المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : *** صـــــداع ***



عبد الواحد الأنصاري
25/01/2008, 04:54 PM
صداع*

إنني أغرق حتى أذنيّ في تشكيلات النارجيلة، ولا يكاد رأسي يطاوعني ويريحني حتى أستنشق أنفاسي منها، وقد لبستني هذه العادة منذ كنت أهرب وأتسلق جدار المدرسة في الثالثة المتوسطة لأهرب إلى أي قهوة من مقاهي كرموم. لكنني أصر على أنّ جميع شِيَش علي كرموم ملوثة، رغم أن الرجل –كما نعرف حتى الآن- يعتلي منصّة التفوّق في مجال الشيشة والنارجيلة، وله أكثر من خمسين مقهى في أطراف المدن وعلى محطات الطرق السريعة، وتمتاز مقاهيه بخلطاتها السريّة وذائقتها المعماريّة، فالنوافير فيها مغرية بالحلم، والتلفزيونات كبيرة صاخبة الصوت، والممرات معمورة بالأصص والشتلات الجميلة، والمقاعد مريحة، والمباشرون أنيقون جزئيّاً، مبتسمون، وحاضرون عند الطلب، إلا أنني أصرّ على أنّ سرّ القذارة كلّها يكمن في هذه الخلطات.
كرموم هو سيّد النماء الاقتصادي في أسرته اليمنيّة، والمنقذ الحقيقي لها من ذئب الفقر الشيوعي في جنوب ما قبل الوحدة. وكان قد عبر الحدود مع الحجّاج إلى هذه البقاع قبل أربعين سنة، ملخّصا فكرته وفلسفته وطموحه في الآتي:
سوف أصبر وأعمل حتى أستطيع أن أسلم بالكعب على من أقبل رأسه اليوم.
وصل الرجل إلى مكّة عبر طرق ملتويَة طويلة، في زمن كان الحجّ فيه يصطحب معه صقيعا قاتلا، وتبدو فيه قرى الجنوب المنتثرة في الطريق أشبه بالموابئ التي تعوق عن السير، ويقصّ –مازحا أو جادا، الله أعلم- أنّ اقتحامه خيمة امرأة منقطعة هو السبب الأصيل في استطاعته الوصول إلى مكّة:
أكلت خبزها وشربت لبنها ونمت معها، وسرقت متاعها، ومضيت، ولولا ذلك لقضى عليّ الجوع والنصب والحرمان في ذلك المكان.
وفي بداية استقراره في الأرض المقدّسة، مزج عدة مهن: ساقيا لرواد الحرم، وجزارا في منى، ولبّانا، ومعلّما للحجر والطين، بل كان يصنع القرقوش من كسر الخبز الجاف والدبس والتمر لأبناء كريّم، الذين أصبحوا من أغنياء المعابدة الآن، يدقّه جيدا ويخلطه بمهارة عجيبة، ليبيع لهم علبته بريالين، ولطالما خرج في الأسحار على رجله إلى منى، ليذبح الذبائح، ويعود إلى صندقته بجبل الخانسة وفي خيشته مزيج من الرؤوس والكوارع والكروش، وفي جيبه بضعة قروش، وكان أهل الحارة يلجؤون إليه كلّما انسدت مجاري حماماتهم البدائية، فيخوض فيها بجرأته وصلابته، إلى أن يصلحها لهم، وعندئذ انتابته حالة غريبة:
اكتشف في نفسه ألماً شديدا وصداعاً مهلكاً وإدمانا يصيبه كلما تأخر كثيرا عن الوقوف على مجاري المياه، ولم يجد أحدا يشير عليه بشيء إلا شاباً مستهتراً يدعى بندر، نصحه بالانخراط في التدخين، وأصبح كرموم مدخنا، لعل ذلك يفيده، لكن بلا جدوى، وصار يلتقي الحجاج اليمنيين الذين انقطع عن لقائهم عدة سنين، ليشتري منهم ما يملكون من فتات القات، باحثاً عن كل معدلات المزاج الممكنة، إلا أنه لم يفلح بها في محاربة ألمه.
وأصبح بندر -الرجل المولع بالشيشة، الذي خلق الله يده اليمنى بلا أصابع- صديقا لكرموم، ثم تعرف على رجل من اللحيانيين يجلس أمام عتبة داره فجرا، يستمع إلى الأخبار والأغاني القديمة، وقام بمساعدته في تأجير عربته عبر ريع الذاخر إلى الحرم للركاب، وكان الصبيان يلحقون به صائحين:
خط البلدة حرام بقرش، والسواق يبغا له فرش.
وصمد كرموم لهذه الظروف، حتى إنه حاول أن يشغل نفسه عن صداعه هذا بتثقيف نفسه بالقراءة عند بزبوز الراجح الذي تثبته بالأرض صبة إسمنت صلدة، وتمتد منه ماسورة يأتي إليها الناس للاستسقاء من مائها، الذي يصل عبر القنوات الملتوية إلى ذلك المكان من عين زبيدة، فيجلس كرموم عند فانوس الماسورة بالليل وحشرات الضوء تطيف به؛ ليقرأ قصص ألف ليلة وليلة والزير سالم وتغريبة بني هلال، إلى أن تأتي عربة الحمار التي تسحب الفانوس وترحل به، فينتظرها إلى أن تعود في الليلة الآتية ليسـتأنف القراءة، إذ لا وقت له في النهار لما سوى العمل. وبعد حصوله على الجنسية، طبقا للوائح التي كانت أكثر تسامحا وعدلا آنذاك، تبّقت له مهنة معلَمة الحجر والطين، التي بدأت تزداد إدرارا للمال في تلك الآونة، ثمّ اندمج في العمل في حفريات شركة الطرق المسمّاة ردَك، وسرعان ما تحسنت أحواله المادية واشترى أرضا بجبال المعابدة بنى فيها بيتاً، تزوج فيه للمرة الأولى امرأة حجازية لا أصول لها، لكنه ما لبث أن طلقها وعزف عن النساء، واستطاب كرموم وحدته وطابت له، وعندما عجز عن التغلب على ألمه أصبح يقف على مجاري المياه التي تدمع بها منافذ البيوت الجبلية، ويستنشقها ليقتل بها ألمه المهلك.
وهنا تفتقت ذهنية كرموم الجبارة عن فكرة: فانتقل بطريقة مغايرة إلى تجارة الشيشة، واستدعى صديقه بندر، وأغراه معه بتكوين مشروع لمبيعات الشيشة، وفتحا محلاً صغيرا، وأخذ كرموم في تكوين خلطة سرية للجراك، تحتوي على مكونات دقيقة من فضلات البلاليع وأسمدة المزارع، وما إن أخضعها للتجريب حتى نجحت معه وأفلحت في قتل صداعه، وإثر ذلك علّق على محله لوحة كتب عليها: الجراك القاتل لكلّ أنواع الصداع.
وتطورت المهنة كما يجري لكلّ ما يضع كرموم عليه يده، بسبب نجاحه القادر على تحويل الصلصال إلى ذهب، ولطالما تحيّر الناس في خلطته التي لا يدري بها أحد سواه، ولا حتى شريكه بندر، الذي ما إن أصابه بعض الربح حتى اقتنع بالانسحاب وانتقل إلى العمل بالعقارات، أما كرموم فتوسّع بعمله وانتقل به إلى أطراف المدن ومحطات الطرق، وخلال بضعة أعوام أصبحت مقاهيه واستراحاته تعدّ أفخم المقاهي وأكثرها تدليلا للزبائن، ولا تزال خلطته الغامضة أشهر الخلطات، لا يدخنها أحد إلا ويدمن عليها، ولا تجدي فحوصات الممنوعات شيئا معها، إذ لا يظهر في نتائجها أي مكوّن محظور صحّيّا.
لقد انتقل الآن إلى الرياض، وجعل مركزه فيها، متوليا الإشراف على جميع فروع مهنته من فلّته الفخمة التي تطالعك بوابتها الجميلة بمدخلها المحاط بشتلات الورود كلما مررتَ بها. وقدْ عرفتُه شخصياًّ، قبل خمس عشرة سنة، بطريقة مكتوبة ليس إلا، إذ خططتُ للهرب من المدرسة في حمى يونيو المتوقدة مع ثلة من فتيان الثانوية، ونفذنا خطتنا متسلقين جدار المدرسة، واخترنا أكبر مقاهيه بجنوب المدينة، لأنه المقهى الوحيد الذي تضمن لنا سمعته أن نتمتع بمكيفات هواء مريحة، وطلبنا الشيشة والدومينو والبلوت، وما إن انخرطنا في اللعبة حتى دخل علينا الرجل: متوكئا على عصاه البنية المزخرفة، المتوّجة بمقبض فضي، وإزاره الجنوبيّ يحيط ببطنه العملاق كزعيم قبيلة يمني، وفي منتصفه ينغرز خنجر فاخر يأخذ بسحره العيون. عرّفنا بنفسه بجلبة ضاحكة، وبأريحية جعلتنا نطمئنّ إليه، ودعانا في المساء إلى فلّته، التي ابتناها في موضع كان يقال له طينان، وقد نُسي هذا الاسم الآن واستبدل به اسم آخر. وفي جلسة التعارف تلك تباهى الرجل الستيني، وكأنه من المراهقين، بأنه اشترى هذه الأرض عندما كان المتر فيها بأقل من ستين ريالا، ولم يكن يحيط بها إلا نخيل شائخة، ومسارب أودية مهلكة لا تسمع فيها إلا أحد صوتين: نداء المؤذنين بالأسحار، أو نباح الكلاب في كل الأوقات، وترك الأرض تنتظر حتى أحاطت بها الأبنية وصارت قلبا للعاصمة القديمة، ثم شيّد فيها فلّته، وقال:
جئنا مكة عندما كانت أرضا للحياة، وتركناها إلى الرياض عندما هجرتها الحياة، فلا بقاء لنا بين الموتى.
هكذا تتلخص طريقة كرموم في الحياة، ولعلّ صعوبة الظروف التي ألمّت به في بدء مشوار حياته وَسَمَتْهُ بشراسة وصبر لا ينقطعان، وانعكسا عليه فأكسباه الاستهتار بكلّ الشمائل البشريّة الرقيقة، إلا أنّ المشيب الذي غزاه في الأيام الأخيرة –بعد أن حاربه بجميع الوسائل- جعله يتهاون بعمله وينقطع في وحدة مليئة بالملذات الرخيصة.
بعد عدة زيارات أدركت أن كرموم لم يتزوّج، وهذا ما تأكدت منه باكراً، من أساليبه المبهرة في الحديث مع الفتيان، واستعراضاته التي لا تليق برجل كبير، وهواياته الغريبة، إذْ جهّز في فسحة بيته ملعباً مزروعاً، يجلس فيه على أريكته الطويلة، المشغولة بنقوش نباتية، نافثا أنفاس شيشته المسكِرة، يتأمل بتشهٍّ عميق في أبدان شباب الأفارقة واليمنيين ومتسكعي الحارات الذين يستضيفهم ليلعبوا الكرة، منذ العصر إلى ما بعد العشاء، يعشّيهم على حسابه، ويمنح كلاًّ منهم إكراميّة لا تنقص عن خمسين ريالا، بل قد تزيد مع المقربين إليه، ولطالما سمعته يهمس لبعضهم:
- تعال يا حبيبي، روح يا حبيبي.

______________________________________
*هامش: ضمن مضمومتي القصصية الأخيرة الصادرة عن دار وجوه بعنوان (بكارة).

محمد فؤاد منصور
26/01/2008, 11:02 AM
الأخ العزيز عبد الواحد الأنصارى
أهلاً بك فى منتدى المبدعين،فهذا هو أول نص أقرأه لك وهو يشى بكاتب يمتلك أدواته وله باع فى فن القص ، لغة سلسة وأحداث يقود بعضها إلى بعض دون إفتعال قصصت لنا حكاية "كرموم" ذلك العصامى الذى هرب من بلاده واستحل أى شئ وكل شئ فى سبيل جمع ثروته الطائلة ، وكما توصل كرموم لخلطته العجيبة عرضت أنت كذلك خلطة مشوقة من الأحداث والمواقف لذلك الرجل حتى تطرقت إلى ممارسة الشذوذ من جانب خفى ..بداية حضور قوى لكاتب سننتظر إبداعاته دائماً ..تقبل تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية

عبد الواحد الأنصاري
02/02/2008, 01:29 PM
د. محمد فؤاد منصور: كل التوقير لعنايتك بنصي المتواضع، قراءتك تشجع على أن في هذه المنتديات من يقرأ برغم كثافة عدد المنتديات وتعدد المشارب، لا حرمت من ظلك النبيل، وعرفاني أبدا، تحرسك الملائكة.

محسن رشاد أبو بكر
03/02/2008, 03:18 AM
من اليمن إلى مكة إلى الرياض ، من كرموم إلى بندر ، من خيمة امرأة فى الطريق إلى أبدان شباب الأفارقة واليمنيين ومتسكعي الحارات ، سردية متميزة جعلتنى أتابع بنفس متسارع تلك القصة البديعة

قصتك تقطر ابداعا و تألقا ..دمت بخير

أبو بكر

الدكتور أسعد الدندشلي
03/02/2008, 09:10 AM
الزميل عبد الواحد الأنصاري المحترم
تحية طيبة، موضوعك شيق، وأضفت على مقدرتك الوصفية جمالية خاصة، فأنت تقلّب الوصف بشهية وجاذبية، وتقدم أفكارك متسلسلة بنعومة ألفاظك، فاستحالت حتى العبارات وأسماء الأماكن إلى شيء مألوف معاش لقارىء موضوعك
ما أقوله أحلى الأمنيات وأطيبها لعطاءات إبداعية
د. أسعد الدندشلي

عبد الواحد الأنصاري
04/02/2008, 01:10 AM
الموقرين: محسن رشاد أبو بكر، د. الدندشلي:

مع مثل هذه الردود يشعر الكاتب بالمسؤولية، أعد هذه الأقلام والعيون والقلوب الجميلة بما يسر ويثري إن شاء الله، لا حرمت ظلكما.

غفران طحّان
04/02/2008, 02:30 AM
التص يحمل صوتاً يتقن السرد وأفانينه
لغة سلسة وغنيّة بالجمال
توصيف دقيق
وسرد متلاحق...
أمّا الانتقال المكاني والزماني ففي غاية الإبداع
أخي عبد الواحد
أبدعت وننتظر المزيد