المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ألجواهري فارس حلبة الأدب



محمد علي محيي الدين
06/02/2008, 06:27 PM
ألجواهري فارس حلبة الأدب

تأليف:محمد جواد الغبان /إصدار مؤسسة المدى للطباعة والنشر/2006
عرض/محمد علي محيي الدين
إذا كان أبن رشيق القيرواني في القرن الخامس الهجري قد قال في متنبي الشعر العربي،أنه مالي الدنيا وشاغل الناس،فماذا سنقول في ألجواهري،وهل نجد ناقدا يوفيه حقه بكلمة موحية،كما هي كلمة أبن رشيق،ربما فأن الأيام حبلى بالمفاجآت ،ولكن كتاب الأستاذ الكبير محمد جواد الغبان،ألجواهري فارس حلبة الأدب،ربما فيه بعض ما يجب أن يقال في آخر العمالقة،وربما سيجود الشعر العربي بنظيره بعد الف من السنين،كما جاد به بعد أبي الطيب المتنبي،بمن يشغل الدنيا ويبهر الناس.
ثمانية عقود والجواهري ينثر درره في عالم الشعر،فهل يستطيع أحد أن يوفيه حقه بميزان النقد،حتى لو سود آلاف الصفحات،فهو عيلم هدار لم تسجي أمواجه في شواطئها،ولم تركد مياهه في مساربها،،ولا يزال أرضا بكر لمن شاء أن يقول فيه،رغم ما قيل وكتب عنه،فحصاد العمر الطويل لا يمكن اختزاله في صفحات مهما كثرت،وأخال أن ما كتبه ألأستاذ الكريم رؤوس أقلام عابرة لمن شاء الاستفاضة،ومقدمة صالحة لدار معارف حاوية حافلة بمآثر ألجواهري التي فاقت المتوقع وجاوزت التصورات،وليس قليل على الأستاذ الغبان الجري في هذا المضمار من حلبة الأدب،فتاريخه الأدبي السامي ،ومجلسه العلمي الرصين،معوان على مسابقة الجياد الضمرفي حلبات السبق والرهان،ولعل قصيدته الرائعة،وملحمته الذائعة أوفت على ما في كتابه من شذرات،رغم جهده في أبراز الكثير من الجوانب الجواهرية،ورسمت ملامح مهمة من محطات عمره المديد،ولعله ساوق ألجواهري في شاعريته بما ضمنه من صور رائعة ،وأفكار مشرقة،جعلتها من الملاحم العربية التي تستحق الحمد والتقدير.
ولأواصر الصلة ،وجميل العلاقة بين المؤلف والمترجم ،أثر في أغناء الكتاب،وإبراز ما تحتجنه الذاكرة من أطايب الذكريات،ومعلومات جديدة قد تغني تاريخ الرجل،وتصحح الكثير مما أبهم وأشكل على الآخرين،ولم يكن بين مصادره مرجع أو مصدر،بل كانت خواطر وملاحظات استقاها من ذاكرته،ونحى فيها منحى جمع بين السيرة والدراسة،لذلك جاء كتابه في فصلين،الأول منهما تناول فيه ملامح من شخصية ألجواهري وشعره،فيما كان الثاني،شريط لما اختزنته الذاكرة من ذكريات عن الشاعر الكبير،لفترة جاوزت الثلاث عقود،حاول من خلال هذين الفصلين أظهار أبرز الملامح للظاهرة الجواهرية الممتدة لما يقارب القرن،أستهلها بدراسة وافية كافية عن مدينة النجف في القرن العشرين،والتاريخ الأدبي لهذه المدينة العلمية التي كان لها الأثر الكبير في النهضة الأدبية الحديثة،واستطراد لمجالس النجف ومنتدياتها العلمية والأدبية،وما أنجبت من فحول الشعر وجهابذة الأدب،ممن كان لهم المكانة الكبيرة بين أعلام الجيل،ووسموا الأدب العراقي بميسم لا يزال أثره في ذاكرة الأجيال،،وفيما يلي استعراض لأهم المحطات الواردة في هذا السفر الجليل،الذي يعد من الذخائر الأدبية المهمة الصادرة عن شاعرنا الكبير،ونأمل أن يكون لدار المدى الزاهرة،دورها الرائد في أبراز الكنوز الأدبية،التي تعنى بدراسة شاعرنا الكبير،وأن تأخذ على عاتقها نشر الدراسات عن شاعر سيظل في الذاكرة ما ظل الشعر العربي،"وهي الأمل المرجى والمنى" في أخذ الريادة في هذا المضمار،وكفاها فخرا أن تكون مشعلا للفكر الحر والثقافة التقدمية،وأن تأخذ دورها في أغناء المكتبة العربية بالطريف والتا لد من الدراسات التي تسهم في بناء الفكر النير لمواجهة قوى الردة والظلام.
تناول المؤلف في الفصل الأول ملامح من شخصية ألجواهري وشعره،أستعرض خلاله تاريخ النجف،وشعر المناسبات،وأعتبر الشعر اللغة اليومية لأبناء النجف،رغم أن بواعث نظمه قد تبدوا تافهة في بعض الأحيان،ألا أنها كانت المجال الوحيد للتنفيس عن البواعث الفنية لقول الشعر،وأود أن أضيف أن بيوتات النجف العلمية العريقة،مثل آل ألجواهري وبحر العلوم وآل كاشف الغطاء وآل اليعقوبي وآل محيي الدين،وغيرهم يحتفظون بالكثير من المجاميع الشعرية لشعراء النجف في أغراض طريفة ومواضيع لطيفة لا تزال حبيسة المكتبات المنتشرة في بيوتات النجف،وفيها من الطريف التالد ما يشكل تاريخا أدبيا للشعر ألنجفي في القرن العشرين،وحدثني المرحوم الدكتور عبد الرزاق محيي الدين،أن مكتبة المرحوم الشيخ قاسم محيي الدين كانت تحتوي على مجلدات كثيرة لشعراء النجف في الأغراض الأخوانية والمداعبات والنكت التي كانت مدار مجالس السمر لشعراء تلك الفترة،بيعت مع مكتبته وضاع أثرها وليس لها وجود حتى اليوم.
ولا أدري كيف تجاوز الأستاذ الغبان المعارك الأدبية الطاحنة التي دارت بين المجددين أو الشعراء الشباب،الذين حاولوا تجديد ما بلي من أردية الشعر،والشعراء الشيوخ الذين حافظوا على القديم بأخيلته ومعانيه وطرائق نظمه،وكان لتلك المعارك صداها في المحافل الأدبية،كان فيها الشيوخ يحاولون بشتى الوسائل طمس اللمحات المضيئة لهؤلاء الشباب،ولعل أشهر تلك المعارك ما حدث عام1925 عندما وقف الشيخ كاظم السوداني،وأنشد قصيدته التي هاجم فيها الشباب والتي يقول فيها:
وشبابنا يتشاعرون وكلهم في حاجة للشعر أن يتعلــما
دبوا دبيب النمل لا عن قوة وجروا بحلبته عليه تحرمــــــا
فتراهم يتطاولون وبعظهم وزغ يطاول في القتال الأ رقما
وتلاه الشيخ محمد مهدي مطر:
وكم من قائل أنا أضعنا حقوقا لا يفيها الشعر ذكرا
فقلت له المصيبة أذهلتني أما هزتك أو سلبتك فكرا
فكف اللوم عن شبان شعر مقابلة فأنت أجل قدرا
وكان الشعر آداب فأمسى بغاث الطير تنهش فيه صقرا
أتخدش يا حمام الدوح ليثا وما تدري بأن الليث يفرى
ورقى الشيخ مهدي الحجار المنصة ليصليهم بوابل من قوله:
ما أعظم الشعر عندي في فوائده لكن إذا لم يؤد الحق لم يفد
للود عندي حقوق لا أضيعها وأن أضيعت لدى شباننا الجدد
لا تحسبو الشعر نقصا في العلوم فذا علمي كبحر وشعري فيه كالثمد
وفي اليوم التالي وقف ألجواهري الكبير كالطود الشامخ يرد على هؤلاء الشيوخ،وكان أول الشباب الذي ارتقى المنصة ليمطرهم بوابل من سهامه فقال:
تلجلجت بدخيل القول السنة للعرب كانت قديما زينة الكتب
أن أنكر تني أناس ضاع بينهم فضلي فمن عرف(الحجار)بالذهب
كم حاسد لم يجرب مقولي سفها حتى دسست إليه السم بالعنب
طعنته بالقوافي فانثنى فرقا يشكو إلى الناس وقع المقول الذرب
لو تسألي عن فتى قد بذ مشيخة للشعر تنبيك عني (حلبة الأدب)
والانا في شعر ألجواهري ظلت عالقة حتى أخريات أيامه،فهو يسموا بنفسه وشعره،وينأى عن النزول إلى مستويات دونها منزلته،فتراه صقرا بين الصقور،يصاول ويجاول،أرتضى الجبال سكنا وعاف السهول لمن تساهلت في عينه الحياة.ولعل أقرانه للجواهري بنظيره المتنبي من قديم القول الذي تصافق عليه دارسي الأدب،وأجمعوا على مضاهاته له ،وذلك بما منح من ألقاب كانت دون ما أهلته نفسه أن يكون عليه،والجواهري فريد دهره ونابغة عصره،بز الكبار وهو في ميعة الصبا وغرارة الشباب،وناطح الفحول بنفس سامية لا تعبأ بعاتيات الرياح،والدليل ديوانه الأول(حلبة الأدب) الذي نازل فيه عمالقة الشعر العربي،وساماهم في أخيلتهم ومعانيهم،وربما فاق عليهم في بعض الصور المعبرة الموحية.
ولعل في ديوان ألجواهري الكبير،الكثير الكثير مما يشير إلى أوجه الشبه والتلاقي مع نظيره المتنبي،ألا أن الباحث الكريم عزف عن إيرادها خوفا من الإطالة،وما يميز شاعرنا عن المتنبي أنه أتخذ الجماهير والنضال الوطني طريقا على عكس المتنبي الذي أمتدح الولاة والحكام،ولم نعهده جماهيريا في طروحاته،ولعل رؤى العصر وثقافته،وعدم شيوع الأفكار الجماهيرية الشعبية كانت وراء ذلك،ونحن لا نطالب العصور القديمة بأفكار وتطلعات لم تكن معروفة حينها،ولكنها كلمة يجب أن تقال في معرض المقارنة والتشبيه،وعلينا التمييز بين طموحات ألجواهري،وما كان يطمح إليه المتنبي،فقد كانت أقصى أمانيه الحصول على ولاية أو وظيفة كبيرة أسوة بأقرانه من الشعراء الذين تولوا الولايات،وتأمروا الإدارات،وقد دفعه تهالكه إلى مديح من لا يرقى بشخصه لمستوى أن يكون مادحا له،ولكنه جوزي عن ذلك بالإغضاء والازدراء،وما غضبته الكافورية ألا دليل على ذلك الطموح الذي عاكسته الأقدار،ولكن ألجواهري نال النيابة،وتقلد الوظائف العامة،وعندما أزفت الساعة لظهور حقيقته ونفسيته الرافضة،ركل تلك الوظائف بقدمه وعاد لواقعه ذلك الشاعر الذي جعل من وطنه وشعبه محرابه المقدس في صلاته الدائمة على أعتاب الوطنية الحقة التي لا تخفيها الأستار والحواجز،وعندما رأى أن قضيته وصلت لحد لا يمكن السكوت عنه،أنتفض ليكيل الصاع صاعين لمن شدوا أزره على أمل إسكاته،وكف لسانه عنهم،ولعل رفضه المنصب السامي في البلاط الملكي،وأنفته أن يكون شاعر البلاط،بدلا من شاعر الشعب دليلا على تمسكه بقضية الشعب،رغم علمه بعمق المعانات وخطورة التضحية،وهذا ما لم نجده في المتنبي رغم عظمته وكبرياءه .
وقد أورد الأستاذ الغبان في الفصل الثاني ذكرياته عن ألجواهري،وهو فصل رائع ممتع،أورد فيه ذكريات امتدت لعشرات السنين صديقا وزميلا له،وتخلل هذا الفصل الكثير من الشواهد الشعرية لأروع قصائد ألجواهري في المناسبات الوطنية،كرائعته في الزعيم الوطني الخالد جعفر أبو ألتمن،وقصائده في عبد الحميد كرامي،وهاشم الوتري ،ورثاؤه لأخيه الشهيد جعفر شهيد وثبة كانون التي عدت من الفرائد في الرثاء العربي ،وتأبين عدنان المالكي وما أثارت من زوابع رسمية حول الشاعر،وذهابه إلى مصر ضيفا على عميد الأدب العربي طه حسين.وقصيدته العصماء التي أستقبل فيها ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة،ونشرها في مجلة الكاتب،وهو دليل على عمق العلاقة وأطرادها،وما تلاه من زمالة في إتحاد الأدباء،وكان لأحداث مؤتمر الأدباء العرب الرابع في الكويت سنة1958 وما حدث فيه من ملاحاة بين الوفد العراقي،وبعض الوفود العربية،وموقف الحكومة الكويتية من ثورة تموز،وانعكاسه على موقفها غير الموفق من الوفد العراقي،وما حدث من ملابسات كادت تؤدي إلى انسحاب الوفد العراقي،لولا الاعتذار الذي قدمته الحكومة الكويتية،وتطرق المؤلف إلى الكثير من الأحداث العاصفة التي دفعت ألجواهري إلى مغادرة العراق واللجوء إلى چيكوسلوفاكيا،واتخاذه من براغ منتجعا له،ودار أقامة حتى عودته إلى بغداد عام1968 والاحتفال الكبير الذي أقيم لتكريمه،وشارك فيه قادة البلاد وكبار الشعراء والأدباء،وألقى فيه ألجواهري رائعته:
أرح ركابك من أين ومن عثر كفاك جيلان محمولا على خطر
ثم تطرق إلى انتخاب ألجواهري لرآسة اتحاد الأدباء،وطبعات ديوانه التي ضمت قصائده حتى نهاية السبعينيات،والدعوة لطبع أشعاره الأخرى التي نظمها في منافيه المتعددة التي لم يحوها ديوان،وأخرها العاصمة السورية التي توفي ودفن فيها في 27 تموز1997 عن عمر ناهز القرن ألا قليلا.
وأخيرا نتوقف عند قصيدة الأستاذ الغبان ،بل ملحمته الرائعة التي كتبها في تأبين شاعر العرب الأكبر،وألقيت في الاحتفال الذي أقامه اتحاد الأدباء العراقيين في 26/7/2004 وهذه الملحمة الرائعة أهلت الغبان ليكون في مصاف كبار شعراء العربية،فقد أودع فيها عصارة فكره،وحوت الصور الرائعة والأخيلة الجميلة، تستحق
أن تكون في شاعر بمنزلة ألجواهري،لما فيها من أصالة وإبداع،ويظهر توفيقه فيها من مطلعها الرائع:
أترى لواء الشعر بعدك يخفق ويجيء من يسموا به،ويحلق
وفي الختام لابد من التوقف عند هنات قليلة لا تؤثر على مضمون الكتاب،ولكنها تغض من جماليته،فقد كان لكتابة بعض القصائد وتنضيدها ما أثر على أناقة الكتاب وحسن طباعته،والعناية بإخراجه لخلوه من الأخطاء المطبعية،وهذه الأخطاء جاءت في الصفحة 190 والصفحة 100 .
ولا يسعني ألا تقديم الشكر للأستاذ الكريم محمد جواد الغبان على هذه السياحة في عالم ألجواهري الرحب،والألتفاتة الكريمة التي أضافت للمكتبة الجواهرية جديدا بما حوته من طروحات وأفكار وتصورات جديدة عن شاعر كان في المقدمة من شعراء العصر،ويستحق مئات الدراسات التي تتناول الجوانب الكثيرة في شعره وأدبه،ومحطات حياته المختلفة أديبا وشاعرا وصحفيا ومناضلا،رجل شغل الناس لثمانية عقود كانت حافلة بالكثير مما يستحق أن يكون محلا لدراسة،وعسى أن يكون لمؤسسة المدى الدور الرائد في الأعداد لجائزة كبرى تمنح للمبدعين تكون بأسم شاعر العرب الأكبر،الذي له دين وأي دين في أعناق كل العراقيين.