المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما أشبه الليلة بالبارحة



osamanahel
11/02/2008, 12:07 PM
غزة في 10/2/2008م
ما أشبه الليلة بالبارحة

د. أسامه محمد أبو نحل
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة الأزهر – غزة
osamabunahel@hotmail.com



هذا المقال تاريخي أكثر منه سياسي، فمن يتناول شؤون السياسة لا بد له من قراءة التاريخ، ليكون تحليله منطقياً مقبولاً، وإلاَّ فسوف يكون عمله عشوائياً لا قيمة له. ومما يؤسف له أن أغلب المحللين السياسيين الفلسطينيين والعرب يذهبون في تحليلاتهم من أحد واقعين: إما الانحياز لطرفٍ دون آخر، أو عدم اتخاذ موقفٍ بعينه، أي عدم توريط أنفسهم في معاداة طرفٍ على حساب طرفٍ آخر. وفي كلتا الحالتين؛ فإنه يخرج عن الموضوعية الجادة.
المتعاطون مع الشأن الفلسطيني كُثر، وكلٍ منهم يتناول الموضوع بطريقته الخاصة، وربما وفق قناعاته الفكرية، التي ربما تكون مع هذا الفريق أو ذاك، وهذا حال العدديين من كتّابنا ومحللينا السياسيين فيما يخص الشأن الفلسطيني، فالأرض الفلسطينية يُنتهك عرضها وتُغتصب يومياً على مرأى ومسمع الجميع، ومع ذلك نجد من يتشبث ببوقٍ ينعق من خلاله، بضرورة الإيمان المطلق بالواقعية السياسية، وبأن ليس بالإمكان أفضل مما كان، وذلك للحفاظ على الحد الأدنى مما يمكن أن نحصل عليه. والحقيقة أنه ليس هكذا تعلمنا من الوقائع التاريخية، سواء منه القديم أم الحديث. تعلمنا أنه في حالة الضعف يعمل أُولي الأمر، على إيجاد عدة مرتكزات لتحرير الأوطان:
المرتكز الأول – صيانة الجبهة الداخلية للبلاد المعرضة للخطر أو التي تعرضت للخطر بالفعل، ومما يؤسف له أنه لا نجد هذا في حالتنا الفلسطينية، لا الآن ولا في الأمس القريب ولا حتى الأمس البعيد. ولنبدأ من الأمس البعيد، جرياً على عادة النهج التاريخي في تسلسل الأحداث، فخلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وحتى سقوط 78% من أراضيها غنيمة سائغة بأيدي اليهود، ليقيموا عليها دولة إسرائيل، لم يبذل الفلسطينيون أولاً، ولا العرب ثانياً أدنى محاولة لرأب صدع جبهتهم الداخلية، لتكون ركيزة لتحرير هذه النسبة العالية من الأراضي التي افتقدوها، بل تصارعوا فيما بينهم على أمورٍ شكّلية لا قيمة لها، عملت على ترسيخ أقدام اليهود في فلسطين، ومن ثمَّ أضحت دولة توسعية في فترةٍ زمنيةٍ مذهلة، لم نرَ لها شبيهاً في المصادر التاريخية. الفلسطينيون من جانبهم بدأت الصراعات العائلية تنشب بينهم، سواء بسببٍ داخلي محض، أم بسبب التدخلات الإنكليزية في محاباة طرفٍ على حساب الآخر، وذلك كله من أجل شيء واحد مقدس لا ثاني له، هو الزعامة والمناصب. ومراجع التاريخ الفلسطيني حُبلى بمثل هكذا صراعات، ومن شاء التيقّن فعليه بالرجوع لهذه المراجع.
وبعد نكبة 1948م، وتغيّر الكثير من أنظمة الحكم العربية، وتبنيها فكر ثوري قومي، لم يتغيّر الكثير من المعادلة الموجودة على الأرض، فلا الأجزاء التي فُقدت من فلسطين اُستردت، ولا الفلسطينيون حاولوا تغيير هذا الواقع، نظراً لانقساماتهم الداخلية وانتمائهم لأحزابٍ عربية، اتخذت من نكبة فلسطين مطيّة للوصول إلى الحكم. ولمَّا حاول الفلسطينيون تغيير هذا الواقع في منتصف ستينات القرن المنصرم، وانشئوا منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة السيد أحمد الشقيري، بقوا على انقساماتهم. فلم ينضم لهذه المنظمة الكثير من الحركات والتنظيمات الفلسطينية، بحجة أنها كيان نشأ تحت العباءة العربية، أي منظمة تابعة وليست مستقلة القرار، وبدأت تكيل التهم للشقيري بالتبعية لنظام الرئيس المصري الخالد جمال عبد الناصر. وبعد هزيمة حزيران (يونيه) 1967م، قامت هذه الحركات بانقلابٍ أبيض ضد الشقيري برضاً عربي، وانتزعت منه زعامة المنظمة. فماذا كانت النتيجة ؟. بعد أقل من شهر على هذا الانقلاب صرّح السيد يحيى حمودة الرئيس الجديد للمنظمة، بأن المنظمة على استعداد للقبول بدولة علمانية ديمقراطية في فلسطين، وأن الفلسطينيين والإسرائيليين ليس بوسع كلاهما إلغاء الآخر، ثمَّ انفتح بازار التنازلات بدءاً من عام 1974م، عندما عرضت قيادة المنظمة ما سُمي بمشروع النقاط العشر الشهير، ثمَّ القبول بدولة في حدود عام 1967م، وأخيراً هبط السقف إلى القبول بسلطة حكم ذاتي محدود طبقاً لاتفاقية أوسلو الموقعة عام 1993م.
أما الأنظمة العربية فلم تعمل خلال هذه الفترة على مساعدة الفلسطينيين على تحرير أراضيهم المحتلة، بل انساقوا وراء جملة من مشاحناتهم وخلافاتهم الداخلية، التي أدمت القضية الفلسطينية، فنظامٍ عربي بعينه اقتطع من فلسطين جزء مهم منه وضمه لسلطته، ولم يتبقَّ من فلسطين التاريخية سوى قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، وعدت الأخيرة بإعادته للفلسطينيين بعد تحرير بقية التراب الفلسطيني. ثمَّ توالى سقف التنازلات العربية أيضاً، عندما قَبِلَ العرب بالقرار الدولي 242، بعد هزيمة 1967م، والذي مثَّل في حينه كارثة ألمّت بالقضية الفلسطينية. وأخيراً وليزيح العرب عن كاهلهم هم القضية الفلسطينية، أقرّوا في قمتهم الشهيرة في الرباط عام 1974، الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، أي بعد 10 أعوام من نشأتها. والحقيقة هذا الإقرار لم يتم محبةً بالفلسطينيين، ولكن لغرضٍ في نفس يعقوب، بأن ينفضوا أيديهم من المشكلة الفلسطينية برمتها ورميها في حجر من اعتبروهم أصحاب الشأن الأول، وأن تحرير فلسطين مسئوليتهم.
أما الآن، فالصورة أضحت أكثر دراماتيكية، فالعرب بطريقٍ أو بآخر ورّطوا الفلسطينيين في مأزقٍ لا فكاك منه، عندما سهّلوا لهم بعد حرب الخليج الثانية عام 1991م، الدخول في مفاوضات مع الإسرائيليين، سواء علنية أو سرية، انتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو – كما أسلفنا الإشارة. غير أن هذا لا يُعفي القيادة الفلسطينية من المسئولية على هذا التوقيع الذي يُعتبر ضمناً تنازلاً عن 78% من أرض فلسطين التاريخية. فلو بقوا مُصرّين على استرداد كامل حقوقهم، ولو ذاقوا لقاء موقفهم هذا الأمرين، فلن تكون في الدنيا قوة تلومهم على هذا الإصرار، ولكنهم من قبل كانوا قد أعطوا العرب الذريعة للتملص من مسئولياتهم، بأن جعلوا قضيتهم المركزية شأن فلسطيني صِرف، لا دخل للعرب فيه. فماذا كانت النتيجة المترتّبة على الدخول في مفاوضات غير سوية، لا يتساوى فيها طرفي المفاوضات؟. تفسخ داخلي لا قِبَلَ للفلسطينيين به، ومن ثمَّ تناحر أدّى إلى مزيد من الفُرقة بين الحركات والتنظيمات الفلسطينية، نظراً لاختلاف توجهاتها وأيديولوجياتها، حتى أننا نستطيع أن نجزم بأن هذه الحركات تكره بعضها البعض أكثر مما تبغض عدوها الرئيسي إسرائيل.
والمرتكز الثاني لتحرير الأوطان، هو الصبر والتأني في مواجهة العدو، فالقضية الفلسطينية ليست قضية سياسة واختلاف على حدودٍ بعينها، بل قضية وجود يتغلّب فيها من يثابر على مبادئه، ولا يتزعزع عند أول صدمة يتعرّض لها. فلو قامت إسرائيل بقضم كل الأراضي الفلسطينية قطعة تلو الأخرى، فهذا لا يعني أن فلسطين التاريخية ضاعت إلى الأبد. فلو لم يتمكن هذا الجيل ولا الذي يليه من استردادها، فسوف يستردها يوماً جيل آخر، ولن نكون بحاجة إلى أن يوصمنا التاريخ يوماً ما، بأننا تنازلنا وفرّطنا بأكثر من ثلاثة أرباع وطننا، مقابل حصولنا على البقية الباقية من فلسطين التاريخية، هذا إن سُمح لنا بالحصول على هذا الجزء كله - أي الثلاثة أرباع المتبقية.
والمرتكز الثالث والأخير، حتى إذا قبلنا جدلاً بأهمية المفاوضات مع عدو يفوقنا عدةَ وتسليحاً، فلنا في التاريخ عبرة مما حدث مع الثورة الجزائرية، فالجزائريون بعد 130 عاماً من الاحتلال، رفضوا التفاوض مع المحتلين الفرنسيين، إلاَّ تحت دوي المدافع، حتى لا يفقدوا ورقة مهمة من أوراق التفاوض. لكن مما يؤسف له أن هذا الأمر لم يحدث في الحالة الفلسطينية، فمع بدء المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، سرعان ما خبا وميض الانتفاضة الأولى إلى أن تلاشى، فجلسنا على مائدة المفاوضات مجرّدين عراة من أية وسيلة نضغط بها على الطرف الآخر. بل وتمادينا في إظهار عجزنا أمام المفاوض الغريم، بأن نبذنا ما سُمي وقتذاك بالعنف والإرهاب، أي المقاومة.
إن ما تعانيه غزة اليوم جد صعب، رغم أن غزة هي البوابة الرئيسية لتحرير فلسطين عبر الزمان، الكل تخلّى عنها، طبقاً لمقولة والي الأمويين وقتذاك على البصرة زياد بن أبيه، الذي قال يوماً: "أنجو سعد فقد هلك سعيد". فالعرب تخلّوا عن هذه المنطقة، لأنه باعتقادهم لا طائل من التوقف أمامها بعدما هلكت، وإلاَّ فالدور عليهم؛ لذا فعليهم بالنجاة بأنفسهم؛ وإن لم يفعلوا فالدور عليهم. والفلسطينيون بدورهم غرقوا في مستنقع الفتنة التنظيمية، وتصارعوا فيما بينهم، خاصةً بين التنظيمين الأكبر على الساحة الفلسطينية، مما أدى إلى ما أسماه البعض انقلاباً على الشرعية، وأسماه البعض الآخر حسماً عسكرياً. وسواء صح هذا أو ذاك، فالكل خاسر من هذا التناحر التنظيمي، والمستفيد طرف واحد، هو عدوهم؛ لذا فصراع العائلات الذي وُجد زمن الانتداب، هي نفسه يتكرر بقالبٍ جديد يسمى صراع التنظيمات، وكما كانت فلسطين ضحية هذا النزاع في السابق، فغزة خاصةً وفلسطين عامةً ضحية هذا النزاع بعد أحداث غزة، وسميه ما شئت (انقلاب – حسم)، فالمسميات تختلف والضحية واحدة. حقاً إنها معادلة صعبة يُرثى لها، ويندى لها الجبين الإنساني خجلاً.

osamanahel
11/02/2008, 12:07 PM
غزة في 10/2/2008م
ما أشبه الليلة بالبارحة

د. أسامه محمد أبو نحل
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة الأزهر – غزة
osamabunahel@hotmail.com



هذا المقال تاريخي أكثر منه سياسي، فمن يتناول شؤون السياسة لا بد له من قراءة التاريخ، ليكون تحليله منطقياً مقبولاً، وإلاَّ فسوف يكون عمله عشوائياً لا قيمة له. ومما يؤسف له أن أغلب المحللين السياسيين الفلسطينيين والعرب يذهبون في تحليلاتهم من أحد واقعين: إما الانحياز لطرفٍ دون آخر، أو عدم اتخاذ موقفٍ بعينه، أي عدم توريط أنفسهم في معاداة طرفٍ على حساب طرفٍ آخر. وفي كلتا الحالتين؛ فإنه يخرج عن الموضوعية الجادة.
المتعاطون مع الشأن الفلسطيني كُثر، وكلٍ منهم يتناول الموضوع بطريقته الخاصة، وربما وفق قناعاته الفكرية، التي ربما تكون مع هذا الفريق أو ذاك، وهذا حال العدديين من كتّابنا ومحللينا السياسيين فيما يخص الشأن الفلسطيني، فالأرض الفلسطينية يُنتهك عرضها وتُغتصب يومياً على مرأى ومسمع الجميع، ومع ذلك نجد من يتشبث ببوقٍ ينعق من خلاله، بضرورة الإيمان المطلق بالواقعية السياسية، وبأن ليس بالإمكان أفضل مما كان، وذلك للحفاظ على الحد الأدنى مما يمكن أن نحصل عليه. والحقيقة أنه ليس هكذا تعلمنا من الوقائع التاريخية، سواء منه القديم أم الحديث. تعلمنا أنه في حالة الضعف يعمل أُولي الأمر، على إيجاد عدة مرتكزات لتحرير الأوطان:
المرتكز الأول – صيانة الجبهة الداخلية للبلاد المعرضة للخطر أو التي تعرضت للخطر بالفعل، ومما يؤسف له أنه لا نجد هذا في حالتنا الفلسطينية، لا الآن ولا في الأمس القريب ولا حتى الأمس البعيد. ولنبدأ من الأمس البعيد، جرياً على عادة النهج التاريخي في تسلسل الأحداث، فخلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وحتى سقوط 78% من أراضيها غنيمة سائغة بأيدي اليهود، ليقيموا عليها دولة إسرائيل، لم يبذل الفلسطينيون أولاً، ولا العرب ثانياً أدنى محاولة لرأب صدع جبهتهم الداخلية، لتكون ركيزة لتحرير هذه النسبة العالية من الأراضي التي افتقدوها، بل تصارعوا فيما بينهم على أمورٍ شكّلية لا قيمة لها، عملت على ترسيخ أقدام اليهود في فلسطين، ومن ثمَّ أضحت دولة توسعية في فترةٍ زمنيةٍ مذهلة، لم نرَ لها شبيهاً في المصادر التاريخية. الفلسطينيون من جانبهم بدأت الصراعات العائلية تنشب بينهم، سواء بسببٍ داخلي محض، أم بسبب التدخلات الإنكليزية في محاباة طرفٍ على حساب الآخر، وذلك كله من أجل شيء واحد مقدس لا ثاني له، هو الزعامة والمناصب. ومراجع التاريخ الفلسطيني حُبلى بمثل هكذا صراعات، ومن شاء التيقّن فعليه بالرجوع لهذه المراجع.
وبعد نكبة 1948م، وتغيّر الكثير من أنظمة الحكم العربية، وتبنيها فكر ثوري قومي، لم يتغيّر الكثير من المعادلة الموجودة على الأرض، فلا الأجزاء التي فُقدت من فلسطين اُستردت، ولا الفلسطينيون حاولوا تغيير هذا الواقع، نظراً لانقساماتهم الداخلية وانتمائهم لأحزابٍ عربية، اتخذت من نكبة فلسطين مطيّة للوصول إلى الحكم. ولمَّا حاول الفلسطينيون تغيير هذا الواقع في منتصف ستينات القرن المنصرم، وانشئوا منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة السيد أحمد الشقيري، بقوا على انقساماتهم. فلم ينضم لهذه المنظمة الكثير من الحركات والتنظيمات الفلسطينية، بحجة أنها كيان نشأ تحت العباءة العربية، أي منظمة تابعة وليست مستقلة القرار، وبدأت تكيل التهم للشقيري بالتبعية لنظام الرئيس المصري الخالد جمال عبد الناصر. وبعد هزيمة حزيران (يونيه) 1967م، قامت هذه الحركات بانقلابٍ أبيض ضد الشقيري برضاً عربي، وانتزعت منه زعامة المنظمة. فماذا كانت النتيجة ؟. بعد أقل من شهر على هذا الانقلاب صرّح السيد يحيى حمودة الرئيس الجديد للمنظمة، بأن المنظمة على استعداد للقبول بدولة علمانية ديمقراطية في فلسطين، وأن الفلسطينيين والإسرائيليين ليس بوسع كلاهما إلغاء الآخر، ثمَّ انفتح بازار التنازلات بدءاً من عام 1974م، عندما عرضت قيادة المنظمة ما سُمي بمشروع النقاط العشر الشهير، ثمَّ القبول بدولة في حدود عام 1967م، وأخيراً هبط السقف إلى القبول بسلطة حكم ذاتي محدود طبقاً لاتفاقية أوسلو الموقعة عام 1993م.
أما الأنظمة العربية فلم تعمل خلال هذه الفترة على مساعدة الفلسطينيين على تحرير أراضيهم المحتلة، بل انساقوا وراء جملة من مشاحناتهم وخلافاتهم الداخلية، التي أدمت القضية الفلسطينية، فنظامٍ عربي بعينه اقتطع من فلسطين جزء مهم منه وضمه لسلطته، ولم يتبقَّ من فلسطين التاريخية سوى قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، وعدت الأخيرة بإعادته للفلسطينيين بعد تحرير بقية التراب الفلسطيني. ثمَّ توالى سقف التنازلات العربية أيضاً، عندما قَبِلَ العرب بالقرار الدولي 242، بعد هزيمة 1967م، والذي مثَّل في حينه كارثة ألمّت بالقضية الفلسطينية. وأخيراً وليزيح العرب عن كاهلهم هم القضية الفلسطينية، أقرّوا في قمتهم الشهيرة في الرباط عام 1974، الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، أي بعد 10 أعوام من نشأتها. والحقيقة هذا الإقرار لم يتم محبةً بالفلسطينيين، ولكن لغرضٍ في نفس يعقوب، بأن ينفضوا أيديهم من المشكلة الفلسطينية برمتها ورميها في حجر من اعتبروهم أصحاب الشأن الأول، وأن تحرير فلسطين مسئوليتهم.
أما الآن، فالصورة أضحت أكثر دراماتيكية، فالعرب بطريقٍ أو بآخر ورّطوا الفلسطينيين في مأزقٍ لا فكاك منه، عندما سهّلوا لهم بعد حرب الخليج الثانية عام 1991م، الدخول في مفاوضات مع الإسرائيليين، سواء علنية أو سرية، انتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو – كما أسلفنا الإشارة. غير أن هذا لا يُعفي القيادة الفلسطينية من المسئولية على هذا التوقيع الذي يُعتبر ضمناً تنازلاً عن 78% من أرض فلسطين التاريخية. فلو بقوا مُصرّين على استرداد كامل حقوقهم، ولو ذاقوا لقاء موقفهم هذا الأمرين، فلن تكون في الدنيا قوة تلومهم على هذا الإصرار، ولكنهم من قبل كانوا قد أعطوا العرب الذريعة للتملص من مسئولياتهم، بأن جعلوا قضيتهم المركزية شأن فلسطيني صِرف، لا دخل للعرب فيه. فماذا كانت النتيجة المترتّبة على الدخول في مفاوضات غير سوية، لا يتساوى فيها طرفي المفاوضات؟. تفسخ داخلي لا قِبَلَ للفلسطينيين به، ومن ثمَّ تناحر أدّى إلى مزيد من الفُرقة بين الحركات والتنظيمات الفلسطينية، نظراً لاختلاف توجهاتها وأيديولوجياتها، حتى أننا نستطيع أن نجزم بأن هذه الحركات تكره بعضها البعض أكثر مما تبغض عدوها الرئيسي إسرائيل.
والمرتكز الثاني لتحرير الأوطان، هو الصبر والتأني في مواجهة العدو، فالقضية الفلسطينية ليست قضية سياسة واختلاف على حدودٍ بعينها، بل قضية وجود يتغلّب فيها من يثابر على مبادئه، ولا يتزعزع عند أول صدمة يتعرّض لها. فلو قامت إسرائيل بقضم كل الأراضي الفلسطينية قطعة تلو الأخرى، فهذا لا يعني أن فلسطين التاريخية ضاعت إلى الأبد. فلو لم يتمكن هذا الجيل ولا الذي يليه من استردادها، فسوف يستردها يوماً جيل آخر، ولن نكون بحاجة إلى أن يوصمنا التاريخ يوماً ما، بأننا تنازلنا وفرّطنا بأكثر من ثلاثة أرباع وطننا، مقابل حصولنا على البقية الباقية من فلسطين التاريخية، هذا إن سُمح لنا بالحصول على هذا الجزء كله - أي الثلاثة أرباع المتبقية.
والمرتكز الثالث والأخير، حتى إذا قبلنا جدلاً بأهمية المفاوضات مع عدو يفوقنا عدةَ وتسليحاً، فلنا في التاريخ عبرة مما حدث مع الثورة الجزائرية، فالجزائريون بعد 130 عاماً من الاحتلال، رفضوا التفاوض مع المحتلين الفرنسيين، إلاَّ تحت دوي المدافع، حتى لا يفقدوا ورقة مهمة من أوراق التفاوض. لكن مما يؤسف له أن هذا الأمر لم يحدث في الحالة الفلسطينية، فمع بدء المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، سرعان ما خبا وميض الانتفاضة الأولى إلى أن تلاشى، فجلسنا على مائدة المفاوضات مجرّدين عراة من أية وسيلة نضغط بها على الطرف الآخر. بل وتمادينا في إظهار عجزنا أمام المفاوض الغريم، بأن نبذنا ما سُمي وقتذاك بالعنف والإرهاب، أي المقاومة.
إن ما تعانيه غزة اليوم جد صعب، رغم أن غزة هي البوابة الرئيسية لتحرير فلسطين عبر الزمان، الكل تخلّى عنها، طبقاً لمقولة والي الأمويين وقتذاك على البصرة زياد بن أبيه، الذي قال يوماً: "أنجو سعد فقد هلك سعيد". فالعرب تخلّوا عن هذه المنطقة، لأنه باعتقادهم لا طائل من التوقف أمامها بعدما هلكت، وإلاَّ فالدور عليهم؛ لذا فعليهم بالنجاة بأنفسهم؛ وإن لم يفعلوا فالدور عليهم. والفلسطينيون بدورهم غرقوا في مستنقع الفتنة التنظيمية، وتصارعوا فيما بينهم، خاصةً بين التنظيمين الأكبر على الساحة الفلسطينية، مما أدى إلى ما أسماه البعض انقلاباً على الشرعية، وأسماه البعض الآخر حسماً عسكرياً. وسواء صح هذا أو ذاك، فالكل خاسر من هذا التناحر التنظيمي، والمستفيد طرف واحد، هو عدوهم؛ لذا فصراع العائلات الذي وُجد زمن الانتداب، هي نفسه يتكرر بقالبٍ جديد يسمى صراع التنظيمات، وكما كانت فلسطين ضحية هذا النزاع في السابق، فغزة خاصةً وفلسطين عامةً ضحية هذا النزاع بعد أحداث غزة، وسميه ما شئت (انقلاب – حسم)، فالمسميات تختلف والضحية واحدة. حقاً إنها معادلة صعبة يُرثى لها، ويندى لها الجبين الإنساني خجلاً.