المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أذكر أني...



محمد علي محيي الدين
04/02/2008, 07:57 PM
أذكر... أني
محمد علي محيي الدين
صدر إلى الأسواق مؤخرا كتاب جديد للأستاذ الناقد رشيد هارون،تناول فيه ومضات من الواقع العراقي،ومعاناته الذاتية خلال السنوات العجاف،وكانت النصوص تخلط بين الشعر والنثر،فكانت لغته النثرية ترقى لمصاف أجمل القصائد،بما حوته من صور رائعة،والق لغوي واضح،ومفردة شاعرية أغنت الكتاب،وقبل الخوض في متاهات الكتاب وزواياه المختلفة،أود الإشارة إلى غلاف الكتاب الذي جاء معبرا عن ما أراده الكاتب في نصوصه السيرية،فقد جعل كلمة(أذكر) في مساحة بيضاء،فيما جعل (أني) في رقعة زرقاء قاتمة،ولا أدري هل يشير إلى معاناته الجديدة،وأنه لا زال يعيش في العتمة المضللة بشيء من النور،وأن ذكرياته السابقة تملأ المساحة البيضاء من تفكيره،لعله أراد هذا أو أراد غيره،ولكن هذا ما بدا لي من الوهلة الأولى.
وقبل البدء بالتفاصيل،أو د أن أشير إلى لمحة موجزة عن أهم المحطات في حياة الكاتب، فهو من مواليد الحلة ،عاش مرارة العوز سنوات الحصار ،وناله ما ناله من تعسف القوى الأمنية،بسبب انحيازه للجماهير،وكونه من أسرة لها همها الوطني،قدمت ما قدمت على مذبح التضحية والفداء،ورغم تفوقه في العديد من المجالات إلا أنه عاش في زوايا الإهمال والنسيان،فقد تخرج في معهد المعلمين ،وعمل معلما في المدارس الابتدائية،ولرغبته في أكمال دراسته،زاوج بين عمله الوظيفي ودراسته العالية والعمل اليدوي،فكان يعمل مصلحا للطباخات الغازية،يجوب القرى والأرياف حاملا عدته على ظهره لإعالة عائلته،والقيام بواجبه اتجاهها،ولم يمنعه العوز والإملاق من الوقوف شامخا بوجه المغريات،فمن كان شاعرا أو كاتبا،يستطيع الوصول إذا دخل في غمار السلطة،ولكنه ظل على نقائه المبدئي،فأكمل دراسته الجامعية،وتخرج في كلية التربية،قسم اللغة العربية سنة 1985 ،وحصل على درجة الماجستير في النقد الأدبي عام 2004،ونشر مئات المقالات والقصائد،وأصدر ديوان شعره الموسوم"حين يهرم الكلام" وقدم العديد من البحوث المنهجية في مؤتمرات جامعة بابل السنوية،وشارك بتأليف مجموعة من الكتب مع نقاد وباحثين عراقيين،ولا زال مواظبا على العطاء،رغم الظروف الصعبة التي يعيشها المثقف العراقي،وظل صامدا رغم المغريات والتهديدات والضغوط، وكتابه هذا صورة استقاها من واقعه،وذكريات عاش لحظاتها بما تحمل من مرارة وحرمان،فجاءت صورة واضحة معبرة عن حقيقة يعرفها الكثيرون،فلم يحاول أن يخفي شيئا من واقعه،أو التنكر لماضيه،كما يحاول البعض حين يرتقي درجات عليا،فيتناسى ما كان عليه في سابق أيامه،وينحاز لطبقته الجديدة.
أهدى المؤلف كتابه لوالده الذي ألهمه القول،وأبنه الذي شاركه مرارة الفقر والحرمان،ورافقه في عمله المضني جوالا في القرى والأرياف،في صراع مرير من أجل البقاء بكبرياء الفرسان الذين يسمون بأنفسهم الانحدار عن شموخهم، والعيش بين الهوام،كانت رحلتهم المضنية لسنوات يجرح أقدامهم العوسج،وتهرهم كلاب الريف،وربما داعبت أسنانها أجسادهم،فما كان منظر الدماء رادع لمن يسير،بل زادهم أمعانا في التحدي والمجالدة،ليبقى كما هو في أعين زوجه وأطفاله،ومسئوليته في تأمين العيش لهم،وأداء دوره كإنسان في مجتمع تحكمه شريعة الغاب.
وقد أورد المؤلف في كتابه صور عن المعانات الحقيقية،تنطبق و تتوافق مع ما مر به الآخرين في صراعهم المرير من أجل البقاء،لذلك يجد فيها القارئ بعض معاناته،ويستلهم منها الدارس الأوضاع الاجتماعية المزرية التي عانى منها المجتمع،في ظل الحقبة الماضية التي فرضت الكثير من المفاهيم على المجتمع،وجعلته في المؤخرة من الشعوب بعد أن كان متساوق لها أو سابق متقدم عليها،وتركت إفرازاتها على سلوكيته ونمط تفكيره مما جعله يغرق في وهدت الجهل والتخلف،وأدى إلى ما نحن فيه من تخلف عن الركب الإنساني،وضمور في استلهام الحضارة المتطورة للآخرين،ونمو الطفيليات وتأثيرها القاتل على المجتمع العراقي.
ومن علامات تعجبه المثيرة،أشارته إلى تسلط حفنة من الأوباش والسفلة على مقدرات الآخرين،ووصف بشكل دقيق ومعبر معانات المثقفين،بين الهوام وذوات الأربع،عندما هيمن على ناصية الأدب ،وأهداب الثقافة بعض المحسوبين عليها،فملئوا الساحة الأدبية ضجيجا،فكانوا طبالين في الأجواق الرسمية،وراقصين في مراقص الثقافة البائسة،وجناية الأدعياء على الأدب العراقي،فشوهوا وجهه الجميل،وأحالوه إلى رياء ونفاق،بعيدا عن أي التزام أدبي أو أخلاقي،فكانوا كالمصاب بعمى الألوان،لا يرى في الحياة إلا لون واحد،فيعيش في قوقعة لا يرى من خلالها النور.
وكان لا يأنف من حمل عدته السفرية،إلى جانب الجريدة،وعندما حاصره النظام بالجوع،عزم على نسيان صفته الوظيفية، وعمل مصلحا للطباخات الغازية،يجوب القرى والأرياف ليرد غائلة الجوع عن عائلته،ويقطع عشرات الكيلومترات يوميا بين الحقول والبساتين،مناديا بصوته ليشعر الآخرين بعمله،ويركب سيارات الحمل مع أكياس الخضار ليطوف بين القرية والمدينة،ويزاوج بين التعليم والدراسة ومتطلبات الأسرة،ويتحمل الأهانة والتجاوزات من هذا أو ذاك،ويرى في خضرة المزارع ما يشير إلى النماء والخير،وما يراه في الزيتوني الذي يرتديه مديره صورة كالحة لإنسان عاد إلى جذوره فأصبح قردا،فكان لا يفرق بين نباح الكلب ،ومكبرات الصوت التي تغني عظمة القائد،ويتحول إلى راجمة،يقصفهم مسترخيا هادئا،رغم أنه يدري إذا أنفعل انتهى،وذهب في درب الصد ما رد.
وينقل بأسلوب أدبي رائع معانات الفقراء في بلد البترول،وكيف تتزاحم المناكب للحصول على ما يبعد عنهم غائلة الجوع،في صراع مرير من أجل البقاء،فترى الوجوه النضرة لشباب بعمر الورود،كيف استحالت إلى وجوه خاوية لفحتها الشمس،وأضر بها سوء التغذية،ويمضي الجميع في سباق محموم لتأمين حاجتهم،وترى المهندس والمدرس والأديب كل يلهث خلف عمل شاق،فيما يتربع الأميين،وحملة الشهادات المزيفة،على الأرائك متكؤون ،وينقل صور معبرة عن المعانات التي يرزح تحتها الجميع.
أن ذاكرته رغم ما تراكم في طياتها من سواد،إلا أنها لا تزال بيضاء نقية،لم تخلف فيها الأيام إلا ذكريات باهتة عن ماض تجاوزه،دون أن يكون له تأثير في نقاءه الذاتي،فظل على ما هو عليه إنسان يشعر بمعانات الآخرين،في محاولة لتناسي ما خلفته تلك السنين مما لا بد أن يرسخ في فكره الباطن،ويؤثر على سلوكيته التي يريد لها النقاء،دون أن تتأثر بالأوضار التي فرضها زمن ما.
أن رحلته الطويلة في موكب الحياة أعطت صورة معبرة عن واقع،أستطاع تجاوزه في محاولة الوصول إلى واقع جديد ،لا يتأثر بسيئات الماضي التي أصبحت صورة غائمة في ذاكرته التي تحاول النظر إلى الحياة نظرة واقعة لا تتأثر بسلبيات قد تترك أثرا في ذاكرته المشحونة بالكثير،وأستطاع أن يوظف الماضي لمستقبل يختلف عن ذلك الماضي البغيض بما حمل في طياته من صور كالحة لحياة مليئة بالصعاب.

محمد علي محيي الدين
04/02/2008, 07:57 PM
أذكر... أني
محمد علي محيي الدين
صدر إلى الأسواق مؤخرا كتاب جديد للأستاذ الناقد رشيد هارون،تناول فيه ومضات من الواقع العراقي،ومعاناته الذاتية خلال السنوات العجاف،وكانت النصوص تخلط بين الشعر والنثر،فكانت لغته النثرية ترقى لمصاف أجمل القصائد،بما حوته من صور رائعة،والق لغوي واضح،ومفردة شاعرية أغنت الكتاب،وقبل الخوض في متاهات الكتاب وزواياه المختلفة،أود الإشارة إلى غلاف الكتاب الذي جاء معبرا عن ما أراده الكاتب في نصوصه السيرية،فقد جعل كلمة(أذكر) في مساحة بيضاء،فيما جعل (أني) في رقعة زرقاء قاتمة،ولا أدري هل يشير إلى معاناته الجديدة،وأنه لا زال يعيش في العتمة المضللة بشيء من النور،وأن ذكرياته السابقة تملأ المساحة البيضاء من تفكيره،لعله أراد هذا أو أراد غيره،ولكن هذا ما بدا لي من الوهلة الأولى.
وقبل البدء بالتفاصيل،أو د أن أشير إلى لمحة موجزة عن أهم المحطات في حياة الكاتب، فهو من مواليد الحلة ،عاش مرارة العوز سنوات الحصار ،وناله ما ناله من تعسف القوى الأمنية،بسبب انحيازه للجماهير،وكونه من أسرة لها همها الوطني،قدمت ما قدمت على مذبح التضحية والفداء،ورغم تفوقه في العديد من المجالات إلا أنه عاش في زوايا الإهمال والنسيان،فقد تخرج في معهد المعلمين ،وعمل معلما في المدارس الابتدائية،ولرغبته في أكمال دراسته،زاوج بين عمله الوظيفي ودراسته العالية والعمل اليدوي،فكان يعمل مصلحا للطباخات الغازية،يجوب القرى والأرياف حاملا عدته على ظهره لإعالة عائلته،والقيام بواجبه اتجاهها،ولم يمنعه العوز والإملاق من الوقوف شامخا بوجه المغريات،فمن كان شاعرا أو كاتبا،يستطيع الوصول إذا دخل في غمار السلطة،ولكنه ظل على نقائه المبدئي،فأكمل دراسته الجامعية،وتخرج في كلية التربية،قسم اللغة العربية سنة 1985 ،وحصل على درجة الماجستير في النقد الأدبي عام 2004،ونشر مئات المقالات والقصائد،وأصدر ديوان شعره الموسوم"حين يهرم الكلام" وقدم العديد من البحوث المنهجية في مؤتمرات جامعة بابل السنوية،وشارك بتأليف مجموعة من الكتب مع نقاد وباحثين عراقيين،ولا زال مواظبا على العطاء،رغم الظروف الصعبة التي يعيشها المثقف العراقي،وظل صامدا رغم المغريات والتهديدات والضغوط، وكتابه هذا صورة استقاها من واقعه،وذكريات عاش لحظاتها بما تحمل من مرارة وحرمان،فجاءت صورة واضحة معبرة عن حقيقة يعرفها الكثيرون،فلم يحاول أن يخفي شيئا من واقعه،أو التنكر لماضيه،كما يحاول البعض حين يرتقي درجات عليا،فيتناسى ما كان عليه في سابق أيامه،وينحاز لطبقته الجديدة.
أهدى المؤلف كتابه لوالده الذي ألهمه القول،وأبنه الذي شاركه مرارة الفقر والحرمان،ورافقه في عمله المضني جوالا في القرى والأرياف،في صراع مرير من أجل البقاء بكبرياء الفرسان الذين يسمون بأنفسهم الانحدار عن شموخهم، والعيش بين الهوام،كانت رحلتهم المضنية لسنوات يجرح أقدامهم العوسج،وتهرهم كلاب الريف،وربما داعبت أسنانها أجسادهم،فما كان منظر الدماء رادع لمن يسير،بل زادهم أمعانا في التحدي والمجالدة،ليبقى كما هو في أعين زوجه وأطفاله،ومسئوليته في تأمين العيش لهم،وأداء دوره كإنسان في مجتمع تحكمه شريعة الغاب.
وقد أورد المؤلف في كتابه صور عن المعانات الحقيقية،تنطبق و تتوافق مع ما مر به الآخرين في صراعهم المرير من أجل البقاء،لذلك يجد فيها القارئ بعض معاناته،ويستلهم منها الدارس الأوضاع الاجتماعية المزرية التي عانى منها المجتمع،في ظل الحقبة الماضية التي فرضت الكثير من المفاهيم على المجتمع،وجعلته في المؤخرة من الشعوب بعد أن كان متساوق لها أو سابق متقدم عليها،وتركت إفرازاتها على سلوكيته ونمط تفكيره مما جعله يغرق في وهدت الجهل والتخلف،وأدى إلى ما نحن فيه من تخلف عن الركب الإنساني،وضمور في استلهام الحضارة المتطورة للآخرين،ونمو الطفيليات وتأثيرها القاتل على المجتمع العراقي.
ومن علامات تعجبه المثيرة،أشارته إلى تسلط حفنة من الأوباش والسفلة على مقدرات الآخرين،ووصف بشكل دقيق ومعبر معانات المثقفين،بين الهوام وذوات الأربع،عندما هيمن على ناصية الأدب ،وأهداب الثقافة بعض المحسوبين عليها،فملئوا الساحة الأدبية ضجيجا،فكانوا طبالين في الأجواق الرسمية،وراقصين في مراقص الثقافة البائسة،وجناية الأدعياء على الأدب العراقي،فشوهوا وجهه الجميل،وأحالوه إلى رياء ونفاق،بعيدا عن أي التزام أدبي أو أخلاقي،فكانوا كالمصاب بعمى الألوان،لا يرى في الحياة إلا لون واحد،فيعيش في قوقعة لا يرى من خلالها النور.
وكان لا يأنف من حمل عدته السفرية،إلى جانب الجريدة،وعندما حاصره النظام بالجوع،عزم على نسيان صفته الوظيفية، وعمل مصلحا للطباخات الغازية،يجوب القرى والأرياف ليرد غائلة الجوع عن عائلته،ويقطع عشرات الكيلومترات يوميا بين الحقول والبساتين،مناديا بصوته ليشعر الآخرين بعمله،ويركب سيارات الحمل مع أكياس الخضار ليطوف بين القرية والمدينة،ويزاوج بين التعليم والدراسة ومتطلبات الأسرة،ويتحمل الأهانة والتجاوزات من هذا أو ذاك،ويرى في خضرة المزارع ما يشير إلى النماء والخير،وما يراه في الزيتوني الذي يرتديه مديره صورة كالحة لإنسان عاد إلى جذوره فأصبح قردا،فكان لا يفرق بين نباح الكلب ،ومكبرات الصوت التي تغني عظمة القائد،ويتحول إلى راجمة،يقصفهم مسترخيا هادئا،رغم أنه يدري إذا أنفعل انتهى،وذهب في درب الصد ما رد.
وينقل بأسلوب أدبي رائع معانات الفقراء في بلد البترول،وكيف تتزاحم المناكب للحصول على ما يبعد عنهم غائلة الجوع،في صراع مرير من أجل البقاء،فترى الوجوه النضرة لشباب بعمر الورود،كيف استحالت إلى وجوه خاوية لفحتها الشمس،وأضر بها سوء التغذية،ويمضي الجميع في سباق محموم لتأمين حاجتهم،وترى المهندس والمدرس والأديب كل يلهث خلف عمل شاق،فيما يتربع الأميين،وحملة الشهادات المزيفة،على الأرائك متكؤون ،وينقل صور معبرة عن المعانات التي يرزح تحتها الجميع.
أن ذاكرته رغم ما تراكم في طياتها من سواد،إلا أنها لا تزال بيضاء نقية،لم تخلف فيها الأيام إلا ذكريات باهتة عن ماض تجاوزه،دون أن يكون له تأثير في نقاءه الذاتي،فظل على ما هو عليه إنسان يشعر بمعانات الآخرين،في محاولة لتناسي ما خلفته تلك السنين مما لا بد أن يرسخ في فكره الباطن،ويؤثر على سلوكيته التي يريد لها النقاء،دون أن تتأثر بالأوضار التي فرضها زمن ما.
أن رحلته الطويلة في موكب الحياة أعطت صورة معبرة عن واقع،أستطاع تجاوزه في محاولة الوصول إلى واقع جديد ،لا يتأثر بسيئات الماضي التي أصبحت صورة غائمة في ذاكرته التي تحاول النظر إلى الحياة نظرة واقعة لا تتأثر بسلبيات قد تترك أثرا في ذاكرته المشحونة بالكثير،وأستطاع أن يوظف الماضي لمستقبل يختلف عن ذلك الماضي البغيض بما حمل في طياته من صور كالحة لحياة مليئة بالصعاب.