محمد صباح الحواصلي
25/11/2006, 01:30 AM
الشرخ
قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي
في كلامه قوة وسلطان, بل ملامح استبداد بالرأي, واستخفاف مطلي بالاستظراف. جلسته مستهترة; الجسد غاطس في كنبة مريحة, الساق على الساق, والكاحل على رأس الركبة, والقدم تهتز متخايلة كالأقدار في بلادي. كنت أنظر إلى وجهه استجلي في أديمه صفة كانت تتلامح لي, ولكن سرعان ما تتفلت.. علها الغرق في مجون الجانب المظلم من المدينة.
الجميع على ما يبدو أصدقاء. الوحيد الغريب بينهم هو أنا. لكننا كلنا من وطن واحد جمعتنا معرفتنا بصاحب المكتب العقاري الذي أعرفه منذ كانت الطفولة تسكن الأشياء من حولنا وقد أضفت عليها مسحة الطهر والصفاء.
أماء صاحبي إليَّ بأن أدخل. أدركت أنه يريدني أن أجلس بينهم لأمر هام أجهله, وهذا ما أضفى على الموجودين أكثر من إشارة استفهام. صاحبي لم يُعرِّفني عليهم, أما أنا فقد وجدت من الاحترام أن أعرِّفَ بنفسي:
"طلال قدري."
مر اسمي ويدي بينهم مرورا متعثرا, ولم يبدو أن أحدا منهم همه أن يعرف من أنا. أما هم فقد أشعروني أنه ليس من شأني أن أعرف من هم.
"اسمعوا هذه النكتة." قال صاحب الجسد الغاطس في الكنبة الوثيرة بعدما ضرب ساقَ صاحبي براحة يده. أرهفَ الجميع السمع. النكتة بذيئة انتزعت مني ضحكة مكتومة انهصرتْ بين قهقهاتهم العالية, ويتحدثُ بكثير من اللامبالاة عن ليلةٍ حمراء دامتْ حتى مطلع الفجر. حلفَ أنه شرب لترين وسكي, وأن الدنيا من حوله هي التي سكرت وانطرحت أرضا, وبقي هو صاحيا لدرجة أنه لا يذكر بمن قضى وطره آخر الليل بأنثى أم بذكر!
ضحك الجميع حتى احمرت أوداجهم, أما صاحبي فقد انطلقت من أعماقه ضحكة مجاملة دون أن يفوته دس نظرة فاحصة في عيني.
تابع الغاطس في نعيم الكنبة الوثيرة حديثه عن ليلة قات:
"وضعته تحت حنكي ورحت امضغه مستحلبا أوراقه الطازجة.. ابن الكلب مثل المطاط لم أشعر بشيء فبزقته بقرف."
قال آخر:
"يقولون إنه يجب تعاطيه أكثر من ثلاثة أسابيع حتى تشعر بالخفة والنشوة."
"يلعن أبوه.. وهل انتظره ثلاثة أسابيع حتى أشعر بالنشوة.. فالنشوة إن لم تأتِني لحظتها فأنا لا أريدها."
مع انعقاد سحب الدخان في المكتب, أخذت عباراتهم تغمض حتى أصبحت الغازا ورموزا واشارات تنساب من أفواههم بطلاقة ودربة.
حرتُ بكلامهم.
أي أبالسة هؤلاء؟
الأخضر.. والدواب المدربة تسرح وحدها بين شعاب الجبال.. والنقطة مهجورة.. والعناصر مشبعة.. والقانون مطاط.. وأفعلها ولا تجعلهم يمسكوا بك.
اشتد انعقاد الدخان, وصَعُبَتْ الرؤية في فضاء المكتب, وكأنَّ الهواء النظيف لا يعنيهم. رائحة الدخان غريبة كحديثهم, كعيونهم التي أصبحتْ كتلا حمراء. أما أنا فقد شعرت بإحساس غريب..شيء مثل الدوار.. مثل الغياب.
عينا صاحبي كانتا تتفحصاني وكأنه قرأ ما يجول في خاطري من تساؤلات, عندها هب صاحب الجلسة المستهترة واقفا, فهب الجميع بعده واقفين. كان أول المغادرين, وطبعا لم يصافحني هو وصحبه وكأنني لم أكن. بقيت واقفا في المكتب مع بقايا دوار.. بقايا حديث جمَّدَ الدهشة في حواسي كلها.
لحِقَ بهم صاحبي. ودعهم عند باب المكتب الخارجي. من خلف الزجاج رأيتهم يركبون سياراتهم المتميزة, التي اندفعت بسرعة واستخفاف فوق الرصيف. عاد صاحبي مسرعا, فتح النوافذ ليصرف الدخان المشبوه, ثم جلس قبالتي وقال: "هؤلاء الذين يصنعون اليوم والغد في هذه البلد."
أودعت عينيه نظرة استنكار وعتب وقلت له:
"أي أبالسة هؤلاء! ولاسيما ذاك الماجن الذي كان غاطسا في الكنبة."
مال صاحبي برأسه نحو أذني وتابع بصوت خفيض:
"لو تدري من يكون ذاك الغاطس في الكنبة الوثيرة."
باستهزاء قلت:
"ومن يكون؟"
اقترب من أذني ثانية وهمس:
"................."
صعقتني دهشة من تلك التي تشعرك أن الأرضَ تميدُ من تحتك.
"أيُعقلُ ما تقول!"
"صدقني.."
"غير معقول.."
"مثله كثير.."
بصوت خفيض قلت:
"مثله كثير هذا صحيح.. ولكن هو بالذات.. هذه مصيبة."
"بإمكاني أن أتحفك كل يوم بواحد مثله."
رددتُ بهمس وكأنني أكلم نفسي:
"هذا خطير! يعني ذلك أن شرخ الوطن يزداد عمقا."
التفت إلى صاحبي:
"أتحدثني؟"
هززت رأسي قائلا: "لا.. احدث نفسي."
***
محمد صباح الحواصلي/ كاتب سوري.
sabahhawasli@yahoo.com
قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي
في كلامه قوة وسلطان, بل ملامح استبداد بالرأي, واستخفاف مطلي بالاستظراف. جلسته مستهترة; الجسد غاطس في كنبة مريحة, الساق على الساق, والكاحل على رأس الركبة, والقدم تهتز متخايلة كالأقدار في بلادي. كنت أنظر إلى وجهه استجلي في أديمه صفة كانت تتلامح لي, ولكن سرعان ما تتفلت.. علها الغرق في مجون الجانب المظلم من المدينة.
الجميع على ما يبدو أصدقاء. الوحيد الغريب بينهم هو أنا. لكننا كلنا من وطن واحد جمعتنا معرفتنا بصاحب المكتب العقاري الذي أعرفه منذ كانت الطفولة تسكن الأشياء من حولنا وقد أضفت عليها مسحة الطهر والصفاء.
أماء صاحبي إليَّ بأن أدخل. أدركت أنه يريدني أن أجلس بينهم لأمر هام أجهله, وهذا ما أضفى على الموجودين أكثر من إشارة استفهام. صاحبي لم يُعرِّفني عليهم, أما أنا فقد وجدت من الاحترام أن أعرِّفَ بنفسي:
"طلال قدري."
مر اسمي ويدي بينهم مرورا متعثرا, ولم يبدو أن أحدا منهم همه أن يعرف من أنا. أما هم فقد أشعروني أنه ليس من شأني أن أعرف من هم.
"اسمعوا هذه النكتة." قال صاحب الجسد الغاطس في الكنبة الوثيرة بعدما ضرب ساقَ صاحبي براحة يده. أرهفَ الجميع السمع. النكتة بذيئة انتزعت مني ضحكة مكتومة انهصرتْ بين قهقهاتهم العالية, ويتحدثُ بكثير من اللامبالاة عن ليلةٍ حمراء دامتْ حتى مطلع الفجر. حلفَ أنه شرب لترين وسكي, وأن الدنيا من حوله هي التي سكرت وانطرحت أرضا, وبقي هو صاحيا لدرجة أنه لا يذكر بمن قضى وطره آخر الليل بأنثى أم بذكر!
ضحك الجميع حتى احمرت أوداجهم, أما صاحبي فقد انطلقت من أعماقه ضحكة مجاملة دون أن يفوته دس نظرة فاحصة في عيني.
تابع الغاطس في نعيم الكنبة الوثيرة حديثه عن ليلة قات:
"وضعته تحت حنكي ورحت امضغه مستحلبا أوراقه الطازجة.. ابن الكلب مثل المطاط لم أشعر بشيء فبزقته بقرف."
قال آخر:
"يقولون إنه يجب تعاطيه أكثر من ثلاثة أسابيع حتى تشعر بالخفة والنشوة."
"يلعن أبوه.. وهل انتظره ثلاثة أسابيع حتى أشعر بالنشوة.. فالنشوة إن لم تأتِني لحظتها فأنا لا أريدها."
مع انعقاد سحب الدخان في المكتب, أخذت عباراتهم تغمض حتى أصبحت الغازا ورموزا واشارات تنساب من أفواههم بطلاقة ودربة.
حرتُ بكلامهم.
أي أبالسة هؤلاء؟
الأخضر.. والدواب المدربة تسرح وحدها بين شعاب الجبال.. والنقطة مهجورة.. والعناصر مشبعة.. والقانون مطاط.. وأفعلها ولا تجعلهم يمسكوا بك.
اشتد انعقاد الدخان, وصَعُبَتْ الرؤية في فضاء المكتب, وكأنَّ الهواء النظيف لا يعنيهم. رائحة الدخان غريبة كحديثهم, كعيونهم التي أصبحتْ كتلا حمراء. أما أنا فقد شعرت بإحساس غريب..شيء مثل الدوار.. مثل الغياب.
عينا صاحبي كانتا تتفحصاني وكأنه قرأ ما يجول في خاطري من تساؤلات, عندها هب صاحب الجلسة المستهترة واقفا, فهب الجميع بعده واقفين. كان أول المغادرين, وطبعا لم يصافحني هو وصحبه وكأنني لم أكن. بقيت واقفا في المكتب مع بقايا دوار.. بقايا حديث جمَّدَ الدهشة في حواسي كلها.
لحِقَ بهم صاحبي. ودعهم عند باب المكتب الخارجي. من خلف الزجاج رأيتهم يركبون سياراتهم المتميزة, التي اندفعت بسرعة واستخفاف فوق الرصيف. عاد صاحبي مسرعا, فتح النوافذ ليصرف الدخان المشبوه, ثم جلس قبالتي وقال: "هؤلاء الذين يصنعون اليوم والغد في هذه البلد."
أودعت عينيه نظرة استنكار وعتب وقلت له:
"أي أبالسة هؤلاء! ولاسيما ذاك الماجن الذي كان غاطسا في الكنبة."
مال صاحبي برأسه نحو أذني وتابع بصوت خفيض:
"لو تدري من يكون ذاك الغاطس في الكنبة الوثيرة."
باستهزاء قلت:
"ومن يكون؟"
اقترب من أذني ثانية وهمس:
"................."
صعقتني دهشة من تلك التي تشعرك أن الأرضَ تميدُ من تحتك.
"أيُعقلُ ما تقول!"
"صدقني.."
"غير معقول.."
"مثله كثير.."
بصوت خفيض قلت:
"مثله كثير هذا صحيح.. ولكن هو بالذات.. هذه مصيبة."
"بإمكاني أن أتحفك كل يوم بواحد مثله."
رددتُ بهمس وكأنني أكلم نفسي:
"هذا خطير! يعني ذلك أن شرخ الوطن يزداد عمقا."
التفت إلى صاحبي:
"أتحدثني؟"
هززت رأسي قائلا: "لا.. احدث نفسي."
***
محمد صباح الحواصلي/ كاتب سوري.
sabahhawasli@yahoo.com