المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القبلة الباردة!



الدكتور أسعد الدندشلي
16/01/2008, 11:52 AM
القبلة الباردة!؟

- ما بك يا صاح أراك اليوم ليس على ما يرام!؟
لم يسمع "نجيب" جواباً على سؤاله، فرفع صوته ثانية
- "ماهر" إني أسألك ما بالك يا رجل!؟
- منذ مدة وأنت تجلس معنا وكأنك لست هنا!؟
فقال "مايكل" ممازحاً:
- أعتقد أنه يعيش حالة عاطفية جديدة!
فضحك "نجيب" فيما ابتسم "ماهر" ابتسامة صغيرة سرعان ما اختفت عن محياه وهو يرد عليهما ببرودة.
- لا شيء! لقد انطلق بي فكري بعيداً بعض الشيء...
- إلى أين؟ لا تقل إلى "لبنان" فمنذ ثلاثة أشهر عدت يا رجل، ولا أعتقد أنك اشتقت إليه!
عاد صاحبه "مايكل" للكلام.
- ألا ترى معي، أنه منذ عودته من هناك بأسبوع بدا عليه الوجوم، فلم يعد "ماهر" كما نعرفه قبل السفر! قل كلامه وانحسرت طرفه الرائعة، واختزل ضحكاته، وقهقهاته الطويلة إلى ابتسامة مصطنعة، لا بدّ وأن صاحبنا يعاني من أمر ما، لا يحب أن يطلعنا عليه! بل لعل صداقتنا ومجالسنا لم تعد ترق له!
نظر "ماهر" محدقاً للحظات بوجه كل من صاحبيه وقال:
- لا تسيئا فهمي! إني اجتاز مرحلة نفسية مضطربة بعض الشيء على ما يبدو! وليس في الأمر أكثر من ذلك!؟
- وهل هذا الذي أنت ما فيه، ألا يقلقنا برأيك!؟
- أجل ولكن ليس لدي أي وضوح أزاء مسألة محددة لأحدثكم بها! فأنا نفسي لا أعرف حقيقة هذا الاكتئاب والاحباط الذي أعيشه! وعندما أدرك السبب... سأكاشفكما بالأمر.
- إذن سننتظر! ونأمل ألاّ يطول ذلك لمدة طويلة، نريد أن نسترجع صديقنا الحقيقي الكامن في داخلك يا رجل!
قال "مايكل" ذلك فيما بدا الارتياب واضحاً على وجه "نجيب" فهو مقتنع بأن "ماهر" يعاني من أزمة ما، لا يجب أن يفصح عنها في الوقت الراهن، ففضل السكوت على مضض على الرغم من شعوره بالقلق لحالة صاحبه.
عندما ودعهما "ماهر" ومضى خارجاً، استعرض صاحباه وضعه، فهما يعرفان كل شيء عنه تقريباُ، فوضعه المالي جيد وكذلك أعماله التجارية فهي مزدهرة، فالمسألة إذن ليست مالية ولا مهنية، كما واستبعدا أن تكون عائلية فزوجة صاحبهما "سعاد" من أفضل النساء والزوجات فهي تسهر على رعايته كما يعرفان، وكما يصف هو نفسه حياته معها، وفجأة لمعت برأسهما فكرة شيطانية، لعل صاحبهما في حالة عاطفية جديدة حقاً ! فهما يلمان بما لديه من حظوة لدى النساء، لكنهما عادا عن فكرتهما تلك بعد نقاش، فهو يحب "سعاد" زوجته ولا يعقل أن يقدم على مثل هذا العمل المشين برأيه، ولما أعياهما الوصول إلى سبب مقنع عن حالته، قررا مساعدة صاحبهما ما أمكن، حتى يخلصاه من صمته وشروده المذهلين.
كان الوقت مساءً عندما جلس "ماهر" وحيداً في البيت متخذاً كرسي طاولة الطعام مكاناً له، واضعاً أمامه بعض الملفات والإيصالات لمراجعتها، فيما كانت زوجته خارج البيت فانصرف عن ملفاته وأوراقه، إلى ظنونه السوداء، مستسلماً لشكوكه وريبته يحرق سجائره بنهم، يجرع قهوته بعصبية لم تعد "سعاد" تلك الزوجة التي أعرفها! أطبقت عليه أفكاره تسحبه بعنف، تنشب أظافرها في دماغه وقلبه، لقد صارت تلك الأفكار تمزق أضلعه في النهار، وتؤرقه في الليل... مذ أن عاد من لبنان، لم تبرح مخيلته تلك الصورالتي تلح عليه متكرره، ضاغطة على أعصابه..."سعاد" يوم وصوله من السفر بعد غيابه عنها لمدة شهرين واستقبالها له بفتور، حتى أنه ما يزال يشعر بشفتيها المثلجتين اليابستين وهي تطبع على خديه تلك القبلتين الباردتين! وكيف كان حالها وهو يفتح حقائبه يخرج منها ما جلبه معه من عطور فرنسية فتستلمها منه، لتضعها على الكرسي المجاور لها، دون أن تنبث بأي حرف، أو أن تبدي أي أهتمام كعادتها، فرحة بعطورها المفضلة، فنظراتها اللامبالية عالقة على أهداب عينيه فكلما رفع جفنا وأطبقه عادت تلك النظرات إلى ذاكرته، ومن ثم ضجرها وهو يخرج علب الحلوى وبعض الثياب التي خصها بها، وكيف تناولت من يده تلك الأشياء ... صور تتداعى تلهب مشاعره غيظاً، واستياء كلما عاد بذاكرته إلى ذاك اليوم ويلح عليها ثانية وثالثة ومراراً... ثم تلك الليلة الأولى لوصوله التي اندفع فيها إلى "سعاد" وهما على السرير في غرفة نومهما، ليكتشف أنها لم تقم بتنظيف أسنانها! بل ولم تضع حتى ولو شيئاً بسيطاً مما كانت تفعله من زينتها، وكيف أنها اختارت تلك الليلة واحداً من "قمصان نومها" العديدة الأكثر سماكة والأشد قتامة من الألوان، ولما امتدت يده لتحلّ الأزرار الأمامية لذلك الثوب اللعين، أحس بالتواء رقبتها إلى حيث لا ترى وجهه، ولا تقع عيناه على عينيها، متنهدة دون أية كلمة، فبقي طيلة تلك الليلة، يحس بجسدها الهامد بل ظن نفسه للوهلة الأولى أنه يقدم على اغتصاب جثة ميتة برد الدم في عروقها منذ فترة! فتركها يومها مبرراً حالتها تلك بأسباب لم يقتنع بأي واحد منها، لكن ظنونه استمرت تستعر لاحقا، فالأسباب التي ناقشها مع نفسه ارتدت لتتأجج في داخله تأكل منه قطعاً حية من لحمه، وزاد في حيرته أنها أضحت تقتصر على التبرج الكامل كل صباح، عندما تتوجه إلى عملها، ساكبة العطور بغزارة على رقبتها وبين ثدييها وعلى أجزاء أخرى من جسدها ... رآها تفعل ذلك مراراً وهو يسترق النظر إليها خلسة في حين بالكاد تغسل وجهها أو تصلح من حال هندامها وشعرها عندما تكون جالسة في البيت، على غير العادة قبل مغادرته إلى لبنان، فأثارت حالتها تلك عشرات الأسئلة ليس أولها السبب عن سر اغتباطها وانشراح صدرها، وانبساط أساريرها عندما تغادر البيت إلى عملها، وليس آخرها كثرة تردادها على بيت قريبها "سامر" وهذا ما لم تكن عليه أيضا في السابق...
حين عادت تلك الليلة دخلت البيت فحيته بكلمات قليلة ثم لاذت بالصمت، وعندما حاول مكاشفتها بالأمر عن حالها، انتفضت ثائرة فاقدة أعصابها، توزع اتهاماتها في اتجاهات عدة، لا رابط بين واحدة وأخرى، فالمهم أن تصرخ وتصرخ... حتى يسكت ويكف عن أسئلته، ولتلزمه على إنهاء الحوار لأنها تعرف أنه يكره الصياح .... فتوقف ، ثم حاول أن يستغل الليل قبيل نومهما عساه يعيد لهما دفء حياتهما السابقة، وهذا ماكان قد عكف على ممارسته منذ عودته من سفره الأخير، آملا أن يتمكن من إخراجها مما صارت عليه، فكان يقترب منها يحادثها يداعبها برفق وحب، فكانت تستجيب تارة، ولكنها تعود إلى حنقها تارة أخرى، مع الوقت تمادت في هياجها تجهر بعبارات الكره والنفور، حزّ في نفسه ان يرى الهوة تتسع ولا يقوى على ردمها، وهي تكابر وتدعي بأنها ما تزال هي هي! وأن كل ما يحس به ويراه فيها من تغيير هما من صنع مخيلته!
تحول فراشهما الزوجي إلى ضفتي مشاعر وأحاسيس متناقضة متنافرة، ولم تنجح محاولات تقربه منها حيناً والإبتعاد عنها حيناً آخر، فهو يدور بنفسه في حلقة سوداء قاتمة! وراودته نفسه أن يناقش الأمر مع صاحبيه "نجيب" و"مايكل" لكنه لم يستسغ ذلك فأحجم، وبقي طاوياً مشكلته في داخله، تجتاحه الظنون تفتت قواه النفسية وتربكه إلى أن تملك منه القلق وصارهاجسه...
وفيما كان في واحدة من خواطره في مساء اليوم التالي حيث كان يجلس وحيدا وقد تأخرت كعادتها عن العودة إلى البيت، ألحت عليه خاطرة وردت إلى ذهنه واستوقفته مطولا في أن يناقش معاناته هذه مع قريبها "سامر" وزوجته "مريم" فـ "سعاد" ترتاح لهما كثيراً، فربما يتمكنا من التأثير عليها وأن ينصحاها...
لكنه عاد ونبذ تلك الخاطرة فـ "سامر" هذا ثرثار ولا يجيد سوى الهرطقة والأحاديث التافهة، أما "مريم" زوجته فعلى طيبتها أعتقد أنها لا تقوى على معالجة الأمر! فهي ليست أكثر من مستمعة لا رأي لها! وفيما كان يقلب الأفكار برأسه، حائراً مضطرباً مشوش النفس والعقل في آن، أحسّ فجأة بأن نارا تشتعل في قلبه، وهو يستعيد ما سبق وجرى في اللقاء الذي جمعه و"سعاد وسامر ومريم" على طاولة المطعم منذ أسبوع، فقد استوقفته ذاكرته أمام تلك الصورة التي لمح فيها يومها زوجته "سعاد" وقد استرخت يدها على فخذ "سامر" تحت طرف الغطاء الطويل المتدلي من الطاولة، وكان قد رأى ذلك عندما سحب غطاء الطاولة إلى الأعلى صدفة، وكيف أن زوجته سارعت ورفعت يدها عندما شعرت أن نظراته وقعت على وضعيتها تلك وللحظات سريعة جدا، أخذت الصور تتزاحم في رأسه تتدافع بقوة، تعصف به فشعر أن جسده يتعرض لموجات كهربائية تصعقه على دفعات متتالية! أدرك للتو أنه لم يعد يقوى يسيطر على نفسه، ولا على عقله، ولم يعد يملك أدنى سلطة أو رقابة عليه، فراحت الوساوس تنهب به من كل جهة، تركب وتمزج الحوادث المتفرقة في صور متتالية... ألم يرى "سامر" مراراً قرب البيت عندما يكون مجتازاً هذه الطريق في عمله إلى المصرف أو عائدا من عند التجار، ألم تخبره أن "سامر" أوصلها إلى البيت مرات وهي عائدة من العمل، ثم أنه كيف... كيف!!
ألم تقل له أن "سامر" أصلح في غيابه جهاز التلفزيون والبراد... وأنه اشترى لها مكواة بعد أن تعطلت تلك أثناء وجوده في لبنان!!
ثم سكن هادئاً يحس بثقل الدم المتراكم في عروقه، فهو يكاد يفقد وعيه، فسكب ما تبقى في كأس الماء في حلقه يتمتم: هل يعقل أن يكون ما أفكر فيه صحيحاً!؟ أم أن ما وصلت إليه وما رأته عيني ونحن على تلك الطاولة مجرد ظنون وشكوك نتيجة كوني مرهقاً وتعباً من كثرة ما أفكر بتلك المرأة اللعينة!!؟ ولكن لماذا الآن كل تلك المسائل تتلاقى وهي التي عرف بها ولم تثره في حينها؟!
انتبه لنفسه وهو يصيح عالياً:
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، استغفر الله العلي العظيم!!"
شكر الله أن زوجته لم تعد بعد إلى البيت وتراه على حالته، على الرغم من العتمة حلت منذ أكثر من ساعة ونصف، ووجد في نفسه رغبة لأن يمشي فخرج من البيت منطلقا في الشارع يتنقل أمام واجهات المحلات في "بروكلين" ينقل خطاه من ضفة إلى أخرى، ثم أوقف سيارة تاكسي، فطلب من سائقها أن يمضي به إلى "منهاتن" فأمضى هناك وقتا تناول خلاله سندويشا، وهو يتابع مشيته الهادئة على الأرصفة في ظل تلك الأبنية الشامخة المتلئلئة بأنوارها محاولاً طرد تلك الأفكار التي باتت تسكن جسده كما الوجع، لا يقوى على التخلص منها، وشيئا فشيئا أضناه المسير فهبط السلم ببطء شديد ثم صعد إلى مقصورة "السابوي" عائدا إلى بيته...
لم تكن "سعاد" قد عادت فلم يقلق لذلك، فهي حتما في منزل قريبها "سامر" فشرع ينفث سيجارته بهدوء، لكن مرور الوقت ونشرة أخبار منتصف الليل، نبهته إلى غياب "سعاد" الطويل فأجرى اتصالاً هاتفيا فجاءه صوت "مريم" زوجة "سامر" تقول له بصوت جلي وبنبرة هادئة:
- تسأل عن "سعاد"... أم عن زوجي "سامر"!
فلم يرد عليها بأي حرف بل بقي يصغي لها وهي تتابع كلامها فيما نبرتها بدأت تعلو قليلا:
- لن تراهما بعد اليوم لقد وجدتهما عاريين في غرفة نومي بعد أن أوهمت زوجي أني سأمضي النهار بكامله عند أهلي في "نيوجرسي" لقد سقطا في الفخ الذي نصبته لهما...
ثم سكتت قليلا قبل أن تتابع قولها:
- لقد أمضيا وقتاً طويلاً في فراشك أيضاً لما كنت حضرتك مسافراً!...
علت شفتيه ابتسامة صغيرة باهتة وتابع من جديد يصغي لمريم وقد سمع تنهيدتها العميقة تسبق عودتها للحديث:
- بصقت في وجهيهما بشدة! لا أعتقد أننا سنراهما مجدداً في كل انحاء "نيويورك"....
أعاد سماعة الهاتف! إلى مكانها يهز رأسه، لم تفارق شفتيه تلك البسمة الغريبة فنظر في الغرفة ثم همس:
- يا لك من "مريم" ! كم كنت تبدين بسيطة وهادئة! ولكن كم كنتِ ذكية لأن تفعلي كل ذلك!!...
شعر أن قلقه ومن ثم تعبه تلاشيا وانحسرا من جسمه في لحظة واحدة، فتمدد على الصوفة في غرفة الصالون ليستسلم لنوم عميق لم يعرف طعمه منذ قرابة الثلاثة أشهر الماضية...

الدكتور أسعد الدندشلي
16/01/2008, 11:52 AM
القبلة الباردة!؟

- ما بك يا صاح أراك اليوم ليس على ما يرام!؟
لم يسمع "نجيب" جواباً على سؤاله، فرفع صوته ثانية
- "ماهر" إني أسألك ما بالك يا رجل!؟
- منذ مدة وأنت تجلس معنا وكأنك لست هنا!؟
فقال "مايكل" ممازحاً:
- أعتقد أنه يعيش حالة عاطفية جديدة!
فضحك "نجيب" فيما ابتسم "ماهر" ابتسامة صغيرة سرعان ما اختفت عن محياه وهو يرد عليهما ببرودة.
- لا شيء! لقد انطلق بي فكري بعيداً بعض الشيء...
- إلى أين؟ لا تقل إلى "لبنان" فمنذ ثلاثة أشهر عدت يا رجل، ولا أعتقد أنك اشتقت إليه!
عاد صاحبه "مايكل" للكلام.
- ألا ترى معي، أنه منذ عودته من هناك بأسبوع بدا عليه الوجوم، فلم يعد "ماهر" كما نعرفه قبل السفر! قل كلامه وانحسرت طرفه الرائعة، واختزل ضحكاته، وقهقهاته الطويلة إلى ابتسامة مصطنعة، لا بدّ وأن صاحبنا يعاني من أمر ما، لا يحب أن يطلعنا عليه! بل لعل صداقتنا ومجالسنا لم تعد ترق له!
نظر "ماهر" محدقاً للحظات بوجه كل من صاحبيه وقال:
- لا تسيئا فهمي! إني اجتاز مرحلة نفسية مضطربة بعض الشيء على ما يبدو! وليس في الأمر أكثر من ذلك!؟
- وهل هذا الذي أنت ما فيه، ألا يقلقنا برأيك!؟
- أجل ولكن ليس لدي أي وضوح أزاء مسألة محددة لأحدثكم بها! فأنا نفسي لا أعرف حقيقة هذا الاكتئاب والاحباط الذي أعيشه! وعندما أدرك السبب... سأكاشفكما بالأمر.
- إذن سننتظر! ونأمل ألاّ يطول ذلك لمدة طويلة، نريد أن نسترجع صديقنا الحقيقي الكامن في داخلك يا رجل!
قال "مايكل" ذلك فيما بدا الارتياب واضحاً على وجه "نجيب" فهو مقتنع بأن "ماهر" يعاني من أزمة ما، لا يجب أن يفصح عنها في الوقت الراهن، ففضل السكوت على مضض على الرغم من شعوره بالقلق لحالة صاحبه.
عندما ودعهما "ماهر" ومضى خارجاً، استعرض صاحباه وضعه، فهما يعرفان كل شيء عنه تقريباُ، فوضعه المالي جيد وكذلك أعماله التجارية فهي مزدهرة، فالمسألة إذن ليست مالية ولا مهنية، كما واستبعدا أن تكون عائلية فزوجة صاحبهما "سعاد" من أفضل النساء والزوجات فهي تسهر على رعايته كما يعرفان، وكما يصف هو نفسه حياته معها، وفجأة لمعت برأسهما فكرة شيطانية، لعل صاحبهما في حالة عاطفية جديدة حقاً ! فهما يلمان بما لديه من حظوة لدى النساء، لكنهما عادا عن فكرتهما تلك بعد نقاش، فهو يحب "سعاد" زوجته ولا يعقل أن يقدم على مثل هذا العمل المشين برأيه، ولما أعياهما الوصول إلى سبب مقنع عن حالته، قررا مساعدة صاحبهما ما أمكن، حتى يخلصاه من صمته وشروده المذهلين.
كان الوقت مساءً عندما جلس "ماهر" وحيداً في البيت متخذاً كرسي طاولة الطعام مكاناً له، واضعاً أمامه بعض الملفات والإيصالات لمراجعتها، فيما كانت زوجته خارج البيت فانصرف عن ملفاته وأوراقه، إلى ظنونه السوداء، مستسلماً لشكوكه وريبته يحرق سجائره بنهم، يجرع قهوته بعصبية لم تعد "سعاد" تلك الزوجة التي أعرفها! أطبقت عليه أفكاره تسحبه بعنف، تنشب أظافرها في دماغه وقلبه، لقد صارت تلك الأفكار تمزق أضلعه في النهار، وتؤرقه في الليل... مذ أن عاد من لبنان، لم تبرح مخيلته تلك الصورالتي تلح عليه متكرره، ضاغطة على أعصابه..."سعاد" يوم وصوله من السفر بعد غيابه عنها لمدة شهرين واستقبالها له بفتور، حتى أنه ما يزال يشعر بشفتيها المثلجتين اليابستين وهي تطبع على خديه تلك القبلتين الباردتين! وكيف كان حالها وهو يفتح حقائبه يخرج منها ما جلبه معه من عطور فرنسية فتستلمها منه، لتضعها على الكرسي المجاور لها، دون أن تنبث بأي حرف، أو أن تبدي أي أهتمام كعادتها، فرحة بعطورها المفضلة، فنظراتها اللامبالية عالقة على أهداب عينيه فكلما رفع جفنا وأطبقه عادت تلك النظرات إلى ذاكرته، ومن ثم ضجرها وهو يخرج علب الحلوى وبعض الثياب التي خصها بها، وكيف تناولت من يده تلك الأشياء ... صور تتداعى تلهب مشاعره غيظاً، واستياء كلما عاد بذاكرته إلى ذاك اليوم ويلح عليها ثانية وثالثة ومراراً... ثم تلك الليلة الأولى لوصوله التي اندفع فيها إلى "سعاد" وهما على السرير في غرفة نومهما، ليكتشف أنها لم تقم بتنظيف أسنانها! بل ولم تضع حتى ولو شيئاً بسيطاً مما كانت تفعله من زينتها، وكيف أنها اختارت تلك الليلة واحداً من "قمصان نومها" العديدة الأكثر سماكة والأشد قتامة من الألوان، ولما امتدت يده لتحلّ الأزرار الأمامية لذلك الثوب اللعين، أحس بالتواء رقبتها إلى حيث لا ترى وجهه، ولا تقع عيناه على عينيها، متنهدة دون أية كلمة، فبقي طيلة تلك الليلة، يحس بجسدها الهامد بل ظن نفسه للوهلة الأولى أنه يقدم على اغتصاب جثة ميتة برد الدم في عروقها منذ فترة! فتركها يومها مبرراً حالتها تلك بأسباب لم يقتنع بأي واحد منها، لكن ظنونه استمرت تستعر لاحقا، فالأسباب التي ناقشها مع نفسه ارتدت لتتأجج في داخله تأكل منه قطعاً حية من لحمه، وزاد في حيرته أنها أضحت تقتصر على التبرج الكامل كل صباح، عندما تتوجه إلى عملها، ساكبة العطور بغزارة على رقبتها وبين ثدييها وعلى أجزاء أخرى من جسدها ... رآها تفعل ذلك مراراً وهو يسترق النظر إليها خلسة في حين بالكاد تغسل وجهها أو تصلح من حال هندامها وشعرها عندما تكون جالسة في البيت، على غير العادة قبل مغادرته إلى لبنان، فأثارت حالتها تلك عشرات الأسئلة ليس أولها السبب عن سر اغتباطها وانشراح صدرها، وانبساط أساريرها عندما تغادر البيت إلى عملها، وليس آخرها كثرة تردادها على بيت قريبها "سامر" وهذا ما لم تكن عليه أيضا في السابق...
حين عادت تلك الليلة دخلت البيت فحيته بكلمات قليلة ثم لاذت بالصمت، وعندما حاول مكاشفتها بالأمر عن حالها، انتفضت ثائرة فاقدة أعصابها، توزع اتهاماتها في اتجاهات عدة، لا رابط بين واحدة وأخرى، فالمهم أن تصرخ وتصرخ... حتى يسكت ويكف عن أسئلته، ولتلزمه على إنهاء الحوار لأنها تعرف أنه يكره الصياح .... فتوقف ، ثم حاول أن يستغل الليل قبيل نومهما عساه يعيد لهما دفء حياتهما السابقة، وهذا ماكان قد عكف على ممارسته منذ عودته من سفره الأخير، آملا أن يتمكن من إخراجها مما صارت عليه، فكان يقترب منها يحادثها يداعبها برفق وحب، فكانت تستجيب تارة، ولكنها تعود إلى حنقها تارة أخرى، مع الوقت تمادت في هياجها تجهر بعبارات الكره والنفور، حزّ في نفسه ان يرى الهوة تتسع ولا يقوى على ردمها، وهي تكابر وتدعي بأنها ما تزال هي هي! وأن كل ما يحس به ويراه فيها من تغيير هما من صنع مخيلته!
تحول فراشهما الزوجي إلى ضفتي مشاعر وأحاسيس متناقضة متنافرة، ولم تنجح محاولات تقربه منها حيناً والإبتعاد عنها حيناً آخر، فهو يدور بنفسه في حلقة سوداء قاتمة! وراودته نفسه أن يناقش الأمر مع صاحبيه "نجيب" و"مايكل" لكنه لم يستسغ ذلك فأحجم، وبقي طاوياً مشكلته في داخله، تجتاحه الظنون تفتت قواه النفسية وتربكه إلى أن تملك منه القلق وصارهاجسه...
وفيما كان في واحدة من خواطره في مساء اليوم التالي حيث كان يجلس وحيدا وقد تأخرت كعادتها عن العودة إلى البيت، ألحت عليه خاطرة وردت إلى ذهنه واستوقفته مطولا في أن يناقش معاناته هذه مع قريبها "سامر" وزوجته "مريم" فـ "سعاد" ترتاح لهما كثيراً، فربما يتمكنا من التأثير عليها وأن ينصحاها...
لكنه عاد ونبذ تلك الخاطرة فـ "سامر" هذا ثرثار ولا يجيد سوى الهرطقة والأحاديث التافهة، أما "مريم" زوجته فعلى طيبتها أعتقد أنها لا تقوى على معالجة الأمر! فهي ليست أكثر من مستمعة لا رأي لها! وفيما كان يقلب الأفكار برأسه، حائراً مضطرباً مشوش النفس والعقل في آن، أحسّ فجأة بأن نارا تشتعل في قلبه، وهو يستعيد ما سبق وجرى في اللقاء الذي جمعه و"سعاد وسامر ومريم" على طاولة المطعم منذ أسبوع، فقد استوقفته ذاكرته أمام تلك الصورة التي لمح فيها يومها زوجته "سعاد" وقد استرخت يدها على فخذ "سامر" تحت طرف الغطاء الطويل المتدلي من الطاولة، وكان قد رأى ذلك عندما سحب غطاء الطاولة إلى الأعلى صدفة، وكيف أن زوجته سارعت ورفعت يدها عندما شعرت أن نظراته وقعت على وضعيتها تلك وللحظات سريعة جدا، أخذت الصور تتزاحم في رأسه تتدافع بقوة، تعصف به فشعر أن جسده يتعرض لموجات كهربائية تصعقه على دفعات متتالية! أدرك للتو أنه لم يعد يقوى يسيطر على نفسه، ولا على عقله، ولم يعد يملك أدنى سلطة أو رقابة عليه، فراحت الوساوس تنهب به من كل جهة، تركب وتمزج الحوادث المتفرقة في صور متتالية... ألم يرى "سامر" مراراً قرب البيت عندما يكون مجتازاً هذه الطريق في عمله إلى المصرف أو عائدا من عند التجار، ألم تخبره أن "سامر" أوصلها إلى البيت مرات وهي عائدة من العمل، ثم أنه كيف... كيف!!
ألم تقل له أن "سامر" أصلح في غيابه جهاز التلفزيون والبراد... وأنه اشترى لها مكواة بعد أن تعطلت تلك أثناء وجوده في لبنان!!
ثم سكن هادئاً يحس بثقل الدم المتراكم في عروقه، فهو يكاد يفقد وعيه، فسكب ما تبقى في كأس الماء في حلقه يتمتم: هل يعقل أن يكون ما أفكر فيه صحيحاً!؟ أم أن ما وصلت إليه وما رأته عيني ونحن على تلك الطاولة مجرد ظنون وشكوك نتيجة كوني مرهقاً وتعباً من كثرة ما أفكر بتلك المرأة اللعينة!!؟ ولكن لماذا الآن كل تلك المسائل تتلاقى وهي التي عرف بها ولم تثره في حينها؟!
انتبه لنفسه وهو يصيح عالياً:
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، استغفر الله العلي العظيم!!"
شكر الله أن زوجته لم تعد بعد إلى البيت وتراه على حالته، على الرغم من العتمة حلت منذ أكثر من ساعة ونصف، ووجد في نفسه رغبة لأن يمشي فخرج من البيت منطلقا في الشارع يتنقل أمام واجهات المحلات في "بروكلين" ينقل خطاه من ضفة إلى أخرى، ثم أوقف سيارة تاكسي، فطلب من سائقها أن يمضي به إلى "منهاتن" فأمضى هناك وقتا تناول خلاله سندويشا، وهو يتابع مشيته الهادئة على الأرصفة في ظل تلك الأبنية الشامخة المتلئلئة بأنوارها محاولاً طرد تلك الأفكار التي باتت تسكن جسده كما الوجع، لا يقوى على التخلص منها، وشيئا فشيئا أضناه المسير فهبط السلم ببطء شديد ثم صعد إلى مقصورة "السابوي" عائدا إلى بيته...
لم تكن "سعاد" قد عادت فلم يقلق لذلك، فهي حتما في منزل قريبها "سامر" فشرع ينفث سيجارته بهدوء، لكن مرور الوقت ونشرة أخبار منتصف الليل، نبهته إلى غياب "سعاد" الطويل فأجرى اتصالاً هاتفيا فجاءه صوت "مريم" زوجة "سامر" تقول له بصوت جلي وبنبرة هادئة:
- تسأل عن "سعاد"... أم عن زوجي "سامر"!
فلم يرد عليها بأي حرف بل بقي يصغي لها وهي تتابع كلامها فيما نبرتها بدأت تعلو قليلا:
- لن تراهما بعد اليوم لقد وجدتهما عاريين في غرفة نومي بعد أن أوهمت زوجي أني سأمضي النهار بكامله عند أهلي في "نيوجرسي" لقد سقطا في الفخ الذي نصبته لهما...
ثم سكتت قليلا قبل أن تتابع قولها:
- لقد أمضيا وقتاً طويلاً في فراشك أيضاً لما كنت حضرتك مسافراً!...
علت شفتيه ابتسامة صغيرة باهتة وتابع من جديد يصغي لمريم وقد سمع تنهيدتها العميقة تسبق عودتها للحديث:
- بصقت في وجهيهما بشدة! لا أعتقد أننا سنراهما مجدداً في كل انحاء "نيويورك"....
أعاد سماعة الهاتف! إلى مكانها يهز رأسه، لم تفارق شفتيه تلك البسمة الغريبة فنظر في الغرفة ثم همس:
- يا لك من "مريم" ! كم كنت تبدين بسيطة وهادئة! ولكن كم كنتِ ذكية لأن تفعلي كل ذلك!!...
شعر أن قلقه ومن ثم تعبه تلاشيا وانحسرا من جسمه في لحظة واحدة، فتمدد على الصوفة في غرفة الصالون ليستسلم لنوم عميق لم يعرف طعمه منذ قرابة الثلاثة أشهر الماضية...

محمد فؤاد منصور
17/01/2008, 08:10 AM
:fl:أخى العزيز الدكتور أسعد الدندشلى
استمتعت بقراءة قصتك الكلاسيكية والتى حبست فيها أنفاسنا لفترة طويلة مع أن المسألة كانت واضحة من البداية والأخ ماهر ذاك لم يكن ماهراً أبداً مع كل الشواهد التى تحيط به ،لغتك جميلة وقوية وإن كانت تشوبها أحياناً بعض الهنات التى تحتاج معالجة وانتباه أثناء الكتابة ، تستغرقك التفاصيل أحياناً فتبتعد عن الخط الرئيسى ثم تعود إليه، على المستوى الفنى واللغوى فالقصة ممتازة أما عن الفكرة فيمكن إعتبارها من أدب المهجر أو لعلها تعالج إحدى مشاكل المهاجرين وانخراطهم فى قيم مجتمع جديد لايرى الأشياء بعيوننا فتكون صدمتنا فيه قاتلة وبالنسبة لبطل قصتك فقد احترقت أعصابه فى أتون الشك حتى بلغ راحة اليقين ..ولكن ياله من يقين!!
تقبل تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:

الدكتور أسعد الدندشلي
17/01/2008, 07:30 PM
الأخ الدكتور المشرف محمد فؤاد منصور المحترم
بداية أتوجه إليك بالتحية الطيبة، شاكرا لك قراءتك الموضوع، معربا عن اغتباطي وسعادتي أيضا بملاحظاتك القيمة والمفيدة، فمعها أستطيع أن أكشف شيئا وأن أتلمس بعضا مما يراه القارىء لاسيما وأنني في عالم اغترابي لا أجد من يستطيع أن يقول شيئا فيما نكتب ومن هنا القيمة الهامة لملاحظاتك وملاحظات الأخوة الزملاء في المدونة، ثانية اقبل تحياتي وتقديري ولمزيد من العطاء والصحة والعافية ووافر الإنتاج إن شاء الله...
تحياتي
د.أسعد

وائل عبد السلام محمد
17/01/2008, 10:38 PM
]الدكتور الكاتب / أسعد الدندشلى

جميل أن تنهل من منابع القيم مقاييس المقارنه ، أنه التباين الذى يعترى مقوماتنا بأثرها .

تحياتى على السرد التيمورى للأحداث ،
دمت مبدعا

تحيه وأعزاز

وائل عبد السلام محمد[/COLOR]

الدكتور أسعد الدندشلي
18/01/2008, 04:05 AM
الأخ الصديق وائل عبد السلام محمد المحترم
تحية طيبة ودمت مبدعا معطاءا لنا، شاكرا لك ملاحظاتك ومحترما تجلياتك وتعليقاتك،
مع وافر المحبة والإحترام والتقدير
د.أسعد الدندشلي