المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في بيتنا قِرْدْ



خيري حمدان
20/01/2008, 10:42 PM
إنّها إفريقيا السوداء الواعدة بالخيرات والغابات والحيوانات على كافّة أشكالها وألوانها. قارّة مليئة بالمفاجآت، ترى شابّاً قويّ البنية يضحك ويتشدّق بالنكات ذات اليمين واليسار وبعد أيامّ يخبرونك بأنّه توفيّ إثر التهاب أو ما شابه ذلك.
الجوّ في الخارج حارّ للغاية، باختصار، إنّه الجحيم بعينه ويتمنّى المرء لو يقدر على تغيير جلده حتّى يحتمل درجات الحرارة اللعينة تلك! ولكنّ، هيهات. أمّا الشعب ففقير للغاية ولا يتجاوز دخله دولارات معدودة، وهذا يعني أيضاً بأنّي قادرٌ على العيش كملك غير متوجّ في إفريقيا. استقرّيت وزوجتي في إحدى المناطق التي تعتبر غنيّة وفاخرة. بالطبع فإن مفهوم المدنية والظروف المتاحة للتعبير عنّ الغنى والترف مختلفة تماماً عن المألوف!. كان هناك مكيّف وكانت الكهرباء دائمة الحضور، وهذا أمرٌ يصعب أن يحصل عليه سواد الشعب في هذا البلد الإفريقي.
تأقلمت بسرعة في ظلّ الأجواء الحارّة وأنا الذي أكره البرد والملابس الثقيلة الباردة، وسرعان ما بدأ الحديث عن الحيوانات. كان أصدقائي المعدودين على الأصابع ومعظمهم من رجال الأعمال وموظفي السفارات العربية يمتلكون الكثير من الطيور الأليفة والحيوانات الغريبة وما أكثرها هناك. حدثوني عن ذكاء القرود طويلاً وعن صعوبة اصطياد أحدها. لم أعر أحاديثهم كثير اهتمام لولا أنّي شاهدت قرداً يجثم فوق أعلى الشجرة المقابلة لمنزلي. كانت الشجرة ترتقي عالياً والى عشرات الأمتار، وكان القرد يجثم فوقها بأمان. كان يراقبني طِوال الوقت، وكان يستشعر بأنّ الموز والأناناس كثير في بيتي. كنت أشتري عشرات الكيلوغرامات لأنّ ثمنها زهيدٌ للغاية. وعمليّاً لم نكن نتناول سوى الفواكه الاستوائية وغيرها ممّا تجود به إفريقيا.
في أحد الأيام وعند مغادرتي المنزل تركت قرن موزٍ عند مدخل البيت، وسارعت بالابتعاد عن المكان. وفي المساء وجدت الموز قد اختفى، نظرت الى أعلى الشجرة، وما أن شعر بنظراتي حتّى اختفى خلف أحد الأغصان الكثيفة. في اليوم التالي شعرت بأنّ نظراته مركّزة على محتويات يديّ. وهذه المرّة كنت أحمل قطعتين من الموز. كانت عيناه تلمع في الأعلى، وأدركت بأنّ لعابه سال حينما رآني أترك الموز بضعة أمتار داخل المنزل. بقيت مختبئاً في إحدى زوايا المنزل، وراقبت تصرّفاته وحركاته. في البداية هبط الى أسفل الشجرة وأخذ يحدّق ويرقب بكلّ شبر في المكان، وعندما أدرك بأنّ المكان آمن، انقض بلمح البصر الى الموز. خطفهما وانطلق الى أعلى الشجرة حيث منزله الآمن. أدهشتني السرعة التي يتحرّك بها، كان يتمتّع بقدر كبير من الذكاء والتنظيم يحسده عليه الكثير من أصحاب القرار في العالم!
أخذ إعجابي يزداد كلّ يومٍ بذلك المخلوق الرائع، وأخذ الموز أيضاً يقترب شيئاً فشيئ الى مدخل المنزل. وفي تلك الأثناء كنت قد صمّمت له ما يشبه مقرّ صغير على الشرفة سمّيته (منزل الوقور). تصرّفات هذا الحيوان كانت خالية من أيّة أطماع، تشبه الى حدّ بعيد براءة الإنسان قبل أن يخترع القنبلة الذرية والهيدروجينية، وقبل أن يصعد الى القمر ويبدأ بتدمير الأرض بشكلٍ منهجي.
أشعر بأنّ نهاية الحياة على الكرة الأرضية وبالتالي نهاية الإنسانية هي من صنع الإنسان نفسه. ربّما لهذا أحترمت هذا المخلوق العجيب. كان الوقور نظيفاً لا يترك خلفه أيّة نفايات وحريص في الوقت نفسه على ألاّ يثقل علينا نحن البشر.
أشفقت عليه كثيراً عندما رأيته وهو متردّدٌ بالانقضاض على الموز أمام منزل البيت مباشرة، بقي في حيرته ما يزيد عن الستّ ساعات، ثمّ دار حول جميع أطراف المنزل قبل أن ينقضّ أخيراً على الموز ويهرب عائداً الى أعلى الشجرة والعرق يتصبّب من وجهه الصغير رُعْباً.

دماغ القرد شهيّ للغاية، كان هذا العنوان ما قرأته قبل أن يربطوا القرد الى منتصف الطاولة، حيث تتواجد فتحة تتّسع للرأس الصغير. يتقدّم الجزّار الصيني الى المأدبة المميّزة يحمل بين يديه سكّيناً يشبه المنشار وهو حادّ للغاية، ينتزع بضربة سريعة كلّ ما يغطّي الدماغ، ويبدأ الحضور برشّ الملح والبهار على الدماغ الحيّ وسط صرخات الألم المنطلقة من حنجرة القرد لحظات قبل أن يموت. هذه وجبة حقيقية تقدّم في الصين وثمنها مرتفع للغاية. كيف يمكن للإنسان أن يكون شرساً وقاسياً الى هذه الدرجة. الحيوان المفترس يقتل على عجل ومن أجل الطعام والبقاء فقط .. نظرت الى رأسه الصغيرة مشفقاً، لماذا قررت صيده؟ ولماذا أصرّ على ذلك حتى اللحظة؟
أنا غير قادر على الإجابة عن هذا السؤال لأنني إنسان، لكنّي لن أعبث بدماغه .. العبث لن يتعدّى عواطفه.
أزحت البرادي ووضعت كميّة كبيرة من الموز على الشرفة حيث "منزل الوقور"، وتأكّدت من أنّ جميع النوافذ ومخارج المنزل مغلقة بالكامل، وكانت زوجتي والأطفال في زيارة طويلة ذلك النهار. تركت باب المنزل مشرعاً واختبأت خلفه، وانتظرت ساعات وانا على حالي تلك. كلّ هذا من أجل اصطياد قرد، يا لها من مهزلة!؟. أخذ القرد يدور حول المنزل مرّات عديدة، تفحّص كلّ نافذة وكلّ مدخل ومخرج، لم يترك مسماراً ولا عارضة خشب إلاّ ونظر خلفها. وحين أدرك بأنّه وحيد في كافّة أنحاء البيت من الخارج والداخل. قرّر الدخول الى البيت حيث الموز والأناناس، كان على ثقة كبيرة من النفس، لا يوجد من يعكّر صفوه، جائعٌ في منزل كبيرٍ ودافئ .. أخذ يقشّر الموز على مهل، وأخذ يتذوّق الفاكهة بكلّ هدوء وبلذّة لا توصف. وفي لحظة تكاد تكون جزءاً من الثانية من عمر الزمن، أدرك الوقور بأنّه ليس وقوراً، وأنّه ليس وحيداً، وأنّه وقع في المصيدة. صرخ بأعلى صوته بعد أن سمع صوت الباب ينغلق، ودار بجنونٍ في جميع أنحاء المنزل. مرّة ومرّتين، ولكن، دون فائدة.
وضع القرد يده على رأسه وضرب وجهه الصغير. ثمّ نظر اليّ .. نظر الى عينيّ مباشرة. كانت عيناه مليئة بالرجاء، وكأنّ لسان حاله يقول: لقد وقعت بين يديك، فلا تضربني .. أرجوك!. لقد استسلم بالكامل الى إرادتي، ولم تكن لديّ أيّ نيّة لإيذائه بالرغم من عدم ثقته بالبشر.
رقد الوقور في المنزل الصغير الذي أعددته له، لم يتناول أيّ طعام طِوال أيام. كنت أضع له الموز والأناناس وجوز الهند وكلّ ما يطيب لهذه الفصيلة من الحيوانات. كان يمسك بقرن الموز بحقد قبل أن يقذف به غاضباً صارخاً. أدرك بأنّ شهيته وراء صيده وفقدانه الحريّة. لم يتمكّن من مقاومة الجوع أكثر من ذلك، وتناول الموز على مضض .. قطعة إثر قطعة، دون أن يسارع بالتهامها. وكنت أمازحه وأداعبه، وأخيراً أدرك بأنّه في أمان. كان يراقبني وشيءٌ من الرجاء ما يزال في عينيه. فتحت الشرفة ونقلت الموز الى الطاولة، وكانت هذه دعوة منّي للجلوس قبالتي ليس للحديث بالطبع! ولكنّ لاشعاره بالأمان. وجلس وتناول الكثير من الفواكه وتوقّف عن النظر الى الشجرة. شعرت بالحرج لأنّي بدأت مرحلة سرقة جزء من حيوانيته وأخذت أعدّه للتأقلم مع حياة الإنسان. قلب الإنسان يصبح أحياناً قاسٍ الى أبعد حدود. هذا القرد يحتاج الى زوجة، وها قد بدأت دراسة إمكانية اصطياد أنثى لتكون زوجة صالحة له. وغاب عن بالي في تلك اللحظة بأنّ القردة عائلات وليست جميعها على وفاق. هذا ليس مهمّاً الآن. فأنا لا أقدر بعد اللحظة أن أعيد لهذا المخلوق حياته السابقة وسعادته التي كان يجدها فوق أعلى الشجرة. كان اصطيادي له بمثابة تلاعب بالخارطة الجينية لهذا المخلوق .. ولا عودة عن هذا المشروع مهما حدث!.

فايزة شرف الدين
21/01/2008, 02:16 AM
الأخ / خيري
نصك أعادني إلي مرحلة مبكرة من العمر ، وذكرني بتلك القصص والمقالات التي كانت تشدني إلي القراءة بشغف في مجلة المختار الأمريكية القديمة ، وتسمى الريدرز دايجست .. وكان الكتاب أو لعل من يمتلك قدرة على الحكي مثلك يحكي قصة مثيرة عن حيوان أو موقف ، وربما هذه القصص أصلت عندي حب القراءة ، لأني قرأتها منذ نعومة أظافري .
الحكاية مشوقة جدا ، وأسلوبك جزل يشد الانتباه .. لكنها لم تخرج عن إطار أنها حكاية ، وليست قصة قصيرة .. وكما قال الدكتور محمد منصور في نقد له في أحد النصوص .. أنك صغت الواقع خطوة بخطوة ، دون أن تريق عليه خيال الكاتب .
مع هذا يبقي لنصك هذا العبق الجميل الذي راقني جدا .. فنحن بحاجة أيضا إلي مثل هذا القص ، لأني عشت معك تلك المغامرة ، وحب الإنسان علي الاستحواذ بأي ثمن .. وبالطبع تمتعت بوصفك الجميل للبيئة المغايرة عما ألفناه في البيئة التي نعيش فيها .
تقبل مروري

خيري حمدان
23/01/2008, 08:42 PM
أعتقد بأنّني وجدت قارئاً جادّاً في هذا المنبر، وفي الوقت نفسه سيّدة تتمتّع بالقراءة
وتدرك خبايا النصّ بل واقرأ ما بين الحروف.
ملاحظاتك في محلّها، بالرغم من أنّني لم أرغب أن أدخل الخيال الابداعي في هذا النصّ
الواقعي .. فهذه قصّة حدثت مع أحدّ الأصدقاء في إفريقيا، ورّكزت من خلاله على إظهار
الألم الشديد الذي شعر به القرد نتيجة لفثدانه حريّته.
أشكرك لهذا المرور العَطِرْ ودمت بكلّ المحبّة.
:fl: