ مدينة «بور» هي مسقط رأس (أبل ألير) وهو متواجد فيها ومدعي الإصلاح؟
أما في الحقيقة فهو يقود المعارضة الداعية إلى عدم التقسيم، وهو يبارك اختراق القوات المستوعبة، وبالتالي تحريضها الرفض التبديل بينها وبين وحدات الجيش وباعتبار أنَّ هذا التبديل يتنافى مع اتفاقية أديس أبابا.
وصول الوفد:
وصل الوفد المذكور إلى مدينة «بور»، وفور وصوله عقد اجتماعات امتدت على مدار ساعات عديدة، وأول الاجتماعات عقدت مع (ماريو) محافظة «بور» والذي كان متحاملاً على رئاسة القيادة لإصدارها أوامر التبديل، بعد ذلك عقد الوفد برئاسة (وول أشويل) اجتماعات مع الضباط والجنود، امتدت لساعات طويلة إلاَّ أن الجنود والضباط هؤلاء لم يلتزموا الانضباط وخاصة في المساء، وإنَّ سبب عدم الانضباط هذا يعود لأمرين:
الأمر الأول: هو اتصال السياسيين الانفصاليين بهم ولا سيما بعد الانتهاء من الاجتماع الصباحي، حيث يقومون بتحريضهم على رفض التبديل جملة وتفصيلا.
الأمر الثاني: هو أنَّ أكثرية هؤلاء الضباط الجنود كانوا يحضرون الاجتماع المسائي وهم في حالة «سكر شديد»، وهذا ما كان يدفعهم إلى التحدث بوقاحة، وبعدم احترام لمرؤوسيهم، وخاصة أنهم عسكريون ولا يليق بهم وبأي عسكري أن يتطاول على رؤسائه.
وهذا يعود أيضاً إلى التلقين الذي كانوا يتلقونه من السياسيين الانفصاليين ضد العميد (جيمس لورد) والعميد (مساعد النويري) والضباط الشماليين والذي كان في غاية الوقاحة، وقلة الانضباط.
لاحظ الضباط الوحدويين وكذلك العميد (جيمس لورد) أنَّ كلاً من (وول أشريل) و(قاي توت) و(كوت ايتم) يقومون بتحريض الضباط والجنود، ويقولون لهم: هل أنتم جاهزون للتمرد؟ فيجيب هؤلاء: نعم نحن جاهزون؟
أخبار التمرد:
تطورت الأحداث في منطقة «بانيتو» فقد تمردت الفصيلة القاطنة في «وانكاي» وقتل أفرادها الانفصاليون قائد الفصيلة الملازم (محمد أحمد فضل الله)، وثلاثة من التجار المسلمين، وكذلك هرب /12/ فرداً منها، وجميع هؤلاء المتمردين هم من قبيلة (النوير) ومع العلم فإنَّ هذه الفصيلة المتمردة تتبع الكتيبة /105/.
ولقد هربت مجموعة أخرى من معسكر «بانيتو» وهؤلاء هم أيضاً من قبيلة (النوير).
وفي يوم 20 - من آذار - مارس - عام 1983 هربت مجموعة أخرى من المتمردين من سرية المعاونة وهم أيضاً من قبيلة (النوير).
وعلى أثر الهروب المتزايد من منطقة «بانيتو»، عقد قائد الفرقة الجنوبية اجتماعاً مع العميد (مساعد النويري) الذي جاء من مدينة «ملكال» كذلك مع المقدم (بيويوكوان) ولقد تقرر في هذا الاجتماع الآتي:
1 - سحب بقية معاوني الكتيبة /105/ إلى معسكر «بانيتو».
2 - تقديم شرح مكثف للضباط وصف الضباط والجنود حول التآمر الذي يقوده الساسة المرتبطون بالخارج.
3 - إيجاد تعاون فعّال ومشترك بين الوحدات المحمولة جواً.
وتعيين وحدات صغيرة دائمة عند مدينة «نانيتو» وعند آبار البترول وبحيث تكون هذه الوحدات من القوات القديمة.
ولقد كثفت الاتصالات بين قائد القيادة الجنوبية ورئيس هيئة العمليات الفريق (أبو كدوك) وذلك بخصوص الموقف المتردي بشكل عام، والمتعلق بالكتيبة /105/ بشكل خاص، ومعالجة الوضع القائم في كل من منطقة «البيبور» و «بور» و «فشلا» وبحيث تتخذ الإجراءات المناسبة لوقف التمرد ومعاقبة مرتكبيه والمحرضين لـه، وبدون هذه الإجراءات فسوف يقع الجنوب كله فريسة لهذا التمرد.
وفعلاً، فقد حشدت القوات اللازمة للهجوم على المناطق المتمردة في وقت واحد، ولقد قدمت هذه القوات من مدينة «جوبا» و«أكوير»، ولقد نفذ الهجوم على عدة مراحل كان الهدف منها هو الآتي:1
- إسقاط (أبل ألير) و(جوزيف لاغو) ومحاولة ضربهما ببعضهما لإبعادها عن المسرح السياسي.
2 - تفجير الصراعات القبلية والسياسية ثم تعميقها.
3 - نقل الصراعات القبلية إلى داخل المؤسسة العسكرية، والقصد من وراء ذلك إظهار الجيش السوداني بوصفه مؤسسة عسكرية شمالية فقط.
4 - استثمار النجاحات فيما سبق لخلق مناخ لاندلاع التمرد من جديد في حال فشل الانقلاب الذي ينفذه «عسكريو وسياسيو» الجنوب أو إعلان فصل الجنوب في حالة نجاح الانقلاب.
التآمر:
أدركت الدوائر الغربية أن نجاح مخططها لفصل الجنوب لا يمكن أن يتحقق إلاَّ عن طريق التآمر، فأوعزت إلى الانفصاليين للقيام بتمرد سياسي يتبعه تمرد عسكري وقتال، ولا سيما أن حلقة التآمر المخطط لها من قبل الدوائر الغربية والتي قام بتجسيدها وتنفيذها المتمردون، عملت على تحقيق هدفين مكملين لبعضهما البعض هما:
الهدف الأول: إجهاض اتفاقية «أديس أبابا» رغم /علاّتها/ وبما يمكِّن من انهيار الحكم الذاتي الذي لا يمكن تحقيقه إلاَّ بإشعال نار الفتنة والعمل على تقوية الصراع بين بطلي اتفاقية أديس أبابا، الأول: هو (أبل ألير) الذي يؤمن بالوحدة الوطنية، أما البطل الثاني فهو اللواء (جوزيف لاغو) قائد حركة تحرير جنوب السودان. ينحدر (أبل ألير) من قبيلة (الدينكا) التي تعتبر من أكبر قبائل السودان، ويعد أول رئيس للمجلس التنفيذي العالي للإقليم الجنوبي.
و(جوزيف لاغو) هو الذي وقع على اتفاقية «أديس أبابا» مع رئيس الجمهورية (جعفر النميري) ولاحقاً تم استيعابه في الجيش السوداني وبالرتبة نفسها التي اختارها بنفسه أي رتبة «لواء» عين قائداً للقيادة الجنوبية، وبحيث يتفرَّغ لتنفيذ الجانب العسكري من «الاتفاقية».
كان التنافس بين (أبل ألير) و(جوزيف لاغو) قوياً جداً ودفيناً في أعماق نفسيهما، وكان لابدَّ من الاشتغال على إخراجه إلى السطح، وبما يمكِّن من استغلاله لصالح جهة الانفصاليين، وهذا ما حدث فلقد عمد الانفصاليون إلى ضرب الاثنين ببعضهما البعض، هكذا يتم إبعادهما عن الساحة فيخلو الجو لتنفيذ المخطط المرسوم، فاستمرار (أبل ألير) و(جوزيف لاغو) على رأس قيادة الإقليم الجنوبي وهما متفاهمان سيقلل من نجاح خطة التآمر، ومن الممكن أيضاً أن يؤدي إلى إحباطها؟
كما أنَّ الاستمرار في تنفيذ بنود اتفاقية «أديس أبابا» سيحبط التآمر، إذاً لا بد من إسقاط (أبل ألير) نائب رئيس الجمهورية ثم وضع بديل عنه وهو اللواء (جوزيف لاغو)، ولكن وقبل أن يتمم (لاغو) فترة توليه السلطة يجب أن تلوث سمعته بتهم كثيرة وواضحة كعدم الوفاء لبلده، والفساد، والرشوة وضعف القيادة، وعندها يسقط «أوتوماتيكياً».
بدأ المتآمرون في تنفيذ مخططهم لإسقاط (أبل ألير) وذلك عبر إشعال نار الصراع بين قادة (الأنانيا) والقادة السياسيين، ولا سيما أولئك الذين لم يقاتلوا ويحملوا البندقية وكان لهم نصيب الأسد في إدارة الحكم الذاتي الإقليمي، انتقل الصراع بين كافة الأطراف إلى صراع سياسي عسكري وخاصة بين (جوزيف لاغو) و(أبل ألير) على السلطة، فا(ألير) بحكم منصبه ينوب عن رئيس الجمهورية كقائد عام للجيش السوداني في الجنوب، وهذا لم يرضِ (لاغو) فهو ينظر إلى «نائب رئيس الجمهورية» نظرة قائد إلى جندي يستطيع أن يسرحه في أي وقت يشاء.
لقد جاءت الفرصة المناسبة، وتم إعفاء أربعة وزراء في حكومة (ألير) كما تم اعتقال (كلمنت امبورو) ثم «تمَّ» سجنه بتهمة اشتراكه في مؤامرة عام /1975/ التي قادها وفشل فيها العقيد (حسن حسين)، لقد استغلت هذه الأحداث القوى الانفصالية، وبدأت هجومها على شخص نائب رئيس الجمهورية (ألير) وقد وصفته بأنه ذو شخصية ضعيفة وبأنَّه رجل لا يصلح حتى لقيادة نفسه؟! ومن التهم التي ألصقتها به محاولته فرض سيطرة قبيلة (الدينكا) على كل الإقليم الجنوبي، ومحاولته جعل بقية القبائل «قبائل من الدرجة الثانية» أمام قبيلته التي وضعها مكان الشماليين.
ولقد وسعت القوى الانفصالية عملها في سبيل تحقيق هدفها المتمثل في إسقاط (ألير) فقامت بتجميع كل الفعاليات المعارضة لـه وجعلت منها معارضة واحدة قوية تشمل كلاً من «حزب سانو والفعاليات الاستوائية، كذلك معارضي أعالي النيل وبحر الغزال» وقد نجحت في ذلك.
فشل نائب رئيس الجمهورية (أبل ألير) في صد المعارضة الانفصالية، وفي الوقت نفسه أخذت هذه القوى المعارضة الانفصالية تسلط الضوء على قائد قوات «الأنانيا» الذي رُقي إلى رتبة «فريق»، وبدأت الترويج لـه وإظهاره بوصفه الرجل الوحيد والقوي الذي يستطيع قيادة الجنوب بأكمله بكفاءة واقتدار في المرحلة المقبلة، كذلك بإمكانه تحقيق مكاسب جيدة عبر اتفاقية أديس أبابا، وهذا لم يكن بالأمر الشائك بالنسبة للقوى الانفصالية، فهي تعلم الكثير عن شخصية الملازم اللواء الفريق (جوزيف لاغو)، ومواطن قوته وضعفه، فعملت على استغلال نقطة الضعف فيه ألاَّ وهي شهوته للسلطة والتكبّر المقرون بشخصيته، إضافة إلى «مركّب النقص القبلي» الناتج عن كونه ينحدر من أصغر قبائل الجنوب وهي «المادي»، نجح الانفصاليون في تصويرهم للفريق (لاغو) بأنَّه الزعيم الجنوبي بلا منازع، والقادر على تأسيس حكم اقليمي قوي يبعد عنه أهل الشمال «وكأن أهل الشمال أعداء ألداء لإخوانهم الجنوبيين وذلك حسب تعبير الانفصاليين»، ولقد تمكنوا من إقناعه بأنَّه الرجل الوحيد الذي يوازي بل يتفوق على رئيس البلاد حينها (جعفر النميري)، ولقد أوقع (لاغو) نفسه في هذا الكمين الذي نصبه لـه الانفصاليون من دون أن يشعر بذلك، فلقد رشح نفسه كمنافس لـ (أبل ألير) في انتخابات رئاسة مجلس الشعب الإقليمي، ولقد تم اختياره بالتزكية بعد أن سحب ترشيحه (ألير) بناءً على رغبة الرئيس (جعفر النميري).
إنَّ رغبة الرئيس (النميري) حول انسحاب (ألير) من الترشيح للانتخابات لم تكن رغبة عاطفية، بل جاءت بعد قراءة واقعية وعميقة للجو العاصف وللكمين الذي نصبه الانفصاليون، وهنا كان قد توصل (النميري) إلى قناعة مفادها سقوط (ألير) في الانتخابات، وهذا إن تم فلسوف يسيء إلى مكانته كرئيس وقائد للجيش.
ترك (ألير) منصبه بعد أن أدلى ببيانه من إذاعة «جوبا» متوجهاً إلى الجنوبيين كافة، وممَّا قاله (ألير) في بيانه: «لقد سحبت ترشيحي حفاظاً على وحدة الصف، وترسيخاً للديمقراطية».
حزم (ألير) حقائبه وغادر عاصمة الجنوب «جوبا» متجهاً إلى الخرطوم ليمارس عمله كنائب لرئيس الجمهورية، تاركاً وراءه الانفصاليين ومرشحهم القادم يصول ويجول في الإقليم الجنوبي، وكأنَّه «قورش» زمانه.
إنَّ سحب (أبل ألير) ترشيحه، بل سقوطه كان أول خنجر مسموم يغرز في جسم الجنوب.
ومنذ ذلك الوقت دخل الإقليم الجنوبي في دوامة الصراعات القبلية والسياسية، هذا ما أرادته القوة الانفصالية التي خططت لها، ووجهتها الدوائر الغربية أولاً، وإسرائيل ثانياً.

آداب عبد الهادي
03/03/2008, 11:02 PM
الفصل الخامس
ظهور السم القاتل رقم «2»

كان ظهور حركة التمرد الجنوبية «الأنانيا واحد» أو السم القاتل عام 1955 نتيجة لتمرد وهروب العسكريين الجنوبيين إلى الغابات والمستنقعات بتحريض من الدوائر الغربية الرسمية والكنسية، وكان ظهور /الأنانيا/ «2» وليد تمرد وعصيان منطقة «أكايو» عام 1975، وإن كانت حركة التمرد الأولى تستهدف الانفصال وإنما بشكل مبطَّن فإنَّ حركة الأنانيا «2» قد أوضحت علانيةً أنَّ هدفها هو الاستقلال الكامل لجنوب السودان.
ولقد قاد هذا التمرد العسكري (صموئيل تالي تون) والرائد (وليم عبدالله شول) والاثنان من قبيلة (النوير)، ولقد فشل هجوم وتمرد (أكايو) وهرب الاثنان إلى إثيوبيا وعاشا فيها حوالي ثماني سنوات، من هنا تشكلت الأنانيا «2» أي من قوى المعارضة التي رفضت اتفاق السلام الموقع في أديس أبابا عام 1972.
ومع مرور الأعوام توسعت حركة الأنانيا إلى أن جاء عام 1983 فقامت الكتيبتان «105 و104» بالتمرد تحت قيادة العسكري الدينكاوي (جون كرنغ)، ولقد بلغ المتمردون الحدود الأثيوبية، واجتمعوا مع المتمرد (صموئيل تون) لكنهما سرعان ما اختلفا حول رئاسة حركة الأنانيا؟ وهكذا انشقت الأنانيا من حركة واحدة إلى اثنتين يقود الأولى (صموئيل تون) و(وليم عبدالله شول) ويقودهما السياسي المخضرم الدينكاوي (أكوت أتم) ولقد اعتبر هؤلاء أنَّ القيادات العسكرية المتواجدة على الحدود الأثيوبية جزء لا يتجزأ من القيادة السياسية، ولقد رفض (جون كرنغ) القيادة برئاسة المذكورين، وكون لـه قيادة ترأسها مباشرة، وسرعان ما اصطدمت حركته مع مجموعة أخرى من المتمردين ضمت كلاً من (وليام بتون يانج) والرائد (كرانيو كواتن بول)، ولقد بلغ التصادم العسكري بينهما إلى شرق أعالي النيل، وهنا تقدمت أثيوبيا ومديرها لمساعدة المتمرد (جون كرنغ) وأصبحت أثيوبيا الحليف القوي (لجون كرنغ) ومجموعته، هنا أعلن متمرد آخر واسمه (صموئيل أنوت) أنَّه عدَّل أهداف حركته من انفصال جنوب السودان إلى وحدة السودان، ولقد استمر التحالف بين (أنوت) والحكومة السودانية حتى عام 1984 حيث فقد حياته في خضم الأحداث، وبحسب ما يشير إليه بعض المطلعين والمواكبين لتطورات الجنوب فقد قتل (أنوت) من قبل جناح (جون كرنغ)؟
هكذا تنقلت حركات الأنانيا بين انفصال... /وحدة/... اغتيال إلاَّ أن الجناج المنشق لحركة /الأنانيا/ أقام تحالفاً مع أنظمة الرئيس (جعفر النميري) و(سوار الذهب) و(الصادق المهدي) الذي اقترح أن يكون لحركة الأنانيا ركن سياسي وإذاعة خاصة بها...
ومن هنا جاء تحالف (صموئيل أقوت) مع حكومة السودان في عام 1984، هكذا حصل (أقوت) على الدعم المطلوب لـه من مال وسلاح ليجابه به /حركة (جون كرنغ)/ ولقد برَّر (أقوت) هذا التحالف بأنَّه نتيجة تغلغل الشيوعيين وسيطرتهم على حركة الجيش الشعبي لتحرير السودان.
وهكذا نجد أنَّ قبيلة (الدينكا) وبتسييرها للحركة العسكرية إنَّما تسعى لضم كافة قبائل الجنوب تحت مظلتها في مواجهة قبيلة (النوير) القوية والمعارضة.
والذي حصل ومن الممكن أن يكون قد خطط لـه في الغرب هو انضمام حركة «الأنانيا/2» وذوبانها تدريجياً في حركة الجيش الشعبي لتحرير السودان.

آداب عبد الهادي
03/03/2008, 11:08 PM
الباب العاشر

الفصل الأول
قياديو الدينكا في الأنانيا /2/


1 - صموئيل فالي نوت: جذور (نوت) دينكاوية إلاَّ أنه عاش واستوطن في مناطق (النوير)، لذلك يعتبره البعض من قبيلة (النوير) وعمل لسنوات طويلة في حركة الأنانيا /2/، وقد نافس (جون كرنغ) إلى أن قُتِل.
2 - وليم نيون باتج: يعتبر من العسكريين في حركة الأنانيا، وجذوره دينكاوية إلاَّ أنه عاش في مناطق (النوير) فترة طويلة نتيجة للاستيطان.
3 - جوردن مورتان ماين: ينتمي إلى قبيلة (الدينكا)، ويعد (جوردن) من أشد المتطرفين في مواجهة العرب والمسلمين، ولقد رفض اتفاق أديس أبابا عام 1972، وشرح سبب رفضه الذي عزاه إلى سببين:
أولاً - عدم توافقه مع توجهات حكومة الخرطوم.
ثانياً - وقوفه ضد (جوزيف لاغو) ليقينه بأنَّ (لاغو) قد اغتصب قيادة حركة الأنانيا من قبيلة (الدينكا) ولقد غادر الخرطوم بعد اتفاقية أديس أبابا.
4 - النقيب جون كرنغ: في عام 1972 كتب النقيب (كرنغ) إلى قائد حركة الأنانيا (جوزيف لاغو) خطاباً يقترح فيه أن تكون للسودان ثلاثة جيوش وهي:

1 - جيش للجنوب.
2 - جيش للشمال.
3 - جيش مشترك بين الشمال والجنوب.
إلاَّ أنَّ خطابه حينها أهمل، وكان ذلك أثناء إجراء المفاوضات في أديس أبابا.
عاد (جون كرنغ) وكتب إلى كافة قادة الأنانيا يوضح ضرورة استمرار الحرب مع الجيش السوداني، ولقد اقتنع عدد قليل بفكرته، عندها أبلغ قائده العسكري بأنَّ قواته في منطقة «بور» غير جاهزة للانخراط في الجيش الوطني، إلاَّ أنَّه وعندما لم يجد لـه لا حولاً ولا قوة انصاع لاتفاق أديس أبابا، ودخل مع قواته في الجيش السوداني، رغم رفضه لهذا الاتفاق.
هؤلاء هم أهم القادة المتمردين...
أهداف حركة (الجيش الشعبي المتمرد):
حدد النقيب السابق والعقيد المتمرد اللاحق (جون كرنغ) سبب إنشاء /الجيش الشعبي لتحرير السودان/، بعدد من الأهداف نذكر بعضاً منها:
1 - أشار الرئيس النميري في أحد بياناته بالآتي: علينا تقسيم السودان إلى أربعة أقسام: شمال - جنوب - غرب - شرق.
2 - تسييس الناس في الجنوب تبعاً لقبائلهم، وإطلاق الأسماء التالية عليهم: /اتحاد دينكا الاستوائية العظمى - مسلمين - مسيحيين - عرب - أفارقة/.
3 - حل اتفاق أديس أبابا عام 1972، والمجالس الجنوبية، والحكومات وكان المحرك الأساسي لحركة الجيش الشعبي لتحرير السودان، فقد كانت نظرته المعلنة متجهة إلى إقامة نظام اشتراكي يعطي الديمقراطية والحقوق الإنسانية لكل القوميات، ويضمن الحرية لكل الأديان، وكان يدعو إلى فتح صراع عسكري لأنَّ الصراع السلمي كان دائماً يقابل بالقوة والقتل العشوائي حسب تعبيره.
الحقيقة:
إنَّ قيام حركة الجيش الشعبي لا يهدف إلاَّ لأمرٍ واحد وهو فصل الجنوب عن بقية أجزاء السودان، وقيام دولة طائفية قبلية.
أولى عمليات الجيش الشعبي المتمرد:
قام الجيش الشعبي بأولى عمليات العسكرية في 16/أيار – مايو/1984، فقد هاجم مدينة «الناصر» وقتل 120 شمالياً؟ وذلك حسب تصريح (جون كرنغ) قائد الجيش الشعبي، واستمرت العمليات العسكرية ففي 22/شباط – فبراير/1984 - على بعد 215 كم من قناة «جونقلي» هاجم الجنود الجنوبيون برئاسة المقدم «وليم بوت» والمقدم «كاوا ماكوير» وهما من قبيلة (الدينكا) القناة ثم نصبا كميناً لباخرة نيلية تنقل المواطنين بين الشمال والجنوب، وقتلا عدداً من ركابها، بعد ذلك قام الجيش الشعبي بضرب مدينة ملكال، وبهذه الأعمال العسكرية توقف العمل في المنطقة، وبالذات في قناة جونقلي.
الدعم العسكري:
هذا الدعم الشامل /لحركة الجيش الشعبي/ المتمرد لا يحتاج إلى إطالة تحليل وتفسير، لكنَّ السؤال الذي يطرح هو: كيف تمكن من إحكام قبضته على الحركة العامة، وكيف مكَّن حركته من الهيمنة على بقية التنظيمات التي انطوت تحت لوائه.
إذا تجاوزنا دعم الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، نقف قليلاً عند إسرائيل التي مدت وتمد (كرنغ) وحركته بالسلاح، وتدرب جنوده في أرض الجنوب وعلى أرض فلسطين المحتلة، هذا أمر لا يدهشنا ولا يؤسفنا ولا يجب أن نقف عنده فإسرائيل عدوة العرب من مسلمين ومسيحيين فما الذي ننتظره منها؟
ولكن الأمر المؤلم هو دعم الدول العربية للحركة الانفصالية الصليبية.
ولقد أتى هذا الدعم من أربعة أماكن:
1 - الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة وإسرائيل.
2 - الكنائس وعلى رأسها مجلس الكنائس العالمي.
3 - أفريقيا وعلى رأسها أثيوبيا.
4 - الدول العربية؟!
وقبل التطرق إلى نوعية وكيفية هذا الدعم، سنورد بعض المعلومات عن علاقة الجيش الشعبي بقيادة (كرنغ) مع بعض الدول العربية.
أعلن العقيد معمر القذافي في عام 1985، وفي العاصمة السودانية «الخرطوم» بأنَّه هو الذي خلق (كرنغ) على الساحة العسكرية في السودان وأنَّه أمد الجيش الشعبي بالعتاد والسلاح والمال أيضاً... وتبيَّن أنَّه قادر على قتل الجيش الشعبي إذا لم يوافق قائدها (كرنغ) على السلام والحوار مع الحكومة بشأن الجنوب... وأنَّ «كرنغ» عدَّل موقفه وتحولت حركته إلى حركة عنصرية ضد العروبة؟
ولكن، ما الذي دفع العقيد القذافي إلى خلق (كرنغ) وتحويل حركته؟! الأمر المعلن هو عداؤه مع الرئيس (جعفر النميري)، ولكن هذا العداء سيؤدي إلى اقتطاع جزء كبير ومهم من السودان العربي، وليبيا دولة عربية؟! وهل ميلاد الجيش الشعبي الذي رعته الدولة العربية الأفريقية إنما هو موافقة الدول العربية على قيام دولة عنصرية تعمل ضد العرب والإسلام، هل ضغط عليها من رئيسة عالم الغرب على مدِّ هذه الحركة بالمال والسلاح، والعمل على فتح مكاتب لها بشكل رسمي أو بغير رسمي، إذاً وكما قال العقيد القذافي فإنَّ حركة (كرنغ) هي من صنع ليبيا، وبالتالي من صنع الدول العربية؟!
هذا ما يمكننا قوله، ولكن علينا أن نعلم أن جنوب السودان سيكون فلسطين أخرى محتلة يسكنها أناس معادون لديننا وثقافتنا وعاداتنا؟!
عندما كنتُ في مدينة «جوبا» وضواحيها شاهدت بأم عيني السلاح العربي في أيدي الجنوبيين الذين تم أسرهم؟!
والحق يقال إنَّ سورية والعراق هما الدولتان الوحيدتان اللتان وقفتا مع السودان كيفما كان نظامه، فقدمتا لـه الدعم المالي والعسكري والإعلامي والمعنوي، كي يحافظ على كيانه رغم الدم الغزير الذي يسيل على أرضه من دماء السودانيين جنوبيين أو شماليين؟!
لقد تمكن المتمرد (جون كرنغ) الذي يرفض اللغة العربية والتحدث بها ولا يتكلم سوى الإنكليزية من أن تفتح لـه بعض الدول العربية مكاتب لحركته المتمردة الانفصالية؟!.
سقوط النظام الأثيوبي الاشتراكي؟
سقط نظام (منغستو هيلا مريام) وسقط معه النظام الماركسي، فامتنعت ليبيا عن تقديم الدعم (لجون كرنغ) وحركته، وكأنَّ أمر تقديم المعونات مرتبط بعلاقة النظام الليبي بالنظام الماركسي الأثيوبي، وكذلك تضاءل حجم المعونات التي كانت تصل للمتمردين من المنظمات الدينية والتي كانت إحدى الأسس الرئيسية في تقدم حركة التمرد في الجنوب كما أوقفت أثيوبيا معوناتها، وأغلقت مكاتب الحركة، إلاَّ أنَّ تخزين الأسلحة الشرقية مثل صاروخ الـ «سام 7» المضاد للطائرات، والذي أسقط عدداً من الطائرات التابعة للجيش السوداني خلال سنتين أي من عام 1986 - 1988 فمقابل هذه الصواريخ، حصلت الحركة الشعبية على دبابات وناقلات جند فضلاً عن المدفعية الطويلة والقصيرة المدى...الخ.
وبعد هذه الخلاصة المستفيضة دعونا نعد إلى حركة التمرد الثانية، إنني لا أقصد الإطالة إنما هناك أشياء لابد من معرفتها ثم تعميقها لدى القارئ وخاصة القارئ العربي، إن من قاد التمرد في مراحله الأولى لا يختلف مطلقاً في أهدافه، وإن من يظن بأن (كرنغ) يختلف عن سواه إن لم يكن أكثر مغالاة فهو مخطئ، وفيما يلي أقدم شيئاً عن التمرد وعن زعيم التمرد الذي أتى باتفاق (مشاكوس) مدعوماً من الغرب وكنائسه المتصهينة، أما دور اليهود في جنوب السودان فهو قديم وبعمر يزيد عن المئة عام؟
المؤتمر التبشيري...
في عام /1910/ عقد المؤتمر الإرسالي /التبشيري/ في أدنبرة بإنكلترا، وصدرت عن هذا المؤتمر عدة توصيات أهمها الآتي:
«إنَّ أول ما يتطلب منا العمل فيه إذا أردنا كسب أفريقيا لمصلحة /المسيح/؟! أن نقذف بقوة تنصيرية قوية في قلب أفريقيا لمنع تقدم العروبة والإسلام؟».

آداب عبد الهادي
03/03/2008, 11:15 PM
الفصل الثاني
دور اليهود في جنوب السودان

في عام /1900/ قدم اليهودي (واريوت) وهو خبير بشؤون /الفلاشا/( ) اقتراحاً إلى اللورد (كرومر)( ) بشأن توطين اليهود في السودان؟
وفي عام /1907/ قدم (أبراهام جلانت) وهو يهودي أيضاً، الاقتراح نفسه إلى رئيس المنظمة الإقليمية اليهودية.
إذاً، فلقد كان السودان ومنذ القديم محط أنظار واهتمام اليهود، ولا نغالي مطلقاً إذا قلنا إنَّ اليهود ومنذ شتاتهم كانت أعينهم على السودان وما زالت إلى يومنا هذا، ولو سمح القدر وسمحت الظروف أيضاً، فأين سيتم توطينهم في السودان؟ بالنسبة للشمال سيغدو هذا التوطين ضرباً من المحال وذلك لأسباب عديدة، منها أن الشمال يدين بالإسلام، ولذلك فإنَّ الزحف سيكون على الجنوب، وسوف يكون مؤيداً ومدعوماً من القوى الصليبية العالمية لأنَّ الأرضية مهيأة من قبلهم لتوطين اليهود من أجل السيطرة على منابع النيل، وهنا تكون قد تمت إشادة الضلع الأول من الدولة العبرية العظمى؟!
وقد أدركت إسرائيل أنَّ الحركة الشعبية لتحرير السودان /المتمردة/ هي المعبر المضمون لدخولها إلى جنوب السودان، وفي المقابل أدركت الحركة الشعبية /المتمردون/ أن مصالحها هي في تعميق صداقتها مع إسرائيل.
وهكذا قام الإسرائيليون والمتمردون بمد حبال التقارب بينهما، فتم التعاون والتنسيق بينهما، وبدأ زعماء الحركة بزيارة /إسرائيل/، في مقابل الزيارات الميدانية لجنوب السودان من قبل ضباط أمن ومخابرات إسرائيليين، ولقد تم هذا وسط سرور عميق من الغرب.
فقد أرسل عدد كبير من شباب الجنوب إلى إسرائيل لاتباع دورات عسكرية وأمنية مكثفة، واستطاعت الأخيرة تدريب حوالي 30 ألف متمرد في الحدود اليوغندية الشمالية وفي شهر آذار عام /1994/ أقامت إسرائيل جسراً جوياً إلى مناطق المتمردين، كما أوفدت الخبراء العسكريين لتدريب المتمردين، وتتوج هذا التعاون بين الجانبين؛ بإعلان اليهودي الجنوبي (ديفيد بسيوني) ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة الجنوبية التي تقود حركة التمرد وكان ذلك عام /2001/.
وكان من ثمار هذا التعاون أن أعلن متحف /الهولوكست/ في مدينة نيويورك تضامنه مع المسيحيين الجنوبيين، حيث قال الناطق باسم المتحف ما يلي:«إنهم يتعرضون للإبادة الجماعية والتطهير العرقي».
وسرعان ما كونت اللجنة العليا للمتحف لجنة باسم /لجنة الضمير/؟ برئاسة يهودي متعصب يُدعى (جيري تاولر)، وأسفرت أعمال لجنة /الضمير/ عن قيام معرضٍ أُلحق بالمتحف الهولوكوستي/ يُظهر مآسي حرب الجنوب.
ولقد قاد اللوبي اليهودي المسيطر على الإدارة الأمريكية جملة قوية في الكونغرس لتبني حركة التمرد في جنوب السودان.
نظرة تاريخية:
إنَّ تحالف اليهود مع الحركة الجنوبية المتمردة، عبَّر عنه جنوبي يدعى (بول فاك) حيث كتب ما يلي:
«إنَّ القبائل النيلية ترجع في الأصل إلى النبي يعقوب، فهي قبائل سامية ذات أصل إسرائيلي؟!!».
بعيداً وفيما يتجاوز صحة أو عدم صحة ما عبَّر عنه (بول فاك) فإنَّ التمرد الحاصل في الجنوب إنما هو من صنع المسيحيين المتصهينين.
وتعمل حركة التمرد بجد للفوز بوضع مماثل لوضع إسرائيل وما تحظى به من دعم ومساندة الولايات المتحدة، وهكذا استقبلتهم أمريكا سواءً كانوا يهوداً أم نصارى، وستمنحهم الأولوية في القارة الأفريقية، ولأنهم في نهاية الأمر سينضوون تحت راية شعب الله المختار؟! عندما سقط النظام السوفييتي الاشتراكي، وسقط معه النظام الأثيوبي ممثلاً بالجنرال (منغستو هيلا مريام) بدأت أمريكا تحيط التمرد بالعناية، وتمثل هذا بالآتي:
1 - عملت أمريكا من خلال المؤسسات والمنظمات الطوعية وبأيدٍ خفية على تقديم دعمها للحركة، وبما أشبع رضاها.
2 - طوّع اللوبي الصهيوني الإدارة الأمريكية بكافة أجهزتها الدبلوماسية والسياسية والمخابراتية، وكذلك الفرنجة المتشددين دينياً، ومن يدعون حماية الصليب والحقوق النصرانية وعلى رأس هؤلاء بوش الابن الذي قال في شهر آذار - عام /2004/ سنتصدى لحفظ كرامة الإنسان، وضمان الحريات الدينية في كل مكان من العالم من كوبا إلى الصين إلى جنوب السودان؟
هذه اللهجة الصليبية الفرنجية التي تكلَّم بها (بوش)، لو صدرت هذه الأقوال والتي اقترنت بالأفعال من أي مسؤول عربي مسلم لقامت الدنيا ولم تقعد، ولشرعت قوات المارينز والبوارج والكروز وغيرها بالتحرك لمحاربة الإرهاب العربي الإسلامي، وسوف تبحث عنه لتقتله كما يقتل الصهاينة أولادنا ونساءنا في فلسطين والعراق، وكما يقتل المتمردون شبابنا في الجنوب السوداني.
وهذا ليس بالأمر المفاجئ لنا، فلا يمكن لأمريكا أن تخرج عن نهجها وثقافتها ودينها المتصهين والذي تعمل على نشره في كل أنحاء العالم.
فلا يمكن لأمريكا المتصهينة أن تكون أقل عنصرية وتعصباً من سابقتها بريطانيا العظمى التي فعلت الأعاجيب في الجنوب، فمنذ القديم بريطانيا تعمل ضد العرب والمسلمين وخير شاهد على ذلك هو التاريخ الذي يروي لنا كيف أتت جيوشهم تحاربنا في بلداننا العربية.
وقبل أن تخرج بريطانيا من الجنوب أشعلت فيه فتيل الحرب ورفعت رايته تحت شعار حماية الدين، وقبل أن تخرج من الجنوب السوداني كانت تملك مفاتيح الحل والربط بينما الغرب وعلى رأسه أمريكا لم يملك إلاَّ بعضاً منها.
ولذلك لن تكتفي قوى الفرنجة المتصهينة بالوقوف عند انفصال الجنوب، وإقامة دولة متصهينة، بل إنَّ هدفها هو تمزيق السودان العربي الإسلامي، وللتأكيد على ذلك نورد ما جاء على لسان وزير الخارجية الأمريكية (كولن باول)، حيث قال: «نريد خطوات عملية جادة، وليس مجرد خطوات استعراضية».
ولكن ما هي هذه الخطوات العملية الجادة التي قصدها الوزير الأمريكي؟
الجواب: المقصود بهذه الخطوات هو إدخال عناصر إلى أجهزة الدولة تدعو إلى إقامة الدين اليهودي المزيف؟!
انبرى اليهود لدعم المتمردين على خلفية ما ذكرناه ووفق التالي:
إذا تساءلنا عن الدور الإسرائيلي في جنوب السودان لتبادر إلينا سؤال وهو أن:
السودان لا يعتبر دولة مواجهة مع إسرائيل، حتى تعمل المذكورة على بذل جهد غير عادي لإضعافه كما أن السودان خارج نطاق دول الطوق أو دول الدعم كما أن الأنظمة التي تتالت لم تقم بأي دور يذكر في دعم مصر
(عبد الناصر) أثناء حملة /قاديش/ على مصر كذلك العدوان الثلاثي عام 1956 وأيضاً أثناء حرب الخامس من حزيران عام 1967 انهزم العرب فيها، إذاً السودان كأنظمة متتابعة لم يقدم للعرب في حربهم ضد إسرائيل الشيء الهام والذي يستحق ذكره؟
فالإسرائيليون ينظرون بمنظار يختلف تماماً عما نراه نحن العرب، وأعلنت قبل مدة دراسة صدرت عن مركز دراسات إسرائيلي مهم بإفريقيا بشكل خاص، وقد كتب هذه الدراسة عميد متقاعد يدعى (موشي فرجي) يتحدث فيها عن العلاقة الرسمية والشخصية للإسرائيليين مع قادة حركة التمرد في جنوب السودان وكبيرهم (جون كرنغ) يقول صاحب الدراسة التالي:
«قد يبدو الموقف الإسرائيلي من التدخل في الصراع الداخلي الذي نشب في السودان، واعتبر في بدايته مجرد حدث محلي، غريباً ومحيراً بل ومثيراً للدهشة والتساؤل بسبب مجموعة من العوامل التي لابد من ذكرها ونحن نحاول تفسير أبعاد الدور الإسرائيلي في الأزمة السودانية الذي بدا في الآونة الأخيرة واضحاً وجلياً وسافراً أيضاً».
ما الذي نقرؤه من هذه المقدمة لكاتب يهودي؟
1 - علينا أن نعلم أن أي دور تآمري على الشعب السوداني يتم تدبيره في يوغندة، بل علينا أن نكون صريحين أكثر عندما نقول يتم /طبخه/ في البلد المذكور وهناك عداء للعرب والإسلام يكمن في عقول وصدور القادة اليوغنديين كافة إذا استثنينا منهم (عيدي أمين دادا) في التآمر لغاية منتصف ولايته الذي كان ضالعاً فيه أيضاً.

آداب عبد الهادي
03/03/2008, 11:18 PM
الفصل الثالث
البداية الثانية للدعم الإسرائيلي للمتمردين

في عام 1969م بدأت حركة التمرد تتفتت نتيجة الضربات العسكرية التي وجهها الجيش السوداني الوطني، شعرت إسرائيل والغرب بأن حركة التمرد قاربت على الانتهاء فتحركت الدوائر الغربية والإسرائيلية لتقدم العون والدعم المادي والعسكري للمتمردين الجنوبيين وكانت السفارة الإسرائيلية في يوغندة هي صلة الوصل بين المتمردين والدوائر الإسرائيلية، وإن رجل المخابرات الإسرائيلية (جايم ماساتي)( ) هو المنسق لهذه الاتصالات والمذكور تربطه علاقات وطيدة مع الكثير من سياسيي وضباط حركة /الأنانيا/ وبخاصة مع وزير دفاعها (فريدريك ماجون) كما كانت للملحق العسكري الإسرائيلي في يوغندة العقيد (باروخ باربيز) مهمة إيصال هذه المساعدة إلى الانفصاليين في الجنوب، ونتيجة وصول الأسلحة العسكرية الإسرائيلية إلى المتمردين سالت الدماء كثيراً كما اجتاحت الجنوب كافة حركة تمرد شاملة، قال كاتب الدراسة العميد (موشي فرجي) الآتي: ركز الخطاب السياسي الإسرائيلي الموجه لحركة التمرد على الروابط والوشائج بين الشعب اليهودي والأفارقة منذ عهد الملك (سليمان) حتى الآن وكيف أن هذا الشعب يواجه خطر الإبادة والفناء على يد العرب والمسلمين كما هو الحال بالنسبة لليهود على مر السنين.
«حول هذا الموضوع كتبت جريدة الأهرام المصرية التالي»:
لم تقتصر جهود الساسة والباحثين اليهود على عملية الربط التاريخي بين اليهود والأفارقة بل امتدت أيضاً إلى الربط الفكري بين الحركة الصهيونية وحركة الجماعات الأفريقية والزنجية والحديث عن الاضطهاد المشترك؟
العودة للعصيان المسلح:
في عام 1983 استأنفت حركة التمرد نشاطها بقيادة الجيش الشعبي وزعامة العقيد الهارب من الجيش الوطني السوداني (جون كرنغ) كذلك وسّعت إسرائيل مساعداتها للمتمردين بعد أن أدركت أن الفرصة أصبحت سانحة لاستئناف دورها في دعم حركة الانفصال وسقوط اتفاقية أديس أبابا عام 1972، ولأسباب عديدة أخرى...

آداب عبد الهادي
03/03/2008, 11:23 PM
الفصل الرابع
قصة التآمر... (كرنغ) وزملاؤه

التقى المتمرد (جون كرنغ) مع عدد من السياسيين والضباط وعلى رأس هؤلاء الضباط (سلفاكير) في مدينة ملكال، وتناقشوا علناً حول التمرد الحاصل أما المخفي فكان بعث وإذكاء التمرد، بعد هذا اللقاء العلني والمخفي انتقل (كرنغ) من ملكال إلى جوبا بعد أن أنهى تآمره مع زميله (سلفاكير) وكان يرافق (كرنغ) الرائد (أروك طون أروك) والذي رافق (كرنغ) في جميع الاجتماعات التي عقدها من وراء ظهر قيادة الجيش السوداني الوطني، وكان يقوم بالتمويه لتحركات (كرنغ) ومثال على ذلك، أنه عمد ولكي يغطي تحركاته إلى السكن مع (جيمس لورو) القائد الثاني للفرقة العسكرية المتواجدة في الجنوب.
وفي يوم 27/4/1983، اجتمع /كرنغ/ مع بعض العناصر الأجنبية الكنسية، وكان على رأس هذه العناصر (فوستر) الذي أشار على (كرنغ) أن يسارع بالسفر إلى «بور» لتنفيذ الهجوم على «جوبا» وذلك قبيل تنصيب الرئيس (النميري) الذي سيجري في 24 - 5 - 1983 لتسلمه الولاية الثالثة.
شن الهجوم المذكور والذي كان من نتائجه التخلص من كل شمالي وطني في الجنوب من خلال قتله على يد الانفصاليين، بحيث يقوم أحد الانفصاليين ويذيع بياناً من إذاعة /جوبا/ يعلن فيه انفصال الجنوب نهائياً عن الشمال.
بدأت قوات كبيرة من حركة «الأنانيا 2» تتجمع على بعد /50 كم/ من مدينة «بور» التي سيقصدها (كرنغ) حسب رجل الكنائس العالمية (فوستر)، فبدأت عناصر «الأنانيا» بالتجمع، وأخذت تتصل ببعض القادة السياسيين والعسكريين ومن هؤلاء العسكري (كربينو كرانج)، والسياسي (قاي توت)، والمحامي (ماجير) و(كوت ايتم) وغيرهم، أما في «بور» مكان تواجد الكتيبة /105/ فكان كافة أفراد هذه الكتيبة مضافاً إليهم قوات الشرطة والسجون وحراس الصيد قد وصلوا إلى مرحلة التمرد الكامل، أي أنهم أخذوا يحملون السلاح ويجوبون به أنحاء المدينة ليلاً نهاراً.
تحرك الرائد (كاربينو) ومعه عدد من الضباط وضباط الصف وعلى رأسهم (يوسف كير) الذي يعد المحرك الرئيسي لكل ما يجري في مدينة (بور) وما يحاك من تحركات ومؤامرات، وكان يرافقه أيضاً الملازم (ألير) والنقيب (بنجامين) وهذان الضابطان تابعان لقيادة الشمال، ولم تكن لهما أي علاقة بالقيادة الجنوبية، ولكنهما انضما إلى الكتيبة /105/ بعد أن هربا من مكان تواجد وحدتهم في الشمال ومن دون علم القيادة أو شعبة العمليات، أي هربا وفق مزاجهما التآمري الانفصالي.
قام هؤلاء ومن يتبعهم بضرب التجار الشماليين، ومصادرة كل ما لديهم من «العيش» إلى «النقود»، كذلك قام المتمرد (كاربينو) وأصدقاؤه مثل (يوسف كير) بمصادرة السيارات الكبيرة وما تحمله من مواد غذائية وغيرها - وهي في طريقها من الخرطوم إلى «جوبا».
كما قاموا بضرب كل من هو شمالي ثم سلبه ما يحمل، وأثناء ارتكاب هذه الأعمال المشينة، قام الملازم الانفصالي مع عساكره بالسطو على متاجر الشماليين في مدينة «بور» وعمدوا إلى أخذ كل ما تقع عليه أعينهم وأيديهم.
وصول جون كرنغ /اليوم الأول/:
وصل (جون كرنغ) إلى «جوبا»، والتقى مع القائد الثاني للفرقة العسكرية في الجنوب أثناء استراحة هذا القائد، وبعد أن قدم (كرنغ) التحية العسكرية للقائد، بادره مسائلاً:
- لقد وصلت يا (جون) إلى «جوبا» قبل أسبوع من وصولك إلى «ملكال» والتي بقيت فيها يومين، تابع قائد الفرقة موجهاً كلامه إلى (كرنغ):
- لماذا لم تحضر إلى رئاسة القيادة للتبليغ عن وجودك رسمياً؟ أم ليست لديك رغبة في ذلك؟ ألا ينبغي عليك أن تقوم بتحية قائد الفرقة وهيئة القيادة؟
- قال القائد هذا الكلام غامزاً لامزاً لأنه كان يعلم سبب مجيء (كرنغ)؟!
قال (جون كرنغ):
- أعتذر من سعادتك، سوف أحضر غداً لإلقاء التحية.
- أجابه قائد الفرقة العسكرية:
- ليكن حضورك قبل الساعة السابعة صباحاً.
- حاضر سيدي.
اصطحب قائد الفرقة بعدها (جيمس لورو) بعيداً وأخبره بأنَّه سوف يغادر «جوبا» غداً حوالي الساعة الثانية عشرة ظهراً متوجهاً إلى الخرطوم، ولفترة لا تزيد عن الـ /24/ ساعة فقط، ثم طلب منه استلام رئاسة القيادة لحين عودته، وعليه أن يبقى بشكل دائم مع العقيد (عز الدين هريري) والمقدم (عصام ميرغني) والمقدم (السر أحمد سعيد).
اليوم الثاني لوصول (كرنغ) إلى جوبا:
في اليوم الثاني لوصول (جون كرنغ) إلى «جوبا»، وحسب أوامر قائد الفرقة، كان المذكور واقفاً أمام قائد الفرقة يرافقه الملازم أول (فيصل عبدالله)، وبعد أن ألقى (كرنغ) التحية العسكرية، بادره قائد الفرقة قائلاً:
- لماذا حضرت إلى «جوبا» وقبلها إلى «ملكال»؟!
ردَّ (جون كرنغ) وقد ظهر الضيق عليه، قائلاً:
- حضرت ... سعادتك... أنا في إجازة لمدة أسبوعين لزيارة الأهل وأخذ زوجتي من «بور» إلى الخرطوم.
- ردَّ قائد الفرقة وبقوة:
- ألم تسمع... ألم تصلك أخبار عن أنَّ الكتيبة قد تمردت وخرجت عن دائرة سلطة اللواء /13/ وقيادة الفرقة، وأنني سلمت قيادتها للسياسيين (قاي توت) و(كوت ايتم)، وأن (كاربينو) قد تمرد هو الآخر، وسلَّم نفسه للرقيب (يوسف كير) ليقوده؟
- أبدى (كرنغ) استغرابه لما حصل، وسمعه مراوغاً...
تحدث قائد الفرقة مطولاً، وفي نهاية الحديث قال لـ (كرنغ):
- إياك والذهاب إلى «بور» فإنَّ حياتك ستكون في خطر إذا (مشيت) ثم قال له وهو يبتسم:
- لا تذهب إلاَّ إذا كنت تعلم بكل شيء، وحضرت للمشاركة به.
وعليك أن تعلم أنَّ القيادة تعلم بكل شيء، وبكل ما يدور من تآمر... عليك بالانصراف الآن.
خرج (كرنغ) من مكتب القائد بعد أن أدى التحية العسكرية لـه.
نظر قائد الفرقة إلى (كرنغ) وهو يخرج، ثم استدعى (جيمس لورو) إلى مكتبه، وقال له:
- لا تسمح لـ (جون كرنغ) بالذهاب إلى «بور» بأي حال من الأحوال، وإن استدعى الأمر وضعه بالإقامة المشددة ثم أرجعه بطائرة عسكرية.
أفلت (جون كرنغ) من (جيمس لورو) واستطاع الهروب بمعاونة (أروك طون أروك) إلى «بور» وذلك قبل رجوع قائد الفرقة من الخرطوم.
في يوم 2/5/1983 وصل قائد الفرقة إلى مكتب (طمبرة) رئيس المجلس التنفيذي للإقليم الجنوبي:
شرح قائد الفرقة العسكرية الوضع في الجنوب، ثم قال للمجتمعين من قادة سياسيين وعسكريين: علينا أن نشن هجوماً خاطفاً على سرايا الكتيبة /105/، وقد قررت السفر إلى الخرطوم لشرح الموقف لرئيس الجمهورية، وأطلب أن يرافقني رئيس المجلس التنفيذي (طمبرة).
في اليوم الثاني غادر (طمبرة) وقائد القيادة الجنوبية «جوبا» إلى الخرطوم، ومن مطار الخرطوم إلى مكتب رئيس جهاز أمن الدولة اللواء (عمر الطيب) الذي كان يشغل أيضاً منصب نائب رئيس الجمهورية السودانية وبعد مرور دقائق على بدء المناقشات، انضم إليهم رئيس هيئة العمليات ومديرو العمليات والاستخبارات، قام (طمبرة) بشرح خطورة الوضع وطلب أن يتم بشرح الموقف لرئيس الجمهورية وبحضور هيئة القيادة.
كذلك طلب حضورَ الاجتماع كلٌّ من (عمر الطيب) و(جوزيف لاغو) نائب رئيس الجمهورية، و(طمبرة)، ومديري أفرع العمليات والاستخبارات، ومدير مكتب القائد العام العقيد (أبو القاسم إبراهيم محمد)، وهناك معلومات غير مؤكدة عن حضور كل من الدكتور (حسن الترابي) و(الشريف التهامي) إلاَّ أنَّ الوقائع تنفي حضورهما الاجتماع، وهذا برأينا هو ما تم فعلاً.
تم الاجتماع ونوقشت الخطة، وتمت الموافقة عليها، ثم غادر قائد الفرقة الخرطوم متوجهاً إلى «جوبا»، ولكنه عرَّج على «ملكال» لاصطحاب العقيد (ميرغني بتي) رئيس أركان اللواء /13/ لاصطحابه معه إلى «جوبا» ولوضع اللمسات الأخيرة لحظة الهجوم العسكرية والتي سوف تشارك فيها سريتان تابعتان لـ «ملكال» على «البيبور» من «اكوير».
وهنا بدأ العد التنازلي للهجوم على المتمردين.
(كرنغ) في القيادة:
في يوم الأربعاء 11/5/1983 دخل إلى مقر القيادة الجنوبية سبعة من ضباط الصف والجنود التابعين إلى الكتيبة /105/ المتمردة، وأدلوا بمعلومات خطيرة تنص على أنَّ (جون كرنغ) قد باشر القيادة، وقدم معلومات هامة حول مكان تمركز القوات العسكرية الرسمية والتي ستشن الهجوم المخطط لـه، كما أفادوا بأنَّ هجوم المتمردين على مدينة «جوبا» سوف يحسم بالتدخل الأجنبي الذي سيأتي سريعاً من يوغندة وكينيا عبر الطائرات التي ستحمل الجنود الذين يترأسهم المرتزقة.
في يوم الجمعة 13/5/1983 وصل إلى مدينة «جوبا» عدد من الجنود الهاربين من مدينة «بور» وهم من أبناء «الاستوائية» ولقد أدلوا بمعلومات إلى كل من (جون كرنغ) و(كاربينو كرانج) والرقيب (يوسف كير) وكانوا قد استباحوا «بور» وحطموا بنك الوحدة في المدينة، واستولوا عليه وأخذوا كل ما فيه من مال والذي يقدر «بمليون ونصف مليون جنيه سوداني»، وأن قوات الأنانيا دخلت المدينة وبأعداد كبيرة، وهي تحمل السلاح، وتردد الأغاني «الدينكاوية» الخاصة بالحرب؟
في اليوم التالي، وصل إلى «جوبا» قادماً من مدينة «بور» عدد من التجار، ودخلوا إلى مكتب القائد العام وكان يرافقهم (الطيب حسن) مدير بنك الوحدة في المدينة، والذي يتبع لـه بنك الوحدة في مدينة «بور» الذي استباحه المتمردون الانفصاليون، ولقد ضم الوفد كذلك كلاً من (فضل الله العاقب) و(عبد الله الياس) وآخرين، لقد قدم هؤلاء ليوضحوا ما حصل من كسر للبنوك، وسرقة المال، وكذلك الحالة السيئة للتجار، وما تعرضوا لـه من اعتداءات وضرب ونهب للممتلكات وتوزيعها على القوات المتمردة، وليخبروا عن أعمال (جون كرنغ) و(كاربينو) وغيرهم اللاأخلاقية والمشينة، بعد شرح (عبد الله الياس) لهذه الأمور نهض وعرض جسمه الذي ظهرت عليه آثار الضرب المبرح من قبل (كرنغ) و(كاربينو) ورفاقهم، أمر قائد الفرقة بأن يعالج التاجر (عبدالله الياس) وأن تضمد جراحه فوراً، ثم أخبر كلاً من (الطيب حسن) و(صديق كدوك) بأنَّ القيادة العسكرية سوف تنفذ عملية سريعة يوم 15/6/1983، وأن عليهم أن يصبروا على الألم والأذى الذي طالهم، كما طلب منهم القائد العسكري ألاَّ يعودوا إلى «بور»، كما طلب منهم أن يبقوا ما أخبرهم به في غاية السرية.
محاولة إخراج (ألير):
أمر قائد الوحدات العسكرية بالاتصال مع (أبل ألير) من أجل إخراجه من مدينة «بور»، وكان القائد قد طلب سابقاً من (ألير) أن يخرج من «بور» قبل شن الهجوم على المتمردين إلاَّ أنه لم يستجب لطلب القائد، وما كان من القائد العسكري إلاَّ أن أعاد المحاولة مرة ثانية مع (ألير) فأرسل لـه «سيارة» من وحدة جهاز أمن الدولة، وقد كلف وكيل عريف يدعى (جمعة لادو بنقا) يرافقه النقيب (خميس ميان مدوت) والاثنان هما من فرع أمن الدولة.
قدم الاثنان إلى «بور» وقابلا (ألير)، وطلبا منه مرافقتهما إلى «جوبا» خوفاً على حياته.
رفض (ألير) الحضور إلى «جوبا» مختلقاً أعذاراً عدة، لكن السبب الحقيقي لعدم مغادرته «بور» إنما كان لاجتماعه شبه الدائم مع العديد من الانفصاليين والأجانب كما أفاد النقيب (خميس ميان مدوت)، وعلم أيضاً أنَّ (جون كرنغ) كان موجوداً في كل الاجتماعات وبرفقة ضباط وسياسيين، وعرف أيضاً أنَّ (ألير) كان يحضر معه (فوستر) وعدد من الهولنديين، ومحافظ المديرية (ماريو)، وقائد شرطة «بور» أيضاً.
وإنَّ سبب عقد هذه الاجتماعات مع الأجانب، إنَّما كان بهدف المشاركة في التمرد؟!
الهجوم الخاطف:
في الساعة الثامنة من مساء يوم 15/5/1983 تحركت القوى الآلية المدرعة تصاحبها قوة المشاة من «جوبا» إلى «بور» بقيادة الضباط (دومنيك كاسياتو)، وفي الساعة نفسها تحركت سريتان من «اكوير» للهجوم على «البيبور»، وفي الساعة الخامسة والنصف صباحاً من يوم 16/5/1983 وهو الوقت الذي وصلت فيه القوات المتحركة من «جوبا» إلى «بور»، بدأت القوتان الالتحام بالقوات المتمردة في «بور» و«البيبور» في وقت واحد، انتهت المعركة في «البيبور» بأقل من خمس وأربعين دقيقة، فقد كان الهجوم سريعاً ومباغتاً، فقتل من قتل، واستسلم من استسلم، وألقي القبض على كل من يحمل السلاح، وأما من تمكن من الهرب فقد غادر إلى الغابات، ومنهم إلى أثيوبيا التي لطالما احتضنتهم وقدمت لهم العتاد والمؤن وما يلزم.
أما في منطقة «بور» فقد أبدت قوات التمرد بعض المقاومة، ولكن قوات الجيش سحقتها تماماً، ولقد استسلم المعسكر والمدينة قبل الساعة الثانية ظهراً وأثناء هذه المعارك حرص الجيش السوداني على ألاَّ يصاب أي شخص من المدنيين العُزَّل، كما كان حريصاً أيضاً على المدينة من أي ضرر قد تتعرض لـه من جراء القصف المتبادل بين الجيش وقوات التمرد.
وفي هذا السياق لم يصب السيد (ألير) في هذه المعركة، ولقد كان الجيش السوداني قد وضع لـه عناصر ثابتة.
إصابة المتمرد (كاربينو)( ):
في 22/1/1983 سقِط معسكر المتمردين في «بور»، واستسلمت رئاسة الكتيبة /105/، ثم قام الجيش السوداني باستلام المعسكر بكل أسلحته وذخائره التي يعود بعضها لقوات «الأنانيا»، كما تم القبض على جميع رجال الشرطة والسجون وحراس الصيد الذين سلموا أنفسهم دون قيد أو شرط، كما سلم أكثرية جنود سرية الكتيبة /105/، ولقد فرَّ قسم منهم إلى الغابات، ثم إلى أثيوبيا برفقة (جون كرنغ) الذي ساعده الهولنديون في الهرب، وقاموا بمنحه أربع سيارات «لاندروفر»، وزودوهم بالوقود أيضاً حتى يتمكنوا من بلوغ الأراضي الأثيوبية، وفعلاً وصل هؤلاء وبصحبة كل من (صمويل قاي) و(كوت ايتم) و(مارتن ماجير)، أما الرائد (كاربينو) فقد أصيب إصابة بالغة، إلاَّ أنه تمكن من الهروب بمساعدة الهولنديين.
وهكذا بلغ الجميع مكاناً آمناً في الأراضي الأثيوبية، في حين تمت سيطرة الجيش السوداني على «بور» و«البيبور».
لقد سمع بقية المتمردين بما حصل في المناطق التي دارت فيها المعارك، فهربوا إلى «أثيوبيا» مع أسلحتهم، ولقد قدر عدد المتمردين الهاربين بحوالي اثنين وسبعين ضابطاً وصف ضابط وجندياً.
المستر (فوستر):
غادر المستر (فوستر)( ) «جوبا» وقبل غادرته كان قد اجتمع مع الهولنديين بحضور (ألير) و(كرنغ)، ومحافظ المديرية (مايكل ماريو)( ) وغيرهم، لكن دعونا نستعرض ما دار في هذا الاجتماع؟
أخبر (فوستر) كلاً من (جون كرنغ) و(أبل ألير) بأنَّ لديه معلومات تؤكد بأنَّ قائد القيادة الجنوبية اللواء (البنا) قد أعدَّ العدة للهجوم على «بور» و«البيبور» ليلة «15 و16»، وأخبرهم أيضاً بأنَّ وزير الزراعة الإقليمي كان قد طلب من الهولنديين منح الجيش ثلاثة تراكتورات للمعاونة في بعض الأعمال، غير أنَّ الهولنديين رفضوا ذلك بعد إخبارهم بأنَّ الجيش السوداني سوف يستعملها في العمليات الحربية ضد «القوات الجنوبية».

آداب عبد الهادي
09/03/2008, 02:19 PM
الفصل الخامس
تقسيم الإقليم الجنوبي


أصدر الرئيس (النميري) قراراً ينص على تقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم هي:

1 - الإقليم الاستوائي وعاصمته «جوبا».
2 - إقليم أعالي النيل وعاصمته «ملكال».
3 - إقليم بحر الغزال وعاصمته «واو».
وبهذا القرار الخطير، يكون رئيس الجمهورية (جعفر النميري) قد تجاوز بنود اتفاقية أديس أبابا؟
أما رد فعل أهالي منطقة الجنوب، فقد كان موزعاً على الشكل التالي:
أبدى أهالي المنطقة الاستوائية وأعالي النيل ومن غير قبائل (الدينكا) الارتياح والسعادة لصدور هذا القرار، وبعكس قبائل (الدينكا) التي ترفض التقسيم رفضاً مطلقاً، ولذلك انتابها الغضب الشديد تجاه هذا «القرار».
على أثر صدور هذا القرار هرب الكثيرون من الذين يعارضون التقسيم، علماً أنَّ القوى الانفصالية هي التي خططت لهذا الهروب الكبير.
وعلى أثر قرار التقسيم هذا، تمرد النقيب (وليم نون) محتجاً على تقسيم الجنوب، ولقد ارتكب المذكور أبشع جريمة بقتله لـ «حرس المواهي»( ) الذي كان قد أحضر رواتب السرية علماً بأنَّ جميع جنودها من الشماليين ويترأسهم (عبد الرحمن عبد المجيد) و(النقيب عبدالله يوسف)، وبرفقتهم عدد من الضباط وصف ضباط وجنود، فلقد قام النقيب (وليم نون) بقتلهم جميعاً برشاش المدرعة ثم دفنهم جميعهم في حفرة كبيرة، ثم وقف وقال: لقد ارتحت الآن وسوف التحق بصديقي (كاربينو)، وهنا تتالت الفواجع والأحداث الأليمة إلى أن جاء يوم 23/6/ من العام نفسه حيث قام المتمردون في هذا اليوم باحتلال «جبل يوما»، ثم ألقوا القبض على بعض الأجانب التابعين للمنظمات الدولية، وقاموا بأسرهم كرهائن، وطالبوا مقابل تحريرهم بأموال وملابس، هذه هي أعمال حركة تحرير السودان والتي ليست سوى امتداد طبيعي لحركة الأنانيا «واحد» والأنانيا «اثنين»، ولهذه الحركات المتمردة طقوس وأفعال بعيدة عن الواقع السوداني الأصيل.
بدأت حركة التمرد بضم الشبان الجنوبيين في المحافظات الثلاث إليها: فقد بدأت /الأنانيا/ تجنيد الشبان العاطلين عن العمل وكذلك اللصوص وقطاع الطرق فضلاً عن الذين هربوا من الفرقة الجنوبية بعد تمرد /توريت/ كذلك أفراد البوليس والأمن الذين كانت لهم علاقة بحركة تمرد مدينة /توريت/... وتمر عملية تجنيد هؤلاء في مراحل عديدة نذكر منها الآتي:
يقف المتمرد أمام الموجه أو الضابط الذي يسأله عدة أسئلة، وهذه الأسئلة شكلية ولا يؤخذ بها...
الأسئلة:
1 - هل أنت مستعد أن تعيش فترة طويلة من دون طعام؟
2 - هل أنت مستعد أن تعيش لفترة طويلة دون ملابس أو عناية صحية؟
3 - هل أنت مستعد أن تتحمل كل أنواع الصعاب والتي قد تقودك إلى فقدان حياتك؟
4 - هل أنت مستعد أن تبتعد عن النساء وأن تتمسك بقوانين الحركة؟
5 - هل تتعهد بأن تكون مخلصاً للحركة حتى النهاية؟
6 - هل أنت مستعد أن تعمل كل ما بوسعك لتدمير أعداء الحركة حتى ضد أهلك وأقربائك؟
بعد أن يجيب المتمرد عن هذه الأسئلة بالإيجاب يؤتى بكتاب العهد القديم والجديد ويقوم بأداء القسم الآتي:
/أقسم باسم الإله القادر والحاضرين أن أعمل بإخلاص للدفاع عن بلادي جنوب السودان وأن أنفذ أوامر قادتي وسأتقبل أي عقوبة تفرض علي إذا كنت مذنباً/؟
بعدها يرسل المتمرد إلى معسكرات التدريب في داخل المحافظات وفي الأماكن البعيدة وغير المأهولة ويتم على الشكل التالي:
أولاً - محافظة الاستوائية:
جرت عملية تجنيد الشبان في الإستوائية عبر الترغيب والترهيب التي كانت تمارسه حركة التمرد، وكان تدريب شبان الإستوائية يمر عبر مرحلتين:
الأولى: في الغابات المحلية.
الثانية: في زائير.
وكان التدريب في المرحلة الأولى يتم بإشراف النقيب الانفصالي (ماركو بانغوسا).
في مرحلة التدريب الأولى يرسلون إلى معسكرات في زائير ليتم تدريبهم من قبل المرتزقة والإسرائيليين.
ثانياً - محافظة بحر الغزال:
بدأ تدريب المتمردين في محافظة /بحر الغزال/ عام 1964 وكان قادة الانفصاليين يعدون هؤلاء الشبان سياسياً وعسكرياً، فقد كانوا يتلقون تدريباتهم الأولية في منطقة /نغوسولومو/ وبعد انتهاء فترة تدريبهم يرسلون إلى زائير أو إلى أفريقيا الوسطى لإتمام تدريبهم العسكري.
ثالثاً - محافظة أعالي النيل:
ما كان يتم في محافظتي الإستوائية وبحر الغزال كان يتم في محافظة أعالي النيل مع التعديل البسيط:
وقد بدأ تنظيم /الأنانيا/ يعمل في عام 1960 إلا أن تجنيد الشبان بدأ في عام 1962 وأول من أسس عصابة /الأنانيا/ في أعالي النيل هو (دانيال بنانق رونديال) وهو شرطي سابق، وأول عملية للمتمردين في أعالي النيل كانت في 16 كانون الأول عام 1963 وقاد الهجوم الشرطي (دانيال).
وبهذا الأسلوب تم تكوين واستمرار حركة /الأنانيا/ التي استمرت 17 عاماً.
أما الحركة الشعبية لتحرير السودان فقد ولدت من رحم التمرد الأول والثاني وشكلت جناحيها:
الأول: سياسي.
الثاني: عسكري.
ولدت هذه الحركة الانفصالية وسط تقلبات ومتغيرات سياسية محلية وإقليمية ودولية، استفادت حركة الانفصال هذه من تشابك القضية الأرتيرية بالعلاقات السودانية الأثيوبية، فقدمت أثيوبيا لها الأرض والمال والسلاح أيضاً، وقد استفادت من سوء العلاقات الليبية السودانية لتحصل من الجماهيرية على المال والسلاح والتدريب، وأحياناً الرجال.
جاءت ولادة الحركة الشعبية في /أعقاب تمرد ثلاث قطع عسكرية والقطع هذه تمثل الفرقة /105/ من الجيش السوداني الوطني إلا أن معظم جنود هذه القطع العسكرية الثلاث كانوا من حركة التمرد الأولى /الأنانيا/ والذين تم استيعابهم وتوزيعهم (بعد اتفاقية أديس أبابا عام 1972 على قطعات الجيش السوداني في كل من المناطق التالية /بور/ و/البيبور/ و/فشلا/.
وسبب تمرد هذه القطعات العسكرية الآتي:
في عام 1983 أصدر القائد العسكري للمنطقة الجنوبية أمراً بإبعاد الفرق العسكرية إلى الشمال واستبدالها بفرق عسكرية من الشمال، وهذا الأمر يعتبر أمراً روتينياً طبيعياً لأي جيش في العالم وقيل حينها أن القائد العسكري لم يستشر حكومة الجنوب في ذلك، وكذلك الذي أصدر أمر النقل لم يستشر رئيس الجمهورية /هذا ما قيل حينها/ لنفرض أن ذلك صحيح فهل يستدعي هذا الأمر أن تتمرد قطعات الجيش؟ بالطبع لا، إن التمرد كان مبيتاً ومخططاً لـه مسبقاً.
قدمت الوحدات العسكرية من الشمال لتحل محل القوات الشمالية وتم ما تم...
فيما بعد: أخمد التمرد وكانت نتائجه قتل عدد كبير من الجنود وقادتهم بينما هرب عدد آخر إلى أثيوبيا، وفي أثيوبيا انضم إلى /الأنانيا 2/ عدد من الجنود والضباط ومن ضمنهم العقيد (جون كرنغ دي مبيور) الذي أصبح قائداً للتمرد...

آداب عبد الهادي
09/03/2008, 02:34 PM
الفصل السادس
مقارنة بين حركة التمرد الأنانيا - الحركة الشعبية


تعتبر الحركة الشعبية أكثر تطوراً من حركة أنانيا /1/ وذلك وفقاً لأساليب العمل التي تبنتها وعملت بها من أجل الوصول إلى أهدافها، أن الأهداف هذه قد تمت في مراحل عدة لكنها كانت متأخرة، وخاصة في العمليات العسكرية أما الحركة الشعبية فقد عملت على توسيع العمليات العسكرية وعلى ضوء نتائج عملياتها العسكرية تبني أحياناً مواقفها السياسية، وفي أحيان أخرى تقدم عملها السياسي على العمل العسكري من هنا تم دمج العمل السياسي بالعمل العسكري/ وذلك بتوحيد القيادة فـ(جون كرنغ) تزعم الحركة الشعبية سياسياً ثم عين نفسه قائداً للجيش الشعبي الذي يمثل الجناح العسكري لتلك الحركة السياسية.
إن (جون كرنغ) ومعه بعض القادة العسكريين الفارين قاموا في شهور قليلة بتدريب مجموعة من الجنوبيين الانفصاليين الذين قاتلوا الجيش السوداني النظامي، وأعطاهم هذا القتال الخبرة والسمعة وفي نفس العام 1983 انضم لهذه المجموعة المتمردة عدد من السياسيين الجنوبيين الذين ادعوا أنهم تقدميون، أي ماركسيون /وهذا ما يفسر تأييد الحزب الشيوعي للحركة الشعبية في بداية عملها الانفصالي... ومن الممكن الإشارة هنا إلى أن معظم الذين هربوا من الوحدات العسكرية للجيش الوطني بالإضافة إلى السياسيين كانوا من منطقتي /أعالي النيل/ و/بحر الغزال/ كما أنهم ينتمون إلى قبيلتي (الدينكا) و(النوير).
كان لهذا الوضع انعكاس كبير على جوهر الصراع، فـ(جون كرنغ) كان وجوده على رأس الحركة الشعبية وأَثَّر كثيراً في توسيع قتالها، فالمذكور كان لـه تاريخه العسكري كمقاتل في حركة /الأنانيا - 1/ فقد عاش وسط الأحداث الأولى للتمرد وكان وجوده مصادفة أي إنه كان يقضي عطلته وسط /قومه/ وبعد انتهاء إجازته أعد نفسه للعودة إلى الخرطوم عند سماعه أن حركة التمرد قد بدأت وهذا ما أتاح لـه فرصة التقدم في صفوف التمرد إلا أن زعامته للحركة الشعبية جاءت من انتمائه القبلي (الدينكا).
حركة التمرد وتقدم برنامجها:
إذا تركنا الميثاق الذي قدمته الحركة الشعبية، والذي استندت إليه في المرحلة الأولى والذي تم تغييره على صعيد التطبيق العملي، فإننا نجد فيه الضربات السياسية التي قامت بها الحركة خلال عملياتها العسكرية وهي تطبيق لوجودها القبلي، أي أن الصراعات التي انعكست على الحركة سياسياً يمكن أن تصنف إلى نوعين رئيسيين:
النوع الأول: بقي خارج إطار الحركة التنظيمي، أي أنها تعمل كتنظيم سياسي.
النوع الثاني: ظل يعمل داخل إطار الحركة التنظيمي بجانبيه السياسي والعسكري، فالحركة الشعبية قد حددت أهدافها في صراعها مع نظام الحكم القائم والذي لا يعترف بها ولا بشرعيتها بل يطلق عليها أسماء عدة، منها: المتمردون - الخوارج، الخ - وقد عملت الحركة الشعبية على تفتيت مناطق الجنوب إلى قطعٍ صغيرة كي تسهل السيطرة عليها ثم بدأت تحرك بقية مناطق السودان كالشرق والغرب.
بهذا التصرف جلبت الحركة الشعبية العداء لتنظيمها من بعض الفئات القبلية الجنوبية التي تؤمن بسودان واحد وقد وجدت هذه الفئات الدعم الحكومي لتنظيمات مسلحة تدافع بها عن وجودها وعن وحدة السودان، قاتلت ضد التنظيمات الحركة المتمردة الانفصالية مدة من الزمن، بل بقيت تقوم بدورها الوطني في التصدي للشعبية وجيشها، وكانت الحكومات السودانية المتعددة تدعم وتشجع هذه التنظيمات التي كانت تتصدى للمتمردين وخاصة عندما نهبت قراها وبلدانها، وما أشبه اليوم بالأمس حيث يتكرر ما حدث لحركة الأنانيا /1/ على الصعيد الجماهيري الشعبي، وإن الطرفين المتمردين /الاستوائيين/ و/النيليين/ يتبادلون المواقع في تعاملهم مع التنظيمات الوطنية، لقد ادعى المتمرد قائد حركة /الأنانيا-1/ جوزيف لاغو بأنه مسيحي وإنه يمثل الجنوب المسيحي ويعمل ضد الشمال العربي المسلم، كذلك فعل المتمرد (جون كرنغ) بل أن الأخير ذهب إلى أبعد بكثير مما ذهب إليه المتمرد (لاغو) حيث يقول (كرنغ) ومعه قيادة التمرد:
أن القبائل الثلاث الكبرى تشكل ثلثي السكان، بل أكثر من ذلك فيمضي إلى القول إنها هي التي تقاتل، والحقيقة أن القبائل الثلاث وهي (الدينكا) (النوير) (الشلك) لم تكن ضالعة في التمرد وإن المساندة للانفصاليين كانت تأتي من قبل بعض القبائل الصغيرة وخاصة من منطقة الاستوائية، وكانت الغارات المتكررة من قوات التمرد على الفساد وسرقتهم للمواشي والمواد الغذائية تثير الانزعاج الذي يتحول إلى نقمة عليهم فيتم قتالهم، وفي هذا المجال قال حينها السيد (أحمد محمد محجوب)( ) الآتي:
- وفي الحقيقة طلب مني عدد من زعماء القبائل تزويدهم بالسلاح لصد الثوار فقدمته لهم.
ومما لا شك فيه أن النجاح الذي حققته /الحركة الشعبية/ ساعد كثيراً في دائرة الانتماء لها وخاصة بعد أن تحولت جذرياً نحو الولايات المتحدة فكراً واتجاهاً والتي مهدت لها ذلك المنظمات الكنسية والتي أسهمت كثيراً في إنشاء /الحركة/ و/الجيش الشعبي/ لم تكن في يوم من الأيام توجهات وعقيدة الحركة والجيش الشعبي ماركسية لينينيّة مطلقة/ إن التنبؤ والتصرف كنسي غربي صهيوني وهذا ما رأيناه بأم أعيننا وسمعناه بآذاننا في السنين والأيام الأخيرة، وقد تمثل أيضاً في تقديم السلاح من الكيان الصهيوني، وبهذا الخصوص قال الأستاذ (جون قاي نون بوه) وهو جنوبي سوداني حاصل على البكلوريوس في العلوم السياسية والماجستير في تاريخ الشرق الأوسط الحديث من كلية الآداب والعلوم في الجامعة الأمريكية في بيروت: يقول الأستاذ (جون) الأتي:
إن المصدر الأساسي لأسلحة حركة التمرد هو إسرائيل...
وإن الدعم الإسرائيلي لحركة التمرد في جنوب السودان من قبل إسرائيل لم يكن بدوافع أخلاقية ولا إيديولوجية بل دعم إسرائيل للتمرد كان يهدف توجيه ضربة سياسية للعرب بمن فيهم حكام شمال السودان الذين كانوا يحاربون في الجنوب للدفاع عن المصالح العربية وقد أكد ضباط الأنانيا /إن ضباطاً إسرائيليين يعملون مع حركتهم، كما كان يشاهد بالعين المجردة سقوط معدات عسكرية من الطائرات الإسرائيلية، وكذلك كان الدعم العسكري الإسرائيلي يأتي عبر أثيوبيا ويوغندة، وقد وسعت إسرائيل نطاق مساعدتها العسكرية إلى المتمردين على الشكل التالي:
بعد الضربات العسكرية التي وجهها الجيش السوداني إلى حركة المتمردين أخذت الدوائر الإسرائيلية تبحث عن سبل جديدة لتوسيع نطاق مساعداتها وخاصة العسكرية فالصهاينة يتبنون مبدأ /اذبحوا بعضكم البعض/ وكلما ازداد ذبحكم لبعضكم البعض كلما ازددنا سيطرة وتوسعاً وثراءً/.
تمت زيادة المعدات والأسلحة العسكرية المرسلة للمتمردين عبر كل من أثيوبيا وكينيا ويوغندة وقد شملت هذه الزيادة على أسلحة ثقيلة للدبابات وكذلك صواريخ من نوع /تاو/ ومدافع مضادة للطائرات من نوع /فالكان/ ثم استقدموا بعض المتمردين وقاموا بتدريبهم.
إننا نستطيع القول إن نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كانت المساعدات فيها كبيرة جداً إلى أن جاءت المصالحة بين حكومة أثيوبيا وحكومة السودان.
وتخلى الجانبان عن دعم الحركات المناوئة للجانب الآخر بالإضافة إلى الانقسام والذي حصل في حركة التمرد وانقسامها إلى ثلاث فصائل يقتلون بعضهم البعض ثم جاء سقوط النظام الأثيوبي برئاسة (منغستو هيلا مريام) عام 1991 نتيجة لهذه التطورات التي حصلت في هذه المنطقة وما جاورها رأت إسرائيل الفرصة سانحة مرة أخرى لتدخل أنفها من جديد وبشكل آخر، فلبت طلب المتمردين في الحصول على السلاح، إلى أن جاء اجتماع (جون كرنغ) بالسفير الإسرائيلي في كينيا الذي طلب منه تزويد حركته بالأسلحة التالية:1
- أربعة ملايين طلقة لمدافع رشاشة من طراز /47 - EK/ ومدافع عيار /130/ مم وستة آلاف قذيفة لتلك المدافع إضافة إلى آلاف من القذائف الصاروخية وقذائف الهاون من مختلف العيارات وشاحنتين عسكريتين إضافة إلى منحة مالية بقيمة خمسة ملايين دولار.
الهدف من طلب (كرنغ) هذا هو استرداد قاعدتين استراتيجيتين فقدتهما الحركة نتيجة قتالها مع الجيش السوداني، والقاعدتان هما /كيوتا/ و/توريت/ واستردادها يقوي موقفه التفاوضي عند إجراء محادثات السلام التي ترعاها /نيجيريا/؟
إضافة لما ورد يقول كاتب الدراسة الإسرائيلية العميد (موشي فرجي) بهذا الخصوص وضمن دراسته [ إن المساعدات الإسرائيلية لحركة (كرنغ) شملت أسلحة روسية /مدافع بازوكا/ ورشاشات كلاشنكوف/ و/كاتيوشا/ ومدافع مضادة للطائرات، إضافة إلى تدريب /10/ آلاف مقاتل من الجنوبيين خلال الفترة من عام 1981 إلى 1992 في معسكرات النقب وتدريب أكثر من خمسة آلاف مقاتل آخرين في معسكرات داخل كينيا وزائير وأثيوبيا على العمليات الخاصة واستعمال الأسلحة الحديثة بواسطة إسرائيليين عسكريين.
كذلك أوفدت إسرائيل خلال تلك الفترة ضباطاً وفنيين إسرائيليين عسكريين إلى مناطق الجنوب للإشراف على العمليات وتقديم المشورة لقوات (كرنغ) ].
ويستطرد كاتب الدراسة متابعاً:
وعقب حدوث الانشقاق في جيش الشعب وانقسامه إلى جناحين أساسيين، أحدهما بزعامة (كرنغ) والثاني بزعامة (رياك مشاك) و(لام أكول) سعت إسرائيل أن تؤكد وتعزز علاقاتهما مع جناح الناصر، بعد ظهور /بوادر/ لاستعداد (كرنغ) للتفاوض مع الحكومة وتخليه عن مطالبه بإقامة دولة مستقلة في الجنوب.
يتابع (موشي فرجي) قائلاً:
أن أحد زعماء جناح الناصر زار إسرائيل بناءً على دعوة من (شيمون بيريز) وزير الخارجية وأنه أجرى خلال الزيارة، التي استمرت أسبوعاً، مباحثات مطولة.

آداب عبد الهادي
09/03/2008, 02:49 PM
الفصل السابع
نتائج الدعم الإسرائيلي للمتمردين

ويضيف كاتب الدراسة... «أن الدعم الإسرائيلي ترتبت عليه نتائج عملية أهمها:
أولاً: إحباط الدعم العربي للحكومة السودانية، حيث عرقل العمل في قناة /جونقلي/ لتخزين ما يصل إلى /5/ مليارات متر مكعب من المياه سنوياً، التي لم ترق لإسرائيل ومن هنا حرصت إسرائيل على تحذير الجنوبيين من أن ذلك المشروع سيكون وبالاً عليهم، لأنه سيخزن كميات ضخمة من المياه لن ينتفع بها سكان الجنوب وإنما الشماليون والمصريون كما نبهت إسرائيل الجنوبيين إلى وجود خطة لتهجير أكثر من /6/ ملايين من الفلاحين المصريين للجنوب للتأثير على التركيبة السكانية هناك.
ثانياً: تصعيد حركة المقاومة في الجنوب ضد السلطة الشمالية.
ثالثاً: حسم التردد في تحديد أهداف الحركة لصالح الاستقلال والعيش ضمن كيان جنوبي - بهوية جنوبية إفريقية منفصلة عن الشمال.
رابعاً: المطالبة بالانتفاع بالثروة النفطية في جنوب السودان...».
ويقول صاحب الدراسة أيضاً «أن إسرائيل أوفدت أحد أهم خبرائها الاقتصاديين وهو البروفسور (ايليا هولونفسكي) إلى الجنوب من أجل تقدير حجم الثروة النفطية في السودان وذلك في النصف الأول من الثمانينيات».. كما أشار (موشي فرجي) في دراسته إلى أن القيادات الإسرائيلية أدركت منذ وقت مبكر أهمية تكوين علاقات خاصة ومباشرة مع قيادات الجنوب على غرار العلاقات التي نشأت مع قيادات الأكراد، يتابع (فرجي) دراسته فيشير إلى (كرنغ) ويقول:
«إن الملامح والمزايا الكامنة في شخصية (كرنغ) لفتت نظر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والعناصر الاستخبارية الإسرائيلية الموجودة في الولايات المتحدة خلال فترة دراسته في أمريكا وأن تلك العناصر تسابقت في ملاحقة حركته ونشاطه ورصدت نمط حياته وسلوكه حتى تتوصل إلى كيفية التعامل معه مستقبلاً»... ويستطرد الباحث الإسرائيلي:
«أن المحللين السياسيين في إسرائيل، خاصة من الخبراء السياسيين السابقين الذين عملوا في الدول المجاورة للسودان، ينظرون لاتفاق مشاكوس بين الحكومة وحركة (كرنغ) على أنه وضع أساساً شرعياً وعملياً لانفصال الجنوب في المستقبل، عبر موافقة الحكومة السودانية على مبدأ حق تقرير المصير».
إن ما ورد في هذا التحليل هو جزء صغير من الحقيقة التي تتعامل بها إسرائيل مع حركة التمرد.
إن أجهزة المخابرات الإسرائيلية تسعى إلى نشر معلومات معتمدة على جزء يسير من الحقيقة لكن السم يكمن في داخلها وهو يتمثل في الإرهاب وإشاعة الفوضى عبر تسريب جزء من المعلومات كما ورد في دراسة العميد (موشي فرجي) والذي بالغ فيه كثيراً بغية إثارة الخوف في السودان والعالم العربي، إنّ ما ذكرناه هو فقرة شبه مطولة من هذه الدراسة.
ويعود اهتمام الصهاينة أيضاً بجنوب السودان منذ أن كان من المرشحين لتوطين اليهود قبل فلسطين حسب الرواية الحقيقية التاريخية.
ما الذي نستنتجه من ذلك؟
الذي نستنتجه أنَّ السودان وجنوبه كان محط اهتمام اليهود ومنذ أن ضربهم الشتات، فالاهتمام اليهودي كان منصباً على الجنوب، أي على ما تود أن تصنعه القوى الصليبية المتصهينة، وخلفية هذا الاهتمام تنجم من كون أن اليهود سيجدون الأرضية الجغرافية والثروات الزراعية والنفطية الدفينة تحت الأرض، فضلاً عن سيطرتهم على منابع النيل الأبيض، وتحقيق وعدهم بإسرائيل الكبرى؟
وقد أدرك المتمردون ذلك جيداً، فمدوا يدهم إلى الإسرائيليين الذين كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر.
وبدأت الزيارات من زعماء المتمردين تتوالى إلى «إسرائيل»، وأقامت إسرائيل جسراً جوياً إلى مناطق المتمردين في الجنوب، كذلك قامت إسرائيل بتدريب الجنوبيين المتمردين، حتى وصل عددهم في عام 1994 إلى عشرين ألف متمرد!
وحين نعلم أنَّ من بين قادة التمرد الجنوبي وأخطرهم المدعو (ديفيد بسيوني) الذي نسق علاقات الحركة الشعبية مع إسرائيل والبيت الأبيض، وهو ابن يهودي سوداني تزوج من إقليم أعالي النيل الجنوبي، ثم عمل وزيراً في حكومة الجنوب أيام الرئيس (جعفر النميري) ثم رشح لرئاسة حكومة الجنوب التي أعلن عن تكوينها المتمردين في شهر نيسان - أبريل - عام 2001، بعدها هاجر إلى /إسرائيل/ بعد إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية.
الدعم المالي - العسكري - الإعلامي:

الغرب بكامله وخلفه مجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس الأفريقي وإسرائيل هؤلاء كلهم يعملون لانفصال الجنوب وإقامة دولة جنوبية؟ إلا أن الوطنيين الجنوبيين كانوا قد شعروا بأن أكثرية قادتهم كانوا مرتبطين وينفذون سياسة وأهداف الغرب المتصهين ابتعدوا عن حركات التمرد وعادوا إلى أحضان أهلهم، وكان أن انقسمت حركة التمرد حسب ما سأورده هنا:
في شهر آب /أغسطس/ عام /1991/ حدث المتوقع، فقد انقسمت الحركة /الشعبية لتحرير السودان/ بقيادة كلٍّ من الدكتور (لام أكول) والدكتور (رياك مشار) حيث شكلا تنظيماً عرف حينها /بمجموعة الناصر/، ولقد جاءت هذه التسمية نسبة إلى المنطقة التي نشأ فيها هذا التنظيم.
ويتركز خطاب هذه المجموعة /مجموعة الناصر/ في رفض القتال والتضحية بدماء الجنوبيين نيابة عن الشمال، وذلك في سبيل هدف لن يتحقق ألا وهو بناء السودان الجديد، طالما أنَّ القوى الشمالية لا ترغب أو بالأحرى لا تستطيع حمل السلاح لإحداث التغيير المطلوب، ولذلك فإنَّه من الأجدى التركيز على حق تقرير المصير، والعمل من أجل انفصال الجنوب واستقلاله وذلك بسبب الفرق الشاسع بين المكونات الثقافية والاجتماعية والتنموية لكلٍّ من الجنوب والشمال بحسب توجههم، فضلاً عن انعدام الثقة بينهما، وحيث أصبحت إمكانية الاستمرار والعيش معاً تثير كثيراً من التساؤل، كما أنَّ السعي إلى إقامة الوحدة العادلة مع العرب ليس إلاَّ ضرباً من السراب؟! هذا ما يدعيه (المتآمرون الانفصاليون) إذا ما أردنا معرفة حقيقة أمر انشقاق ما سمي /بمجموعة الناصر/ آخذين بعين الاعتبار ما تلاه من انشقاقات جنوبية جنوبية، فإنَّه بإمكاننا أن نُعيد ذلك إلى «التركيبة الجنوبية» ومثال على ذلك: الدكتور (رياك مشار) الذي ينتمي إلى قبيلة (النوير) وهذه القبيلة تعارض هيمنة قبيلة (الدينكا) التي ينتمي إليها (جون كرنغ).
كما أنَّ الدكتور (لام كول) ينتمي إلى قبيلة (الشلك) التي تعتبر ثالث أكبر قبائل الجنوب، وتدخل هذه القبائل في منازعات وحروب فيما بينها من أجل الأرض والمرعى، إضافةً إلى اختلافاتها الثقافية واللغوية والدينية وهنالك الفساد المهيمن على معظم قيادات قبائل الجنوب، والمؤامرات التي تُحاك لاغتيال المنافسين لهم، الطامحين بتبوء مركز الزعامة القبلية.
ونستطيع القول في هذا السياق أنَّ الطرح الوحدوي /للحركة الشعبية لتحرير السودان/ والتي يقودها (جون كرنغ) هو طرح تكتيكي ليس إلاَّ.
وقد وعى المتمرد (جون كرنغ) بأنَّ الدعوة للانفصال ستضيق بحال المناورة وخاصة من البلاد العربية المناوئة لنظام الخرطوم، كما أنَّ الجنرال (منغستو هيلا ريام) وهو الداعم الأول لحركة التحرر ولقائدها (كرنغ) وذلك بسبب وجود المشكلة الأرتيرية التي تنادي بحرية شعبها واستقلال بلادها، وإنَّ طرحاً كطرح الانفصال سوف يكرِّس توجه حركات التحرير لشعوب أثيوبيا للانفصال، ولذلك أخفى (كرنغ) دعوته الصريحة للانفصال، وإقامة دولة جنوبية مستقلة، كما أنَّ (كرنغ) وجد أنَّ دعوة الوحدة ستجلب لـه الدعم السياسي والمادي والعسكري اللازم لاستمرار حركته التي تهدف إلى السيطرة على كامل السودان وإنهاء صبغته العربية الإسلامية كما تبتغي ذلك الدول الغربية، فالأمر الذي يستوجب الوقوف عنده طويلاً ثم أخذه بعين الجدية، هو التناقض في الطرح الوحدوي لقيادة الحركة الشعبية ومناداتها بسودان جديد موحد، والأمر الثاني هو قاعدتها العسكرية التي تسعى لتحقيق أهداف مختلفة تماماً عن الطرح الوحدوي ألا وهي استمرار الحرب في الجنوب من أجل استقلاله والتخلص من نير الشمال الظالم، كما يدّعي هؤلاء الانفصاليون.
الشيء المهم في هذا الموضوع هو انشقاق ما سُمي /بمجموعة ناصر/، حيث ولَّد هذا الانشقاق تطورين هما:
التطور الأول: عقد مؤتمر عام للحركة في شهر أيلول /سبتمبر/ عام /1991/ في مدينة توريت الاستراتيجية التي تسيطر عليها الحركة، وذلك من أجل مراجعة برنامجها الداعي إلى /سودان جديد/ وتبني شعار /تقرير المصير/.
وعند انعقاد المؤتمر قامت الحركة بإجراء تغييرات أساسية في جوهر برنامجها على الشكل التالي:
1 - أكدت الحركة أن الاستقلال وحركة تقرير المصير نتيجتان مختلفتان إذا تعذر الوصول لاتفاق حول سودان علماني ديمقراطي موحد.
وصدر في هذا المؤتمر ما عُرف بإعلان /توريت/( ) الذي ورد فيه مطلب حق تقرير المصير، وكان هذا المطلب يطرح لأول مرة كخيار ضمن خيارات الحركة التي ظلت فيه تعلن أنَّها تحارب من أجل الوحدة، وترفض الانفصال؟!
التطور الثاني: سعت الحكومة السودانية إلى تعميق الانقسام في صفوف /الحركة الشعبية/، وقامت بعدة اتصالات مع قادة وزعماء القبائل، ثم اتصلت بالدكتور (لام أكول) الذي انشق عن الحركة الشعبية، وبدأ العمل تحت اسم الحركة الشعبية المتحدة.
تمخَّض عن هذه الاتصالات مع (لام أكول) ما سُمي بوثيقة /فرانكفورت/ عام /1992/ ولقد كان ممثل السودان الرسمي (علي الحاج)، وممثل الحركة الشعبية المتحدة (لام أكول) أما الراعي لهذه المفاوضات فكان الكنيسة الألمانية التي قالت: «لقد اعتزمت الحكومة السودانية لأول مرة في تاريخ السودان - بحق تقرير المصير للجنوبيين؟!» رفضت الحكومة السودان هذا الادعاء، بل أنكرته تماماً.
وفي هذه الفترة ارتفعت الدعوة من قبل بعض زعماء الجنوب إلى تطبيق مضمون الوثيقة التي اعترفت فيها الخرطوم بحق تقرير المصير.
اجتمعت مجموعة من المثقفين الجنوبيين في مدينة /أوير/ بإيرلندا، وعلى رأسهم (بوانا ملوال)( ) و(فرانسيس دنيق) و(جوردن مورتان) و(بيترنيونكوك)( )، وسكرتير مجلس الكنائس السوداني..، تناقش هؤلاء في وضع السودان، وبعد عدة جلسات أصدروا بياناً أُطلق عليه إعلان /أدير/، وأهم ما جاء فيه ثلاثة خيارات وهي:
أولاً - الفيدرالية.
ثانياً - الكونفيدرالية.
ثالثاً - الانفصال.
وهذا الإعلان كسب تأييد معظم حكام الدول الأفريقية الذين يسبحون في فلك الغرب وكنائسه المتصهينة، وعلى ضوء ذلك نأخذ المثال التالي: قدمت تشاد، هذه الدولة التي تمزقها الحروب نتيجة التناحرات السياسية، السلاح والمال إلى الحركة الشعبية وذلك رداً على موقف الرئيس (القذافي) من تشاد، (المعارك التي خاضها الجيش الليبي ضد النظام التشادي في «شريط أوزو»)، وفي خضم هذا كان لابد من عمل ما قامت به الحكومة السودانية وكان رداً صحيحاً، وقادت القبائل الموالية لها والمعادية للحركة الشعبية، وأنشأت الميليشيات المسلحة لمواجهة الحركة.
لعبت هذه الميليشيات دوراً مهماً في وجه كل من قدم مساعدة للحركة الشعبية، ومن ثم بدأت تنفذ عملياتها العسكرية في الإستوائية وفي منطقة قبائل (مندري) و(أشولي) ثم امتدت العمليات لتصل إلى «بحر الغزال» وسط قبائل (الغرنيت)، ولقد تصدت قبائل (الدينكا) و(الجور) لقبائل (الغرنيت) ودخلوا في قتال عنيف فيما بينهم، ولقد وقف الجيش السوداني إلى جانب قبائل (الغرنيت)، كذلك تطور القتال ما بين القبائل الموالية للسودان الواحد مثل قبيلة (المراجيل) التي دخلت في قتال مرير مع قبيلة (الدينكا والنوير)، كذلك وقفت الحكومة السودانية إلى جانب (المراجيل) فوفرت لهم السلاح والتدريب والدعم في أكثر من جانب وخاصة أنهم يقاتلون الحركة الشعبية الانفصالية.
ازداد الانقسام وتعمق، كذلك دعمت الميليشيات الموالية للحكومة وأثناء ذلك، وكما أوردت في الصفحات، حصل انقسام في صفوف الحركة، وهنا ألقي الضوء على هذا الانقسام وبشكل مستفيض:
الحركة الشعبية:
تنقسم إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى: الناصر.
المجموعة الثانية: توريت، وقاد مجموعة توريت كل من:
1- لام أكول.
2- د. اريك ايشار، ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ الدكتور (أريك ايشار) قد نال شهادته من كلية الهندسة في بريطانيا، كما أنَّه كان يقود الجيش الشعبي في منطقة «بابينو».
في عام 1991 أعلنت هذه المجموعة أنَّها تختلف جذرياً مع الطرف الأول (جون كرنغ)، وقد قام ثلاثة من قيادة الحركة وهم:
1 - لام أكول.
2 - د. اريك ايشار.
3 - القائد العسكري: جوردن كرانج.
وأعلنوا الانفصال عن الحركة الشعبية، وذلك عبر بيان سلموه لهيئة الإذاعة البريطانية، وأعلنوا فيه أنَّ انفصالهم جاء كنتيجة طبيعية لعدم جدوى أي رؤى ديمقراطية داخل التنظيم، كما طالب بيانهم بإخراج المسجونين والمعتقلين في سجون «كارانغ» والذين زج بهم في السجون لاعتراضهم على الأوضاع داخل الحركة الشعبية، كذلك طالب البيان بإنشاء دولتين مستقلتين واحدة في الشمال، والثانية في الجنوب.
وبنتيجة هذا التحرك للانفصال، احتدم الصراع والقتال بين الطرفين وسالت دماء الجنوبيين بيد الجنوبيين على أعشاب «السافانا»( ).
وهنا مدَّ الدكتور (ريك ايشار) يده إلى الغرب طالباً مساعدته في سحق (كرنغ) وقواته عندما دعا إلى فصل الجنوب والشمال.
وفي عام 1991 وبعد حركة (ريك ايشار) قامت القوى المؤيدة لكرنغ بتأييد مواقفه، وأكدت ضرورة أن تقوم حكومة السودان بإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية، في سبيل إبقاء السودان موحد، وفي حال رفض الحكومة السودانية لهذه المطالب فإنَّه يتطلب إحقاق الكونفيدرالية بين الشمال والجنوب، أو حق تقرير المصير للجنوب وعبر الاستفتاء، ونتيجة لهذا الرأي ظهرت على الساحة السياسية مجموعة أخرى من السياسيين الجنوبيين ولكن في خارج السودان وهم:
1 - بوانا ملوال.
2 - فرنسيس دنيق.
3 - كلمنت حانرا.
4 - ديفيد شان.
5 - جوردن مورتان.
ولقد أصدر هؤلاء بياناً باسم (أوير) حول الوضع والمستقبل المتوقع في السودان، وذلك في ثلاثة خيارات:
الأول: إعادة ترتيب فلسفتنا القومية والمبادئ الدستورية والبرامج العلمية بحيث تخلو من العنصرية والتمييز والعرقية وبحيث يشعر الجميع بروح الانتماء والمساواة.
الثاني: وضع السودان في نطاق وحدة دستورية أو اسمية تسمى فيدرالية أو كونفيدرالية.
الثالث: في حال الفشل لن يبقى سوى تقسيم السودان، وهذا هو المطلوب لا فيدرالية ولا كونفيدرالية.

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 01:10 PM
تسارع الأحداث مرة ثانية:
ازدادت وتيرة تسارع الأحداث في السودان عامة والجنوب خاصة فما الذي نتوقعه في ظروف كهذه؟
آفاق المستقبل:
دعونا نتساءل ونتشارك في طرح سؤالٍ مهمٍ عن مستقبل جنوب السودان وهو:
ما هي توقعات المستقبل بالنسبة لهذا الإقليم؟
جـ - تقوم توقعات المستقبل بالنسبة للسودان الموحد على ثلاثة جوانب أساسية محورية وهي:
أ - السلام.
ب - الوحدة.
ت - الاستقرار.
هذه المحاور الثلاث تنطبق على كل الأقاليم السودانية الأربع، ولنأخذ في عرضنا التالي الإقليم الجنوبي، إن السلام فيه يقوم على إيجاد صيغة حكم /ديمقراطية/ لا صفة حكم /فيدرالية/ يبتدئ هذا بقيام السلطة وينتهي بتوزيع الثروة والتجربة السابقة في الحكم /الفيدرالي/ الذي أخذ ومنح للجنوب أثبتت فشله وأدت إلى حرب أهلية طاحنة بللت أرضه دماء السودانيين كافة.
إنني أتحاشى هنا الدخول إلى اتفاقية /مشاكوس/ واتركها إلى الجزء الثاني من كتابي هذا.
إن الديمقراطية المطلوبة في السودان لا تتطلب ابتكاراً من نوع خاص إنما تتطلب هيكلاً حقيقياً لتداول السلطة، وما الماضي القريب والحاضر للسلطة المركزية والمحلية وتعاطيها في موضوع الفيدرالية وبعدها مبدأ حق تقرير المصير وعدم وفائها بتعهدها السابق إلا صورة إلى ما آلت إليه الأمور الآن، صحيح أن هناك إجماعاً عاماً بين الحكام والقادة والمثقفين أن الفيدرالية وحدها هي الأداء الملائمة لتلافي الانفصال لكن التجربة أثبتت أن الفيدرالية هي الطريق الخطر المحفوف بالصعاب والتي تؤدي إلى الانفصال إذا لم تكن مدعومة شعبياً، والجنوب السوداني تحكمه الفيدرالية إلا أن الذي أعطتنا إياه هذه التجربة؟ أعطتنا مبدأ حق تقرير المصير، صحيح إن تقرير المصير حق لكل أمة أو شعب عندما يكون البلد يعيش في ظل الديمقراطية، أن تلافي الحرب الأهلية المقبلة في الجنوب إذا حصلت لا سمح الله يكون في الديمقراطية الحقيقية التي تستوعب التنوع العرقي والثقافي والإقليمي في مجتمع متعدد الأعراف والثقافات والديانات، إن مضي سنوات طويلة على تجربة الفيدرالية كانت خدعة مبيتة وضعها الغرب وكنائسه المفرنجة واستثمرها أيضاً، فالفيدرالية عبارة عن نظام مغلق مقيد، أي هي خليط من الحكم الذاتي أو الاستقلال الذاتي أيضاً وأن تعبير المشاركة في الحكم عن طريق الفيدرالية من الصعب أن يطبق في شعب متعدد المذاهب الدينية والثقافية وهذا موجود ولـه جذوره العميقة في السودان ككل، وبعبارة أكثر صراحة ووضوحاً أن الفيدرالية لا تمشي ولا تتماشى في وضع كوضع السودان والحل هو إيجاد المخرج والوصول إلى السلام الذي لا يتم إلا بوضع واحد وهو الديمقراطية التي تناسبه في توجهه وتقاليده وأعرافه، وللوصول إلى هذا علينا أن نبدأ بنشر ثقافتنا ثم نقوم بتوزيع الثروة توزيعاً صحيحاً عادلاً لإيجاد سلام دائم نعمل على تثبيته ودعمه، وهذا أمر يحتاج إلى إيجاد قانون عادل حقيقي نابع من أعرافنا وتقاليدنا غير مفروض علينا ولا قادم من وراء البحار وهذا يحتاج إلى قانون حكيم وكذلك توزيع ثروة السودان بشكل صحيح بعد التنقيب عن النفط واكتشاف كميات كبيرة منه.
وقد اهتمت حكومة الإنقاذ بهذا الجانب الحيوي من حياة المواطن السوداني فعملت جاهدة وبلا كلل أو ملل لاستخراج نفطها رغم المصاعب التي كانت تحيط بذلك إلا أن السودان استطاع أن يصل ولو بشكل مقبول حالياً لاستخراج هذا الذهب.

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 01:15 PM
الباب الحادي عشر
الدور الأمريكي

الفصل الأول
بداية اكتشاف النفط السوداني أو كارثة العالم العربي
لأننا لا نحسن استخدامه واستغلاله!

بدأ استشكاف النفط في السودان في الستينيات من القرن الماضي، وتركز البحث في البداية على منطقة البحر الأحمر ولم يسفر البحث عن وجود كميات يعتدّ بها، إلا أن الحدث الهام كان العثور على الغاز في منطقة /سواكن/ عام 1976 عن طريق شركة /شيفرون/ الأمريكية، واستمرت عمليات التنقيب بعد ذلك وفي عام 1980 - 1982 عثرت الشركة سابقة الذكر على النفط في عدة مناطق في جنوب السودان وبالقرب من مدينتي /ملكال/ و/بونتو/.
وقد برزت عدة مشاكل لهذا الاكتشاف، وكانت أول هذه المشاكل مسألة الحدود بين الشمال والجنوب، ووفقاً لاتفاقية أديس أبابا المعقودة عام /1972/ فالمناطق المتنازع عليها ثلاث وهي:
1 - منطقة حفرة النحاس.
2 - منطقة بانتيو.
3 - منطقة شالي والكرمك.
وتعد هذه المناطق الثلاث ذات إمكانيات اقتصادية عالية، فمنطقة حفرة النحاس والتي كانت منذ وقت طويل يجري فيها استكشاف النحاس، وقد حاول المستعمرون أن يجعلوا منها منطقة خالية من السكان لتكون حاجزاً خالياً من السكان بين الشمال والجنوب وذلك لإيقاف المد الثقافي العربي الإسلامي جنوباً.
بانتيو:
أما منطقة /بانتيو/ فهي المنطقة التي أشارت إليها شركة /شيفرون/ الأمريكية التي نقبت عن النفط، وحيث قالت إنَّها تعد أغنى مناطق النفط التي تمَّ التوصل إليها لغاية الآن.
شكل ظهور وتدفق النفط حدثاً مهماً كبيراً أوحى لهم (إلى المتمردين) أنَّ بقدرتهم الآن إقامة دولة مستقلة لهم في الجنوب، ومن هذا الفهم الخاطئ المغري من الغرب وكنائسه المتصهينة دعوا إلى إنشاء خط أنابيب لنقل النفط من منطقة /بانتيو/ إلى ميناء /ممباسا/ الكيني وذلك عبر الجنوب السوداني، بدلاً من إيصاله إلى ميناء السودان الكبير /بور سودان/ إنهم يريدون أن يكون النفط تحت سيطرتهم التامة، ومن هنا تركزت هجمات المتمردين على منطقة /بانتيو/.
شالي والكرمك:
انطلاقاً من صلة هاتين المنطقتين بالجنوب وانتماءات ساكنيها فإنَّ صلتها بالجنوب أكثر عمقاً من صلتها بالوسط الذي تقع فيه، ومن هنا صعدت إلى السطح مشكلة مصفاة النفط في منطقة /كوسني/ وقط ظهرت هذه المشكلة في عام 1981 بعد أن تقرر أنَّ تكون /كوسني/( ) موقعاً لمصفاة النفط، إلاَّ أنَّ مجلس الشعب الإقليمي للجنوب طلب من رئيس الجمهورية التدخل لوقف قرار وزير الطاقة والمعادن وإدارة شركة شيفرون الأمريكية، وقد تركزت دعوى مجلس الشعب الإقليمي للجنوب على أنَّ منطقة /بانتيو/ هي أصلح منطقة لقيام مثل هذه المصفاة إلاَّ أنَّه تم رفض هذا الاقتراح لأنَّ الغرض منه هو حصر تكرير النفط في منطقة الجنوب التي يعدها المتمردون لأن تكون دول مستقلة، وهكذا تم إنشاء المحطة في /كوسني/.
أدى اكتشاف النفط إلى تشجيع التمرد والدعوة إلى الانفصال إذ شعرت المجموعات المتمردة أنها إذا استأثرت بمخزون النفط والمعادن ستكون لها الدولة الموعودة، ولقد زاد ذلك من إذكاء النار المشتعلة في منطقة الجنوب.

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 01:19 PM
الفصل الثاني
الغضب الأمريكي على السودان

من جملة أسباب الغضب الأمريكي على السودان، تناقض المواقف السودانية مع سياسة الولايات المتحدة.
في عام 1996 تبلورت سياسة جديدة أمريكية تجاه أفريقيا، ولقد تمثّلت في إيجاد كتلة أفريقية تمتد من القرن الأفريقي شرقاً إلى السنغال غرباً، وتكون لها السيطرة الكاملة على مصادر المياه «البحيرات العظمى».
إنَّ هذا التشكيل لم يعد خافياً على أنَّه يرمي إلى إنشاء بنية أساسية لمصلحة شركات النفط والتعدين الأمريكية، وعندما زار الرئيس الأمريكي (كلينتون) أفريقيا، عاد وأطلق في عام 1995 مبادرته تجاه القرن الأفريقي الكبير، هذه المبادرة الصادرة من الرئيس الأمريكي تحاول ربط التطورات التي تجري في السودان بتفاعلات شرق أفريقيا والقرن الأفريقي بعيداً عن الإطار العربي.
إنَّ مبادرة (كلينتون) هذه تعني خلق هوية جديدة للمنطقة تكون فيها السيد المطاع والناهي الآمر، من هنا جاء تسليح الأنظمة وحركات التمرد في المنطقة لتحقيق هدف الولايات المتحدة.
ما الذي نستنتجه من وراء كل هذا التآمر على وحدة السودان أرضاً وشعباً؟.
ولكن ما هو المطلوب؟ تضامن جميع القوى الوطنية السودانية من معارضة وموالين حريصين على وحدة السودان، حيث أنَّ الحركة الشعبية وبقية المتمردين يسعون إلى قبول الحكومة السودانية بمبدأ «حق تقرير المصير للجنوب» ما هي إلاَّ عملية شطر للسودان الذي عملت لـه بريطانيا سابقاً، وتكمله اليوم الولايات المتحدة الأمريكية والكنائس العالمية والكيان الصهيوني.
إن إعطاء حق تقرير المصير ما هو إلا الخدعة الكبيرة التي أرادها المتمردون لتمزيق السودان كله وليس فصل الجنوب فقط؟

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 01:27 PM
الباب الثاني عشر
جهود السلام
الفصل الأول
محادثات السلام في نيروبي عام 1990

عندما تولى الرئيس النيجيري (إبراهيم بابا نجيدا) رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية سعى لإجراء حوار بين الحكومة السودانية والمتمردين، ولقد أجري الحوار الذي استمر من عام 1991 - إلى 1992، عملت الأطراف الثلاثة: الحكومة السودانية - والرئيس النيجيري - والمتمردون للتفاهم من أجل الوصول إلى حل عبر طاولة المفاوضات وفق ما يلي:
لن تطبق الحكومة السودانية قوانين أيلول /سبتمبر/ «الشريعة الإسلامية» على الولايات التي تقطنها أغلبية غير مسلمة، أما فيما يختص بموضوع الفيدرالية أو الكونفيدرالية فهذا سوف يطرح على طاولة المفاوضات. وهنا صعَّدت الحكومة السودانية هجماتها على حركة الجيش الشعبي في الوقت الذي سعت فيه منظمة الوحدة الأفريقية إلى إيجاد حل سلمي.
تمكن الجيش السوداني من تحقيق الانتصار تلو الانتصار على قوات (جون كرنغ) وفي ذلك الوقت أجرت الحكومة السودانية مجموعة اتصالات مع جماعة الدكتور (ريك ايشار) و(لام أكول)، ولكن لم تثمر هذه الاتصالات عن شيء يذكر، كذلك رفض (كرنغ) مشاركة (ريك ايشار) و(لام أكول) في الجلوس معه على طاولة المفاوضات المقترحة من قبل منظمة الوحدة الأفريقية وهذا يعود لكون الانطلاقات الفكرية لمجموعة (ريك) و(لام) كانت تنادي باستقلال الجنوب وقيام دولة جنوبية، وهذا لا يعني بأنَّ المتمرد (كرنغ) يعمل لإبقاء الجنوب جزءاً من السودان، ولكن كما يقال أنَّ الخوخ لم ينضج بعد؟
التجمع الوطني الديمقراطي /لقاء أسمرا/:
عمل المتمردون على ضرورة القضاء على نظام الحكم (الإنقاذ)، فقد انطلق هؤلاء المتمردون الجنوبيون من اعتبار أن المفاوضات أو الحوار مع حكومة السودان يعتبر متابعة للعمليات العسكرية، وهذا ما يؤكده المتمرد (كرنغ) عندما يقول: «لساني جزء من أسلحتي، فلماذا أجرّد نفسي من هذا النوع من السلاح، وإنَّنا نرى ضرورة أن تتم تقوية التجمع الوطني الديمقراطي حتى يتمكن من أن يطيح بالحكومة الوطنية العربية الإسلامية؟ وأنني أؤكد على ضرورة خلق تجمع وطني ديمقراطي يضم كافة القوى السودانية والمعارضة للنظام القائم؟! ».
هذا أولاً، أما ثانياً فهو الآتي:
يجب تطوير القدرات الضرورية لإزالة نظام الخرطوم؟
إنَّ ما يود قوله المتمرد (جون كرنغ) هو ضرورة أن تكون هناك رؤية للقوى السياسية المعارضة لنظام الحكم، كما أشار إلى أنَّ الجيش الشعبي والحركة الشعبية هما البديل عن نظام الحكم القائم في الخرطوم؟ كما أشار أيضاً أنَّ كلاً من حزب الأمة والحزب الاتحادي والحزب الشيوعي وبقية الأحزاب غير مؤهلين لتسلم الحكم أو للتعامل مع الأوضاع العالمية.
إذاً، هذه القوى كلها غير مؤهلة لاستلام الحكم، فما الجدوى من القتال؟ وما الجدوى من وضع العراقيل أمام الحكم الوطني؟ ما الجدوى؟
الجدوى من ذلك هي قيام دولة جنوبية تكون موالية للغرب ولإسرائيل، وقد جاء اجتماع «اسمرا» الذي رعاه المتصهين (أسياس أفورقي) بهدف إسقاط حكومة الإنقاذ الوطنية ومن خلال العمل العسكري أو الانتفاضة الشعبية الممّولة من قبل الدوائر الغربية ومجلس الكنائس العالمي؟!

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 02:46 PM
الفصل الثاني
بدء مفاوضات الإيجاد للسلام 1997

بدأت محادثات السلام بين الحكومة السودانية والمتمردين عام 1994 برعاية منظمة /الإيجاد/( )، ثم توقفت ويعود سبب توقفها لأمرين مهمين هما الآتي:
الأول: حق تقرير المصير.
الثاني: العلاقة بين الدين والدولة.
وعلى ضوء هذين السببين اللذين رفضتهما حكومة الإنقاذ توقفت المحادثات بين الأطراف /المتحاورة/ وسبب رفض حكومة الإنقاذ يعود إلى موضوع حق تقرير المصير وقوانين الشريعة.
الحكومة السودانية رفضت هذه المفاوضات.
ولكن ما هو موقف الحركة الشعبية والجيش الشعبي منها؟
أصدرت الحركة الشعبية بياناً شرحت فيه موقفها من المحادثات مع الحكومة السودانية، فقالت أنَّها مع وحدة السودان؟
و«الوحدة» في مفهوم الحركة هي «حق تقرير المصير للسودان»؟!
أما المتمرد (جون كرنغ) فإنَّه يرى أنَّ الوحدة تعني منهجاً محدداً، ومعنى ذلك فصل الدين عن الدولة، كما يرى (كرنغ) أنَّ حق تقرير المصير والكونفيدرالية وجهان لعملة واحدة، ولذلك طالب بحق تقرير المصير؟ ودعوته هذه تمثل تقطيع السودان لأنَّ حق تقرير المصير هذا يشل السودان كله.
بعد استعراض أهم مفاصل مشكلة جنوب السودان، دعوني اقترب من بداية حل هذه المشكلة الهامة من تاريخ السودان والدول العربية والاقليمية أيضاً، إنني هنا أنوه بأن هذا الحل كما تم وكما وقعا عليه /الحكومة السودانية/ و/المتمردون/ ليس هو بالحل الذي سيجلب السلام بل سوف يتمخض عن معاناة جديدة لا يعرف مداها سوى الله وإنني لأتابع هنا سرد الأحداث التي حصلت، أما تحليل هذا الموضوع الهام فهو موجود بين سطوره.

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 02:56 PM
الفصل الثالث
مشاكوس الإيطاري

في شهر تموز - يوليو - من عام 2001 تم التوقيع على ما سمي بـ /مشاكوس الإيطاري/( ) وذلك بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، وذلك تحت رعاية ومظلة الولايات المتحدة ومنظمة الإيجاد وحلفائها المهيمن من بريطانيا وإيطاليا والنرويج، ولقد أثار هذا التوقيع تفاؤلاً كبيراً بأنَّ الحرب قد انتهت، هذه الحرب الثانية والتي دامت تسعة عشر عاماً وقتلت حوالي المليون إنسان وربما أكثر!
هل حقيقة قد انتهت حرب الأخوة أو كادت أن تنتهي، الجواب عن هذا السؤال يمتلكه المستقبل.
وطالما أننا نخوض في هذا المضمار، علينا أن ندلي بدلونا حول هذا الاتفاق، وأن نترجم ما ينتابنا من مشاعر القلق والترقب.
إنَّ الاتفاق الذي أبرم في /كينيا/ يحمل بين طياته نقاطاً شائكة قابلة للتصدع في أي لحظة وعندها سيحدث الانفجار الكبير؟ يليه الانشطار! لا سمح الله.
وهذا سيقع، إن لم يكن اليوم فغداً، لأن التفكير والاتجاه المتصهين معشش في ذهن كثير من الحكام العرب للأسف لإقامة دولة الجنوب.
ولن يقتصر هذا التدمير على السودان فقط بل سيتعداه إلى منابع النيلين ومنطقة شرق أفريقيا وبالطبع منطقة القرن الإفريقي وكذلك سيشمل مناطق البحر الأحمر ومصر العربية.
ولكن لماذا هذا الخوف وهذا الوضع؟
يعود السبب إلى ما يلي:
أولاً - جاء في اتفاق /مشاكوس/ الآتي: «يمنح الجنوب حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية مدتها ست سنوات، على أن تكون الخيارات المطروحة للاستفتاء هي الاستمرار في النظام الذي سيتم إقراره وفقاً لاتفاق التسوية [ إلاَّ ] الانفصال في كيان مستقل.
ولكن ماذا يفهم من هذا؟ لا يحتاج الجواب إلى تحليل وتنظير، فالجنوب في طريقه إلى الانفصال؟! نعم هكذا وبصريح العبارة.
ثانياً - تم الاتفاق ووقع على الآتي: «الاتفاق على إطار دستوري متعدد الطبقات، بحيث يكون هناك دستور للشمال ودستور للجنوب، ودستور قومي يجمع بين شطري البلاد الشمالي والجنوبي، ومؤدى هذا ومضمونه الأساسي هو الحفاظ على تطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال في الوقت الذي يكون لـه فيه دستوره وقوانينه الخاصة».
وهنا جوهر المشكلة:
وجود: أ - دستور للشمال.
ب - دستور للجنوب.
جـ - دستور قومي.
س1 - ماذا يعني دستور الشمال؟
ج - يعني قيام دولة سودانية عربية مسلمة، في أحسن الأحوال في وسط السودان.
س2 - ماذا يعني دستور الجنوب؟
ج - يعني قيام دولة أفريقية مسيحية، معادية للعرب والمسلمين.
أما الدستور القومي فهو الانفصال ولسبب واحد وهو كيف يعمل بثلاثة دساتير في دولة واحدة؟!
علينا أن ندرك ونقول بأنَّ السودان الموحد قد خرج من إطاره القومي إلى أطر جديدة، أي أنه أصبح ورقة في أجندة أمريكا المتصهينة والأوروبيين؟! مع احترامي وتقديري للقيادة السودانية الحالية!
وهنا نستطيع القول والتأكيد على أنَّ قضية الجنوب قد أخذت منحى جديداً وخطيراً على أمن السودان وأشقائه.
بعد انقضاء عدة أسابيع على هذا الاتفاق، قامت جماعات المتمردين بالاستيلاء على مدينة /توريت/ الاستراتيجية بشكل مفاجئ وسريع، مما دفع الحكومة السودانية للانسحاب من التفاوض الجاري، وقالت أن هناك انحيازاً من الوسطاء ومن منظمة الإيجاد، وأن هناك مراوحة من الحركة الشعبية وعودة لفتح الملفات والقضايا التي تم الاتفاق عليها في الجولة السابقة.
ما الذي نستطيع أن نفهمه من هذا الكلام؟
الجواب: هذا أول بند من أجندة الأمريكان والأوروبيين.
ماذا يعني احتلال مدينة توريت؟
الجواب: لَيّ ذراع الحكومة السودانية، وإجبارها على الرضوخ لمطالب المتمردين.
إن ما يتم في السودان أمر خطير يصل إلى حد مقارنته باقتطاع /لواء إسكندرون والجولان العربي السوري/ وإقليم عربستان العربي وفلسطين واحتلال العراق؟ أين نحن كعرب من هذا كله؟
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن وبأكثر من صيغة هو:
1 - أين الدول العربية وأين دورها؟!!
الجواب: أنظمتها غائبة وتعيش في كوكب آخر؟!
2 - أين وسائل الإعلام المستقلة الحرة؟!
الجواب: غير موجودة وإن وجدت فهي غير فعّالة.
3 - أين الكتاب والمثقفون العرب؟!
الجواب: الله وحده يعلم؟!
أين هؤلاء كلهم من محاولة اقتطاع جزء مهم من جسم السودان والذي سيلحقه أجزاء أخرى؟
إنَّ توقيع هذه الاتفاقية وبهذا الشكل وبهذه الطريقة يعتبر تهميشاً لدور السودان الوطني وانحساراً للمد الوطني والعربي.
ولا أضع اللوم كله على النظام الوطني القائم في السودان بل على كافة الأنظمة العربية، على الأنظمة العربية أن تبذل مجهوداً ما، وتتحرك بسرعة لفرض موقفٍ تكون لـه نتائج إيجابية مهمة لها وللسودان، وصحيح أنَّ ملف جنوب السودان مليء بالمسائل والتفاصيل الشائكة ذات المسالك المتعرجة، لكن سياسية الأمر الواقع التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتصهينة كانت تستبدل وتسقط فيما لو تعاونت الأنظمة العربية فيما بينها وخاصة مصر والسعودية وليبيا، ولكن وللأسف فلقد كشف اتفاق /مشاكوس/ النخبة العربية وجهلها بأوضاع السودان وتركيبته السياسية، فالسطحية التي تعاملت بها هذه النخبة مع القضية أظهرت وللأسف ضحالة المعلومات لديها؟!
والآن لنلقي نظرة على تفاهم /مشاكوس/:
يطلق السودانيون على اتفاق /مشاكوس/ الإيطار، ولكن ما المقصود من هذا الإيطار؟
من دون شك فإنَّ هذا الاتفاق لم يأت من فراغ، فالمتتبع الواعي لهذه القضية يعلم تماماً مقدار الاهتمام الغربي الأمريكي الصهيوني المتزايد بقضية جنوب السودان، والسعي اللاهث لإنهاء القضية وفق مصالحهم التي صاغتها الأسباب التالية:
أ - تسعى المؤسسات الدينية الغربية لحل القضية في إطار سياستها التبشيرية لخلق دولة أفريقية مسيحية تخدم مصالحها الكنسية وفق مخطط استعماري ديني قديم حديث.
ب - سعي الحكومات الأمريكية المتعاقبة، وخاصة الحكومة الحالية اليمينية ذات التوجه الديني الصليبي والتي يقودها ما يطلق عليهم اسم /الصقور/ (وأي صقور؟)، إلى إيجاد حل يخدم مصالحها الخاصة، وبالتالي خلق نظام يفرض على دول أفريقية تدين بالإسلام.
جـ - هناك دوافع أمريكية أخرى لبسط نفوذها على المنطقة، وخلق خريطة سياسية جديدة تهيمن من خلالها على جنوب السودان النفطي وعلى المنطقة وذلك بحجة مكافحة الإرهاب وقد نمى هذا الادعاء بعد أحداث 11 - أيلول - سبتمبر.
د - تقوم أكثرية المنظمات الإنسانية الغربية بكتابة تقارير تقول فيها: «يمارس السودانيون الشماليون أنشطة تتعلق ببيع وشراء الجنوبيين، هذا الأمر يجب الوقوف عنده طويلاً»؟!
والحقيقة أنَّ هذا الكلام غير صحيح لأنَّ معظم الشماليين مسلمون يفهمون أنَّ الرق غير مسموح به وفق تعاليم الإسلام.
هـ - تقوم مؤسسات التبشير الدينية مثل /مجلس الكنائس العالمي/ بالسعي إلى إيجاد حل للقضية في إطار سياستها الكنسية التوسعية، والتي تسعى من ورائها إلى تنصير الجنوب بالكامل وطرد المسلمين منه وتأخذ هذه السياسة شكل التنافس الحاد بين كل من المذهب الكاثوليكي والبروتستانتي.
و - وقف التقدم الثقافي العربي الإسلامي الذي يقوده السودان سابقاً وحالياً، وهكذا استنتجنا الدوافع والأهداف الأمريكية الضاغطة والكامنة في اتفاق /مشاكوس/ حيث نجد فيه المبادرات الأمريكية والتي تتمثل في تقرير اللجنة الأمريكية للحريات الدينية؟
كما نجد في تقرير المبعوث الأمريكي السناتور (جون دانفورت) والذي يقول فيه: «يجب تحقيق تسوية لإيجاد حل وسط ما بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان وفق ما يلي وباختصار شديد:
1 - إنَّ تاريخ السودان مليء بالاتفاقيات التي يجترها الموقعون عليها... وعلى كل نستعرض ما جاء في ظل الاتفاق أحياناً وأحياناً أخرى نأخذ ما جاء فيه:
أ - تقوم الولايات المتحدة بتشجيع طرفي الصراع للقيام بمبادرات للسلام، وتساعدها في ذلك دول الجوار، مثل كينيا وأثيوبيا ومجموعة الإيجاد ثم لابد من إشراك دول مهمة في وضع جنوب السودان مثل كندا والنرويج وسويسرا وبعض دول الاتحاد الأوروبي وخاصة بريطانيا من أجل دعم عملية السلام؟!
ولكن الولايات المتحدة لم تستخدم أياً من الدول المذكورة إلاَّ في مجال
الدعاية لها.
ب - عدم قيام الولايات المتحدة بدور الحكم بين الادعاءات المتنافسة لطرفي النزاع في السودان، وإنما تقوم باختيار احتمالات عملية سلام ديناميكية تكون أمريكا أحد المشاركين فيها.
جـ - مقابلة أطراف إقليمية مهتمة بالشأن السوداني، للبحث حول جهود بلادهم في إحلال سلام عادل في السودان، وهذه الأطراف قيادية ومعروفة.
د - لقد تم التنسيق مع البريطانيين والنرويجيين والإيطاليين، وتم بحث الوضع الديني مع الأطراف الفاعلة على هذا الصعيد في الفاتيكان ورئيس أساقفة كانتر بيري.
2 - بعد ذلك قام السيناتور السابق (جون دانفورث) وقدم مجموعة استنتاجات وتوصيات نورد أهمها:
أ - عدم إمكانية أي من طرفي الصراع ربح الحرب، وهنا وضع (دانفورث) الشعب السوداني كله بموازاة المتمردين؟
ب - التخصيص العادل للموارد النفطية كمفتاح لمعالجة المسائل السياسية في إطار صيغة مالية لتقاسم الموارد النفطية بين الحكومة المركزية وشعب الجنوب، وإن من الممكن إيجاد صيغة مقبولة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة لفض النزاع حول حقول النفط قبل التوصل إلى اتفاق سلام نهائي.
ويمكننا القول إنَّ ما قصده (دانفورث) هو الآتي:
أ - إنَّ تقسيم موارد النفط بين الطرفين بالتساوي يعتبر حافزاً ذا أهمية كبرى للأمريكان والأوروبيين، حيث أن السودان يمتلك من احتياط النفط ما يزيد عن بليون برميل مع الاعتقاد بوجود احتياطي إضافي يتراوح بين بليون وأربعة بلايين برميل، وهذه وجبة شهية جداً للشركات الأمريكية.
ب - تبنى السيناتور (دانفورث) طلب الجنوبيين بحق تقرير المصير؟
يعد تبني (دانفورث) لهذا الطلب بمثابة وسيلة فعّالة لترسيخ مقولة الأمريكان والأوروبيين التي تحيل أهالي جنوب السودان إلى أناس تمارس عليهم أبشع صور الظلم والاضطهاد، ولذلك توجد ضرورة لرفع الظلم عنهم وذلك عن طريق إيجاد دولة خاصة بهم؟ فهذه الدولة ستضمن الوجود الإنساني، وستمكن الجنوبي من التمتع بحقوقه وممارسة واجباته في ظل حكم ديمقراطي يحترم حرية المعتقد والدين والثقافة؟!
جـ - الاتفاق الإيطاري: إنَّ الدور الفاعل والمؤثر أي الضاغط هو الذي دفع الحكومة السودانية والمتمردين للتوقيع على الاتفاقية التي عقدت في ضاحية /مشاكوس/ التي تقع قرب العاصمة الكينية /نيروبي/، ولقد رعى الاتفاقية (دانيل آراب موي) رئيس البلد المضيف، ولقد جاء هذا الاتفاق أقرب إلى المرجعيات والمقترحات الأمريكية حول /تحقيق السلام في السودان؟/.
وفي صياغة تقرير موفد الرئيس الأمريكي (جورج بوش) السيناتور السابق (جون دانفورث) نجد أنَّ هذه الصياغة تأخذ طابع المراوغة الأمريكية في وضع جملة /حق تقرير المصير/؟ حيث أنَّ المذكور زار المنطقة كذلك القاهرة وركَّز في لقاءاته مع المسؤولين على حق تقرير المصير للجنوبيين؟ وعند قراءة هادئة لتقرير دانفورث، يمكننا أن نستخلص من أهم نقاطه:
أ - ضرورة خلق إطار للحكم يضمن اقتسام عادل للثروة والسلطة، وضمان حقوق الإنسان وهو ما يعني ضمناً أنَّ مثل هذه الاعتبارات لم تكن موجودة؟
ب - الإشارة إلى المظالم التاريخية والتنمية غير المتوازنة بين أجزاء السودان المختلفة تاريخياً.
جـ – الإشارة إلى مبادرة سلام الإيجاد، ودور الرئيس الكيني؟
أما بالنسبة لمراقبة تنفيذ الاتفاق فتتشكل من بنود عدة نأخذ منها ما هو آتٍ:
1 - التمثيل المتساوي لطرفي الاتفاق وهما الحكومة السودانية والجيش الشعبي لتحرير السودان.
2 - ممثلون لا يزيد عددهم عن ممثلين اثنين لكل جهة من الجهات التالية:
أولاً: أعضاء اللجنة الفرعية حول السودان لدول منظمة الإيجاد.
ثانياً: أعضاء الدول المراقبة: 1 - الولايات المتحدة الأمريكية.
2 - المملكة المتحدة.
3 - إيطاليا.
4 - النرويج.
ثالثاً: أي دول أو هيئات إقليمية أو دولية يتفق عليها الطرفان.
«ونستطيع أن نستنتج من قراءة هذه الفقرة، أن هناك أطرافاً أخرى يود إدخالها»؟
رابعاً: إنَّ الاستفتاء على تقرير المصير يبدو أمراً هاماً ومفصلياً في الاتفاق، ويجري هذا الاستفتاء في نهاية المدة الانتقالية وهي ست سنوات وتناط عملية إجراء هذا الاستفتاء بالتعاون بين الحكومة والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، وهنا سيتم التصويت لتبني نظام الحكم بموجب اتفاقية السلام أو لصالح الانفصال.
خامساً: التصور العلماني:
1 - حرية المعتقد والعبادة والضمير لأتباع كل الأديان والمعتقدات والأعراف، ولا يجوز التمييز ضد أي شخص على هذه الأسس والمعايير.
2 - تولي جميع المناصب بما فيها رئاسة الدولة والخدمة العامة، والتمتع بجميع الحقوق والواجبات، يتم على أساس المواطنة، وليس على أساس الدين أو المعتقدات أو الأعراف.
سادساً: هذا بند مهم إذ يقول: «إنَّ حرية العبادة والتجمع من أجل الممارسات الدينية أو الممارسات الخاصة بالمعتقدات الأخرى، وتأسيس وحماية الأماكن التي تقوم بأداء هذه الشعائر».
سابعاً: تشكيل حكومة وطنية تمارس الوظائف وتجيز القوانين وعلى الحكومة أن تأخذ في الاعتبار القوانين التي تجيزها الطبيعة التعددية للشعب السوداني دينياً وثقافياً، وهذا الضابط يبدو هاماً من وجهة نظر مصالح الحركة الشعبية لتحرير السودان /المتمردين/».

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 03:05 PM
حق تقرير المصير:

جاء في الاتفاق الإيطاري ما يلي:
أ - تأسيس مجلس مستقل وهيئة تقييم خلال الفترة الانتقالية يناط بها تطبيق اتفاقية السلام خلال الفترة المؤقتة.
ب - تشكيل هيئة التقييم من ممثلين متساوين من حكومة السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان /المتمردين/، ومما لا يزيد عن ممثلين اثنين:
1- يبلغ تعداد السودان ثلاثين مليون نسمة، حوالى أربعة ملايين جنوبي فقط، هل يجوز أن يكون رئيس الدولة جنوبياً؟ إلاَّ أنَّ الإدارة الأمريكية تجيز كل شيء من أجل مصالحها!
2- يدين أكثر من 90% من السودان بالإسلام، فهل يجوز أن يكون رئيس الدولة غير مسلم؟
من الدول والمنظمات الآتية:
1- الدول الأعضاء في اللجنة الفرعية حول السودان التابعة لمنظمة الإيجاد هم: جيبوتي، أرتيريا، أثيوبيا، كينيا، أوغندا.
2- دول مراقبة دولية، وهم: إيطاليا، النرويج، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية بعد ست سنوات؟
ولكن ماذا سيحصل بعد مرور ست سنوات؟
ما سيحصل هو الآتي وبشكل مختصر:
أ - الانفصال وإقامة دولة جنوبية مستقلة ترعى مصالح الغرب وإسرائيل؟
ب - عودة الاقتتال من جديد؟
إنَّ حركة التمرد التي يتزعمها (جون كرنغ) تعمل من أجل الحفاظ على مصادر الدعم السياسي والعسكري والمالي من الدول التالية: أمريكا - بريطانيا - إسرائيل - مجلس الكنائس العالمي، والمنظمات غير الحكومية المهتمة بجنوب السودان، ومما لا شك فيه مطلقاً أنَّ المتمرد (كرنغ) يدعم موقفه الانفصالي على أساس مسألتين أساسيتين هما:
آ - حق تقرير المصير.
ب - إلغاء الشريعة الإسلامية.
فهذان البندان سيكرسان خيار الانفصال عبر حق تقرير المصير، وهذا أهم ما جاء به الاتفاق:
بعد كل ما ذكرناه وأتينا على تدوينه من خلال متابعتي وقراءتي أتساءل في سري وعلني أسأل واستفسر عن سر اتفاق مشاكوس؟
إن العلاقات السودانية الأمريكية لم تنقطع في يوم من الأيام والآن تمر أحياناً سحابة صيف سوداء أو بيضاء على العلاقات بين الحكومتين إلا أن أمطارهما تغسل القلوب أحياناً؟ (الآن بسبب استخراج النفط؟).
فالعلاقات ذات اللون الرمادي أصبحت بيضاء مما دفع الإدارة الأمريكية لأن تساهم في اتفاق مشاكوس ومشاركة الولايات المتحدة سببها السعي لاكتشاف احتياطات نفطية جديدة وبعيدة عن نفط منطقة الخليج العربي حتى تخفف عن نفسها تبعية الاعتماد على هذه المنطقة الساخنة سياسياً، في الوقت الذي تتزايد فيه الحاجة إلى كميات أكبر من النفط، وكذلك الحاجة إلى تأمين المصالح المباشرة للشركات الأمريكية وخاصة القريبة ذات الصلة الوثيقة بالإدارة، خاصة أن هذه الشركات هي أول من اكتشف النفط بكميات كبيرة اعتمد السودان عليها لسد حاجياته وتصدير الفائض منها هذا أولاً، أما ثانياً: فهو وجود الشركات الصينية التي تسد حاجة الصين من النفط وخاصة مع تزايد عملية النمو المستمر في اقتصادها وصناعاتها.
فالصين وماليزيا تسعيان إلى الدخول للأماكن التي تتوارى عنها الشركات الأمريكية بسبب سياساتها تجاه العديد من البلدان مثل /العراق/ و/فنزويلا/ إلا أن حصتها من كعكة النفط السوداني ستكون الأكبر؟ هذا من جانب حكومة السودان أما الجانب الآخر فإن /الحركة الشعبية لتحرير السودان/ التي عملت واستطاعت في أوقات مختلفة أن تجبر الشركات النفطية الأمريكية والفرنسية على إيقاف عملها ومغادرة البلاد في عام 1984، ويبدو أنها لم تستطع وقف عمليات الاستخراج التي تمت في النصف الثاني من التسعينيات بالرغم من إنذار وتهديد الحركة الشعبية التي أكدت فيها على أن أماكن استخراج النفط من الجنوب تعد بالنسبة لها أهدافاً عسكرية مشروعة، وبالفعل نفذت الحركة الشعبية تهديداتها وسببت بعض الخسائر إلا أنه أمكن تلافيها وإصلاحها ولم يتوقف استخراج وتصدير النفط؟
من هنا وجدت الحركة الشعبية أن تهديداتها لم تفعل ما كانت ترجو منه، وهو وقف استخراج النفط وتصديره، ونتيجة لذلك وجد المتمردون أن أوضاع الحكومة السودانية في تحسّن وبشقيها المادي والعسكري، هنا أعلن (جون كرنغ) أنه سيعمل على السيطرة على الأرض في الأماكن التي سيتم التنقيب فيها حتى يتمكن من الحصول على نصيب أكبر عند الحوار حول بنود الاتفاق - التفصيلية.
وقد حدث بالفعل السيطرة عسكرياً على منطقة /توريت/ الاستراتيجية إلا أن الحكومة السودانية علقت المفاوضات في مشاكوس إلى وقت لاحق.
حقيقة الأمر:
بدأ إنتاج النفط وتصديره بكميات جيدة نسبياً وهذا ما جعل الحركة الشعبية ومن يستظل بها من المعارضة الجنوبية والشمالية يقعون ما بين /السنديان والمطرقة/ للأسباب التالية:
أ - محاولة منع الحكومة السودانية من تصدير النفط.
ب - محاولة المعارضة السودانية الشمالية، والمدعومة من الغرب ومن النظام الأرتيري والمنطلقة من الأراضي الأرتيرية، ضرب خط الأنابيب.
ت - فشل كل المحاولات لوقف استخراج وضخ النفط من قبل المعارضة الجنوبية والشمالية لسببين:
الأول: تحرك وتكتيك الجيش السوداني في حمايته لأماكن الآبار وأنبوب النفط الذي يتم تصديره عبره.
الثاني: دعم جماهير الشعب السوداني للحكومة التي رأت في استخراج النفط هدية من الخالق عز وجل لرفع حياته المعيشية، فهذه الجماهير رأت في أعمال المعارضة عملاً عدائياً تخريبياً ليس للحكومة فحسب وإنما للشعب ذاته.
إن عمل المعارضة ككل، والشمالية خاصة، فقد تأييد بعض الفئات من الشعب السوداني نتيجة عملها الشنيع في رأي كافة أطياف الشعب السوداني وخاصة أن الحكومة السودانية بعد تصدير النفط عام 1999 بدأت باعتماد وصرف ملايين الدولارات لتنمية البنية الأساسية في كل أنحاء السودان وبشكل خاص في الجنوب .
فقد قامت ببناء الجسور والطرق والمدارس والمراكز الصحية وخدمات الماء والكهرباء ثم قامت على الصعيد السياسي بحشد الدعم لها بين القبائل الجنوبية تحت اسم /خطة السلام من الداخل/.
هنا رأت الإدارة الأمريكية أن مصالحها لابد من تأمينها وعبر اتفاق المتمردين الجنوبيين والحكومة السودانية.
في هذا الجو بدأ انخفاض التأييد /للحركة الشعبية/ كذلك أصبحت قضية النفط قضية مختلف عليها بين المعارضة الشمالية والجنوبية بقيادة الحركة الشعبية المتمردة للأسباب التالية:
1 - تمسكت الحركة الشعبية الانفصالية بوقف صادرات النفط للتباحث حول وقف إطلاق النار.
2 - رفض الحكومة السودانية لمطالب /الحركة الشعبية/.
3 - رفض /الحزب الشيوعي السوداني/ لتمسك /الحركة الشعبية/ بمواقفها وتصرفاتها حيال استخراج النفط وتصديره، فقد أصدر بياناً أدان فيه زعيم الحركة الشعبية (جون كرنغ) بعدم الالتزام بالقضايا الوطنية ولحق الحزب الشيوعي في نفس السياق كل من حزب الأمة والمؤتمر الشعبي، كما أعلن (الطيب التيجاني) أحد قادة الحزب الشيوعي السوداني والجبهة الوطنية المعارضة أن نقطتي الخلاف الرئيسيتين في محادثات مشاكوس كانتا قضيتي تعيين الحدود بين الأقاليم الشمالية وتلك الجنوبية، وقضية توزيع الثروة ولا سيما الثروة الوطنية، وكلتا النقطتين هما في قلب المعادلة النفطية.
تقسيم الثروة:
لم تكتفِ /الحركة الشعبية/ بالمطالبة بنصيبها من استخراج النفط من المنطقة الجنوبية بل طالبت بضرورة عرض الاتفاقات التفصيلية المبرمة بين الحكومة السودانية والشركات النفطية العالمية، وقد اعتبرت الحكومة السودانية هذا الطلب تمادياً كبيراً من الحركة الشعبية عليها.
فرفضت وبشدة هذا الطلب وبررت الرفض بأنه لا يمكن أن تفرض اتفاقات على أي أطراف غير مندرجة ضمن سلطات البلاد، وبمعنى أوضح لوجهة نظر الحكومة أنه على الحركة الشعبية الانتظار حتى يتم التوصل إلى الاتفاق النهائي ومشاركة الحركة في الحكم حتى يمكنها الحصول على ما تريد في هذا الموضوع، وقد عملت الحكومة السودانية على استغلال النفط المستخرج على الصعيد الإقليمي لتخفيف التأييد للحركة الشعبية في دول الجوار فوضعت عدة اتفاقات منها:
اتفاق مع الحكومة الأثيوبية يتم بموجبه تزويدها بالمنتجات النفطية عبر خط الأنابيب الذي يأتي من معمل التكرير في الخرطوم.
كما أن اتفاقاً مماثلاً يُنتظر مع الحكومة الأرتيرية، وكما يقوم السودان بتزويد /كينيا/ بالبترول بأسعار رخيصة، كذلك تقدمت الحكومة السودانية بفرض مماثل إلى /الحكومة اليوغندية/ وهذا ما يدعو الحكومة السودانية أن تقود عملية واتفاق السلام بقوة.
كما يفتح الطريق أمام الشركات النفطية العالمية الكبرى للبحث والاستكشاف، وهذا يعني رفع مستوى المعيشة للفرد والمجتمع السوداني وزيادة في قدرات الجيش السوداني، وهذا يساعد في التوصل إلى حلّ سلمي مشرف لقضية الجنوب، ودون المساس بهوية السودان الوطنية والمتمثلة بشعبه وأرضه وكذلك تلافي الألغام التي بثتها الولايات الأمريكية لإيقاع السودان في حفرة التجزئة والانقسام.
ما الذي ننتظره من أمريكا؟
قال (جورج بوش) رئيس أكبر دولة استعمارية في العالم بعد اتفاق /مشاكوس/ الأول ما يلي:
«سنتصدى لحفظ كرامة الإنسان وضمان الحريات الدينية في كل مكان في العالم من كوبا إلى الصين إلى جنوب السودان»... إلى جنوب السودان؟!...
وفي العام نفسه قال الآتي: «إنَّ الحريات الدينية هي أكثر ما يتعرَّض للانتهاك في السودان» الحرية الدينية؟!...
إذا تساءلنا ما هو الدين الذي يتعرَّض للإهانة؟ الجواب لا يحتاج إلى تفكير، فطبعاً المقصود هو /دينه/ وخاصة مذهبه المتصهين، هل يستطيع أي رئيس أو زعيم عربي مسلم أن يتفوه بحرف أو بجملة مما قاله الرئيس الأمريكي؟!
منذ بداية التمرد في جنوب السودان، كانت الولايات المتحدة هي الداعم المادي والعسكري والإعلامي لحركات التمرد الجنوبية، ولقد برز دورها إلى الملأ وخاصة بعد ثلاثة أحداث مهمة:
الأول: تفكك الاتحاد السوفييتي والذي أصبح دولاً.
الثاني: سقوط نظام (منغستو هيلا بريام) الماركسي.
الثالث: تخلي الحركة الشعبية والجيش الشعبي عن مشروعها الماركسي عام 1991.
وهنا برز دور الولايات المتحدة وعلى صعيدين:
الصعيد الأول: من خلال المؤسسات والمنظمات الطوعية والخفية كذلك الدعم السري للمتمردين /للحركة وللجيش الشعبي/ وبقية الفصائل الانفصالية والموالية للتوجه الغربي، وهذا الدعم يقدم بسخاء وبمعونة ومعرفة الإدارة الرسمية الأمريكية.
الصعيد الثاني: يتم عبر وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأمريكية، هاتان الوزارتان تقعان تحت تأثير اللوبي الصهيوني واليمين الديني المتصهين «حرب العراق».
بعد كل ما تقدَّم ما الذي ننتظره من الولايات المتحدة؟
الجواب - الذي ننتظره لن يخرج عن صميم إدارتها الاستعمارية، التي قتلت وأبادت الهنود الحمر أصحاب الأرض الحقيقيين؟ إنَّ الولايات المتحدة أسيرة الضغط الصهيوني، وهي لا تستطيع أن تتخلى عن مسؤولياتها في نصرة حركات التمرد التي تحمل سمات مذهبها المتصهين من مورثتها بريطانيا التي خلقت ثم عقدت مشكلة الجنوب.

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 03:13 PM
الفصل الرابع
نهاية النهاية

بعد السرد الموجز لمشكلة جنوب السودان ثم تحليل أبعادها دعونا نقرأ ونحلل التبدل الذي طرأ على /إيجاد/ الحل السلمي الذي منحته حكومة الإنقاذ للمتمردين.
لم يسبق لكافة الحكومات التي تعاقبت على السودان من ديكتاتورية إلى ديمقراطية أنْ أقرت بمبدأ حق تقرير المصير بشأن الجنوب؟!
صحيح أن وضعاً جدياً نشأ وتم الاتفاق عليه بين الطرفين [ الحكومة السودانية والمتمردين ] فهل اختيار حق تقرير المصير هو انفصال الجنوب عن الشمال وقيام دولة جديدة؟
ولابد من قراءة هادئة للنقاط الأساسية لما سمي باتفاق مشاكوس؟ علماً بأن الذي حصل لم يحصل في تاريخ السودان نهائياً...
1 - من القراءة المعمقة لبنود الاتفاقية نرى أنَّ هناك تبايناً كبيراً يصل إلى حد الخلاف حول حدود الجنوب، هل هي حدود عام 1956 الموضحة في الخرائط المتداولة أم هنالك تغير طرأ عليها بظل الاتفاقية الجديدة أو بنتيجة الحرب أو الهجرة المستمرة؟ علماً أنَّ المديريات الجنوبية الثلاث هي:
1 - الاستوائية.
2 - بحر الغزال.
3 - أعالي النيل.
هذه هي المديريات الموضحة في اتفاقية الاستقلال عام 1956 هنا برز الخلاف الذي أثاره قادة التمرد والذين أصروا على إضافة ثلاث مناطق أخرى للاستفتاء على حق تقرير المصير، وهذه المناطق هي:
1 - إيبي - تعتبر منطقة إيبي موطن قبيلة (الدينكا) كما أنَّها كانت مثال التعايش السلمي لكل السودانيين، كما ينتمي إليها السياسي الدكتور (فرانسيس دنيق) وكان والده السلطان (دنيق ماجوك) هو زعيم قبيلة (الدينكا) إلاَّ أنه بعد انهيار اتفاقية أديس أبابا، طالب أهل المنطقة بانضمامهم إلى الجنوب وكان على رأس المطالبين الدكتور (فرانسيس دنيق) ولقد كان من دعاة التعايش السلمي مع كافة قوميات السودان، وكان (دنيق) مقرباً من الرئيس (جعفر النميري).
ومنطقة إيبي لها ظروف خاصة، ومن هذه الظروف موقف البريطانيين الذين خيَّروا هذه القبيلة بين الانضمام إلى مديريات الجنوب الثلاث أو البقاء في الجانب الشمالي، إلاَّ أن أهل المنطقة قد اختاروا البقاء في الجانب الشمالي وكان ذلك على لسان (دنيق مجدك)، وبالرغم من إبداء الرغبة في ذلك قام البريطانيون ومنحوا سكان هذه المنطقة حق إجراء استفتاء شعبي يتم خلال سنوات بعد الاستقلال يقررون فيه البقاء ضمن الإطار الشمالي أو الانضمام إلى المحافظات الجنوبية، ولكن لم يُجرَ الاستفتاء بسبب الإنقلاب الذي قام به الفريق (إبراهيم عبود) عام 1958 حيث تم التوجه السياسي لسودان واحد حينها؟
2 - منطقة جبال النوبة: تقع جبال النوبة في جنوب إقليم /كردفان/ وفيها الكثير من الاضطرابات، ويوجد عدد لا بأس به من أهالي هذه المنطقة منخرطين في صفوف الحركة الشعبية منذ وقت طويل، ومن ثم فإنَّ تكتيك الحركة الشعبية لا يسمح لها بالتخلي عن هؤلاء المقاتلين، وبالإضافة إلى أنَّ أهالي منطقة النوبة من الممكن أن يتراجعوا عن مطالبهم إذا ما تحسنت ظروفهم الحياتية، وتوفرت لهم مطالبهم في التنمية والمساواة.
3 - منطقة جبال الإنقستا: تقع منطقة جبال الإنقستا جنوب ولاية النيل الأزرق وهنالك عدد من مقاتليها في صفوف الحركة الشعبية، وما ينطبق على أهالي منطقة جبال النوبة ينطبق على أهالي جبال الإنقستا.
التوصل إلى تفاهم مسبق:
1 - إنَّ التفاهم الذي تم بين كلٍّ من /الحكومة السودانية/ وبين /الولايات المتحدة/ وسكرتارية مبادرة /الإيجاد/ تم قبل مفاوضات ضاحية مشاكوس التي تمَّ فيها توقيع الاتفاقية، وينص هذا التفاهم على ما يلي:
«تتنازل الحركة الشعبية لتحرير السودان عن مبدأ حق تقرير المصير للجنوب مقابل تنازل الحكومة السودانية عن قوانين الشريعة».
هذا الأمر عدلت عنه الحكومة السودانية، بل زادت تمسكها بقوانين الشريعة ولكنَّها مع ذلك وافقت على مبدأ حق تقرير المصير للجنوب!
بعد هذا صدرت من /مصر/ تحفّظات حادة بشأن حق تقرير المصير للجنوب، فجاء على لسانها: «إنَّ مبدأ حق تقرير المصير يُعتَبر تفريطاً بوحدة السودان لا مبرر لـه، وأنه من الممكن الحفاظ على حقوق الجنوبيين السياسية والدينية والثقافية وكذلك توفير تنمية عادلة لهم وذلك دون اللجوء أو الاضطرار إلى تهديد وحدة السودان، ودون وضع هذه الوحدة تحتَ رحمة التدخلات والمخططات الدولية، الأمر الذي سيؤثر، إنْ تحقق، على تشكيل منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وبالتالي ستكون لـه آثاره الاستراتيجية الخطيرة على أمن البحر الأحمر والأمن القومي المصري.
إنَّ الأجواء المبلبلة التي رافقت إعلان الإتفاق تعود في الأساس إلى أنَّ الاستفتاء في الجنوب سيؤدي إلى الانفصال، ومن الممكن تقدير تداعيات الانفصال بالآتي:
أ - إنَّ الدولة الجنوبية المفترضة وقبل قيامها أي أثناء الفترة الانفصالية موجودة؟ ثم إن المدة - طالت أم قصرت - ستحتفظ بتنظيمها السياسي والعسكري وسوف تكون لحكومة الجنوب صلاحيات واسعة مثل عقد الصفقات التجارية والاقتصادية مع أي دولة خارجية تشاء بما فيها /إسرائيل/ وبذلك تكون قد انفردت بمقومات الدولة الكاملة، وبذلك تكون قد استغنت عن الشمال.
ب - لا يمكن اعتبار الفترة الانتقالية فترة كافية لأنَّ القضية تتعلق بقضايا تاريخية واجتماعية وثقافية لها آثارها العميقة في قلب وضمير الإنسان الشمالي والجنوبي.
جـ – إنَّ الشمال سيقع رهينة في أيدي أبناء الجنوب والقوى الإقليمية والدولية فضلاً عن /إسرائيل/ ولأنَّه لا يتمتع بدعم عربي قوي فعال هذا أولاً، وثانياً: كما ليس لـه أي تأثير على نتائج الاستفتاء، وبالتالي سيكون الخيار الوحيد أمامه هو الرضوخ والاستجابة لكافة الضغوط الإقليمية والدولية وأيضاً العربية؟ وهذا ما دفع الحكومة السودانية إلى انسحابها من المفاوضات في الجولة الثانية وعللّت ذلك بانحياز الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة /الوسطاء/ إلى الحركة الشعبية، وبما في ذلك التغاضي عن تحرّك المتمردين العسكري في الجنوب واستيلائهم على مدينة /توريت/ الاستراتيجية.
كما أنَّ القرار النهائي بيد الولايات المتحدة، وهذا ما يعلمه الجنوبيون والحكومة السودانية، وإنَّ هدفها النهائي هو قيام دولة جنوبية معادية وربما للعرب.
د - الصراعات الجنوبية الحادة: إنَّ منطقة الجنوب مليئة بالصراعات الداخلية الحادة والعنيفة، إضافة إلى وجود قوى تمرد انفصالية شديدة الخطورة ولا يستهان بها وهي التي تدفع الوضع باتجاه الانفصال وقيام دولة جنوبية، وحيث أنَّ الانفصال بنظر المتمرد الجنوبي سيؤدي إلى حدٍّ ما إلى خلق توازن داخلي وجنوبي - جنوبي باعتبار أنَّ قيام دولة جنوبية سيوفر الكثير من المناصب والوزارات والشعارات والتي يمكن من خلالها توزيع الغنائم بما يرضي هذه القبائل المتطاحنة.

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 03:24 PM
الفصل الخامس
الدور العربي

ليس هناك دور عربي فعّال وإيجابي، وإن الموجود على ساحة اللعب هما مصر وليبيا وبقسط متواضع جداً؟!
فمصر تأخذ بالرأي الأمريكي وبما يتفق مع مصالحها، أما بالنسبة
لـ /ليبيا/ فدورها غامض وغير واضح وحسب اتجاه الريح؟!
أما الدول العربية الأخرى فليس لها أي دور إيجابي باستثناء /سورية/ و/العراق/ سابقاً؟
وللأسف أستطيع القول أنني وجدت السلاح العربي في أيدي المتمردين؟! من أين جاء هذا السلاح ومن قدمه لهم من الزعماء العرب؟. أكيد إنهم عرب نعم.. عرب الهوية؟!
إن المباحثات المتعددة التي جرت في /مشاكوس/ وما تبعها من حلول أمريكية صهيونية كنسية هدفها نهاية المشكلة السودانية؟
ومما لا شك فيه مطلقاً أن الحربة الأمريكية الصهيونية قد وصلت إلى نقطة مهمة في عمق القلب العربي ولكن هذه الحربة، والأصح هذه الحرب، هل ستبقى تطعن في أجسادنا؟ لا أريد المضي أكثر من ذلك في كتابي هذا (جنوب السودان وملامح المستقبل)... وقبل أن أختتم كتابي الأول لابد من أن أعرج وأشرح بعض النقاط الأساسية التي اعتبرتها تنازلاً من الحكومة السودانية للمتمردين، هذا الشرح سوف يكون قصيراً ولكن الجزء الثاني من كتابي (جنوب السودان وآفاق المستقبل) سيتكفل بتحليل اتفاق /مشاكوس/ تحليلاً موضوعياً ووافياً:
1 - القبول بإلغاء دستور عام 1998 وإنشاء دستور مركزي جديد.
2 - القبول بفكرة فَصْل الدين عن الدولة بما سيترتب عليها من تشريعات في الدستور الجديد المركزي، وقد تستبعد الشريعة كمصدر رئيسي للتشريع.
3 - تم الاتفاق على أن الشريعة هي أحد مصادر التشريع في حين أنها في دستور 1998 هي مصدر التشريع، ولا يجوز تجاوز التشريع.
4 - قبلت الخرطوم بعقد مؤتمر دستوري، وكانت ترفض ذلك من قبل.
أهم النقاط التي تنازل عنها المتمردون:
/لم يتنازلوا عن شيء ذي أهمية/.
1 - قبل المتمردون بمهلة /6/ سنوات يبدأ بعدها الاستفتاء على فصل الجنوب أو انضمامه للشمال مقابل /4/ سنوات فقط طالبوا بها و/10/ سنوات طالبت بها الحكومة.
2 - حركة التمرد كانت تطالب بحق تقرير مصير جنوب السودان ومناطق أخرى في الشمال مثل النيل الأزرق وجبال النوبة ومنطقة /إيبي/ ولكن الاتفاق نص على حق تقرير المصير للجنوب فقط.
3 - حركة التمرد طالبت بحكومة انتقالية ذات قاعدة عريضة تضم معارضي الخرطوم في /التجمع الوطني الديمقراطي/ ولكن تم رفض ذلك من قبل الحكومة والوسطاء واقتصر الأمر على حكومة انتقالية بدلاً من الحكومة الحالية وحركة التمرد فقط وكانت حركة التمرد تطالب بديمقراطية تعددية حقيقية قبل الاتفاق ولكن تم إسقاط هذا الطلب.
التجمع الديمقراطي وموقفه من اتفاقية مشاكوس:
1 - يتكون التجمع الوطني الديمقراطي من الأحزاب السياسية والنقابات وقيادات القوات النظامية والشخصيات الوطنية المستقلة والفصائل المسلحة التي تخوض حرباً ضد نظام الانقاذ وقد وقعت على ميثاقه في أكتوبر 1989.
ويبلغ عددها /13/ حزباً سياسياً و /56/ نقابة واتحاد.
وتتكون هيئة القيادة للتجمع الوطني الديمقراطي من الفصائل التالية:
1 - الحزب الاتحادي الديمقراطي.
2 - الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان.
3 - تجمع الأحزاب الإفريقية.
4 - الحزب الشيوعي.
5 - الحزب القومي السوداني.
6 - المجلس العام للاتحادات النقابية.
7 - القيادة الشرعية للقوات المسلحة.
8 - مؤتمر البجّا، هذه القومية تريد إقامة دولة لها في شرق السودان؟!.
9 - قوات التحالف السودانية.
10 - التحالف الفيدرالي الديمقراطي.
11 - تنظيم الأسود الحرة.
12 - حزب البعث العربي الاشتراكي.
13 - الشخصيات الوطنية المستقلة.
14 - ممثلو المناطق /المحررة/ الواقعة تحت قبضة المتمردين من جنوبيين وشماليين.
إن أهم ما توصل إليه المجتمعون في /مشاكوس/ يمكن إنجازه في ثلاث نقاط وهي:
الأولى: ترتيبات المرحلة الانتقالية ومدتها /6/ سنوات.
الثانية: العلاقة بين الدين والدولة.
الثالثة: مسألة حق تقرير المصير.
المرحلة الانتقالية:
تم الاتفاق على أن تعطى مدة /6/ سنوات كاملة يتم فيها وقف القتال وكذلك إنشاء حكومة انتقالية فيدرالية وأخرى جنوبية ولائية تكون على غرار بقية ولايات السودان، وإنشاء دستور فيدرالي بهدف دمج الجنوب مع الشمال، على أن يسمح بإجراء استفتاء في نهاية الـ /6/ سنوات للجنوب يقرر مصيره بالبقاء في السودان الموحد أو بالانفصال، أو بشكل من الأشكال من /الكونفيدرالية/ أي: دولتان منفصلتان متفاوتتان في الشؤون الخارجية معاً.
/3/ كيانات؟
قال المتحدث باسم المتمردين (ياسر عرفان):
ستتم إقامة /3/ كيانات سودانية هي:
1 - الشمال.
2 - الجنوب.
3 - الكيان المركزي.
كذلك سيشمل الاستفتاء /3/ بنود هي:
1 - الوحدة.
2 - الحكم الذاتي.
3 - انفصال الجنوب نهائياً عن السودان، تحت اسم إحلال السلام؟
إذا تقرير وتم انفصال الجنوب عن السودان بشكل لا لبس فيه تحت مضمون عبارة /حق تقرير المصير/ إن المعنى الواضح والمقصود من هذه العبارة هو الانفصال، وهذا ما ورد منذ بداية ما سمي بـ /مشكلة جنوب السودان/ التي افتعلتها دول الغرب مدفوعة من قبل مجلس الكنائس العالمي، إن بداية الانفصال قد وقعت، وإمعاناً في تكريسه فقد بحثت ووزعت الثروة وكذلك تقاسم السلطة ودستور الجنوب ودستور الشمال ودستور الحكومة المركزية والحدود الجغرافية بين المحافظات، كل هذه القضايا بحثت وأقرت من أجل ولادة الكيان الجديد عندما تنتهي الـ /6/ سنوات إن لم يكن قبل، حيث أن المفاجآت القادمة عديدة وكما يقال بأن المرأة (حبلى) وفي الأيام الأخيرة لولادتها؟
وبهذا الخصوص قال الكاتب الأمريكي (جيرالد نيكسون) في كتابه /نصر بلا حرب/ الآتي:
إن الكبرياء الحقيقي لا يأتي من تفادي النزاع بل أن نكون في معمعته، نحارب من أجل مبادئنا ومصالحنا وأصدقائنا ويميل الأمريكيون إلى الاعتقاد بأن الصراع شيء غير طبيعي وأن الشعوب في كل الأمم متماثلة في الأساس وإن الخلافات ترجع إلى سوء الفهم وإن السلام الدائم والكامل هو هدف يمكن بلوغه لكن التاريخ يدحض هذه المقولة، ذلك أن كل أمة تختلف عن الأخرى في جوانب سياسية /ما زال الكلام (لنيكسون) التقاليد السياسية والتجربة التاريخية والأيديولوجية المحركة وهي الجوانب التي تتولد منها المنازعات عادة، إن المصالح المتعارضة، وحقيقة أننا نفهم بعضنا البعض هذا الفهم يؤدي إلى المنازعات وإلى الحروب في نهاية المطاف، لكن السلام الكامل، أي وجود عالم بغير منازعات هو مجرد وهم، مثل هذا السلام لم يوجد ولن يوجد في يوم من الأيام.
ما هو السلام برأي قادة السلام والديمقراطية؟
هل السلام هو عملية اقتلاع شعب من أرضه ووضع آخر بدلاً عنه؟
هذا أولاً أما ثانياً فهو:
إن ترويج السلام وخاصة /السلام الأمريكي/ يعني إدخال الشعب الذي يُطرح عليه في حالة تحذير تام، وعندما نجد الشعب، يمزق، ويتفتت هذا يعني نهايته، وهذا ما يفعله الغرب في العراق وأفغانستان: يمزق يفتت - يسيطر - ينهب... ثم ينتهي وهذا ما عناه السيد الكاتب (نيكسون) بالسلام للشعوب. السلام هو البنج أما ما بعد المخدر فهو الموت السريري وما اتفاق /مشاكوس/ إلا التفاحة المدهونة بالعسل أما تحته فهو السم الزعاف.
إن مجلس الكنائس العالمي وابنه مجلس الكنائس الإفريقي ورأس حربتهم أمريكا وبريطانيا وبعض حكام الأنظمة العربية هم سبب هدر الدماء السودانية العربية والمسلمة.
إن كل ما يقال عن وقف القتال والعودة إلى الوحدة الوطنية ثم خلق اتحاد فيدرالي أو كونفيدرالي ليس لهذا الكلام أي معنى بل هو خداع والمتبع لسير الأحداث، يعلم أن هذا الكلام المعسول ليس إلا تضليلاً للشعب السوداني.
إن الكارثة التي ستضرب السودان أصبحت وشيكة الوقوع وذلك بفصل جنوبه عن شماله ثم يأتي دور بقية الأقاليم الغرب ـ الشرق ـ الشمال؟!

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 03:28 PM
السلام أو تقرير المصير وقفة لا بد منها:

قال الرئيس اليوغندي (يوري موسفيني) عن تنظيم قوة حزب الربّ اليوغندي الآتي:
اعتدنا محاربة (كوين)( ) بقوة واحدة حاربنا مشياً على الأقدام، ولكننا الآن نمتلك قوات متعددة لمحاربة (كوين) وإذا أعطاني الرئيس البشير الإذن لملاحقة (كوين) وراء الخط الأحمر فسيكلفني ذلك ثلاثين دقيقة فقط للقضاء على (كوين) وقواته، وتابع (موسفيني) الأب الروحي للكنيسة الأفريقية قائلاً: إن موقفنا حول كوين لم يتغير أبداً، فقد حاربنا من قبل (عيدي أمين)( ) و(ميلتون أيوني)( ) سابقاً وسحقناهم وسنأخذ (كوين) وسيدفع ثمن كل جرائمه.
من هو (كوين) الذي سيدفعه (موسفيني) ثمن كل جرائمه؟ وهل ارتكب (كوين) جرائم كثيرة ليدفع ثمنها؟ الجواب عن هذا يكون بالآتي:
- إنه القس (جوزيف كوين) وهو من قبيلة (الأشولي) المتواجدة في كل من يوغندة والسودان ويرأس جيشاً عرمرماً يسمى /جيش الرب/؟
ويدعي القس (كوين) أن روح القدس قد انتقلت إليه من سيدة يوغندية توفيت، وكانت هذه السيدة قد أدعت النبوة وهي من قبيلة (الأشولي) أيضاً.
أما جيش الرب الذي تزعمه (كوين) فإن مبادئه الحربية أمر صادر من الرب، وإن هذا الأمر لا يلغيه الرب إلا بسقوط نظام الرئيس (يوري موسفيني) أو بإفناء قبيلته (الأشولي) بأكملها؟
وتشير الإحصائيات أن جيش الرب يضم مئتي ألف مقاتل (رقم مبالغ فيه كثيراً) وأن الخسائر التي ألحقها بيوغندة تتجاوز الثمانين مليار دولار (مبالغ به) وعلى مدى عشرين عاماً، أي منذ إنشائه؟ وللأسف أن السودان الرسمي يحتضن (موسفيني) و (كوين) اعتقاداً منه أنه سيستخدمهما في الوقت المناسب، والحقيقة غير ذلك؟!..
(موسفيني) يساعد الانفصاليين الجنوبيين... والثمن؟
(موسفيني) ساعد المتمردين الجنوبيين وقدم لهم الكثير الكثير وعلى رأس هؤلاء المتمردين الحركة الشعبية لتحرير السودان (كرنغ) والآن يريد (موسفيني) الثمن وهو أن تحارب الحركة الشعبية معه جيش الرب وذلك عبر سلطتها وجيشها الذي أدخله إلى أرضه يوغندة لحمايتهم؟ كذلك يريد من قادة /الحركة الشعبية/ حث حكومة الخرطوم والتي أعطت موافقتها لجيشه، قبل أن يلاحق ويقتل جنود جيش الرب، يريد منها أن تمتد المساحات المسموح للجيش اليوغندي بدخولها لتشمل المدن الجنوبية التي يتواجد فيها أعضاء جيش الرب، هذا ما يريده (موسفيني) وقد استدعى (موسفيني) صديقه (جون كرنغ) وطلب منه الاستحقاق وقال لـه (كرنغ) أي (لموسفيني):
- إن طلبك أيها الصديق العزيز لا يتماشى مع الأعراف والنظم الدولية ولا أستطيع أن ألبيه لك في الوقت الحاضر...
- هل نسيت يا (جون) حمايتي لك ولجيشك؟!
- لا، لم أنسَ ولكن... أيها الرفيق (موسفيني).
- ولكن ماذا؟ ردّ موسفيني صارخاً بوجه (كرنغ).
- أريد موافقتهم؟ قال (كرنغ).
- من هم؟
- أنت تعرفهم - وكرنغ
- لا، أفصح أكثر: قال (موسفيني).
- مجلس الكنائس الإفريقي /آباؤنا/.
- ما بهم؟ ألا تعلم أنني أصبحت الأب والموجه لهم الآن.
- نعم أعرف ولكن أريد الإذن منهم.
- حسناً لا بأس، سوف يأتيك الرد قريباً وجداً؟
- بعدها بأيام - قتل (جون كرنغ) بطائرة الرئيس الخاصة (يوري موسفيني).
لقد صدق الرئيس (موسفيني) عندما قال (لكرنغ) إن الرد سيأتيك فوراً؟؟!!
نعم لقد جاء الرد لكرنغ وهو قتله من قبل الأب الروحي لمجلس الكنائس الإفريقي (يوري موسفيني).
قال (جون كرنغ) قبل موته بأيام عندما سئل عن قوات جيش الرب الآتي:
- إن مسألة جيش الرب واحدة من أولويات حكومة الجنوب؟
- أي أنه حاول أن يزيح عن كاهله مسؤولية تواجد جيش الرب في الجنوب السوداني أما (سلفاكير) الذي خلف (كرنغ) فقد سئل نفس السؤال الذي أودى بحياة (كرنغ) ألا أن أجابته كانت الآتي:
أ - التفاهم مع النظام اليوغندي والوصول إلى سلام شامل.
ب - على جيش الرب أن يخرج من جنوب السودان ويبحث لـه عن مكان آخر؟ وهذا الجواب هو الذي يريده من قتل (جون كرنغ).
ت - تتولى الحركة الشعبية لتحرير السودان إخراج جيش الرب من الجنوب بالقوة /الجواب هو الذي سيضمن حياة سلفاكير لأنه يتوافق مع طلب الأب الروحي لكنائس عموم أفريقيا ورئيس يوغندة (يوري موسفيني).
ثلاث نقاط طرحت للوصول إلى حل، النقطة الأولى مرفوضة من الطرفين،
والنقطة الثانية، وهي خروج قوات جيش الرب من الجنوب، مستحيلة ولا يمكن تحقيقها لأن قبيلة (الأشولي) موزعة بين السودان ويوغندة وهي تمثل العمود الفقري لجيش الرب... أما النقطة الثالثة، وهي إخراج جيش الرب بالقوة من الجنوب، فهذا يعيد إشعال الحرب بالجنوب من جديد كما أنه يوقف عملية السلام/ في الجنوب، بل الأصح هو إدخال السودان كله في حرب جديدة وخاصة أن هناك حركات تمرد ظهرت على الساحة السودانية بعد أن خبت طويلاً وهي /دارفور/ و/شرق السودان/.
مشكلة الجنوب مشكلة شائكة، بل مجموعة من المشاكل، فما هو الطريق الصحيح الذي يجب اتباعه لحلها؟!...
الجواب يكمن في جملة واحدة:
العدالة والحرية لكافة أبنائه.
إن الغيوم والسحب السوداء المشحونة بالعواصف المؤذية تتكاثر فوق سوداننا الحبيب....
وما نشاهده ونسمعه ونعيشه ليس إلا النذير المشؤوم القادم... فما الذي نتوقعه بعد الآن؟!..
إنّ لقاء أرملة المتمرد الراحل (كرنغ) [ ريبيكا كرنغ ] مع الرئيس الأمريكي (بوش) هو الدليل الواضح والكافي لتحقيق قيام الدولة الجنوبية؟!.
أين نحن من هذا؟!...

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 03:30 PM
انتهى الجزء الأول من [ جنوب السودان وآفاق المستقبل]
وسوف يليه الجزء الثاني عما قريب بإذن الله
أحمد أبو سعدة

آداب عبد الهادي
12/03/2008, 03:36 PM
تم بعون الله نشر كامل كتاب جنوب السودان وآفاق المستقبل للكاتب الباحث في الشؤون الإفريقية الاستاذ أحمد أبو سعدة.

أرجو المعذرة من السادة القراء لجعل الموضوع مغلقاً والسبب في ذلك هو المحافظة على تسلسل عرض الكتاب وترابط المشاركات وعدم التشتت في عرضها حرصاً على قراءتها بسكل أدق وأسرع.
ولذا سنفتح صفحة أخرى لمناقشة الكتاب مع الكاتب.
أخيراً أتقدم بالشكر بالجزيل للأخ العزيز الاستاذ معتصم الحارث الضوي لكلماته التشجيعية ومتابعته