عبدالستارعبداللطيف الاسدي
20/01/2008, 12:41 AM
لقد راسلني الشاعر باسم فرات وبعث لي
هذه المقابلة و أحببت ان تشاركونني الاطلاع عليها
ثرثرة فوق جثة الموت
سركون بولص يرحل الى مدينة أين
حوار مهم مع الشاعر العراقي المغترب المبدع باسم فرات
اجراه معه وديع شامخ من استراليا
وديع شامخ "أستراليا –بيرث " ... باسم فرات "اليابان –هيروشيما"
الحوار المتمدن - العدد: 2162 - 2008 / 1 / 16
مهاد
بعد ان انحسرت مياة الطوفان ... طار الرجل الساكن في سفينة نوح الى" مدينة أين" .. طالبا النوم الأبدي والعميق بعد رحلة زمنية تجاوزت ستة عقود بقليل . مرّ خلالها بقار المدن ونفطها .. بعبيرها ودهشتها.. من كركوك الى بغداد .. ومن بيروت الى أمريكا .. ومن هناك من برلين كان لابد للموت أن يقف دقيقة حداد على الراهب العراقي .... سركون، الذي رحلّ في أوانه تماما كما أرى .. بعد ان طوّق عنقه طائر الشعر وانهكه نزيف المصائر البشرية وهي تترى الى ذات الجب .. بموت هذا الطائر .. كثر النوح على جنازته ، وعلا دويّ الصراخ على "لحافه الدافيء كثيرا". ارادوا ان يمطوا أرجلهم ودموعهم بهذا الكائن الأنساني ، الوسيم ،الخجول ، بهذا الشاعر الذي لم يحتفل بالمراثي ..
وما بين صادق في الحزن و مجامل وكاتب عزاءات ، وما بين سركون ومعنى الاحتفاء بقامتة، وما بين حاملي مباخر الموتى دائما .. أردنا ان نحتفي بسركون بطريقة مختلفة .. باسم فرات وأنا ..
كانت دموع باسم فرات تنهمر من هيروشيما مشيّعة شاعراً عراقياًً عاش في سان فرانسيسكو ومات في برلين!.
كنّا على "الماسنجر" ، باسم يبكي.. وانا رفعت كأسَ نبيذٍ أحمرَ يليق بصحة سركون ، وثرثرنا على جثة الموت .. وثرثرنا على قامة سركون شعراً وهمسنا بأحاديثه الشخصية .. وقد غرزتُ سنارتي في ذكريات باسم مع سركون، فكنت اطارد بوحهما .. وأحتفي بشاعر يستحق الحياة والموت معا .
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
وديع: شاع في المشهد الثقافي العراقي –وياللأسف-طقس تذكّر الموتى من الادباء والشعراء والمثقفين،وليس موت سركون سوى واحد من حلقة هذه المأساة أو الملهاة..لقد قيل الكثير بعد موت الراحل وتبارى الجميع"بدون استثناء"لترسيخ" ثقافة المراثي"! وليس آخرهم سعدي يوسف في شهادته عن سركون الذي يقول عنه -الشاعر العراقي الوحيد-هل لديك ماتقوله بهذا الخصوص ؟
باسم: هذا هو حالنا، فنحن نتجاهل بعضنا بعضاً بل ربما لانلتفت او نحارب الآخر ولكن حين يموت يصبح الكل مرتبطاً بصداقة وبذكريات مع الراحل والذي يتحول فجأة الى كبير وفقيد الادب،وأنا واثق ان بعض من كتبوا عن سركون لم يقرأوه جيداً بل بعضهم كتب ان اسمه الوثني المسيحي يثير الخيال وهناك من كتب ان ملبسه واناقته وعدم جديته المصطنعة في الصور هي ما اثارتهم،ولكن اين سركون من هذا؟ بكل تأكيد لست أعني من يرتبط بعلاقة ثقافية واجتماعية او ثقافية فقط مع سركون ولكني أعني من لم يكن يرى فيه سوى شاعر بسيط يقلد الشعر الأنكلوسكسوني عموماً والأمريكي خصوصاً،وكانوا يرددون هذا في حياته واذا بهم يكتبون عنه بحميمية بعد وفاته ولنترك للقرّاء ان يضعوا مصطلحاً يليق بهؤلاء،وكم كنت أتمنى ان ينتبه النقد لهذا الشاعر ويعطيه حقه في حياته.
أما عن الشاعر سعدي يوسف فالأمر يختلف هنا ،حيث تربطه علاقة حميمة بسركون ولهم ذكريات كثيرة وطالما حدثني سركون عن سعدي الشاعر والانسان،بحميمية، بل ان أحد مشاريع سركون المستقبلية كانت دراسة عن السياب وسعدي وقد ذكر لي هذا اكثر من مرة وحين اخبرته برأيي بالسياب وسعدي،شعرت بفرحه وعبر لي عن سعادته بلهجته العراقية المحببة ولازمته التي يكررها دائما :"لا..ما معقول..ما معقول..جميل جميل" وحين أغلقت الهاتف ورحت استعرض المكالمة وجدت نفسي أردد:"كم أنت عظيم ياسركون فانت تكبرني بربع قرن تقريباً وتركت العراق حين ولادتي وحققتَ منجزاً يغبطك عليه كل شاعر،وحين اخبرك اني انظر لتجربتيْ السياب وسعدي كما تنظر لهما،تفرح وكأنك اصغر مني سنا ً،ووجدت فيّ متفقاً مع رأيك وذائقتك،فعلا أنت عميق وعميق جدا ياسركون"،أما إذا كان سعدي وصف سركون بالشاعر العراقي الوحيد،فهذا رأيه الشخصي، وأنا ً لا اؤمن بالاطلاقات فلايوجد الشاعر الأوحد وأمير الشعراء وشاعر العرب الأكبر وعميد الادب وعميد المسرح.. الخ،هذه اطلاقات لا تتفق وفهمي للثقافة.
وديع : لاحظنا شهادة مهمة لسركون عن تجربتك الشعرية عبر كتابة كلمة الغلاف لمجموعتك الثالثة "انا ثانية "، والمعروف ان سركون لم يكتب مثل هذه الشهادة عن شاعر شاب ، كيف حصل هذا ، هل من اضاءة لعلاقتك بسركون انسانيا وابداعيا؟
باسم : ترجع علاقتي بأسد آشور(هكذا كان صحبه ينادوه وبالذات مؤيد الراوي وأنور الغساني)،الى النصف الاول من الثمانينات،حين تعرفت عن طريق الكتب والمجلات الادبية على جماعة كركوك،-وان قيل رب ضارة نافعة -،فهي تنطبق هنا على سوء إدارة الدار الوطنية للنشر والتوزيع فبفضل سوء توزيعها تنام الكتب والمجلات في مخازنها ، وفي معارض الكتب التي كانت تقيمها الدار تستخرج ما في مستودعاتها من كتب ومجلات ، وهي التي منحتني الفرصة على إقتناء كتب ومجلات قديمة قد طبعت في السبعينات ومطلع الثمانينات وهنا تعرفت على الشاعر سركون بولص من ضمن جماعة كركوك والتي أراها مجموعة كبيرة العدد ولكن مثلها مثل أي جماعة لايمكن ان يبرز جميع اعضائها ، فمنهم من يغيّر مساره ومنهم من يتعبه الطريق، فيفضل ان يكون أباً ناجحاً بمقاييس المجتمع ومنهم من لا تساعده موهبته لأنها لاتنمو معه ،ثم كانت زيارته للعراق عام 1986 ان لم تخني الذاكرة لحضور مهرجان المربد،فكان لقاؤنا في كربلاء مع عتب على زيارته حيث كنّا نرى ان النظام السابق يستفيد من الذين يدعوهم اعلامياً،وهكذا بقيت صلتي به من خلال متابعتي لجماعة كركوك وازداد اهتمامي به في نيوزلندا لسببين، الاول :حين تعرفت على الصديق الشاعر صباح خطاب ووجدت عنده "الأول والتالي ، وانفرادات الشعر العراقي الجديد"،وكان قد جلبهما معه من باكستان مع كتب اخرى كان قد ارسلها له الشاعر والناشر خالد المعالي،وهذا ما سمح لي ان أكوّن فكرة افضل عن شعر سركون بولص من خلال هذين الكتابين ، والسبب الثاني:هو نتيجة لمشروع قراءتي لتاريخ العراق بكل عصوره وتنوعه اللغوي والديني والمذهبي والمناطقي،مما منحني تفهماً أكثر لإبداع سركون بولص وخلفياته ، هذه المعرفة التي ازدادت كثيراً من خلال مكالماتنا الهاتفية التي تجاوزت الثلاثين ساعة ،خلال عامين.
وديع: تكلمت عن الجانب الابداعي في علاقتك بسركون، هل تتذكر اول مكالمة شخصية معه وما هي مناسبتها ، وما هو شعورك بهذه المهاتفة؟
باسم: نعم اتذكر... فقد كانت أول مرة هاتفت فيها سركون بولص،كانت يوم الأحد 15 /4/2001 حين اتصلت هاتفياً بالروائي العراقي ومحرر موقع كيكا صموئيل شمعون وكان في برلين،فقال لي بجانبي سركون بولص هل تريد ان تتحدث معه فتحدثنا وشعرت من نبرة كلامه بتواضع جم،وطفولة ،توضحت عندي أكثر حين بدأت سلسلة اتصالاتنا الهاتفية.ولم أكلّمه حتى خريف 2005 حين زودني صموئيل شمعون مشكوراً برقم هاتفه وعنوانه،وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين عرفني مباشرة ولم يكتف بهذا بل هو من بادر ذاكراً مكالمتنا الهاتفية الأولى قبل أكثر من أربعة أعوام ونصف كما وجدته متابعاً جيداً لما ينشرمما سهّل عليّ ان أسأله عن إمكانية كتابة كلمة لغلاف ديواني "أنا ثانية ً"واني سوف ارسله له فان وجد فيه ما يستحق ان يضع سركون بولص اسمه وكلمته عليه وهذا يسعدني، ،مؤكداً له اني لااخلط بين الاجتماعي والشعري،فما كان من الرجل الا ان قال لي:انني متابع للساحة الشعرية بشكل جيد وأقرأ للجميع ومتابع لما تنشر،ارسلها ياباسم،وسوف اطّلع عليها،شعرت انها ليست موافقة نهائية وان الرجل يريد الاطلاع على المخطوطة لكي يقرر وفعلا أرسلتها عبر البريد الافتراضي (الأيميل)وفي ذات اليوم أرسلت له نسخة من "خريف المآذن" ونسخة من المجموعة الانكليزية الأولى "هنا وهناك" ،وبعد سبعة أيام هاتفته وكان الوقت عندنا ظهرا وعندهم ليلاً للتأكد من وصول الطرد،ويالها من صدفة جميلة حيث اخبرني ان المجموعتين وصلتا اليوم ، وانه قضى يومه هذا مستمتعاً بقراءتهما وأثنى على الترجمة ، خصوصاً وان معظم نصوص خريف المآذن موجودة في هنا وهناك وهذا ما دفعه للمقارنة بين النصين العربي والانكليزي كما قال وشكرني كثيراً، حيث ان وصول "خريف المآذن" ورقياً وقبلها "أنا ثانية ً" افتراضياً منحته الفرصة للاطلاع على التجربة بشكل جيد وحينها وعدني انه سوف يكتب وخلال بضعة ايام يرسل لي كلمة الغلاف.
تصور قامة شعرية كسركون بولص يشكرك قائلا بالحرف الواحد:"أشكرك ..لقد قضيت اليوم كله مستمتعاً بقراءة شعرك"،واذا عبرت عن اعجابك بشعره يشعر بالاحراج والخجل حتى اني كنت اشعر به من خلال الهاتف،حين قلت رأيي بشعره،والذي أدونه الآن والرجل غاب عن عالمنا ،حيث أرى فيه قامة شعرية عالمية وشعره الأقرب الى نفسي من الآخرين.
وديع : ما هو تقديرك لدور جماعة كركوك في المشهد الابداعي العراقي عامة ؟ وماهو دور سركون بولص تحديدا في حركة التحديث الشعري العراقي ، ومن ثم ما هو تأثيره على تجربتك شخصيا ... ؟
باسم: جماعة كركوك مهمة عربياً وليس عراقياً فقط وهي تضّم فعلاً خيرة الأسماء الادبية عربياً،كما علينا أن لانغفل ان للجماعة دوراً وطنيّاً كبيراً ربما اكبر من دور الكثير من الاحزاب السياسية ألا وهو كونهم الدليل القاطع على ان الاحزاب القومية في العراق بجميع لغاتها ماهي الا احزاب شوفينية عنصرية إلغائية وخصوصاً التي تدعي أحقيتها بكركوك بينما كركوك هي عراق مصغر جميل وجماعة كركوك هي البرهان الواقعي والادبي والعلمي على ان كركوك ليست لأحد،وما كتابتهم بالعربية رغم تنوع خلفياتهم اللغوية إلا التأكيد على مانذهب إليه،ومما يؤسف له ان السياسيين العراقيين لم ينتبهوا لهذه النقطة لجهلهم بالتاريخ والادب،أما الادباء فلجهلهم بالتاريخ.
بكل تأكيد ان سركون بولص هو أحد أهم مبدعي هذه الجماعة ولقد استطاع أن يُطوّر من امكانياته الشعرية بالقراءة والسفر والتأمل وسوف اختصر لك دوره بحكاية جرت له شخصياً رواها لي، وهي: حين وصل الى بيروت وفي جلسة ضمّته مع يوسف الخال وأدونيس واخرين قال لأدونيس: "ان في العراق شعراء يقلدونك ولقد اقترحت عليهم بدل ان يتعبوا أنفسهم بالكتابة ان يقصوا قصائدك ويلصقونها على أوراقهم"،انتهى مااخبرني بها سركون،وهذه الحادثة او الحكاية ان دلت فانما تدلّ على وعي سركون المُبكر للحداثة،فهو لم يكن صدى لغيره،ولقد حفر بعيداً في تحديث القصيدة الحرة،وأقول القصيدة الحرة ولا أقول قصيدة النثر،لأنه كان يرفض تسمية ما يكتب بقصيدة النثر،ويدعوها بالقصيدة الحرة،هذه القصيدة الخالية من البلاغة العربية وفخامة الجملة، وتحمل أوزانها الخاصة المتحررة من هيمنة اوزان الخليل والتي تستحق ان نطلق عليها "بالشَرَكية"،فهي تنصب الفخاخ لمن لايعي الحداثة وعياً ناضجاً وعميقاً، ولهذا ليس من المستغرب ان ينظر له البعض على انه مجرّد حكّاء بينما أرى ان دوره من أكبر الأدوار أهمية ً في فتح آفاق واسعة أمام الحداثة الشعرية العربية، فهو أحد الذين هبطوا بالشعر العربي من ابراجه العاجية وازال عنه أصباغه الرديئة، فسركون بولص مع قلة قليلة ممن سبقه وجايله ولحقه فتحوا لنا أبواب الحداثة والتجديد ولكنه لم يكن الوحيد والأ وحد،حيث لايوجد في الشعر من يحمل مشعل الحداثة لوحده.
وديع: لم يعط "كافكا" أية أهمية للنقاش الدائر في حقبته حول الشكل الأدبي الذي يجب أن يتخذه الإبداع ... فلم يكتب بأنه يفضل الرواية على القصة القصة القصيرة او القصة القصيرة على الشعر.. بل كان يكتب وكان يتوقف عندما يرى أن الأسطر التي كتبها كافية، وأن ما مكتوب أمامه أخذ استقلاليته ؛ بمناسبة حديثك عن رفض سركون لمصطلح قصيدة النثر- وهو ما يشاركه اخرون كثر في هذا الرأي وأنا واحد منهم- ، تعرضت الى ذكر" القصيدة الشركية" هل لك ان توضح أكثر فيما تعنيه في هذا التوصيف الجديد ؟
هذه المقابلة و أحببت ان تشاركونني الاطلاع عليها
ثرثرة فوق جثة الموت
سركون بولص يرحل الى مدينة أين
حوار مهم مع الشاعر العراقي المغترب المبدع باسم فرات
اجراه معه وديع شامخ من استراليا
وديع شامخ "أستراليا –بيرث " ... باسم فرات "اليابان –هيروشيما"
الحوار المتمدن - العدد: 2162 - 2008 / 1 / 16
مهاد
بعد ان انحسرت مياة الطوفان ... طار الرجل الساكن في سفينة نوح الى" مدينة أين" .. طالبا النوم الأبدي والعميق بعد رحلة زمنية تجاوزت ستة عقود بقليل . مرّ خلالها بقار المدن ونفطها .. بعبيرها ودهشتها.. من كركوك الى بغداد .. ومن بيروت الى أمريكا .. ومن هناك من برلين كان لابد للموت أن يقف دقيقة حداد على الراهب العراقي .... سركون، الذي رحلّ في أوانه تماما كما أرى .. بعد ان طوّق عنقه طائر الشعر وانهكه نزيف المصائر البشرية وهي تترى الى ذات الجب .. بموت هذا الطائر .. كثر النوح على جنازته ، وعلا دويّ الصراخ على "لحافه الدافيء كثيرا". ارادوا ان يمطوا أرجلهم ودموعهم بهذا الكائن الأنساني ، الوسيم ،الخجول ، بهذا الشاعر الذي لم يحتفل بالمراثي ..
وما بين صادق في الحزن و مجامل وكاتب عزاءات ، وما بين سركون ومعنى الاحتفاء بقامتة، وما بين حاملي مباخر الموتى دائما .. أردنا ان نحتفي بسركون بطريقة مختلفة .. باسم فرات وأنا ..
كانت دموع باسم فرات تنهمر من هيروشيما مشيّعة شاعراً عراقياًً عاش في سان فرانسيسكو ومات في برلين!.
كنّا على "الماسنجر" ، باسم يبكي.. وانا رفعت كأسَ نبيذٍ أحمرَ يليق بصحة سركون ، وثرثرنا على جثة الموت .. وثرثرنا على قامة سركون شعراً وهمسنا بأحاديثه الشخصية .. وقد غرزتُ سنارتي في ذكريات باسم مع سركون، فكنت اطارد بوحهما .. وأحتفي بشاعر يستحق الحياة والموت معا .
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
وديع: شاع في المشهد الثقافي العراقي –وياللأسف-طقس تذكّر الموتى من الادباء والشعراء والمثقفين،وليس موت سركون سوى واحد من حلقة هذه المأساة أو الملهاة..لقد قيل الكثير بعد موت الراحل وتبارى الجميع"بدون استثناء"لترسيخ" ثقافة المراثي"! وليس آخرهم سعدي يوسف في شهادته عن سركون الذي يقول عنه -الشاعر العراقي الوحيد-هل لديك ماتقوله بهذا الخصوص ؟
باسم: هذا هو حالنا، فنحن نتجاهل بعضنا بعضاً بل ربما لانلتفت او نحارب الآخر ولكن حين يموت يصبح الكل مرتبطاً بصداقة وبذكريات مع الراحل والذي يتحول فجأة الى كبير وفقيد الادب،وأنا واثق ان بعض من كتبوا عن سركون لم يقرأوه جيداً بل بعضهم كتب ان اسمه الوثني المسيحي يثير الخيال وهناك من كتب ان ملبسه واناقته وعدم جديته المصطنعة في الصور هي ما اثارتهم،ولكن اين سركون من هذا؟ بكل تأكيد لست أعني من يرتبط بعلاقة ثقافية واجتماعية او ثقافية فقط مع سركون ولكني أعني من لم يكن يرى فيه سوى شاعر بسيط يقلد الشعر الأنكلوسكسوني عموماً والأمريكي خصوصاً،وكانوا يرددون هذا في حياته واذا بهم يكتبون عنه بحميمية بعد وفاته ولنترك للقرّاء ان يضعوا مصطلحاً يليق بهؤلاء،وكم كنت أتمنى ان ينتبه النقد لهذا الشاعر ويعطيه حقه في حياته.
أما عن الشاعر سعدي يوسف فالأمر يختلف هنا ،حيث تربطه علاقة حميمة بسركون ولهم ذكريات كثيرة وطالما حدثني سركون عن سعدي الشاعر والانسان،بحميمية، بل ان أحد مشاريع سركون المستقبلية كانت دراسة عن السياب وسعدي وقد ذكر لي هذا اكثر من مرة وحين اخبرته برأيي بالسياب وسعدي،شعرت بفرحه وعبر لي عن سعادته بلهجته العراقية المحببة ولازمته التي يكررها دائما :"لا..ما معقول..ما معقول..جميل جميل" وحين أغلقت الهاتف ورحت استعرض المكالمة وجدت نفسي أردد:"كم أنت عظيم ياسركون فانت تكبرني بربع قرن تقريباً وتركت العراق حين ولادتي وحققتَ منجزاً يغبطك عليه كل شاعر،وحين اخبرك اني انظر لتجربتيْ السياب وسعدي كما تنظر لهما،تفرح وكأنك اصغر مني سنا ً،ووجدت فيّ متفقاً مع رأيك وذائقتك،فعلا أنت عميق وعميق جدا ياسركون"،أما إذا كان سعدي وصف سركون بالشاعر العراقي الوحيد،فهذا رأيه الشخصي، وأنا ً لا اؤمن بالاطلاقات فلايوجد الشاعر الأوحد وأمير الشعراء وشاعر العرب الأكبر وعميد الادب وعميد المسرح.. الخ،هذه اطلاقات لا تتفق وفهمي للثقافة.
وديع : لاحظنا شهادة مهمة لسركون عن تجربتك الشعرية عبر كتابة كلمة الغلاف لمجموعتك الثالثة "انا ثانية "، والمعروف ان سركون لم يكتب مثل هذه الشهادة عن شاعر شاب ، كيف حصل هذا ، هل من اضاءة لعلاقتك بسركون انسانيا وابداعيا؟
باسم : ترجع علاقتي بأسد آشور(هكذا كان صحبه ينادوه وبالذات مؤيد الراوي وأنور الغساني)،الى النصف الاول من الثمانينات،حين تعرفت عن طريق الكتب والمجلات الادبية على جماعة كركوك،-وان قيل رب ضارة نافعة -،فهي تنطبق هنا على سوء إدارة الدار الوطنية للنشر والتوزيع فبفضل سوء توزيعها تنام الكتب والمجلات في مخازنها ، وفي معارض الكتب التي كانت تقيمها الدار تستخرج ما في مستودعاتها من كتب ومجلات ، وهي التي منحتني الفرصة على إقتناء كتب ومجلات قديمة قد طبعت في السبعينات ومطلع الثمانينات وهنا تعرفت على الشاعر سركون بولص من ضمن جماعة كركوك والتي أراها مجموعة كبيرة العدد ولكن مثلها مثل أي جماعة لايمكن ان يبرز جميع اعضائها ، فمنهم من يغيّر مساره ومنهم من يتعبه الطريق، فيفضل ان يكون أباً ناجحاً بمقاييس المجتمع ومنهم من لا تساعده موهبته لأنها لاتنمو معه ،ثم كانت زيارته للعراق عام 1986 ان لم تخني الذاكرة لحضور مهرجان المربد،فكان لقاؤنا في كربلاء مع عتب على زيارته حيث كنّا نرى ان النظام السابق يستفيد من الذين يدعوهم اعلامياً،وهكذا بقيت صلتي به من خلال متابعتي لجماعة كركوك وازداد اهتمامي به في نيوزلندا لسببين، الاول :حين تعرفت على الصديق الشاعر صباح خطاب ووجدت عنده "الأول والتالي ، وانفرادات الشعر العراقي الجديد"،وكان قد جلبهما معه من باكستان مع كتب اخرى كان قد ارسلها له الشاعر والناشر خالد المعالي،وهذا ما سمح لي ان أكوّن فكرة افضل عن شعر سركون بولص من خلال هذين الكتابين ، والسبب الثاني:هو نتيجة لمشروع قراءتي لتاريخ العراق بكل عصوره وتنوعه اللغوي والديني والمذهبي والمناطقي،مما منحني تفهماً أكثر لإبداع سركون بولص وخلفياته ، هذه المعرفة التي ازدادت كثيراً من خلال مكالماتنا الهاتفية التي تجاوزت الثلاثين ساعة ،خلال عامين.
وديع: تكلمت عن الجانب الابداعي في علاقتك بسركون، هل تتذكر اول مكالمة شخصية معه وما هي مناسبتها ، وما هو شعورك بهذه المهاتفة؟
باسم: نعم اتذكر... فقد كانت أول مرة هاتفت فيها سركون بولص،كانت يوم الأحد 15 /4/2001 حين اتصلت هاتفياً بالروائي العراقي ومحرر موقع كيكا صموئيل شمعون وكان في برلين،فقال لي بجانبي سركون بولص هل تريد ان تتحدث معه فتحدثنا وشعرت من نبرة كلامه بتواضع جم،وطفولة ،توضحت عندي أكثر حين بدأت سلسلة اتصالاتنا الهاتفية.ولم أكلّمه حتى خريف 2005 حين زودني صموئيل شمعون مشكوراً برقم هاتفه وعنوانه،وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين عرفني مباشرة ولم يكتف بهذا بل هو من بادر ذاكراً مكالمتنا الهاتفية الأولى قبل أكثر من أربعة أعوام ونصف كما وجدته متابعاً جيداً لما ينشرمما سهّل عليّ ان أسأله عن إمكانية كتابة كلمة لغلاف ديواني "أنا ثانية ً"واني سوف ارسله له فان وجد فيه ما يستحق ان يضع سركون بولص اسمه وكلمته عليه وهذا يسعدني، ،مؤكداً له اني لااخلط بين الاجتماعي والشعري،فما كان من الرجل الا ان قال لي:انني متابع للساحة الشعرية بشكل جيد وأقرأ للجميع ومتابع لما تنشر،ارسلها ياباسم،وسوف اطّلع عليها،شعرت انها ليست موافقة نهائية وان الرجل يريد الاطلاع على المخطوطة لكي يقرر وفعلا أرسلتها عبر البريد الافتراضي (الأيميل)وفي ذات اليوم أرسلت له نسخة من "خريف المآذن" ونسخة من المجموعة الانكليزية الأولى "هنا وهناك" ،وبعد سبعة أيام هاتفته وكان الوقت عندنا ظهرا وعندهم ليلاً للتأكد من وصول الطرد،ويالها من صدفة جميلة حيث اخبرني ان المجموعتين وصلتا اليوم ، وانه قضى يومه هذا مستمتعاً بقراءتهما وأثنى على الترجمة ، خصوصاً وان معظم نصوص خريف المآذن موجودة في هنا وهناك وهذا ما دفعه للمقارنة بين النصين العربي والانكليزي كما قال وشكرني كثيراً، حيث ان وصول "خريف المآذن" ورقياً وقبلها "أنا ثانية ً" افتراضياً منحته الفرصة للاطلاع على التجربة بشكل جيد وحينها وعدني انه سوف يكتب وخلال بضعة ايام يرسل لي كلمة الغلاف.
تصور قامة شعرية كسركون بولص يشكرك قائلا بالحرف الواحد:"أشكرك ..لقد قضيت اليوم كله مستمتعاً بقراءة شعرك"،واذا عبرت عن اعجابك بشعره يشعر بالاحراج والخجل حتى اني كنت اشعر به من خلال الهاتف،حين قلت رأيي بشعره،والذي أدونه الآن والرجل غاب عن عالمنا ،حيث أرى فيه قامة شعرية عالمية وشعره الأقرب الى نفسي من الآخرين.
وديع : ما هو تقديرك لدور جماعة كركوك في المشهد الابداعي العراقي عامة ؟ وماهو دور سركون بولص تحديدا في حركة التحديث الشعري العراقي ، ومن ثم ما هو تأثيره على تجربتك شخصيا ... ؟
باسم: جماعة كركوك مهمة عربياً وليس عراقياً فقط وهي تضّم فعلاً خيرة الأسماء الادبية عربياً،كما علينا أن لانغفل ان للجماعة دوراً وطنيّاً كبيراً ربما اكبر من دور الكثير من الاحزاب السياسية ألا وهو كونهم الدليل القاطع على ان الاحزاب القومية في العراق بجميع لغاتها ماهي الا احزاب شوفينية عنصرية إلغائية وخصوصاً التي تدعي أحقيتها بكركوك بينما كركوك هي عراق مصغر جميل وجماعة كركوك هي البرهان الواقعي والادبي والعلمي على ان كركوك ليست لأحد،وما كتابتهم بالعربية رغم تنوع خلفياتهم اللغوية إلا التأكيد على مانذهب إليه،ومما يؤسف له ان السياسيين العراقيين لم ينتبهوا لهذه النقطة لجهلهم بالتاريخ والادب،أما الادباء فلجهلهم بالتاريخ.
بكل تأكيد ان سركون بولص هو أحد أهم مبدعي هذه الجماعة ولقد استطاع أن يُطوّر من امكانياته الشعرية بالقراءة والسفر والتأمل وسوف اختصر لك دوره بحكاية جرت له شخصياً رواها لي، وهي: حين وصل الى بيروت وفي جلسة ضمّته مع يوسف الخال وأدونيس واخرين قال لأدونيس: "ان في العراق شعراء يقلدونك ولقد اقترحت عليهم بدل ان يتعبوا أنفسهم بالكتابة ان يقصوا قصائدك ويلصقونها على أوراقهم"،انتهى مااخبرني بها سركون،وهذه الحادثة او الحكاية ان دلت فانما تدلّ على وعي سركون المُبكر للحداثة،فهو لم يكن صدى لغيره،ولقد حفر بعيداً في تحديث القصيدة الحرة،وأقول القصيدة الحرة ولا أقول قصيدة النثر،لأنه كان يرفض تسمية ما يكتب بقصيدة النثر،ويدعوها بالقصيدة الحرة،هذه القصيدة الخالية من البلاغة العربية وفخامة الجملة، وتحمل أوزانها الخاصة المتحررة من هيمنة اوزان الخليل والتي تستحق ان نطلق عليها "بالشَرَكية"،فهي تنصب الفخاخ لمن لايعي الحداثة وعياً ناضجاً وعميقاً، ولهذا ليس من المستغرب ان ينظر له البعض على انه مجرّد حكّاء بينما أرى ان دوره من أكبر الأدوار أهمية ً في فتح آفاق واسعة أمام الحداثة الشعرية العربية، فهو أحد الذين هبطوا بالشعر العربي من ابراجه العاجية وازال عنه أصباغه الرديئة، فسركون بولص مع قلة قليلة ممن سبقه وجايله ولحقه فتحوا لنا أبواب الحداثة والتجديد ولكنه لم يكن الوحيد والأ وحد،حيث لايوجد في الشعر من يحمل مشعل الحداثة لوحده.
وديع: لم يعط "كافكا" أية أهمية للنقاش الدائر في حقبته حول الشكل الأدبي الذي يجب أن يتخذه الإبداع ... فلم يكتب بأنه يفضل الرواية على القصة القصة القصيرة او القصة القصيرة على الشعر.. بل كان يكتب وكان يتوقف عندما يرى أن الأسطر التي كتبها كافية، وأن ما مكتوب أمامه أخذ استقلاليته ؛ بمناسبة حديثك عن رفض سركون لمصطلح قصيدة النثر- وهو ما يشاركه اخرون كثر في هذا الرأي وأنا واحد منهم- ، تعرضت الى ذكر" القصيدة الشركية" هل لك ان توضح أكثر فيما تعنيه في هذا التوصيف الجديد ؟