المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الثالث من الباب الثاني عشر من كتاب تلاش للأديب الباكستاني ممتاز مفتي



إبراهيم محمد إبراهيم
24/01/2008, 07:16 AM
الجزء الثالث من الباب الثاني عشر
دوامة المادية :
لقد اتخذ أهل الغرب من الاقتصاد إلهاً لهم ، فهو يسيطر على كل جوانب حياتهم ، وحمى " مستوى المعيشة " مستعرة لديهم ، رفع مستوى المعيشة ... رفع مستوى المعيشة ، فماذا يقصدون بمستوى المعيشة إذن !. الأشياء ، ثم الأشياء ، ثم الأشياء . وقيمة الفرد تقاس بالأشياء ، ولا يقتصر الأمر على الأفراد فقط ، إنما يمتد ليشمل الدول والأمم ، ويعدون إحصاءات طويلة عريضة ينشرونها على الملأ ، يحددون فيها مكانة كل دولة ، ومستوى دخل أفرادها ، كم من أجهـزة الراديـو والتلفزيـون والسيـارات لديهم !!. والدول التي لدى أفرادها زيادة في هذه " الأشياء " تعـد دولاً متقدمـة ، والتي لديها أقل تعد دولاً متخلفة ، أو يطلقون عليها دولاً " نامية " مراعاة لمشاعر شعوبها . على أية حال فإن معيار التقدم عندهم لا علاقة له بالإنسان أو الفرد ، وإنما بـ " أشيائه " ، ومستوى دخله وثروته . لقد أصبح هدف الحياة عند أهل الغرب هو التقدم الاقتصادي ، وليس العطف والتضحية ، أو الخدمة والمحبة ، وإن كانت لهذه الأشياء قيمة في نظرهم ، فإن ذلك يكون بقدر ارتباطها بالتقدم الاقتصادي أيضاً ، فإن كانت ستسهم في تقدمه فبها ونعمت ، وإلا فلا قيمة لها بشكل مستقل ، فما هي نتيجة هذا الواقع ؟.
لحظة الانتباه واليقظة :
يأتي على الفرد يوم يتوقف فيه عن الدوران في فلك دوامة العمل والتفريح هذه ، ويسأل نفسه : ما الذي أفعله !. ما نهاية هذا الدوران المستمر في هذه الدوامة ، وما هو مصير كل هذا !. هل الهدف من الحيـاة الإنسانية هو أن يشقى الإنسان ويجمع المال ، ثم بعد ذلك ينفقه تفريحاً وترفيهاً !. وأي ترفيه هذا الذي لا يمنح سكينة ولا اطمئناناً ، بل على العكس يزيد من حدة الدوامة .. طعام ، وشراب ، وعزف على أوتار الشهوة مع نساء عاريات ، ثم سقوط يعقب الفراغ من كل هذا . إنها لحظة الانتباه ، ويمر بها كل فرد في حياته ، البعض يؤجلها ويماطلها ، والبعض الآخر يغرق فيها .
على أية حال نتيجة هذه اللحظة هي أن نصف مستشفيات أمريكا خاص بالأمراض النفسية والعقلية ، وثلث ميزانية ولاية " نيو يورك " ينفق على مستشفياتها العقلية ، ثم إن هناك حقيقة تستحق التوقف عندها ، وهي هذه الزيادة في نسبـة حوادث الانتحار في الدول الغربية . يقول المشاهير إن هذا كله نتيجة تلك اللحظة التي أشرنا إليها ، إذ يتوقف الفرد الأمريكي وينتبه ، ثم يتساءل : ما هذا الذي أفعله . إلى متى سأظل أدور في هذه الدوامة . ما الهدف من سلسلة العمل والتفريح هذه . وما هو المصير . أيها السادة ، إنها لحظة قاسية تلك التي تمر في حياة الإنسان الغربي ، وتجرف كل شيء أمامها كمثل الطوفان .
دوامة العمل واللهو والعبث :
وهذه حكاية مثل هذه اللحظة في حياة رجل أسلم حديثاً ، رجل تخرج من الجامعة ، ودخـل الحيـاة العمليـة ، وحيثمـا ذهـب ، إلى " نيو يورك " ، إلى " هوليود " ، إلى " كاليفورنيا " ، إلى " شيكاغو " ، حيثما ذهب انهمك في دوامة الحياة . يقول : كانت حياتي مليئة باللهو والعبث ، كل متع الحياة المادية كانت متوفرة لديّ ، كانت حياتي حلماً جميلاً . وذات يوم تفتحت عيناي ، أخذت أفكر ؛ ما هذا الذي يحدث !. كل رفاهيات الحياة في متناول يدي ، ورغم ذلك حياتي فارغة خاوية ! . في ذلك اليوم وددت لو تخليت عن كل شيء وهربت بعيداً ، لكن إلى أين !. لم تكن لديّ إجابة محددة ، وكان لذلك رد فعل شديد على نفسي ، فأغرقت نفسي في الملذات ثانية ، وانحدرت إلى قاع الشهوات المتأجج ناراً ، ولم يكن أمامي سوي طريقين لا ثالث لهما ؛ فإما أن أحترق في هذا القاع الملتهب ، وإما أن أبحث عن طريق آخر .
وانتبهت ذات يوم ، شعرت وكأن هناك من يهمس في أذني قائلاً : لا بد أن تبحث عن طريق آخر ، ولن يكون إلا من خلال الدين !.
أيها السادة ، ليس هناك سوى حل واحد أمام أهل الغرب للخروج من دوامة الحياة الدنيا التي حرفتهم بداخلها ، وهو حل بسيط وسهل ؛ أن يسلموا أنفسهم لله لا أكثر !. ولكن الفرق سيكون عظيماً إن فعلوا ، عندئذ لن تكون الكائنات مجرد اتساع لا معنى له ، ستصبح خلقاً ذا غاية وهدف ، وستفقد الأشياء أهميتها ، ويبرز الإنسان ، وتكتسب القيم الإنسانية أهميتها اللائقة بها ، وتتولد علاقة الأخوة بين بني الإنسان ، وسواء عرفت الله أم لم تعرفه ، وسواء فهمته أم لم تفهمـه ، لكن لا مفـر من الإيمان به ، فإذا لم تؤمن به أحاطت بك جهنم المادية من كل جانب !.

يا إلهي ، ما هذا الدين !. :

وهذا اعتراف من البروفيسير الفرنسي المسلم " روجيه جارودي " يستحق الملاحظة ، فقـد ظـل " جـــارودي " لاثني عشـر عامـاً رئيساً للحزب الشيوعي الفرنسي . يقول : كانت الفترة التي عشتها تتسم بالتشتت الفكري (13) والتشرذم الذهني ، كنت أنا شخصياً مثل الكثيرين الذين توفرت لهم كل متع الحياة ورفاهياتها وملذاتها ، لكني بالرغم من ذلك لم أشعر بالسكينة القلبية ، كان يبدو كأنني أسيح في فضاء واسع ، وكلما خلوت إلى نفسي سألتها : لماذا لا أشعر بالراحة على الرغم من توفر كل شيء لديّ !. لماذا أشعر بهذا الاضطراب !. ما الذي يحزنني ؟!. كان والداي دهريين ، وكنت أنا شيوعياً ، وكان كل شيء موجوداً في حياتي ، ما عدا الله !.
ومع مزيد من التفكير اكتشفت أن ما أشعر به ناتج عن افتقادي لفكرة " الله " ، اكتشفت أن هذه الكائنات لم توجد هكذا بنفسها ، وأن الإنسان في حاجة أساسية إلى وجود الله ، ولهذا آمنت بالمسيحية ، وأصبحت عضواً بتنظيم الشباب الكاثوليكي .
ثم حدث بعد ذلك أمر عجيب ، فقد أسرت في الحرب العالمية الثانية ، ونقلت إلى معسكر رهيب في الجزائر ، وذات يوم أمر قائد المعسكر بإطلاق النار عليّ ، وتنفيذاً للأمر سلموني لجنديين مسلمين ، ورفض الجنديان تنفيذ أوامر القائد ، وقالا : إن ديننا لا يسمح بإطلاق الرصاص على شخص أعزل . وحاول البعض إقناعهما بخطأ ما يفعلان ، وأنه لو علم القائد بامتناعهما عن تنفيذ الأوامر فسيحولهما إلى محاكمة عسكرية ، لكنهما قالا : ليكن ، لكننا لن نعصي أمر ربنا .
يقول البروفيسير " جارودي " : لقد ذهلت مما قاله الجنديان ، فأي دين هذا الذي لا يسمح بإطلاق النار على العزل ؟!. هل هناك دين في هذا العالم يدعو إلى تطبيق القيم الإنسانية !. وحين علمت أنه الدين الإسلامي أقبلت على دراسته في نهم ، وكانت النتيجة أن شرفني الله بالإسلام .
السكينة والعكاز :
ولا يقتصر الأمر على البروفيسير " جارودي " فقط ، فهناك جو عام من فقدان السكينة يسود الغرب ، الناس هناك تتوفر لديهم كل الرفاهيات والمتع والملذات ، ورغم ذلك هناك إحساس غامض بالنقص والحرمان . القلوب غير مطمئنة ، لا تشعر بالسكينة ، ولا مجال لالتقاط الأنفاس ، نوع من عدم الراحة والقلق والاضطراب ، لا يوجد سوى سيل من الحركة ، نوع من السباق ، سباق بلا غاية ، وحركة بلا هدف .
ولا أدري لماذا لا يشعر الإنسان بالطمأنينة إذا لم يجد " عكازاً " يتكئ عليه !. يظل غير مستريح ، يشعر باضطراب غامض . ولقد أصاب الكثيرين من أهل الغرب ملل وإحباط من الحياة المادية ، وبدأوا يشعرون بأهمية الدين ، ولهذا يتجهون إليه ، لكن الدين السائد في الغرب وصل إلى درجة من الخواء والعشوائية جعلته لم يعد مقبولاً لدى الإنسان المعاصر ، فلا يوجد صاحب عقل مستعد للتسليم بالمسيحية في عصر اعترف فيه البحث العلمي بأنه من الممكن ولادة طفل بغير التقاء الذكر والأنثى .
أما متطلبات أهل يهود الدينية فهي عجب العجاب ، وهناك الكثيرون من أهل الغرب يرغبون في دراسة الأديان كلها دراسة مقارنة ، ومكتبات الغرب تمتلئ عن آخرها بكم هائل من المعلومات عن الأديان كلها ، إلا الإسلام . ولا أدري كيف استطاع أحبار اليهود وقساوسة النصارى نصب هذه الشبكة من المعلومات المغلوطة عن الإسلام لدرجة أن أهل الغرب لا يعترفون بالإسلام ديناً من الأصل ، ويعتقدون أن المسلمين ما هم إلا شرذمة من اللصوص وقطاع الطرق ، ولا علاقة لهم من قريب أو من بعيد بالأخلاق !.
الغرب والإسلام :
يتفق الأمريكيون والغربيون الذين أسلموا حديثاً على أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يمكن أن يقبله " الإنسان المعاصر " في أيامنا هذه ، أما باقي الأديان فإنها بمثابة ركام من الخرافات والأوهام لا تستطيع أن تقنع إنسان هذا العصر الحديث .
إن العقبة الوحيدة في طريق قبول الغربيين للإسلام هي أنهم لا يعرفون شيئاً عنه ، لا يعرفون أن الإسلام أيضاً دين يعطي أهمية كبرى للعقل ، ويدعو إلى تحصيل العلم ، ويجعل البحث العلمي في درجة العبادة .
والذنب كله في الحقيقة ذنبنا نحن ، فلقد قصرنا كثيراً في الدعوة إلى الإسلام . ورغم أن لدينا عشرات من الجماعات التي تعمل في حقل الدعوة ، لكن الطريقة التي يتبعونها في دعوتهم تخلق نوعاً من رد الفعل السلبي في نفوس الشباب وعقولهم ، بدلاً من أن تؤثر عليها إيجابياً .
يقول " خالد لطيف جابا " : كان السبب في دخولي الإسلام هو أن هذا الدين يتطابق تماماً مع مقتضيات العصر الحاضـر ويلبيها ، وليس هناك حل لمشاكل هذا العصر لدى أي دين سواه ، والعالم اليوم يرغب في الأخوة والمساواة ، ولا توجد في العالم قوة تستطيع أن تقدم حلولاً مرضية لمشاكله الاقتصادية والأخلاقية مثل الإسلام .
ويقول " سليمان مسفر " ، أمريكي أسلم حديثـاً : لقد هداني الله تعالى إلى الدين الحق ، والحقيقة أن الأمريكيين في حاجة إلى من يقدم لهم الصورة الصحيحة للإسلام ، فلم يحدث حتى اليوم أن عرضت مثل هذه الصورة على الغرب ، والناس اليوم ملوا من الأديان التي لا روح فيها كاليهودية والمسيحية ، وأخذوا يتطلعون هنا وهناك لعلهم يجـدوا طريقاً آخر ، ولكن بلا فائدة . والآن حان الوقت لكي ندعو إلى الإسلام بحكمة وشجاعة ، فمن المؤكد أن مستقبل الغرب مرتبط بالإسلام .
المغزل المقلوب :
سادتي ، على العكس من هذا فإن دعاتنا ووعاظنا منهمكون في زرع التعصب ضد أهل الغرب (14) ، منهمكون بشدة في تحويل المسلمين " الضعاف " إلى مسلمين " أقوياء " ، يجعلون من الإسلام طقوساً ، ولا يعرفون أنهم في الحقيقة منهمكون في قطع الغصن الذي يجلسون فوقه ، إنهم يخلقون المسافات بين الغرب والإسلام ، بينما نحن في حاجة إلى إسقاط الجدار الذي بناه اليهود بين أهل الغرب والإسلام .
يقول الدكتور " درك وولتر موسك " الألماني : لقد درست الإسلام بعمق ، فوجدت أن الأديان الأخرى أمام الإسلام بمثابة عود ثقاب مشتعل أمام الشمس ، وأنا أقول بيقين إن من يقرأ القرآن بفهم وتمعن سيدخل في الإسلام إن شاء الله .
ويقول " محمد المهدي " بريطاني أسلم حديثاً : إنني أعتقد أن هناك إمكانيات رائعة لنشر الإسلام في أوروبا ، وأشعر أن نشره سيكون من خلال الطبقة المتعلمة تعليماً عالياً .
وعلى العكس من هذا يمسك " محتكرو الدين " الأميون بزمام الإسلام عندنا ، وهؤلاء يقيمون المدارس الدينية بكثرة عجيبة كنوع من تقوية موقفهم ، وفي هذه المدارس يحفّظون الأطفال اليتامى والفقراء والذين لا أهل لهم القرآن بغير فهم أو استيعاب حتى يتلونه في المحافل والاجتماعات ، فلا هم يفهمونهم ما في القرآن ، ولا هم يسلّحونهم بعلوم أخرى . إنهم في الحقيقة يحاولون من خلال هذه المدارس تحقيق الأكثرية العددية لأنفسهم والحفاظ عليها .
هوامش
13 - أي قبل أن يشرف بالإسلام .
14 - إن توجيه مثل هذا الاتهام إلى دعاة المسلمين على هذا الإطلاق فيه تحامل كبير وتجنّ واضح ، وربما عدم معرفة من الكاتب بواقع الحال ، وبالتالي لا يعد هذا الكلام علمياً يحمل قيمة تذكر ، فلدعاة المسلمين في عصرنا جهود واضحة في محاولة طي هذه المسافات ، وإن كان هناك البعض الذي لا يعمل بحكمة في هذا الخصوص ، لكنه لا يصح أن يكون مبرراً لتوجيه الاتهام لعموم الدعاة .

إبراهيم محمد إبراهيم
24/01/2008, 07:16 AM
الجزء الثالث من الباب الثاني عشر
دوامة المادية :
لقد اتخذ أهل الغرب من الاقتصاد إلهاً لهم ، فهو يسيطر على كل جوانب حياتهم ، وحمى " مستوى المعيشة " مستعرة لديهم ، رفع مستوى المعيشة ... رفع مستوى المعيشة ، فماذا يقصدون بمستوى المعيشة إذن !. الأشياء ، ثم الأشياء ، ثم الأشياء . وقيمة الفرد تقاس بالأشياء ، ولا يقتصر الأمر على الأفراد فقط ، إنما يمتد ليشمل الدول والأمم ، ويعدون إحصاءات طويلة عريضة ينشرونها على الملأ ، يحددون فيها مكانة كل دولة ، ومستوى دخل أفرادها ، كم من أجهـزة الراديـو والتلفزيـون والسيـارات لديهم !!. والدول التي لدى أفرادها زيادة في هذه " الأشياء " تعـد دولاً متقدمـة ، والتي لديها أقل تعد دولاً متخلفة ، أو يطلقون عليها دولاً " نامية " مراعاة لمشاعر شعوبها . على أية حال فإن معيار التقدم عندهم لا علاقة له بالإنسان أو الفرد ، وإنما بـ " أشيائه " ، ومستوى دخله وثروته . لقد أصبح هدف الحياة عند أهل الغرب هو التقدم الاقتصادي ، وليس العطف والتضحية ، أو الخدمة والمحبة ، وإن كانت لهذه الأشياء قيمة في نظرهم ، فإن ذلك يكون بقدر ارتباطها بالتقدم الاقتصادي أيضاً ، فإن كانت ستسهم في تقدمه فبها ونعمت ، وإلا فلا قيمة لها بشكل مستقل ، فما هي نتيجة هذا الواقع ؟.
لحظة الانتباه واليقظة :
يأتي على الفرد يوم يتوقف فيه عن الدوران في فلك دوامة العمل والتفريح هذه ، ويسأل نفسه : ما الذي أفعله !. ما نهاية هذا الدوران المستمر في هذه الدوامة ، وما هو مصير كل هذا !. هل الهدف من الحيـاة الإنسانية هو أن يشقى الإنسان ويجمع المال ، ثم بعد ذلك ينفقه تفريحاً وترفيهاً !. وأي ترفيه هذا الذي لا يمنح سكينة ولا اطمئناناً ، بل على العكس يزيد من حدة الدوامة .. طعام ، وشراب ، وعزف على أوتار الشهوة مع نساء عاريات ، ثم سقوط يعقب الفراغ من كل هذا . إنها لحظة الانتباه ، ويمر بها كل فرد في حياته ، البعض يؤجلها ويماطلها ، والبعض الآخر يغرق فيها .
على أية حال نتيجة هذه اللحظة هي أن نصف مستشفيات أمريكا خاص بالأمراض النفسية والعقلية ، وثلث ميزانية ولاية " نيو يورك " ينفق على مستشفياتها العقلية ، ثم إن هناك حقيقة تستحق التوقف عندها ، وهي هذه الزيادة في نسبـة حوادث الانتحار في الدول الغربية . يقول المشاهير إن هذا كله نتيجة تلك اللحظة التي أشرنا إليها ، إذ يتوقف الفرد الأمريكي وينتبه ، ثم يتساءل : ما هذا الذي أفعله . إلى متى سأظل أدور في هذه الدوامة . ما الهدف من سلسلة العمل والتفريح هذه . وما هو المصير . أيها السادة ، إنها لحظة قاسية تلك التي تمر في حياة الإنسان الغربي ، وتجرف كل شيء أمامها كمثل الطوفان .
دوامة العمل واللهو والعبث :
وهذه حكاية مثل هذه اللحظة في حياة رجل أسلم حديثاً ، رجل تخرج من الجامعة ، ودخـل الحيـاة العمليـة ، وحيثمـا ذهـب ، إلى " نيو يورك " ، إلى " هوليود " ، إلى " كاليفورنيا " ، إلى " شيكاغو " ، حيثما ذهب انهمك في دوامة الحياة . يقول : كانت حياتي مليئة باللهو والعبث ، كل متع الحياة المادية كانت متوفرة لديّ ، كانت حياتي حلماً جميلاً . وذات يوم تفتحت عيناي ، أخذت أفكر ؛ ما هذا الذي يحدث !. كل رفاهيات الحياة في متناول يدي ، ورغم ذلك حياتي فارغة خاوية ! . في ذلك اليوم وددت لو تخليت عن كل شيء وهربت بعيداً ، لكن إلى أين !. لم تكن لديّ إجابة محددة ، وكان لذلك رد فعل شديد على نفسي ، فأغرقت نفسي في الملذات ثانية ، وانحدرت إلى قاع الشهوات المتأجج ناراً ، ولم يكن أمامي سوي طريقين لا ثالث لهما ؛ فإما أن أحترق في هذا القاع الملتهب ، وإما أن أبحث عن طريق آخر .
وانتبهت ذات يوم ، شعرت وكأن هناك من يهمس في أذني قائلاً : لا بد أن تبحث عن طريق آخر ، ولن يكون إلا من خلال الدين !.
أيها السادة ، ليس هناك سوى حل واحد أمام أهل الغرب للخروج من دوامة الحياة الدنيا التي حرفتهم بداخلها ، وهو حل بسيط وسهل ؛ أن يسلموا أنفسهم لله لا أكثر !. ولكن الفرق سيكون عظيماً إن فعلوا ، عندئذ لن تكون الكائنات مجرد اتساع لا معنى له ، ستصبح خلقاً ذا غاية وهدف ، وستفقد الأشياء أهميتها ، ويبرز الإنسان ، وتكتسب القيم الإنسانية أهميتها اللائقة بها ، وتتولد علاقة الأخوة بين بني الإنسان ، وسواء عرفت الله أم لم تعرفه ، وسواء فهمته أم لم تفهمـه ، لكن لا مفـر من الإيمان به ، فإذا لم تؤمن به أحاطت بك جهنم المادية من كل جانب !.

يا إلهي ، ما هذا الدين !. :

وهذا اعتراف من البروفيسير الفرنسي المسلم " روجيه جارودي " يستحق الملاحظة ، فقـد ظـل " جـــارودي " لاثني عشـر عامـاً رئيساً للحزب الشيوعي الفرنسي . يقول : كانت الفترة التي عشتها تتسم بالتشتت الفكري (13) والتشرذم الذهني ، كنت أنا شخصياً مثل الكثيرين الذين توفرت لهم كل متع الحياة ورفاهياتها وملذاتها ، لكني بالرغم من ذلك لم أشعر بالسكينة القلبية ، كان يبدو كأنني أسيح في فضاء واسع ، وكلما خلوت إلى نفسي سألتها : لماذا لا أشعر بالراحة على الرغم من توفر كل شيء لديّ !. لماذا أشعر بهذا الاضطراب !. ما الذي يحزنني ؟!. كان والداي دهريين ، وكنت أنا شيوعياً ، وكان كل شيء موجوداً في حياتي ، ما عدا الله !.
ومع مزيد من التفكير اكتشفت أن ما أشعر به ناتج عن افتقادي لفكرة " الله " ، اكتشفت أن هذه الكائنات لم توجد هكذا بنفسها ، وأن الإنسان في حاجة أساسية إلى وجود الله ، ولهذا آمنت بالمسيحية ، وأصبحت عضواً بتنظيم الشباب الكاثوليكي .
ثم حدث بعد ذلك أمر عجيب ، فقد أسرت في الحرب العالمية الثانية ، ونقلت إلى معسكر رهيب في الجزائر ، وذات يوم أمر قائد المعسكر بإطلاق النار عليّ ، وتنفيذاً للأمر سلموني لجنديين مسلمين ، ورفض الجنديان تنفيذ أوامر القائد ، وقالا : إن ديننا لا يسمح بإطلاق الرصاص على شخص أعزل . وحاول البعض إقناعهما بخطأ ما يفعلان ، وأنه لو علم القائد بامتناعهما عن تنفيذ الأوامر فسيحولهما إلى محاكمة عسكرية ، لكنهما قالا : ليكن ، لكننا لن نعصي أمر ربنا .
يقول البروفيسير " جارودي " : لقد ذهلت مما قاله الجنديان ، فأي دين هذا الذي لا يسمح بإطلاق النار على العزل ؟!. هل هناك دين في هذا العالم يدعو إلى تطبيق القيم الإنسانية !. وحين علمت أنه الدين الإسلامي أقبلت على دراسته في نهم ، وكانت النتيجة أن شرفني الله بالإسلام .
السكينة والعكاز :
ولا يقتصر الأمر على البروفيسير " جارودي " فقط ، فهناك جو عام من فقدان السكينة يسود الغرب ، الناس هناك تتوفر لديهم كل الرفاهيات والمتع والملذات ، ورغم ذلك هناك إحساس غامض بالنقص والحرمان . القلوب غير مطمئنة ، لا تشعر بالسكينة ، ولا مجال لالتقاط الأنفاس ، نوع من عدم الراحة والقلق والاضطراب ، لا يوجد سوى سيل من الحركة ، نوع من السباق ، سباق بلا غاية ، وحركة بلا هدف .
ولا أدري لماذا لا يشعر الإنسان بالطمأنينة إذا لم يجد " عكازاً " يتكئ عليه !. يظل غير مستريح ، يشعر باضطراب غامض . ولقد أصاب الكثيرين من أهل الغرب ملل وإحباط من الحياة المادية ، وبدأوا يشعرون بأهمية الدين ، ولهذا يتجهون إليه ، لكن الدين السائد في الغرب وصل إلى درجة من الخواء والعشوائية جعلته لم يعد مقبولاً لدى الإنسان المعاصر ، فلا يوجد صاحب عقل مستعد للتسليم بالمسيحية في عصر اعترف فيه البحث العلمي بأنه من الممكن ولادة طفل بغير التقاء الذكر والأنثى .
أما متطلبات أهل يهود الدينية فهي عجب العجاب ، وهناك الكثيرون من أهل الغرب يرغبون في دراسة الأديان كلها دراسة مقارنة ، ومكتبات الغرب تمتلئ عن آخرها بكم هائل من المعلومات عن الأديان كلها ، إلا الإسلام . ولا أدري كيف استطاع أحبار اليهود وقساوسة النصارى نصب هذه الشبكة من المعلومات المغلوطة عن الإسلام لدرجة أن أهل الغرب لا يعترفون بالإسلام ديناً من الأصل ، ويعتقدون أن المسلمين ما هم إلا شرذمة من اللصوص وقطاع الطرق ، ولا علاقة لهم من قريب أو من بعيد بالأخلاق !.
الغرب والإسلام :
يتفق الأمريكيون والغربيون الذين أسلموا حديثاً على أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يمكن أن يقبله " الإنسان المعاصر " في أيامنا هذه ، أما باقي الأديان فإنها بمثابة ركام من الخرافات والأوهام لا تستطيع أن تقنع إنسان هذا العصر الحديث .
إن العقبة الوحيدة في طريق قبول الغربيين للإسلام هي أنهم لا يعرفون شيئاً عنه ، لا يعرفون أن الإسلام أيضاً دين يعطي أهمية كبرى للعقل ، ويدعو إلى تحصيل العلم ، ويجعل البحث العلمي في درجة العبادة .
والذنب كله في الحقيقة ذنبنا نحن ، فلقد قصرنا كثيراً في الدعوة إلى الإسلام . ورغم أن لدينا عشرات من الجماعات التي تعمل في حقل الدعوة ، لكن الطريقة التي يتبعونها في دعوتهم تخلق نوعاً من رد الفعل السلبي في نفوس الشباب وعقولهم ، بدلاً من أن تؤثر عليها إيجابياً .
يقول " خالد لطيف جابا " : كان السبب في دخولي الإسلام هو أن هذا الدين يتطابق تماماً مع مقتضيات العصر الحاضـر ويلبيها ، وليس هناك حل لمشاكل هذا العصر لدى أي دين سواه ، والعالم اليوم يرغب في الأخوة والمساواة ، ولا توجد في العالم قوة تستطيع أن تقدم حلولاً مرضية لمشاكله الاقتصادية والأخلاقية مثل الإسلام .
ويقول " سليمان مسفر " ، أمريكي أسلم حديثـاً : لقد هداني الله تعالى إلى الدين الحق ، والحقيقة أن الأمريكيين في حاجة إلى من يقدم لهم الصورة الصحيحة للإسلام ، فلم يحدث حتى اليوم أن عرضت مثل هذه الصورة على الغرب ، والناس اليوم ملوا من الأديان التي لا روح فيها كاليهودية والمسيحية ، وأخذوا يتطلعون هنا وهناك لعلهم يجـدوا طريقاً آخر ، ولكن بلا فائدة . والآن حان الوقت لكي ندعو إلى الإسلام بحكمة وشجاعة ، فمن المؤكد أن مستقبل الغرب مرتبط بالإسلام .
المغزل المقلوب :
سادتي ، على العكس من هذا فإن دعاتنا ووعاظنا منهمكون في زرع التعصب ضد أهل الغرب (14) ، منهمكون بشدة في تحويل المسلمين " الضعاف " إلى مسلمين " أقوياء " ، يجعلون من الإسلام طقوساً ، ولا يعرفون أنهم في الحقيقة منهمكون في قطع الغصن الذي يجلسون فوقه ، إنهم يخلقون المسافات بين الغرب والإسلام ، بينما نحن في حاجة إلى إسقاط الجدار الذي بناه اليهود بين أهل الغرب والإسلام .
يقول الدكتور " درك وولتر موسك " الألماني : لقد درست الإسلام بعمق ، فوجدت أن الأديان الأخرى أمام الإسلام بمثابة عود ثقاب مشتعل أمام الشمس ، وأنا أقول بيقين إن من يقرأ القرآن بفهم وتمعن سيدخل في الإسلام إن شاء الله .
ويقول " محمد المهدي " بريطاني أسلم حديثاً : إنني أعتقد أن هناك إمكانيات رائعة لنشر الإسلام في أوروبا ، وأشعر أن نشره سيكون من خلال الطبقة المتعلمة تعليماً عالياً .
وعلى العكس من هذا يمسك " محتكرو الدين " الأميون بزمام الإسلام عندنا ، وهؤلاء يقيمون المدارس الدينية بكثرة عجيبة كنوع من تقوية موقفهم ، وفي هذه المدارس يحفّظون الأطفال اليتامى والفقراء والذين لا أهل لهم القرآن بغير فهم أو استيعاب حتى يتلونه في المحافل والاجتماعات ، فلا هم يفهمونهم ما في القرآن ، ولا هم يسلّحونهم بعلوم أخرى . إنهم في الحقيقة يحاولون من خلال هذه المدارس تحقيق الأكثرية العددية لأنفسهم والحفاظ عليها .
هوامش
13 - أي قبل أن يشرف بالإسلام .
14 - إن توجيه مثل هذا الاتهام إلى دعاة المسلمين على هذا الإطلاق فيه تحامل كبير وتجنّ واضح ، وربما عدم معرفة من الكاتب بواقع الحال ، وبالتالي لا يعد هذا الكلام علمياً يحمل قيمة تذكر ، فلدعاة المسلمين في عصرنا جهود واضحة في محاولة طي هذه المسافات ، وإن كان هناك البعض الذي لا يعمل بحكمة في هذا الخصوص ، لكنه لا يصح أن يكون مبرراً لتوجيه الاتهام لعموم الدعاة .