أسماء حسن محمد
14/01/2008, 04:44 PM
فاكهة جدتي
ولدت في بيت صغير تحيط به أشجار الفاكهة المثمرة من كل جانب بالإضافة إلى مزيج من الأشجار العطرية المختلفة ذات الرائحة الزكية الفواحة التي يملأ عبقها المكان.
دأب والدي أن يجول بي في كل يوم من شجرة إلى شجرة، فتارة نجلس تحت دالية العنب بقطوفها الدانية وحباتها الناضجة المتناثرة تحتها.. وتارة يرفعني عالياً على كتفيه لأتلمس ثمار المشمش الطرية براحة يدي الصغيرتين، وفي بعض الأحيان كنا نستظل بفيء أشجار البرتقال الزاهي بلون الشمس؛ لقد كان بستاناً غنياً بأنواع الفاكهة، وكنت أشتهي أن أقطف عن كل شجرة حبة.
وفي يوم ما مرت فوق رؤوسنا غمامة رمادية فتبخر بستان الفاكهة وكأنه نسمة، تبدلت الأحوال وانتقلنا من بيتنا الريفي الصغير إلى منزل تحيط به الشوارع المعبدة بالأسفلت من جميع جوانبه، وتحجب الهواء من حوله العمارات الشاهقة، وفي الجهة المقابلة تكثر محلات بيع الفاكهة، والفطائر، والأطعمة السريعة.
بالنسبة لي كنت أشعر أن المدينة مسورة ومقسمة إلى أقفاص صغيرة.
مرت الأيام وتتابعت السنون، ولم أعد أرى الفاكهة إلا في المحلات والدكاكين.
وفي يوم ما أطل علينا والدي محملاً بصناديق الفاكهة المختلفة، كانت فرحتي كبيرة فأقبلت مسرعة أساعده في حملها إلى حجرة جدتي، كانت عائلتنا تتكون من أعمامي وزوجاتهم وأبنائهم، وكان والدي هو المعيل للأسرة كلها, ولذلك كانت جدتي تحرص على تقسيم الطعام بحصص متساوية تفادياً للخلافات التي قد تحدث وخصوصاً من زوجات أعمامي.
في ذلك اليوم لم أتمالك نفسي، فما إن خلوت بجدتي حتى طلبت منها أن تعطيني من كل ثمرة حبة، ففوجئت بها ترفض، وتنهرني بشدة قائلة: إن النفس لأمارة بالسوء، فأدبيها! تملكتني الحيرة فيما تعني، ولا ألام، فقد كنت في الثامنة، تابعت جدتي: إن لم تقوي عليها الآن فلن تستطيعي كبحها أبدا! عليك بالصبر بنيتي.
كان كلامها كما الطلاسم بالنسبة لي، فلم أفقه شيئا مما قالت، تراجعت قليلاً إلى الوراء، وجلست أفكر في كلماتها بحثاً عن معانيها؛ الصبر! ما الصبر؟! أؤدب نفسي؟ النفس أمارة بالسوء؟ سلسلة متلاحقة من الأفكار دبت في رأسي.
اقتربت جدتي مني قائلة:
الصبر يا ابنتي؛ انظري هذه هي متع الدنيا، فان أقبلت عليها، وتاقت نفسك إلى ملذاتها، واستسلمت لهوى نفسك، فلن تستطيعي لجمها، وستسوقك وتأمرك بما تشتهي وترغب.
أمعنت التفكير ملياً في ما قالت، وقررت في قرارة نفسي أن أتحمل وأصبر. كان الاختبار شاقاً، ولكن كان لابد من خوضه لأفقه كلام جدتي!
صارعتني نفسي كثيرًا، وحدثتني أن أختلس من هذه الفاكهة ما أريد دون أن تشعر جدتي، الا أنني آثرت الاستمرار في الصبر.
وبعد لحظات نادتني والدتي خلسة، ذهبت إليها، فإذا بها تقدم لي صحناً مليئاً بالفاكهة قائلة: رأيتك تنظرين إلى الفاكهة، ورأيت أن جدتك لم تعطك شيئا منها، فعرفت أنها تمنعك، فأحضرت لك هذا الصحن وفيه ما تشتهيه نفسك من كل الأصناف.
إلا أنني، وبسرعة، ودونما تردد، رفضت صحن الفاكهة الذي قدمته لي أمي.
لأنني فهمت عندئذٍ ما كانت تعنيه جدتي!
رحمك الله يا جدة، لقد قدمت لي فاكهة أجمل وأبهى وأبلغ؛ فاكهة لا يستطيع أحد أن يمنعني عنها.
ولدت في بيت صغير تحيط به أشجار الفاكهة المثمرة من كل جانب بالإضافة إلى مزيج من الأشجار العطرية المختلفة ذات الرائحة الزكية الفواحة التي يملأ عبقها المكان.
دأب والدي أن يجول بي في كل يوم من شجرة إلى شجرة، فتارة نجلس تحت دالية العنب بقطوفها الدانية وحباتها الناضجة المتناثرة تحتها.. وتارة يرفعني عالياً على كتفيه لأتلمس ثمار المشمش الطرية براحة يدي الصغيرتين، وفي بعض الأحيان كنا نستظل بفيء أشجار البرتقال الزاهي بلون الشمس؛ لقد كان بستاناً غنياً بأنواع الفاكهة، وكنت أشتهي أن أقطف عن كل شجرة حبة.
وفي يوم ما مرت فوق رؤوسنا غمامة رمادية فتبخر بستان الفاكهة وكأنه نسمة، تبدلت الأحوال وانتقلنا من بيتنا الريفي الصغير إلى منزل تحيط به الشوارع المعبدة بالأسفلت من جميع جوانبه، وتحجب الهواء من حوله العمارات الشاهقة، وفي الجهة المقابلة تكثر محلات بيع الفاكهة، والفطائر، والأطعمة السريعة.
بالنسبة لي كنت أشعر أن المدينة مسورة ومقسمة إلى أقفاص صغيرة.
مرت الأيام وتتابعت السنون، ولم أعد أرى الفاكهة إلا في المحلات والدكاكين.
وفي يوم ما أطل علينا والدي محملاً بصناديق الفاكهة المختلفة، كانت فرحتي كبيرة فأقبلت مسرعة أساعده في حملها إلى حجرة جدتي، كانت عائلتنا تتكون من أعمامي وزوجاتهم وأبنائهم، وكان والدي هو المعيل للأسرة كلها, ولذلك كانت جدتي تحرص على تقسيم الطعام بحصص متساوية تفادياً للخلافات التي قد تحدث وخصوصاً من زوجات أعمامي.
في ذلك اليوم لم أتمالك نفسي، فما إن خلوت بجدتي حتى طلبت منها أن تعطيني من كل ثمرة حبة، ففوجئت بها ترفض، وتنهرني بشدة قائلة: إن النفس لأمارة بالسوء، فأدبيها! تملكتني الحيرة فيما تعني، ولا ألام، فقد كنت في الثامنة، تابعت جدتي: إن لم تقوي عليها الآن فلن تستطيعي كبحها أبدا! عليك بالصبر بنيتي.
كان كلامها كما الطلاسم بالنسبة لي، فلم أفقه شيئا مما قالت، تراجعت قليلاً إلى الوراء، وجلست أفكر في كلماتها بحثاً عن معانيها؛ الصبر! ما الصبر؟! أؤدب نفسي؟ النفس أمارة بالسوء؟ سلسلة متلاحقة من الأفكار دبت في رأسي.
اقتربت جدتي مني قائلة:
الصبر يا ابنتي؛ انظري هذه هي متع الدنيا، فان أقبلت عليها، وتاقت نفسك إلى ملذاتها، واستسلمت لهوى نفسك، فلن تستطيعي لجمها، وستسوقك وتأمرك بما تشتهي وترغب.
أمعنت التفكير ملياً في ما قالت، وقررت في قرارة نفسي أن أتحمل وأصبر. كان الاختبار شاقاً، ولكن كان لابد من خوضه لأفقه كلام جدتي!
صارعتني نفسي كثيرًا، وحدثتني أن أختلس من هذه الفاكهة ما أريد دون أن تشعر جدتي، الا أنني آثرت الاستمرار في الصبر.
وبعد لحظات نادتني والدتي خلسة، ذهبت إليها، فإذا بها تقدم لي صحناً مليئاً بالفاكهة قائلة: رأيتك تنظرين إلى الفاكهة، ورأيت أن جدتك لم تعطك شيئا منها، فعرفت أنها تمنعك، فأحضرت لك هذا الصحن وفيه ما تشتهيه نفسك من كل الأصناف.
إلا أنني، وبسرعة، ودونما تردد، رفضت صحن الفاكهة الذي قدمته لي أمي.
لأنني فهمت عندئذٍ ما كانت تعنيه جدتي!
رحمك الله يا جدة، لقد قدمت لي فاكهة أجمل وأبهى وأبلغ؛ فاكهة لا يستطيع أحد أن يمنعني عنها.