مجدي محمود جعفر
13/02/2008, 11:46 PM
( زمن نجوى وهدان ) مسرواية بقلم / مجدي محمود جعفر
[ 1 ]
[ غرفة واسعة ، مفروشة أرضيتها بسجادة فاخرة ، فى جانب منها مكتب فخم ، عليه أوراق ، ومقلمة ، ومطفأة سجائر ، وجرائد ومجلات ، يومية ، وأسبوعية ، وخطابات .
أمام المكتب . كنبة كبيرة ، وأربعة كراسى "فوتيل " ، وفى الوسط ترابيزة متوسطة الحجم ، يعلوها مفرش " الكنافاه " وفى الأركان نباتات الزينة ، وأصص الزهور .
احتضنت جدران الغرفة أرفف مكتبة ، تضم كتبا مختلفة المقاسات والأحجام ، مرصوصة بعناية ونظام . على شباك الغرفة الواسع ، ستارة خفيفة زرقاء ، وأخرى سميكة فى منتصف الغرفة ، تفصل غرفة المكتب عن غرفة أخرى ]
" يدخل السكرتير حاملا فى يده حقيبة "سمسونيت " وخلفه الناقد الكبير .
" يضع السكرتير الحقيبة على المكتب ، ويمضى إلى الشباك ، يزيح الستارة .
" يخلع الناقد الكبير " الجاكت " ويعلقه على شماعة مثبتة على الجدار خلف المكتب ، ويفك رباط العنق ، ويجلس على كرسيه الوثير ، يدور به شمالا ويمينا ، وكأنه يستكشف الغرفة أو يطمئن على نظافتها ونظامها ، خلع نظارته .
جلس السكرتير على أقرب كرسى مجاور للمكتب ، وأخذ يقرأ له أهم عناوين ومانشيتات الصحف والمجلات
الناقد " مبتسماُ ومشيرا بيده ":
= كفى . لا جديد ! ، كلام اليوم هو كلام الأمس ! " وناظراُ إلى تلال الخطابات المكدسة على المكتب "
= كل هذه الخطابات !
السكرتير :
# عشرة خطابات يعرب فيها أصحابها عن إعجابهم بمقالك الذى كتبته الأسبوع الماضى ، وعشرون خطاباُ تحمل كتبا لشعراء ، وقصاصين ، وروائيين ، معظمها من إصدارات نوادى الأدب.
الناقد متنهدا :
= لعنة الله على نوادى الأدب ، إنها هدر للمال العام !
السكرتير " ساحباُ مظروفاُ أبيض كبيرا" :
# هذا الخطاب جاءت به صاحبته ، وانتظرتك ما يزيد على الساعتين ، وانصرفت لقضاء بعض حوائجها، وستعود فى الخامسة مساء .
الناقد :
= وماذا تريد ؟
السكرتير :
# تريد أن تكتشف موهبتها .
الناقد :
= كم عمرها ؟
السكرتير :
# تتجاوز الأربعين .
الناقد :
= أربعون عاما ُ .. ولم تكتشف بعد !
السكرتير " ماطاُ شفتيه ، ولم ينبس "
الناقد :
= وماذا تراها ؟
السكرتير :
# امرأة، نصف جميلة ، نصف موهوبة ، نصف مثقفة ، نصف متعلمة ، وثرية!
الناقد :
= أثرية حقاُ ؟!
السكرتير :
# نعم .. ويبدو عليها الثراء الفاحش .
الناقد :
=إذن . لا تقل نصف جميلة ، نصف موهوبة ، نصف مثقفة ، نصف متعلمة.ولكن قل :
جميلة ، وموهوبة ، ومثقفة ، ومتعلمة .
السكرتير " ضاحكاُ ":
# وهي كذلك يا سيدي .
الناقد " يفض المظروف " :
= إذن . امض مسرعاُ ، واصنع لى فنجان قهوة .
" يخرج السكرتير ، ويترك الناقد ، يقلب فى أوراقها ، التى أودعتها المظروف بعناية فائقة "
الناقد لنفسه :
= ثرية .. ! وخطها جميل . أوه .. قاصة .. !
" يقرأ سطوراً .. ويبتسم .. "
= كم من الآثام ترتكب باسمك أيها الفن المخاتل ، أيها الفن المراوغ الجميل ، ولكن لا بأس ، إنها ثرية !
" يدخل السكرتير مبتسماُ .. يضع القهوة.. " :
# ماذا تراها يا سيدي ؟!
الناقد :
= بالتأكيد تعانى من عثرات البدايات ، ولكن لا بأس مادامت ثرية
" يرشف من فنجان القهوة ، ويشير للسكرتير بالجلوس "
الناقد :
= قل لى : ماذا عرفت عنها وهى تثرثر معك أثناء انتظاري ؟
السكرتير :
# عرفت أنها كانت زوجة لرجل أعمال .
الناقد :
= كانت .. !
" وعابثاً بشاربه " :
= إذن هى مطلقة .
السكرتير :
# بل أرملة
الناقد " مبتسماُ " :
= الله يرحمه .
" وناظرا إلى ساعته ، وإلى السكرتير "
" وقبل أن يغلق السكرتير الباب خلفه ، يلتفت إلى الناقد . غامزا له بإحدى عينيه ، وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة ".
[ 2 ]
" فى الوقت الذى تعلن فيه الساعة المعلقة على الحائط عن الخامسة مساء بدقات رتيبة ومنتظمة ، تُسمع دقات ناعمة على الباب . كأنها نغمات ، يهرول الناقد إلى مكتبه ، ويجلس على كرسيه ، ويفر فى أوراق أمامه "
ينادى بصوت مرتفع :
= تفضل بالدخول
" يندفع الباب بحذر ورفق ، ومن انفراجة صغيرة بالباب ، يتسلل عطر أنثوى يملأ الغرفة ، وساق بيضاء ملفوفة ، لا شوائب فيها ولا زغب "
" الناقد مادا عنقه ، ومبحلقا بعينيه ، وموسعاً طاقتي أنفه ، ومهدلا شدقيه .. "
" فرحة هى بآثار فتنتها عليه ، وتفرج ثغرها المكتنز عن ابتسامة حلوة ، وبنظرة سريعة ، كالومضة ، تشع سحرا .. "
ـ م .. س .. ا .. ء .. الخير
" ومقتربة من مكتبه ، واقفة قبالته تماما ً، باسطة يدها البضة .. وبنعومة .. "
ـ حضرتك الأستاذ الدكتور ..
" ناهضا ، ولم تزل يدها الرقيقة الناعمة فى يده .."
= نعم .. نعم .. تفضلى .
" فى المسافة الصغيرة الفاصلة بين مكتب الأستاذ والكرسى المجاور لمكتبه ، تقف ، فاردة جسمها على قدر ما تستطيع ، عيناها فى عينه ، وقائلة برقة :
ـ سمعت عن احتضانك الحنون للأدباء .. و..
" لم يفرط فى يدها ، فلم تزل يمناه تحتضن يُمناها ، وعيناه تسبحان فى فضاء صدرها الرحيب "
= حضرتك أكيد " مدام نجوى "
" ساحبة عينيها من عينيه " :
ـ نعم .. نعم
" وساحبة أيضاً يدها بخفة ورقة ، وجالسة على المقعد الذى على يمينه "
هو :
= ماذا تشربين ؟
هى " بالفرنسية " :
ـ مرسى
هو :
= هذه أول مرة تزورينني فيها ، لابد أن تأخذى واجب الضيافة .
" وناهضاً" :
= اسمحي لى أن أصنع لكى مشروباً بنفسي .
هى :
ـ أن يصنع لى ناقد كبير مثلك مشروبا بنفسه ، فهذا كثير عليّ .
" منحنيا أمامها بحركة تمثيلية " :
هو :
= أديبة موهوبة مثلك ، تستحق أن ينحنى أمامها كل النقاد !
هى " خجلة و فرحة " :
ـ أنا لا أصدق أنني أديبة و ..
هو " مقاطعاُ " :
= بل أنتِ موهوبة ، موهوبة ، وموهبتك فى القص ليس لها مثيل فى بنات ونساء العرب من المحيط إلى الخليج !
هى :
ـ أنا لا أكاد أصدق .
هو " مشيرا بيده إلى العقد الذى تطوق به جيدها " :
= هذا العقد ..
" ثم يمد يده ليفر حباته " :
= من الأقدر على معرفة قيمته ؟!
" ثم مجيبا على نفسه " :
= بالتأكيد " الجواهرجى "
" تاركا حبات العقد ، لتمس أصابعه صدرها مسا خفيفاُ ، فينهض واقفاً ، ناظراُ من الشباك ،ومعطياً ظهره لها لثوان ، ثم ملتفتا لها بسرعة ..قبل أن تزول أثار مس أصابعه لصدرها "
= أنا الجواهرجى !!
= جبت مصر من أقصاها إلى أقصاها، من أسوان إلى الإسكندرية ، ومن مرسى مطروح إلى بورسعيد و دمياط ، أعرف عزب مصر كلها ، وكفورها ، وقراها ، ونجوعها ، وأزقتها ، وجبتها كلها بحثا عن " الألماظ " والجواهر ، عن المواهب المدفونة فى ثرى أرضنا الطيب ، والآن ، وبعد رحلة بحث زادت عن الثلاثين عاماُ
" مبتسماُ " :
= لا يغرنك شكلى ، فأنا فى منتصف العقد السادس..
هى " مصطنعة الذهول " :
ـ لا يبدو عليك ، فمن يراك ، يظنك على الأكثر فى منتصف العقد الثالث .
" ثم ضاحكة وفاردة يدها لتقبض على أحد أركان الترابيزة " :
ـ وهاأنذا يا سيدي أمسك الخشب !
هو " مصطنعا الجدية ":
= أنت رقيقة ومجاملة ، العمر ينسرب ، ولا ندرى ، وها أنت تهلين .. !
هى" مبتسمة " :
ـ عفواُ .. خدعتك عيناك ، فالمسافة الزمنية بيننا ليست شاهقة .
هو " مقتربا منها ":
= أتمنى ألا تكون بيننا مسافات !
هى " فى نفسها " :
ـ من أول جلسة تريد أن تلغي المسافات وكأنه أدرك ما يجول برأسها
هو :
= الناقد ، والفنان المبدع ، يجب أن تتلاشى المسافة بينهما .
هى :
ـ زدنى وضوحاُ
هو :
= أقصد أن ينكشف المبدع للناقد .
هى " فى نفسها " :
ـ تتلاشى المسافة بيننا ، ثم أنكشف أو أتعرى ، لك أو أمامك ، لا فرق ! ..إنه الثمن ! أقرأه فى عينيك الواسعتين ، النهمتين ، وفى نبرات صوتك ، إنه ثمن الوصول !!
لم أستبعد هذا الاحتمال ، ولكنى أرجأته ، وجعلته أخر الاحتمالات .
ثم لماذا تعزف على هذا الوتر من البداية أيها الناقد الكبير ؟
.. أعرف أن جواز مرور أى كاتبة يكون من خلالك ، أو بمعنى أكثر وضوحاُ أو صراحة أو وقاحة ، من خلال فراشك ! .. بالتأكيد تلك الستارة السميكة تفصل بين المكتب عن غرفة أخرى للنوم !
هو :
= لماذا أنت ساهمة ؟
هى :
ـ كنت أفكر .
هو :
= فيم تفكرين ؟
هى :
ـ فى الثمن !
هو " مرتبكاُ " :
= أن .. أن .. أنت ..
" ثم مستدركا بسعادة " :
= أنت أذكى من قابلت .
هى :
ـ بل قل أكثر واقعية من كل من التقيت بهن .
هو :
= أدركت من قراءتي لبعض نصوصك أنك ..
هى " مقاطعة ":
ـ رغم أنني لم أكتب سطراُ ، أو حتى كلمة تشير من قريب أو بعيد إلى ...، إن كل من قرأ لى أدهشه أن ما أكتبه ...
هو " ضاحكاُ وهازئاُ :"
= ومن الذى قرأ لكِ ، رئيس نادى أدب مدينتك المجهولة ، وهو غالبا مدرس على المعاش ، وعلى الأكثر مدرس لغة عربية وتربية إسلامية لا يعرف فى الأدب أو حتى فى الدين أكثر مما تتضمنه مناهج وزارة التربية والتعليم .
" ومصطنعا الجدية " :
= المسكوت عنه فى قصصك يا سيدتى ، لا يفقهه إلا أولو النهى .
هى :
ـ وما هو المسكوت عنه فى قصصى ؟
هو :
= أنت ..
هى :
ـ أنا !
هو :
= نعم
هى :
ـ كيف ؟
هو :
= لم أرك فى قصصك ؟
هى " وكأنها تخاطب نفسها " :
ـ ولن ترانى .
هو " ضاحكاُ " :
= ولكننى أراك ، فهاتان عيناك السوداوان الجميلتان ، وهاتان شفتاك القرمزيتان الدقيقتان ، وخداك المتوردان ، وجبتهك العريضة بلون الفضة ، وأنفك العربى ، الشامخ
هى " ساهمة " :
ـ فيما مضى – من ربع قرن أو يزيد ، كانت عيناى عمشاوتان ، وخداى صدئين ، وشفتاى زرقاوين .. و.. " تغمض عينها "
هو " ناقرا بيده على المكتب " :
= أراك تسرحين ، وتشردين كثيرا .
هى " باسمة " :
ـ كلى آذان مصغية .
هو " ضاحكا " :
= ما أجمل أذنيك !
هى " ضاحكة " :
ـ كم واحدة دخلت هنا،وجلست على هذا الكرسى ، وسمعت هذا الكلام الجميل ؟
هو :
= ليس بينهن من فى جمالك !
هى :
ـ جمالى فقط .
هو :
= وموهبتك.
هى " جادة " :
ـ هل أنا فعلا ، أملك الجمال والموهبة ؟
هو :
= بالتأكيد . أنا عينى لا تخطئ الجمال ، وحدسى لا يخطئ الموهبة .
هى :
ـ ماذا لو أضفنا إلى نعمتى الجمال والموهبة نغمة المال ؟
هو " مصطنعا الدهشة " :
= المال !
هى :
ـ نعم .
هو " مبتعدا عنها بعينيه وممثلا الشرود " :
= الجمال " وكأنه يخاطب نفسه " ، والموهبة ، والمال ، لا .. لا ، " ثم مستديرا لها بعينيه ومصطنعا الجدية "
ـ لنكن صرحاء ، توفر المال ، والجمال ، والموهبة ، فى شخص واحد يكاد يكون معدوماُ ، بل مستحيلاً ، من خلال .. ملاحظاتى ، ومشاهداتى ، ومتابعاتى ، وقراءاتى ، وتجوالى ، وخبراتى التى تراكمت عبر سنين طوال ، أجزم باستحالة تجمع هذه النعم الثلاث فى شخص واحد . ولكن أنا لا أستطيع أن أكذب عينى ، فها أنت أمامى ، وعينى لا تخطئ الجمال ، وحدسى لا يخطئ الموهبة ، أنا أستطيع أن أشم الموهبة على بُعد أميال ، شممت موهبتك قبل عطرك ، وموهبتك أنفذ ، ملأت خياشيمى ، وتسللت إلى قلبى وعقلى قبل أن يتسلل عطرك إلى أنفى ، قبضت عليها من السطور الأولى ، ثم تأتى لتضيفى عطية ثالثة من عطاء الرب لك وهى المال .. هذا كثير !
" ضاربا كفا بكف .. ومستدركا " :
= أستغفر الله العظيم ، فليس هناك كثير على الله ، ولكن أصحاب المواهب وخاصة الأدبية ، لا يأتيهم المال إلا متأخرا ، وفى بلدنا هذا وزمننا هذا قد لا يأتيهم أبدا
" ناظرا إليها " :
= هل أتاك المال عن ميراث مثلاُ ؟
هى " متنهدة " :
ـ لم أولد وفى فمى ملعقة من ذهب .
" ومسحت بإبهامها جبتها وقالت " :
ـ هكذا أتانى المال !
" اعتدلت في جلستها .. وأضافت " :
ـ أنا أعرف أن أصحاب المواهب ينشغلون بمواهبهم عن جمع المال ، وإن كنت لا أنكر أن جمع المال يحتاج إلى موهوبين أيضا ، وقد أكرمنى الله بأن قيض لى زوجا يملك موهبة جمع المال ! .. وبعد أن آل المال لى وحدى ، ولم يكن لى ابنا أو ابنة يرثانى ، فكرت فى وقف جزء منه لأصحاب المواهب الأدبية الذين يعانون ، هؤلاء الذين يوازنون مثلا بين شراء أرغفة من الخبز وبين شراء كتاب ، هؤلاء الذين يقتطعون من أقواتهم وأقوات أولادهم وأطفالهم لينشروا إبداعاتهم ، كم من مرة – قرأت فى الصحف مناشدات لوزير الثقافة ولرئيس الوزراء ولأصحاب القلوب الرحيمة بالتدخل ، لعلاج الشاعر الفلانى ، أو الأديب العلانى ، لأنه للأسف لا يملك ثمن العلاج ولا حتى ثمن القوت ! .. كم يؤلمنى أن يصبح علاج الأديب استجداء .
" مخرجا علبة سجائره الأجنبية ، وقبل أن يفتحها ، مدت يدها ، ناولها سيجارة ، وأشعلها لها بقداحته الذهبية ، وأشعل هو الأخر سيجارته ، أخذت نفسا عميقا ، ونفثته ببطء واستطردت :
ـ ها أنذا يا سيدي أملك المال ؟
هو :
= والموهبة والجمال .
هى " ضاحكة " :
ـ أشك
هو :
= ألا تشعرين بالجوع ؟!
هى :
ـ بل أشعر به يقرص أحشائى .
هو " مديرا قرص التليفون "
هى :
ـ ماذا تفعل ؟
هو :
= أطلب العشاء من المطعم .
هى :
ـ بل أنا أدعوك للعشاء . فى مطعم أحبه ، وأحيانا أحضر إلى القاهرة خصيصا لأتناول وجباتى المفضلة فيه والتى يحسن طهاته طهيها وإعدادها .
هو " ضاحكا " :
= ولكنك " ضيفتى "
هى :
ـ كلنا ضيوف على القاهرة
هو " مبتسما " :
= نعم .. وأنا لست قاهريا !
هى " ضاحكة " :
ـ وأنا أيضا
هو :
= بصرة إذن .
[ 3 ]
" يزيح الستارة التى تفصل غرفة المكتب عن الغرفة الأخرى ويدعوها لتتناول معه مشروبا "
هو " واضعا يده على بطنه :
= أنا مدين لك بهذا العشاء الفاخر والشهى ، امتلأت بطنى عن أخرها وكأنى لم آكل من قبل !
هى :
ـ بالهناء والشفاء .
" مخرجا زجاجة خمرة من الثلاجة "
هو :
= أتتناولين معى كأسا ؟
هى :
ـ لا بأس . قليل منه يشفى .
" يصب فى كأسين ، يناولها كأسا ، ويتناول كأسا .. قائلا فى صحتك !
" تصب كأسا أخرى له ، وكأسا لها ، تقرع كأسها فى كأسه ، قائلة فى صحتك ! "
" يضحكان ، ويجلسان على أريكة وثيرة بجوار السرير "
هو : " موزعا نظره بينها وبين السرير "
= هذا السرير ..
هى :
ـ ماذا به ؟!
هو " وهو يدفع بجوفه ما تبقى فى الكأس "
= شهد معارك عنيفة !
هى " ناظرة له بجانب من عينها "
ـ يبدو أن مفعول الخمر ظهر! ، أعرف أنك داهية !
هو " مدعيا أنه مخمور " :
= تمددت عليه برنسيسات ، وأميرات ، " ضاحكا " .. ، وخادمات ، ها ها.. ثيبات وأبكار ، مصريات ، عربيات ، أفريقيات ، أوروبيات ،..
هى " ضاحكة ضحكة ممطوطة " :
ـ يخرب بيتك يا دكتور ،كل هؤلاء قدرت عليهن!! ناولنى كأسا ليلتك " للصبح "
هو "مصفقا بيده ":
= أيوه كده ، اشرب ، قربع ياجميل ؟!
" متماديا فى تمثيل الدور ، ومخرجا من الدولاب ، ملبوسات داخلية أنيقة وجميلة ، ومثيرة ، مختلفة أحجامها ، وأشكالها ، وألوانها ، يفردها أمامها ويمسك قميص تلو قميص ..
= هذا القميص " ويشم رائحته " ، لزنجية ، وهذا القميص لخليجية ، وهذا " ويقربه من أنفه " : مازالت رائحتها فيه ، عرقها أشتمه عطرا ، تخللت أنوثتها نسيجه وصارت من مكوناته .
وهذا القميص ! " يحتضنه ويشرد قليلا .. "
= كانت ليلة !
= لا أعتقد أن قضى مثلها واحد من خلفاء أمية أو حتى من بنى العباس
هي " والخمر تدور في رأسها " :
ـ وكيف تعرفت عليهن ؟ !
هو " مقتربا منها ، وواضعا يده علي كتفها " :
= أقول لك ، شوفي يا ستي ، بعضهن يأتين ليدرسن الأدب العربي ، أو ليحصلن علي الماجستير والدكتوراه ، ولكل شيء ثمنه ! ، ومن يأتين أيضا طالبات للشهرة ، فمصر كما تعلمين هي جواز المرور للشهرة ، والأدب مثل الفن وغيره ، تحتكره مصر ، هل سمعت مثلا عن مطربه أو ممثله أو حتى راقصة حققت شهره إلا من خلال اعتمادها في مصر !
هي " ضاحكة " :
ـ وما أكثر اللواتي اعتمدن في مصر
هو "ضاحكا " :
= والعبد لله هو الذي يعتمد الأديبات اللائى يفدن إلي مصر !
هى " ضاحكة " :
ـ هنا .. على هذا السرير !
هو :
= على هذا السرير ، وكل من دخلن هذه الغرفة اعتمدن ! وأصبحن نجمات يملان سماء دنيا الثقافة والأدب .
هى " متطوحة " : وهل مازلن يذكرنك ؟
هو " متطوحا " : أحيانا ! ، و" شاردا" ..
= غالبا ما يأخذهن الحنين ، ويأتين .
قد أفاجأ بواحدة منهن أحيانا ، تأتى ، بعد مرور سنوات فى محاولة منها لاستعادة الماضى والذكريات .
هى " وهى تدفع بآخر رشفة فى قاع الكأس فى جوفها "
ـ وتعتمدها من جديد !
هو " وهو يصب كأسا جديدة ":
= نعم .. واعتمادها هذه المرة يكون أوقع وأمتع وألذ ، فانتفت المصلحة !
هى " وهى تتناول منه كأسا " :
ـ " هى دى مصر !"
هو " ضاحكا " :
= من ذقن حلاوتها لا ينسينها أبداُ ، ويعاودهن الحنين بين الفينة والأخرى .
هى " تناوله كأساُ " :
ـ صب لى كأسا ، فمازال فى عقلى نبض ، أريد أن يتوقف !
هو " يصب لها كأسا وله كأسا " :
[ لحظة صمت ]
" يدير جهاز التسجيل تنبعث منه موسيقى ، هادئة ، ناعمة .. "
هو " قاطعا الصمت " :
= لماذا لا تفضفضين ؟!
هى :
ـ فيما أفضفض ؟!
هو :
= تطلعيني على السر أو الأسرار التى تدفنينها فى أعمق أعماقك .
هى :
ـ أى سر وأي أسرار تقصد ؟
هو:
= ما خفى عنى ، وعن كل الناس .
هى :
ـ ليس عندى ما أخفيه ؟
هو :
= بحثت عنك فى قصصك ولم أجدك .
هى :
ـ كيف تجدنى ، وأنا لا أكتب سيرة ذاتية .
هو :
= الكاتب مبثوث بطريقة أو بأخرى فى أعماله ، وأستطيع بحكم دراستى ، وخبرتى ، أن أستخرج الكاتب بسهولة من أعماله .
كل من قرأت له ، حددت ملامحه العامة والخاصة ، وطرائق تفكيره ،وأسلوب حياته ، ومزاجه النفسى و ..
" يوقف جهاز التسجيل ، يفر فى أشرطة أمامه ، ينتقى شريطا ، يضعه فى جهاز التسجيل ، يديره ، تنبث موسيقى أكثر نعومة ، و... يقلل كمية الضوء ، بالكاد تنير الغرفة "
هى : " تسترخى " تغمض عينها :
هو :
= لما لا تتمددي على هذا السرير ، وتتحررى ..
هى " سابحة مع الموسيقى " :
ـ تريدنى أن أتحرر من ملابسى ! وأصير مثل صديقاتك . مجرد قميص نوم شفاف ، أترك لك فيه رائحتى ، ذكرى لليلة الجميلة أو حتى ليلة خائبة . ويأخذ رقماً ، ويدون عليه تاريخ الليلة ، ويدس فى الدولاب مع غيره من القمصان .
هو " مقتربا منها وواضعا يده على كتفها " :
= صدقينى . لم أقصد هذا التحرر ، لكنى أقصد التحرر من الداخل .. تطلعينى على صفحات نفسك المطوية .
من فضلك ، وبنعومة :
ـ هذا السرير . [ يبسط لها يده ، تقرأ فى عينيه رجاء ، تمد له يدها ، شئ خفى يدفعها للنهوض ، مغمضة العينين تسير وكأنها مغيبة ، يتناول يدها برفق ، تخلع حذائها الأبيض ، تصعد إلى السرير ، تحت تأثير الخمر والموسيقى ، وسحر كلامه ، تستلق ]
هو :
= أصغى إلى الموسيقى ، وانظري إلى اللوحات المعلقة على الجدار ، أو أغمض عينيك ، وانظري إلى داخلك ، واسمعيني نبضات قلبك ، وأصداء نفسك ، ولا بأس من كأس تلو كأس ، فالخمر تغيب العقل الذى يحد من الفضفضة ، كلنا بحاجة إلى البوح ، بوحى ؟!.. اشربي حتى الثمالة ، لتخرجى كل المدفون – هناك فى القاع وفى الأغوار ، وتأكدى ، تأكدى أنك لو غبت تماما عن الوعى ، فجسدك فى مأمن.
هى " مغمضة العينين " :
ـ نعم .. أحتاج للفضفضة .
هو " بصوت ناعم ودافئ " :
= بوحى ؟! .. اتركي نفسك على سجيتها ، لا تقفى فى طريقها ، غيبى العقل أو نحيه جانبا .
هى :
ـ أراني !
هو :
= ماذا ترين ؟
هى :
ـ أراني فى حجرة صغيرة ملحقة بمسجد صغير بجوار مقابر القرية
هو " مندهشا " :
= استرسلي ، بوحى .. ؟ .. بوحى ؟! .. بوحى ؟! .
هى :
ـ كنت أحبو بين المقابر .
ويُحكى أن أمي ، كانت تأتى أخر الليل عندما تعود من العمل فى الغيطان أو فى دور الموسرين . تجدنى قد دخلت قبراُ مفتوحاُ ، وغلبنى النعاس ونمت فيه .
وكان أبى كفيفاُ ، حفظ فى طفولته بعض سور القرآن ، كانت كفيلة بأن يوكل إليه الرجل الثرى الذى بنى المسجد – بإقامة الصلاة على وقتها ، وبالصلاة على الميت ، والقراءة عليه ، نظير أجر ، وحراسة المقابر .
" يبدل شريط الموسيقى ، بشريط أخر، تنبعث منه موسيقى أكثر شجناُ .
ـ أذكر أن أبى كثيرا ما كان يقيم الصلاة ، ويصلى بمفرده ، فلم يكن للمسجد من رواد ، إلا عابر سبيل ، ونادرا ما يطرق هذا الطريق عابر .
أحيانا ، أحيانا قليلة ، يرتاد المسجد بعض من يعملون فى الغيطان حينما يريدون قضاء الحاجة أو الهروب من الشمس وقت الظهيرة !
[صدى صوته يتردد فى أركان الحجرة .. بوحى ؟!.. بوحى ؟!.. بوحى ؟! .. ب..و..ح..ى.. ح.. ى..ى..ى .... ]
ـ قـُدر لنا أن نعيش مع الأموات ، فالمسافة بيننا وبين القرية ، تزيد عن الثلاثة كيلومترات .
هناك على طريق غير مأهول ، على أرض كانت فى الزمن البعيد تنكر الزرع ، أقاموا مقابرهم ، كنت أفرح بكل ميت جديد ، فهو بالنسبة لنا فلوسا ، تدس فى يد أبى خفية وجهرا ، أو فى جيبه نظير قراءته ، ولحوما وفاكهة تملأ حجر أمي ، وحكايات النساء عن المتوفى ، زوجته أو أمه ، أخته ، وعمته ، خالته وجارته .
على صغرى كنت أندس بينهن ، وأصغى لحكايتهن عنه ، أعرف تفاصيل حياته ، وأقف على أفعاله ، أعرف الأموات واحدا واحدا ، الشرير والطيب ، الكريم والبخيل ، النبيل واللئيم ، المريض والسليم ، البدين والنحيف ، الجميل والدميم . كنت أعجب بهذا ، وأبغض ذاك .
" وتضحك ضحكا متواصلا لدقائق ، يناولها كأسا ، تتجرعه دفعة واحدة "
ـ أول حب فى حياتى ، كان لواحد ميت . تصور !
اقتحمنى من خلال حكايات أمه وأخته وابنة عمه عنه . اللائى رحن يعدون محاسنه ومآثره ، وينعين جماله وشبابه ، ومن الصدف – كان اسمه يوسف ، واقترن فى ذهنى بيوسف الصديق ، وظللت لأيام أراوده فى نومى عن نفسه !
" وتضحك ، فيناولها كأسا "
ـ فى المدرسة . كنت أجتذب البنات بحكاياتى ، وخيالاتى ، وشطحاتى ، كنت أجذبهن لى ، بل كن يسعين إلى ويخطبن ودى ، ويتمنين لو أظل أحكي لهن طوال العمر ، وكم تكون سعادتهن عندما يتغيب مدرس أو يعتذر عن الحصة ! يتحلقن حولى ، وأنا كل يوم أصنع حكاية جديدة ، فالمدد عندى لا ينفد ، شهرزاد حكت ألف حكاية وأنا حكيت ألف ألف حكاية . حكايات الأموات ، والأحياء .
الأموات الذين يتعاركون ويتصايحون فى الليل ! الذين يخرجون من مقابرهم ، ويحكون لى عن حياتهم الخاصة ، فهم لا يظهرون إلا لى ، ثقة منهم فى " هئ هئ هئ هئ " هل فعلا يتصايحون ويتعاركون ؟! .. هل فعلاً يخرجون ؟! .. هل حقا يثقون بي ؟!.. هئ هئ .. هئ ....
من تطلب مني أن أحكي لها عن أبيها ، ومن تطلب منى أن أحكي لها عن أمها أو أخيها ، هذه تسألنى عن عمتها أو خالتها ، وتلك تسألنى عن حبيبها الذى اختطفه الموت ..!
كيف يعيشون ، وماذا يأكلون ؟ وماذا يلبسون ؟ .. عشرات الأسئلة تحتاج إلى إجابات .. عرفت كيف أستقطبهن ، وكيف أستثمرهن . أحكي لهذه همسا بأن أبيها فى الجنة ، وأن أبو البنت التى لا تحبها فى النار ، .. وأطلب منها ألا تخبرها ، فتفرح بما أسررته لها ، فتزيد من عطاياها لى ، كتبا وكشاكيل ، وأقلاما وملابس ، والأخرى أخبرها بعكس ما أخبرت به عزيمتها ، فتكثر من عطاياها لى ، عرفت كيف تكون لحكاياتى ثمن ؟! .. وأصبح على أن أدافع عنها ، فهى تعطينى نوعا من الوجاهة والتميز ، وتدر على دخلا ، ومصدر رزقى ، ومدرس اللغة العربية و التربية الدينية يمثل خطرا لى وعلى ، فيقول للبنات بغير ما أقول .. أحيانا أجدنى لا إراديا ، أقف فى الحصة معترضة ، ومحتدة على ما يقوله ، فيبتسم ، تغيظنى ابتسامته ، وثقته وهدوءه ، أشعر به يعرينى ، ويسفه من أفكارى ، وحكاياتى للبنات .
تطفر الدموع من عينى ، وأنا أقرأ فى كلماته – تلميحا لحياتى مع الأموات ، ونشأتى فى هذه البيئة ، كرهته . نعم كرهته. وزادت كراهيتى له عندما حفرت أصابعه خطوطا على خدى وقال علنا : بأن بنت التربى ستفسد البنات !
" تتحسس خدها " ، " يبادر بصب كأس لها "
ـ أول يد تصفعنى ، ابتلعت غيظى ، وأقسمت ألا أعود إلى المدرسة ، وظللت يومين أو أكثر منقطعة عن المدرسة ،حتى زارتنى بعض زميلاتى ، أول مرة يزورنى أحد ، وأول مرة أخجل من غرفة واحدة هى مسكننا ، وحصيرة متآكلة مفروشة ، على أرضيتها ، ولحاف متسخ مثقوب تخرج منه قطع القطن ، و" حِرام " من الصوف ، الخشن متهرئ ، وبعض أطباق وحلل صدئة ، ووابور جاز، وقلة ماء هى كل متاعنا ، ورجل ضرير ، بالى الثوب ، صامت دائما ، عايرنى به فى المدرسة فى الفصل أمام البنات ، وامرأة عجفاء ، ناحلة ، وطويلة ، تخرج مع أول ضوء للنهار ولا تعود إلا فى منتصف الليل معها الزاد والزواد .
ولأول مرة أشعر بالفارق ، بالمسافة الواسعة بينى وبينهن ، أخذنني من يدي ، وسرن بي بعيدا عن الغرفة الرطبة والنصف مظلمة ، وجلسنا هناك فى ظلال شجرة عند أحد المقابر .
قلن : ولا يهمك يا بنت .. نحن نعلم أنه يغار منك ، لأن حكاياتك أكثر تشويقا وإمتاعا ، تتسلل إلى القلب ، وتدغدغ النفس وتلهب الخيال ، أما هو فحكاياته باردة ، والأحاديث التى يوردها مأخوذة عن فلان .. عن علان .. عشرات العنعنة ، أما أنت ، فتأخذين منهم حكاياتك مباشرة ، تلقى فى روعك ، إنهم يثقون فيك ، يبوحون لك بأسرارهم ، يوقفونك على أحوالهم ، أحيانا يأتى الميت لمن يحب فى المنام ، ويوصيه وصية أو يطلب منه طلبا أو يخبره بأمر أو يسر له بسر ، وأنت هنا ، تعيشين بينهم ..
" وتضحك ، يناولها كأساُ "
ـ أخرجت إحداهن كتاباً كانت قد دسته فى حقيبتها ، لأول مرة أرى كتابا غير كتب وزارة التعليم ، كتابا أكثر أناقة وأكثر فخامة ، قلبت الكتاب بين يديها وقالت : هذا الكتاب يتحدث مؤلفه ، وهو بالمناسبة رجل مشهور – عن الأرواح والأشباح والجن والعفاريت والأموات !
وراحت تقرأ من الكتاب بعض الحكايات – كانت قد خطت تحته بالقلم ، تتفق فى مضمونها ، وفى معظم تفاصيلها مع ما أحكيه لهن ، الفارق هو اللغة الأنيقة ،والساحرة التى يكتب بها،وتناولت منها الكتاب بفرح،واستأذنتها فى استعارته كنت أتعجل انصرافهن حتى أخلو بالكتاب ، وانفردت به بعد انصرافهن ولم أقم ، إلا بعد أن أتيت عليه جملة ، التهمته كلمة ،كلمة،وسطرا ، سطرا..رد لى هذا الكتاب اعتباري ، وحضنته ،وقبلته ،وقبلت صورة مؤلفه الوسيم على ظهر الغلاف ، وفى الصباح ، ذهبت إلى المدرسة ، وقد أعاد لى هذا المؤلف المشهور كبريائى أمام هذا المدرس المغرور والمغمور ، وقلت للبنات بزهو وأنا أقرأ لهن صفحات من الكتاب : احكمن أنتن ، ومن الذى يوثق فيه ، هذا المدرس المغمور ، الذى لا يعرفه أحد أم هذا المؤلف المشهور الذى تعرفه الدنيا كلها.
وانحزن إلى المؤلف المشهور ، وبالطبع انحزن لى ، وأعدت الكتاب لزميلتى التى أخذته من مكتبة أخيها لتعيده ، ورجوتها أن تبحث لى عن كتب أخرى لهذا المؤلف ، وفاجأتنى فى اليوم التالى بكتابين آخرين له ، وسعدت بهما سعادة لا توصف ، ومن يومها عرفت القراءة ، وأحببتها ، وأدمنتها ، وهذا الكاتب – بنى إمبراطوريته من حكايات تشبه حكاياتى ، ورحت أوثق صلتى بالأموات ، أجلس أمام مقابرهم – فى أوقات متفرقة من الليل والنهار ، أتصنت على قبورهم ، أرهف السمع وأدقق النظر ، أعيش بالكلية معهم ، ومع حكاياتهم التى تتناثر من أفواه المشيعين والزوار ، صرت أسمع نحيبهم وضحكهم ، أنينهم ونجواهم ، يخرجون .. نعم .. أراهم يخرجون ، ويمرقون بسرعة تفوق سرعة الريح ، وبعضهم يومض كالبرق الخاطف ، كالشهب ، دربت أذني على سماع دبة النملة ، وعيني على رؤية كف يدي فى الظلام ، وأنقى على الشم دون أخذ الشهيق ، خففت جسدى بالامتناع عن الأكل والصوم لفترات طويلة ، حتى دق ، ورق ، وشف ، وصرت من النحافة ، بحيث تذرونى الرياح ، فى الليل تستطيل أذناى وأشعر بها وأنا أستعيد صورتي في ذلك الزمان ـ كأنهما طبقان هوائيان مثل تلك الأطباق التي تملأ الآن أسطح عمارات القاهرة ، ويتمدد أنفي ويصبح بطول ذراع ، وتستدير العينان ، وتتسع الحدقتان ، وانشغلت بها لفترات طويلة عن كل ما حولي ، عالم غريب وعجيب ولجته ، وعشته ، كل قبر دخلته ، أتحول إلي عينين كبيرتين أو أتحول إلي أذنين ، أتعذب بما أري وبما أسمع ، قصص مثيره وعجيبة ، تجاوزت حدود العقل ، وفاقت الخيال .
[ كانت تتحدث ، وجسدها كله ينتفض ]
[ الناقد ناظرا لها ، مأخوذا ومذهولا ، بالرعشة العنيفة التي ترج السرير ]
" مد يده إلى جبينها ، غاصت يده في عرق مالح ، وكأنها محمومة ، راحت تهذي ، تذكر أسماء غريبة ، ومصطلحات لم يسمع بها من قبل ، وتحول لسانها فجأة إلي لغة . ليست بالعربية ولا الإنجليزية ولا الفرنسية ولا الفارسية ولا الألمانية ، ولا أي لغة يعرفها ، قال في نفسه : لابد أنها لغة .... ، ارتعدت فرائصه ، أخذ يهزها بعنف ، هزت رأسها ، فتحت عينها ، دعكتهما بيديها ، وقالت :
ـ دكتور ! .. أنا تعبانه يا دكتور
[ يمد يده ، يربت علي كتفها ، يصب لها كأسا ، تدفعه في جوفها دفعه واحدة ]
ـ هل يمكن أن تجد لي علاجا يا دكتور ؟! ..
" هو قائلا في نفسه : ماذا تظنني ؟! "
= شهورا انقضت يا دكتور ولا أمل في الشفاء ، مرتين في الأسبوع ،
وأحيانا ثلاث مرات ، أتردد علي عيادتك .. قالوا أنك أفضل طبيب للأمراض العصبية والنفسية في مصر ، صارحني ، صارحني يا دكتور
هو " في نفسه " :
= طبيب ،طبيب نفسي ، لا بأس !
هو " متقمصا دور الطبيب النفسي "
هي :
ـ لا أدري يا دكتور ـ لماذا يقفز إليّ ، من هوة سحيقة في أعماقي ، يبدأ بحجم القزم ، يتنطط أمام عيني ، ويتنامي شيئا فشيئا حتى يصبح عملاقا يقطع علي الطريق ، ويسد كل منافذ الرؤية ، شبحا أسود قاتما رهيبا ، يقلق مضجعي ، ويعكر صفو تفكيري وحياتي ، يصارعني وأصارعه ، في النوم وفي اليقظة
هو :
= ومنذ متي يأتيك هذا الشبح ؟!
هى :
ـ تحديدا منذ أن مات بهاء !
هو :
= هل تستطيعين أن تحددى ملامحه ؟
هى :
ـ أصوات تتعارك ، وتتصايح ، لا أتبين لها ملامح ، تتداخل ، وتنمو ، وتكبر ، شيئا فشيئا ، وتصير شبحا واحدا ، عملاقا ورهيبا ، يجثم فوق صدرى ويكاد يزهق روحى .
هو :
= هل تستطيعين أن تحددى من أين تأتى هذه الأشباح الصغيرة قبل أن تتحد فى شكل واحد ؟
هى :
ـ من فوهة قبر !.. من مشرحة فى مستشفى !.. وربما لقمة فى حنك أرملة تصير شبحا .. أو جنيها فى جيب موظف .. أو .. أو ..
هو :
= استرخى أكثر .. وارجعى إلى القبر .
هى :
ـ القبر .. القبر لا يفارقنى .
هو " متخابثا " :
= هل تعرفين القبر ؟
هى :
ـ أعرفه ؟ نعم أعرفه .. لا أحد يعرفه مثلى .. إنه يسكننى وأسكنه .
هو :
= أتخافين عذابه ؟
هى :
ـ ليس فيه عذاب .
هو :
= وما أدراك أن ليس فيه عقاب ؟
هى :
ـ كنت أعيش فى المقابر ، لم أر الثعبان الأقرع ، ولم أسمع طقطقة العظام ولا اختلاف الأضلاع ، ولا رأيت ملائكة العذاب ولا حتى ملائكة الرحمة .
هو :
= ما دينك ؟
هى :
ـ دينى ؟! " لحظة صمت "
هو :
= لا بأس . هل تستطيعين أن تتذكرى تاريخ ميلادك ؟
هى :
ـ ميلادى !
[ لحظة صمت ]
ـ ميلادى الحقيقى – مع قرار الانفتاح الذى اتخذه الرئيس السادات
هو :
= والسنوات التى قبلها .
هى :
ـ الانفتاح يجب ما قبله !
هو :
= أهجرة جديدة إذن ؟!
" تفرط يدها ، وبصوت مرتفع "
هى :
ـ نعم .. بزغ عصر جديد ، ودين جديد .
هو :
= ودخلت فى الدين الجديد ، والعصر الجديد ؟
هى :
ـ نعم .. كنا من الطلائع !
هو :
= الطلائع ؟!
هى :
ـ نعم .. فلكل دين طلائع ومبشرين .
هو :
= وكيف دخلت هذا الدين الجديد .
هى :
ـ زارني لأول مرة .
هو :
= من ..؟
هى :
ـ بهاء .
هو :
= زوجك ؟
هى :
ـ نعم ، كان يكبرنى بثلاثة أعوام ، تعرفت عليه فى كلية التجارة ، قابلته لأول مرة فى مبنى شئون الطلبة ، كنت أسأل عن استمارات الإعانة الاجتماعية ، ساعدنى ، وسهل لى مأموريتي ، سرعان ما تصادقنا ، وتحاببنا ، كنت مبهورة بثقافته ، فمع الناصريين كان يعرف عن ناصر وثورته أكثر من الناصريين ، ومع الشيوعيين يعرف عن ماركس ولينين والثورة البلشفية أكثر مما يعرفون ، ومع الإسلاميين ، يعرف عن حسن البنا وسيد قطب والإخوان أكثر مما يعرفون ، ولأن الناس على دين ملوكهم .. اختار الملك !
وزارنى لأول مرة ، فالقرية التي يعيش فيها لا تبعد عن القرية أو المقابر التي نعيش فيها غير بضعة كيلو مترات ، فاجأني ، وأسعدني بزيارته ، جلسنا بجوار مقبرة وقال : ـ اسمعي يا هنومة ،
هو :
= أكان اسمك هنومة ؟
هى :
ـ نعم .. كان اسمي " هنومة " واستبدلته بنجوى وكانت أمي تدعى على ألسنة الناس بشيتا وكان إسمه " شرخبيل " واستبدله ببهاء ، وكما غادرنا إسمينا ، غادرنا قريتنا ، والمحافظة كلها ، وسرنا بإسمينا الجديدين إلى محافظة أخرى بعيدة نبدأ فيها من جديد !
قال لى : لا اشتراكية ، ولا شيوعية ، ولا ناصرية بعد اليوم .
قلت : كيف ؟
قال : الرئيس سيفتح المنافذ .
قلت : إمبريالية أم رأسمالية ؟
قال : إمبريالية ، رأسمالية ، لا يهم !.. المهم أن الرياح ستأتى من الغرب ، وهذه فرصتنا !
قلت : كيف ؟
قال : دائما – تكون هناك قرارات مصيرية فى حياة كل مجتمع ، قرارات – تحول المجتمع مائة وثمانون درجة ، المهم من يكون مؤهلا لاستقبال هذه القرارات ، واحتضانها ، والاستفادة منها . " وأضاف "
منذ عام 1952م والمجتمع المصرى معبأ بشعارات ، وأحلام ، وحدة عربية ، قومية عربية ، ثوار يا عرب ثوار ، أمجاد يا عرب أمجاد ..
من الصعب أن يتقبل الشعب المصرى هذه القرارات ، أو يتحول بين عشية وضحاها ، قد تحتاج معظم شرائح المجتمع إلى وقت أطول ، كل حسب قناعته وإيمانه بمبادئه ، والتخلص من ناصر صعب ويحتاج إلى وقت ، فتحول المبادئ وإحلال القناعات ، مبدأ بمبدأ وقناعة بقناعة يحتاج إلى زمن ، ونحن مقبلون على قرار ، سيتحول فيه المجتمع من الضد إلى الضد ، وحتى يستقر النظام الجديد ، سيحتاج إلى وقت ، وقد تكون هناك حالات ارتباك ، وهنا فرصتنا !
قلت وأنا مبهورة بتطلعاته وتحليلاته :
ولكن ما هى بشائر هذا الانفتاح ، وكيف نتعامل معه ، وما الأدوات التى سنستخدمها ، كنت أقصد الآليات التى نتعامل بها مع النظام الجديد .
قال : أنا لا أكف عن المتابعة ، والقراءة ، والبحث . فى الدول التى تحولت من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالى إلى النظام الديمقراطى ، إلى الاقتصاد الحر ..
قلت : إذن سنجعل النموذج الغربى نبراسا لنا .
قال : أمامنا وقت طويل حتى نصل إلى النموذج الغربى ، فالنموذج الغربى نضج وإكتمل واستقر . أما هنا فالأمر يختلف .
قلت : ولماذا لا تكون المسالة كلها لا تعدو أن تكون مناورة سياسية .
قال : لا أظن ، فالمسألة تبدو لي عند الرئيس ، مسألة قناعة ، ومنذ أن طرد الخبراء الروس وقام على الناصريين فى مايو ، وأنا أرى فى أفق خياله وفى مرامى كلماته البعيدة بذرة التحول ، وعندما وافق على وقف إطلاق النار فى 1973 م ، وزار إسرائيل ، وعقد الصلح ، خرج الأمر من حيز الظن إلى حيز اليقين ، وها هو الأمر يتحقق بقرار الانفتاح السعيد ، السعيد علينا ، " ونظر إلى مبتسما "
والسعيد على أولادنا !
فرحة قلت : أولادنا !
قال وهو يداعب وجنتيّ : نعم أولادنا .. هل عندك شك ؟
وسرقنا الوقت ، وسرقتنا الأحلام ، ودخل الليل ، ولم نشعر بالبرد إلا عندما برقت الدنيا ورعدت ، وهطلت بالمطر...
أسرعنا بالدخول إلى المقبرة ، نحتمى بها من العواصف والأمطار .
فى ظلام القبر ، جلسنا القرفصاء ، نرتعد ، التصق بي ، والتصقت به ، كل منا ينشد الدفء فى الآخر ، ورحنا نلتصق أكثر . وكانت تلك الليلة الأولى التى أسلمه فيها جسدى .
ولا أدرى لماذا بعد سنوات ، رحت أربط بين الانفتاح هنا والانفتاح هناك !!
[ 4 ]
كانت قد منحت الخدم إجازة ، بعد أن أنهوا أعمال النظافة بالفيلا ، وإعداد الطعام ، وأخذت حماما ، وتأنقت ، وتعطرت ، وجلست تنتظره
فى تمام الساعة الخامسة مساءاُ ، رن جرس الباب ، همت لتفتح ، وما كادت تفتح الباب حتى وجدته أمامها بطوله الفارع وعطره النفاذ ، وابتسامته العريضة ، لم تستطع أن تدارى فرحة نطت فى عينيها .
احتضنت يدها يده ، وأمطرته بعبارات الترحيب ، قادته عبر ردهة طويلة على جانبيها نباتات الزينة ، وأصص الزهور ، إلى سلالم خشبية ، وتقدمته إلى غرفة واسعة بالطابق الثاني تحوى :
مكتبة كبيرة ، تليفزيون ، فيديو ، جهاز كاسيت ، بيانو ، مكتب فخم أمامه بضع كراسى وثيرة ، وفى جانب من الغرفة سرير .
هو :
= ذوقك جميل .
هى : " بالفرنسية " :
ـ مِرسى
هو " ناظرا لصورة رجل معم على الحائط " :
= أبوك ؟!
هى :
ـ نعم .. من رجال الأزهر !
هو " مبتسما من داخله " :
= من رجال الأزهر يا بنت التربى !
" ملتفتا إليها "
ـ يبدو عليه وقار العلماء ، وسمت العظماء ، وفى طلعته هيبة .
هى :
ـ رحمة الله عليه ، كان مفوها ، وعالما جليلا ، جاب مصر من أقصاها إلى أقصاها لنشر الدعوة ، ولم يكن أبدا متزمتا .
" مستدركة " :
ـ أمازلت واقفا ؟.. أف لى ! .. كم أنا آثمة !.. كيف لم أنتبه إلى أنك مازالت واقفا؟ .. تفضل ، تفضل بالجلوس يا دكتور ، فأنا لا أصدق أنك لبيت دعوتي .. ماذا تشرب ؟
هو :
= أنا ضيفك ، وأي مشروب تحتضنه يدك يكون لذيذاُ ومثيراُ .
هى " مبتسمة " :
ـ أولا أنت لست ضيفا ، أنت صاحب بيت ..
هو " مقاطعا وضاحكا " :
= تقصدين صاحب فيلا ! ثم ماذا عن ثانيا ؟
هى " بدهاء " :
ـ فلنكمل أولا أولا ، فتتمة أولا – الفيلا تزدان بك وتصبح قصراً منيفا .
أما ثانيا : فأنا لست " ديكتاتورة " حتى أفرض عليك مشروبا ، فلك أن تختار !
هو "ضاحكا ُ " :
= "ديكتاتورة " مؤنث ديكتاتور ، أليس كذلك ؟
هى :
ـ نعم ، ولكنى لست هى .
هو :
= يا سيدتى العلم كله مبنى على الديكتاتورية ، فالديكتاتورية هى الأصل ، والحرية والديمقراطية هما الاستثناء .
هى :
ـ أرجوك – لا تفسد جلستنا بالكلام فى السياسة .
هو :
= نفترض أن المشروب الذى أريده ليس متوفرا ، فماذا يكون الموقف ؟
هى :
ـ لو طلبت لبن العصفور سأحضره لك . أو حتى النوق الحمر !
هو " ضاحكا " :
= يا ولد يا عنترة !
هى :
ـ صدقنى أنا فرحانة ، وسعيدة جدا بتشريفك لى .
هو :
= وأنا سعيد جدا بأنني تعرفت عليك ، فأشعر بأن ثمة شيئا ما يشدنى إليك ، وأنك تختلفين عن كل من التقيت بهن .
هى :
ـ هذه المشاعر الجميلة نحوى تسعدنى ، وكلامك يأسرنى .
هو " كان طوال الطريق يفكر ، كيف يجذبها – إلى الفضفضة والبوح ، كيف تُسر له بخيبات نفسها وشروخ روحها ، وتطلعه – دون أن يستخدم الخمر وسيطا – على عالمها الغريب ، عالم غرائبى ومثير ، حالة خاصة جداُ "
ـ كنت أظن أننى ... ، ولكن هناك من هو أسوأ ! ولم لا أفضفض أنا لها ، حتى تأنس لى ، وتفضفض .. ولماذا لا أكون أنا فعلا محتاج للفضفضة
هى " ضاحكة " :
ـ ألو .. نحن هنا .. أين ذهبت يا دكتور ؟
هو " ناظراً إليها " :
= كنت أفكر .. لماذا أنت وحدك – التى أريد أن أفضفض لها ؟
هي " بسعادة " :
ـ فضفض ؟! .. فضفض يا دكتور ؟! .. كلي آذان صاغية !
هو " ضاحكا " :
= الصواب مصغية .
هي :
ـ صاغية أو مصفية ، لا يهم ، المهم أن تفضفض ، والأهم أنك اخترتني من دون النساء جميعا لتفضفض لي .
هو :
= وكيف أفضفض ؟
هي :
ـ مطرقة رأسها قليلا ، ثم قائلة :
ـ وجدتها :
هو " مبتسما " :
= ماذا يا نيوتن ؟
هي :
ـ فكرة رائعة ..
ـ اخلع نعليك ؟
هو " متلفتا ًحوله وضاحكا " :
= هل نحن بالواد المقدس ؟
هي :
ـ اخلع نعليك وتمدد علي هذا السرير !
هو :
= ماذا ؟!
هي :
ـ لا تسيء الظن : ، سأفعل معك كما يفعل أطباء النفس !
هو :
= ناهضا ، وخالعا نعليه ، وفاردا جسمه علي السرير .
= ولكنني أريد أن أتوسد رجليك ، أو أن أدفن رأسي في صدرك وأفضفض .
هي :
ـ دعك من الشقاوة . وتذكر أنني طبيبتك . هل تستطيع أن تفعل هذا مع طبيبتك ؟
هو :
= حين أتوسد رجليك ، قد انكمش وأعود طفلا .. و..
هي " مخرجة أوراقا وقلما ، وتلبس نظارة طبية " :
ـ ها أنذا الطبيبة ! ، تخيل انني الطبيبة ، احك ، فضفض ؟، بح ؟ تفضل .. أوه ـ تصور أنني نسيت أن أحضر لك المشروب .
هو :
= دعك من المشروب ، فإما أن تسقيني من شهد رضا بك أو تأتيني بخمر
هي :
ـ سآتيك بخمر ، فالخمر أرحم من الذى تطلبه !
[ تعود بعد قليل بزجاجة خمر معتقة ، وثلج ، وكأسين ، وتصب له كأسا تلو كأس ..]
هو " وفي ذهنه من البداية ألا يغادر منطقة البين بين ، وأن يظل في المنطقة الفاصلة بين الوعي واللاوعي " :
= أراني !!
هي " فرحة " :
ـ ماذا تراك ؟!
هو " مغمض العينين " :
= أراني ، طفلا صغيرا .
هي :
ـ استرسل ؟ ..استرسل يا دكتور ..
" وتصب له كأسا "
هو :
= ولدت في قرية صغيرة ، لأب كان يعمل كلافا !
هي " في نفسها " :
ـ كلافا !
"وتصب له كأسا تلو الأخر .. "
هو :
= كان يعمل كلاّفاً عند أسرة تنحدر من سلالة عربية ، ذات حسب ونسب
" ويضحك " :
= وطبعا كل الأسر العربية من نسل طاهر !..و..
هي:
ـ وماذا بعد يا دكتور .
هو : " وهو يدفع بما تبقي في الكأس في جوفه " :
= وانحسرت حياة أبي في زرائبهم واسطبلاتهم ، لا يغادرها إلا ساعات قليلة ، يأتينا فيها آخر الليل ، كان راضيا ، وقانعا ، خادما أمينا ، لم يتطلع يوما إلى ما منّ الله به علي مخدومه من خير وفير ورزق كثير .
قبل أن يغادر فراشه كل صباح ، يقبل باطن كفه وظهره ، ويحمد الله ويستغفره " ويضحك " .
ويستغفر من ذنب لم يقترفه ، ومن ذنب قد يقترفه ولن يقترفه أبدا ..
كنت وهند وحيدين بعد موت أمي ، يأخذني في كل صباح من يدي لأساعده ، نطعم البهائم ، ونسقيها ، كنت علي صغرى أسوق ثلاثة حمير ، يحملني إياها بالروث ، ويوصيني ألا أنشغل في الطريق باللعب ، ويحذرني من وقوع " السباخ " علي الأرض أو انحراف الحمير عن مسارها ، " وتُجرِد " في أراضي الجيران ، فتتلف زراعتهم ونقترف إثما .
" تصب له كأسا .."
ـ عندما طلبت الست الكبيرة " هند " للخدمة في البيت الكبير مجاملة لأبي ، ولتقيه عناء همها ، وانشغاله عليها ، ولتكون تحت بصره ، راوغ ، ولم يكن أبدا مراوغاً ، وتعلل بصغر سنها ، وضعف جسمها ، ومرضها ، وما كانت ضعيفة ، ولا عرف المرض الذى يجتث أطفال القرية الغلابة طريقة إليها .
لماذا ناورت ، وراوغت ، وكذبت يا أبي ؟ ..
هل كنت تعلم أن ابنتك ..؟! .. فعصمتها من الخدمة في البيت الكبير ، وأقصي أماني بنات القرية ، أن يخدمن فيه حتى لا يفترس العمل في الحقول جمالهن .. وعلي صغرهن ينهد حيلهن ، ويذبلن وهن في عمر الزهور .
من يدرى ؟ !
.. قد يظن الكثيرون ـ أن الناس الغلابة ـ بينهم وبين الله مسافة بعيدة ، وان الله قريب فقط من الأثرياء والوجهاء .. " ويضحك فتناوله كأسا .."
الوجهاء ! .. الوجهاء!..
الوجهاء يسكنون .. ، الوجهاء يأكلون .. الوجهاء .. الوجهاء .. الوجهاء ـ في الصفوف الأولي في المساجد ! ، وكأنها محجوزة لهم ، وعلي مقاعد الصدارة في سرادقات الأفراح ! ، والعزاء!، يفسحون لهم الطريق إذا ساروا !.. حتى لا تقع عينهم علي قبيح .
لا أذكر ـ حين كنت أصلي ، أن تجرأ فقير، ودخل المسجد ، وتخطي الرقاب ! ، وجلس في الصفوف الأولى !!.
أحيانا يكون المسجد خالي من المصلين ، ولكنه أبدا لا يتجرأ علي التقدم إلي الأمام ، يختار مكانا في مؤخرة المسجد ، وينوى الصلاة ، وإذا فرغ من أداء الفرض ، يتلفت يمينا ويتلفت يسارا ، وكاللص يتقدم بحذر خطوة ، خطوة واحدة ليصلي السنة ، فإذا رجع هذه الخطوة للخلف فمن المؤكد عند الركوع أو السجود .. ستصطدم مؤخرته بالجدار ، وإذا ازدحم المسجد يوم الجمعة بالمصلين ، يخرج الأجراء والبسطاء من المسجد ، ويتراصوا خارجه ، فالأرض لهم فقط " مسجدا وطهورا " !!
" تلاحقه بكأس .."
ـ الولد ابن الشيخ ـ شيخ القبيلة ، وقع في هوى هند ، وهند بنت فلاحة . بنت الكلاف أسرت عقله ، واستعمرت قلبه ، انشغل بها عن بنت العم ، بنت الحسب والنسب .
" لحظة صمت "
ـ جيء بأبي ، علقوه من قدميه في سقف الغرفة ، وظلوا يضربونه بالخيزران بقسوة ، حتى شحب جسده بالدم ، وكووه بالنار . فالولد ـ ابن الحسب والنسب ، حزم أمتعته وبرح مع البنت هند في القرية ، فأرض الله واسعة .
الويل لكم كل الويل يا أهل هند الفقراء ، قالها الشيخ ـ لساكني العشش وألأكواخ الحقيرة التي أشعلوا فيها النيران .
" لا تدرى إن كان يضحك أو يبكي ، اختلط الضحك بالبكاء ، صبت له كأسا ، دفعة في
جوفه مرة واحدة .."
ـ شق صراخ النساء ، وبكاء الصبية الليل ، ولم يرحم الرجل ، شيخ القبيلة يتيما ولا أرملة ، عجوزا أو طفلا !
" ينكمش علي السرير ، وينكمش ، ويضع يديه بين فخديه .. "
وقال الرجل الشيخ ـ قد تصير سُنة عند الفلاحات الحقيرات ، يغوين الواحدة تلو أخرى سباب القبيلة .
" وأضاف مطوحا بعصاه الأبنوس في الهواء " :
ـ ومن يدرى .. قد يتجرأ فلاح في قادم الأيام علي إغواء فتاة من فتياتنا ، ونظر إلي .. وقال هاتوا هذا الولد ، وأخذوني ، وضعوا علي عيني عصابة ..و..
"يضع يده بين فخديه ، ويصرخ :
ـ لا..، لا..
هي " تناوله كأسا " :
ـ وماذا فعلوا بهند يا دكتور ؟
هو :
= طلب من شباب القبيلة أن يطاردهما في المدن وفي القرى ، وفي الحوارى وفي الأزقة ، وفي البحار ، وفي الصحارى .. يجب أن يدركوهما ولو كانا في بطن الحوت " يبتسم " :
ـ هند ، هند شقيقتي الوحيدة ، لا تفارقني ، كانت تكبرني بعشر سنين ، كان بينى وبينها خمس بطون ماتوا ، قليل من الأطفال كانوا يعيشون !
بنت فلاحة ، تحيك الثوب ، وتطعم الطير ، وتكنس الدار ، وتربى الماشية ، عفية كالمهرة ، وسامقة كالنخلة ، ذات عينين سوداويين وشعر أسود فاحم ، هل بارك أبى حب محمد لها ؟!.. لا أظن ، ولكننى متأكد أنه طلبها على شرع الله وسنة نبيه ، وبالتأكيد أبى أمهله ولم يعطه ردا حتى يقنع أهله وعشيرته ، وبالتأكيد كان يعلم أنه المستحيل ! .. ألهذا يا أبى ، ناورت ، وراوغت ، وكذبت ، ورفضت ، أن تخدم هند فى البيت الكبير ، هل أنا أجوب القرى المدن وأجوس خلال الديار ، كل الديار ، بحثا عن مواهب أو بحثا عن هند .
بالتأكيد محمد يعيش باسم غير اسمه ، وهند تعيش باسم غير اسمها ..
" علا نحيبه ، وانهمرت دموعه "
" جففت دمعه بمنديل ومسحت رأسه ، وهزته "
" استفاق ، ونهض قائلا وهو يردد " :
ـ هند .. هند .
هى " مبتسمة وقائلة " :
ـ اهدأ ..؟! اهدأ يا دكتور ؟! .. من هند ؟!
هو " ناظرا حواليه " :
= أنا قلت هند ؟
" مبتسما "
ـ هند وما هند إلا مهرة عربية
سليلة أفراس تزوجها بغل
هى " فى نفسها " :
ـ مهرة عربية ، وسليلة أفراس يا بن الكلاف !
هل تقرض الشعر يا دكتور ؟
هو :
= أبدا .. أنا فقط أردد ما قالته هند – عندما أخذها الحجاج عنوة وأرغم زوجها على تطليقها وتزوجها !
[ 5 ]
هو " ما شيا بجوارها بحديقة الفيلا " :
= المنظر هنا ، رائع وجميل .
هى " تشير إليه بالجلوس ، حيث بضع كراسى فى ظلال الأشجار ، وبين أحواض الزهور "
ـ المكان هنا أهدأ ، وأروع حين تستقبل الغروب .
هو " نافخا " :
= الحياة فى القاهرة خانقة ، وأصبحت لا تطاق .
كم أتوق لأن أرتمي فى أحضان الطبيعة ، وأعود من جديد لأستقبل الشمس وهى تشرق ، وتبدد مساحات العتمة ، ونسمات الفجر الندية ،..
هى " مقاطعة وضاحكة " :
ـ ها هى الطبيعة ، أرتم فى أحضانها كيف تشاء ؟!
هو " ضاحكا " :
= أنت الطبيعة .
" ويفتح ذراعيه "
ـ دعينى أرتمي ؟!
هى :
ـ أنت " شقى أوى " يا دكتور
هو " متنهداً " :
= أنا فعلا شقى ، فالشقاء أنا .
هى :
ـ حيرتنى !
والله حيرتنى . حينما أتحدث معك وأنا أقصد ظاهر اللفظ ودلالته المباشرة ، تأخذ أنت ما يستتر خلف اللفظ.
" وضاحكة "
ـ أنا لن أتحدث معك إلا بعد أن أقرأ كل كتب البلاغة والفصاحة وما تتضمنه من كناية ، واستعارة ومجاز وتمثيل .
" وواضعة يدها علي فمها " :
ـ وها أنا قد لزمت الصمت .
هو " ضاحكا وناظرا ليدها التي وارت فمها ، ولعينيها الباسمتين " :
= في صمتك فصاحة وبلاغة ، و..
هي " مقاطعة ، وناهضة برقة " :
ـ أفضل شيء أفعله الآن ـ أن أنسحب ، وأتركك تستمتع بهذا الجو ، وأصنع لك فنجان قهوة .
[ راح يتأمل ظهرها ، وفخذيها ، وهي تسير الهويني ، تداعب بيدها أغصان الأشجار ـ
التي دنت وتدلت وكانت قاب قوسين أو ادني من متناول يدها ..
ابتلع ريقه ، ريثما ابتلعتها الفيلا ، ونهض واقفا ، يسير بخطوات وئيدة بين أحواض
الزهور . وفي نهاية الممشى ، وفي ركن قص من أركان الحديقة ، لصق ظهر الفيلا تماما
، لفت انتباهه مبني ، ارتفاعه لا يتجاوز المترين ، بارتفاع سور الحديقة ، وبطول
عشرين مترا تقريبا ، وعرض ستة أمتار ، له باب حديدى ضخم ، أسود اللون ، علي
مقربة منه كومة من السباخ ]
تسلق جدران المبني أشجار الياسمين ، ونباتات أخرى كثيرة ، افترشت سقف المبني . دفع الباب ، ليجد المبني مقسما الي غرفتين ..باب الغرفة الأولي مفتوح ، ضيقة هي الغرفة الأولي ، وباب الغرفة الأخرى موصد ، احتلت المساحة الأكبر .
ولج إلى الغرفة المفتوحة ، وراح يتفحص محتوياتها ، سرير حديدى قديم تعلوه مرتبة إسفنجية ، وملاءة رخيصة متسخة ، ووسادة كالحة اللون ، وعلي الحائط دقت مسامير معلق عليها ملابس فلاح .
وفي جانب الغرفة مقطف وفأس وكوريك ، وأجولة قديمة ، وخرطوم ماء ، ودلو ماء ، وسخان كهربائي يعلوه براد قديم صدئ ، وكوبان فارغان متربان ، وبرطمان مملوء بالسكر ، وأخر أصغر حجما يشغل الشاى الخشن نصف حجمه ، وقلة ماء .
وقف في منتصف الغرفة ، وكادت رأسه تلامس السقف ، لا يدرى لماذا تذكر علي التو ـ بينهم الواطئ القديم ، المصنوع من الصين اللبن ، وتذكر أبوة ، وأمه ، وأخته ، وشيخ القبيلة ، الست الكبيرة زوجة الشيخ ، ومحمد ابن الشيخ .
شعر بأن الأرض تدور به ، كاد أن يغشي عليه ، جلس علي السرير ، تتراءى له الصور ، وتترى علي ذهنه الذكريات ..
وجد نفسه يخلع ملابسه ، يعلقها علي مسمار بالحائط ، ويرتدى ملابس الفلاح المعلقة علي الجدار ، وينتعل حذائه القديم ، ويحشر طاقيته في رأسه . يتلمس الفأس ، يتحسس يدها الخشبية ، يتناولها ، يعلقها علي كتفه ، ويمضي ، وفي يده " القلة " ، يقف أمام كومة السباخ ، بتأملها ، يضع الفأس علي الأرض ، يتفل في يده ، يمسك بيد الفأس الخشبية ، ويرفعها لأعلي ، ويهوى بها علي كومة السباخ ، طرقات منتظمة ، وحمحمة منتظمة تخرج من جوفه مع الطرقات ، يتمثل والده ، والعرق يرشح من جسمه .
صغيراً يرى نفسه ، تعود إليه رائحة عرق أبية ، ورائحة السباخ ، وأبقار الشيخ ، وجاموسة ، وخرافه ،ونعاجه ، وتيوسه ، وأسراب البط والدجاج والاوز ..
" مدام نجوى حاملة صينية يعلوها فنجانا قهوة .."
" تمسح بعينها الحديقة ..تنادى " :
ـ دكتور .. دكتور .. يا دكتور ؟!
" تندهش "
ـ عم سعيد ، أنت جئت يا عم سعيد .
" تقترب منه "
ـ ألم تر الدكتور ؟!
الفأس في يده تعلو وتهبط ، يعملها في كومة السباخ ، أصداء ارتطام الفأس ، والحمحمة
، ورائحة السباخ والعرق .
مدام نجوى :
ـ عم سعيد ، ألا تسمعني ؟! .. ألم ترى الدكتور ؟!
" متوقفا عن العمل ، وواقفا ، يمسح عرقه بكم جلبابه ، تشهق ، تهتز يدها ، تسقط
القهوة علي الأرض .."
ـ ماذا تفعل يا مجنون ؟!
" ضاربة كفا بكف ، ومستلقية من الضحك ؟!"
" يرفع " القلة " إلى أعلي ، يكب الماء في فمه ، تصعد حنجرته وتهبط مع ولوج الماء إلى
بلعومه، تنتفخ عروق رقبته ، يتكرع ..
= من قال : أن الماء عديم اللون والطعم والرائحة ؟!
"مازالت تضرب كفا بكف ، تضحك ، ضحكا متواصلا ، وكلما نظرت إليه ازدادت
ضحكا "
" دمعت عيناها من الضحك ، وهي تشير إلى وجهه ، الذى التصق به فتات السباخ ،
وتناثر حول رقبته وشعر رأسه الذى لم تخفه الطاقية وبدا أشعث ، أغبر ، متربا ،
أفزعها أن ترى باطني كفيه قد امتلأتا بالبثور ، وانتفخ جلدها كبالونات ، وفقاقيع
صغيرة ، انفجرت بعضها ، ونزت دماً ، امتعضت ، وجرته من يدها ـ وجرت إلى
حنفية الماء القريبة ، فتحت صنبور الماء ، وراحت تغسل له يده . وفي تلك اللحظة كان
يقف هناك أمام باب الفيلا ينادى :
* مدام نجوى .. يا مدام نجوى
الدكتور :
= هناك من ينادى
مدام نجوى :
ـ إنه سامي
ـ تعال يا سامي . أنا هنا بالحديقة
سامي " حاملا حقيبة جلدية منتفخة " :
* قالوا لي في الشركة أنك لم تحضرى اليوم .
خيراً يا ست الكل .
مدام نجوى :
ـ خيرا يا سامي .
سامي " ناظرا للدكتور ، وقائلا لمدام نجوى " :
*جناينى جديد ، حسنا فعلت ، أنا لا أعرف ما الذى كان يدعوك إلى التمسك برجل مثل عم سعيد .
مدام نجوى " مقاطعة " :
ـ الموضوع ليس كما فهمت الحكاية ..
الدكتور " مقاطعا " :
= نعم .. أنا الجناينى الجديد .
" لحظة صمت "
ثم قاطعا الصمت :
= ومهمتك يا بطل أن تبلغ عم سعيد بأن الهانم استغنت عن خدماته ، فأنت تعلم أن ست الكل ...
سامى " مقاطعا " :
*أعلم أن ست الكل لا تحب أن تقطع عيش أحد ، وكان يمكنها بعد المرحوم أن تتخلص من نصف العمال لو أرادت .
مدام نجوى ناظرة للدكتور بدهشة واستغراب ، يغمز لها الدكتور بطرف عينه " :
مدام نجوى " بالإنجليزية " :
ـ " أوكيه " سامى ، أفعل ما أمرك به الدكتور ؟
سامى " ناظرا حواليه " :
*دكتور !
الدكتور " متداركا " :
= نعم ياسيدى .. أنا الدكتور ، يطلقون على لقب الدكتور لمهارتى فى زراعة وتنسيق الحدائق ، وخبرتى الطويلة التى اكتسبتها من العمل فى حدائق الناس البشوات .
سامى " هازا رأسه " :
*ممكن !!.. لكن ألا ترى معى بأن لقب باش مهندس أليق بك وبعملك من لقب الدكتور ؟!
الدكتور " ضاحكا " :
= ياسيدى ، لا تدقق ، باش مهندس ! ، دكتور ! ، معلم ، كلها ألقاب !
سامى :
* صدقت
سامى " ناظرا للدكتور " :
* لكننى لم أتشرف بمعرفتك بعد !
الدكتور :
= أخوك سليمان ، سليمان أبو عطية .
سامى " متفحصا الدكتور من رأسه إلى قدميه " :
* لكن يبدو أنك لست من أهل الشقاء .
الدكتور " ضاحكا " :
= ماذا تقصد ؟!
سامى :
* شكلك يقول أنك ..
الدكتور " ضاحكا " :
= نصاب ؟!
سامى :
* أستغفر الله ، لكن وجهك المدور ، اللامع ، لا أثر للشمس عليه ،ينز دهناً وسمناً ، هاها .. هاها .. وذقنك الحليق ، وأذناك ، وشعرك البارز من الطاقية ، قفاك العريض الحليق ، وزند رقبتك الممتلئ ، وعظام صدرك المكسوة باللحم ، ويدك البضة ، الطرية ، الناعمة ، و.. لا مؤاخذة ....
مدام نجوى " نافخة بغيظ " :
ـ ماذا جرى لك يا سامى ؟
هات ورقة وقلم ، وافتح له محضرا ، ما شأنك أنت به ؟
هو الجناينى عندك فلاح قرارى ؟!.. أعترف أننا ظلمنا الجناينية . باختيارنا لواحد مثل عم سعيد ، عم سعيد .
أصبح عندك أنت وأمثالك هو النموذج الذى يقاس عليه ، ونسيت أنها مهنة تحتاج إلى علم وفن ودراسة .
سامى " مثأثئا " :
* أ ..أ .. ن ..ا .. أ .. ن .. ا..
مدام نجوى :
ـ أنت تدس أنفك فيما لا يخصك ولا يعنيك .
الدكتور " متدخلا " :
= يا هانم .. لا داعى للعصبية ، فالأخ سامى معذور ، لم يرنى من قبل ، ويريد أن يطمئن أنك لم تقعى فى شرك نصاب .
" وناظرا لسامى " :
= اطمئن يا أخ سامى ، أنا لست غاضبا منك ، بل أغبط حرصك على مصلحة الهانم ، وخوفك عليها ، وتأكد أننى لن أقل عنك حرصا على مصلحتها وخوفا عليها ، وستثبت لك الأيام صدق قولى .
الدكتور " محاولا الانسحاب إلى غرفته " :
= اسمحي لى بالانصراف إلى غرفتى ، فأنا مجهد ، وأحتاج إلى بعض الراحة .. كما أنكما تحتاجان للحديث فى أمور العمل .
مدام نجوى :
ـ ابق معنا ، نحن لن نتحدث فى أسرار ، وغرفتك تحتاج إلى ..
الدكتور" مقاطعا " :
= دعينى أنظفها ، وأرتبها بنفسى ، ..
بإذنك يا هانم
" وملتفتا إلى سامى " :
= أراك على خير يا أخ سامى .
" مدام نجوى لازمة الصمت ، وقد تغير لون وجهها ، وهى تشيع الدكتور الذى ابتلعته
الغرفة .."
كانت الشمس مائلة فى الأفق ، وتبدو من خلف الأشجار العالية كرة صغيرة حمراء .
مدام نجوى :
ـ اجلس يا سامى ، وهات ، ما عندك ؟!
سامى " فاتحا حقيبته الجلدية المنتفخة ، ومخرجا بعض الأوراق " :
وبصوت هامس :
* فى هذه الأوراق تقارير مفصلة عن شركة ( ....) ، كيف تدار ، وعدد العاملين بها ، وتخصص كل موظف ، وعمره ، وحالته الاجتماعية ، حتى أوصافه الجسدية من حيث الطول والقصر ، النحافة والسمنة ، حتى لون الشعر والعينين
" مدام نجوى تفر فى الأوراق وهى مبتسمة "
" الدكتور يحاول أن يتابع بأذنيه من غرفته الحديث ، بصعوبة تلتقط أذناه بعض
الكلمات "
مدام نجوى :
ـ كانت المهمة شاقة ، أليس كذلك ؟!
سامى :
* أبدا ، لم تكن المهمة صعبة أو مستفرية ، فكثيرا ما كنا نقوم بهذه المهام الاستخباراتية أيام المرحوم .
هى :
ـ نعم .. نعم .. رحمة الله عليه .
هو :
= كان المرحوم قبل أن يتورط مع العميل ، أو حين يريد أن يورط المنافس أو يوقعه فى حفرة أو مطب ، يكلفنى على رأس فريق كامل للانتشار ، والسؤال عن العميل أو المنافس ، والوقوف على أحواله المالية ، ومدى أمانته أو التزامه ، وصدقه أو كذبه ، نعرف نقاط ضعفه ، ونقاط قوته ، و.. ، و ...
مدام نجوى :
ـ لكن الأمر هنا ...
سامى " مقاطعا ":
* الأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة للذين يعملون معنا ، فالمطلوب منهم يؤدونه ، فهو عملهم الذى يؤجرون عليه ويقتاتون منه .
مدام نجوى :
ـ بالمناسبة ، ماذا فعلتم مع الموظف الذى ادعى الشرف ورفض التوقيع .
سامى ضاحكا :
* تخلصنا منه .
مدام نجوى :
ـ إياك أن تكون ..
سامى :
* لا .. المسألة لم تصل إلى هذا الحد .
مدام نجوى :
ـ زدني وضوحاً ؟
سامى :
* أبدا – مدير المصلحة التى يعمل بها كان يحتاج إلى مكتب فخم بدلا من المكتب المتهالك ، وكرسى " دوار " يلف به يمينا ويسارا ، ونتيجة حائط ، وأجندة ، ومقلمة ، وقلم شيك .
مدام نجوى " ضاحكة " :
ـ والله – ما توقعت أن يكون ثمنه بخسا لهذه الدرجة .
سامى " ضاحكا " :
= هذا ثمن باهظ بالنسبة لموظف حكومة درجة ثالثة !
مدام نجوى :
ـ والنتيجة ؟
سامى :
* نقل للعمل فى الصعيد ، أحراش الصعيد !
مدام نجوى " ضاحكة " :
ـ والله " برافو " عليك ، أنت تلميذ المرحوم صح .
سامى :
= قولى لى ماذا فعلت أنت مع مدير البنك الجديد ؟
مدام نجوى :
ـ ..........
سامى " ضاحكا " :
* وأصبح مثل الخاتم فى ..
مدام نجوى :
ـ هئ هئ .. هئ هئ ..
سامى :
* ............
مدام نجوى :
ـ ...............
سامى " يلملم الأوراق ، ويضعها فى الحقيبة " :
* بالإذن يا هانم
مدام نجوى :
ـ رافقتك السلامة يا سامى .
" الدكتور فى غرفته ، فأردا جسمه على السرير المتهالك والمترب ، بلباس الفلاح القديم
البالى ، مغمضا عينيه "
" مدام نجوى – تسير نحو الغرفة ، يسوءها أن ترى الدكتور ممددا على الفراش القذر
المترب "
مدام نجوى :
ـ دكتور ، دكتور
هو " وكأنه مغيب ، وكأن صوته قادم من عالم آخر " :
= أنا لست دكتورا !
هى " ضاحكة " :
ـ إذا لم تكن دكتورا – فأنت ماذا ؟!
هو :
= أنا البستانى !
هى " ضاحكة " :
ـ البستانى !!
هو :
= نعم .. أنا البستانى ، وأنت الست كوثر .
هى :
ـ يبدو أنك تقمصت شخصية البستانى ، وعجبك أداء الدور . وأنا الست كوثر ؟!
هو :
= نعم .. أنت الست كوثر ، والمرحوم زوجك سيدي ...
" ينقلب على جنبه الأيمن ، ويوليها ظهره ، ووجه للحائط ، وكلتا يديه بين فخذيه "
" تقترب من السرير تجلس على حافته ، تتحسس يدها رأسه "
هى :
ـ دكتور ، دكتور .
هو :
= أرجوك ، لا تنطقيها مرة أخرى ، أنا لست دكتورا .
هى :
ـ سأفترض أنك لست دكتورا . وأنك فعلا البستانى .
من فضلك . هيا . انهض معى لتنزع تلك الملابس البالية القذرة عن جسدك ، ولتأخذ حماما دافئا .. و . .
هو :
= من فضلك ، تلك الغرفة غرفتى ، وفيها راحتى ، إنها تعيدنى إلى ..
" صوت من الخارج "
** مدام نجوى ، يامدام نجوى .
هو :
= امضى إلى ضيوفك ودعينى .
هى :
ـ لا يمكن أن أوافقك على هذا الجنون ، وعموما أنا لا أنتظر أحد.
" مدام نجوى .. يا مدام نجوى .. "
هو :
= صاحب الصوت يستعجلك .
" مدام نجوى .. يا مدام نجوى .. "
هو :
= اذهبى .. اذهبى إليه من فضلك
مدام نجوى " تنهض ":
ـ لحظات وأعود إليك ، أرجو أن تكون قد تخلصت من هذه الأفكار المجنونة .
" بعد قليل ، تعود مدام نجوى ، تسوق أمامها جديين ، وخروفين "
" ينهض على أصواتها ، يبش فى وجهها ، يهدهدها ، يربت عليها ، يدلك رؤوسها ،
ويناغيها ، تستكين ، تهدأ ثورتها ، تندهش مدام نجوى .
" يصر على المبيت معها فى الغرفة "
[ 6 ]
فى منتصف الليل تماما ، تفتح عليه الباب ، وتدخل ، لتجده ، مرتديا " الشورت " فقط ، ومستلقيا على السرير ، ويغط فى نوم عميق ، ويتصبب جسده بالعرق . تتأمل جسده العارى ، وتبتلع ريقها وتقول فى نفسها :
هي :
ـ ما شاء الله.
" وتمرر يدها على جسده "
" فزعا ينهض "
= من ؟!
هى :
ـ لا تنزعج . أنا نجوى .
" ممسكا بفوطة ، ومنشفا عرقه ، ويتناول قميصه المعلق على مسمار بالحائط ويرتديه
على عجل "
ـ نمت . كما لم أنم من قبل .
" تنظر إلى الجداء والخراف الراقدة حول السرير . لا تحرك ساكنا "
هى :
ـ هل تصر على أن تكمل ليلتك هنا .
هو :
= نعم . هنا راحتى
" تنظر إلى جسده العارى ، تقترب منه تهمس " :
ـ هناك . فى الفيلا . أعددت لك ، غرفة نوم فاخرة .
" همّ أن ينطق ، وضعت سبابتها على شفتيه " :
= تك . تك .. لا تتكلم قبل أن تراها . غرفة أسطورية
" تسمر مكانه ، ولم يتحرك "
قالت :
ـ لا بأس . فأنا مثلك . كرهت الفراش الوثير ، و ..
" منسحبة بدلال وخفة ، ومعلقة خلفها الباب "
" تعود بعد قليل تحمل " صينية " عليها أنواع مختلفة من اللحوم ، وخمور ،
ومسليات "
هو :
= كل هذا الأكل لى ! ماذا تظنينني ؟!
هى :
ـ ولى أيضا .
هو :
= وهل تتنازل سيدتى وتأكل معى .
هى " ضاحكة " :
ـ مازلت مُصرّاً على أنك البستانى . وليكن أنك البستانى .
" وقائلة بنعومة " :
ـ لماذا لا تكون أنت الليلة السيد ؟!
هو " مثأثئا " :
= أ .. أ .. ن .. ا .. أنا الليلة السيد !
هى " تدس فى فمه شطيرة لحم " :
" وتمرر يدها على جسده العارى "
" كأنها تخاطب نفسها "
ـ ما أفسح صدره ، وما أجمل جسده.
هو " مطأطئأ رأسه إلى الأرض "
هى " مطوقة رقبته بيدها وضاحكة " :
ـ أتمثل الخجل ؟!
ـ أين اللواتى اعتمدتهن ؟!
و...
هو :
= أنت سيدتى .. وا .. أنا ..
هى :
ـ لا تندمج " أوى " فى تمثيل الدور . قلت أنت الليلة السيد وتطبع قبله على شفتيه ، وتمسك بيده .
هيا .. تعال .. انهض
" يقوم معها " :
= لى أين ؟!
هى :
ـ لا تخف . على بُعد خطوات من هذه الغرفة ستعرف . تطوق خصره بيدها ، وتسير عبر طرقة صغيرة إلى غرفة واسعة تضيء النور .
ـ تفضل .
هو " مرتجفا . وكاد أن يصرخ ويجرى "
هى " ممسكة بيده وضاحكة "
ـ تعال .. لا تخف .
هو :
= ما هذا ؟
هى :
ـ كما ترى .
هو :
= مقابر !
هى :
ـ هيا كل مقابر ، وليست مقابر .
هو :
= وهل الحب يمارس هنا .
هى :
ـ نعم .
هو :
= ما هذا المزاج الغريب ؟ .. حب فى المقابر ، أعرف أن الحب يمارس فى غرف وثيرة وجميلة ومغلقة ، فى أحواض زهور أو فى حدائق جميلة كما فى أوربا مثلا
هي :
ـ ويمارس أحيانا في خرابات ، في حمامات ، في .. وفي ..
هو :
= هل تعرفين أنني ..
هي " مقاطعة " :
ـ أعرف أنك داهية ، و..
هو :
= فى الحقيقة إننى ..
هى " مقتربة منه ، ونازعة الروب ، لتبدو فى قميص نومها القصير الشفاف – امرأة ، متوهجة ، مكتملة الأنوثة ، تدلك بيدها شعره وتمرر فمها وأنفاسها على شفتيه وأنفه وفمه ، تفك له أزرار القميص ، وتسحب الشورت ، تعلو دقات قلبه وتهبط ، تقبض بيدها على ... ، يبدو فى يدها كقطعة رخوة من عجين ، تنزعج ، وتفرط يدها ، تبتعد عنه ، وتتصلب واقفة ، ناظرة له بدهشة وغضب ، وهو يجرى ، منزويا فى جانب الغرفة ، قابضا على .. بكلتا يديه .. ضاحكة بهستريا .
ـ أنت ..
" هازا رأسه ومطأطأ رأسه "
= نعم .. نعم ..
قائلة بضيق وغضب :
ـ كيف ؟!
هو " مثأثئا ومتهتها " :
هى " مرتدية الروب " وبحسم :
ـ ارتد ملابسك ؟!
هو : " مرتديا ملابسه ":
= أسف يا سيدتى .. كان بودى أن ..
هى :
ـ هئ هئ .. هئ هئ .. لا بأس . لا بأس . وباكية .. تختلط الدموع بالابتسامات والضحك بالبكاء .. وتحدث نفسها :
معقول هذا الجسد الجميل ، القوى ، غير قادر على .. ، .. " ناظرة له "
ـ ثم ما هذا " الفشر " ؟!
وضاحكة " وتقلده فى صوته وحركاته " :
ـ آلاف النساء التقيت بهن ، سمراوات ، وشقراوات ، بدينات ، ونحيفات ، مصريات ، وأوروبيات ، خليجيات ، وأفريقيات ، و.. ، .. تحتضن الهواء .
انظري ! .. هذا القميص !
" وتشد نفسا عميقا "
مازالت رائحتها فيه ، أنوثتها تخللت نسيجه وصارت من مكوناته .
آه – كانت ليلة .. هئ هئ .. هئ هئ ..
" تجلس على حصيرة متآكلة بجوار فوهة المقبرة ، ممسكة بزجاجة الخمر ، وتدفع الخمر من فوهة الزجاجة إلى جوفها مباشرة ، تتطوح قليلا وهى جالسة ، تنادى عليه .
ـ تعال . تعال يا مسكين ، تعال .. تعال يا " أبو لمعة " اجلس بجوارى ، واحك لى ، واسمع منى .
ـ اشرب ؟!
" تقرب الزجاجة من فمه "
ـ احك .. احك يا أبو لمعة ، بدون كذب ، مكسوف ، معلش ، أحكي أنا .
ـ كنا نعيش فى المقابر ، بعيدا عن القرية – أظنك تعرف .. أليس كذلك ؟! . المهم لما نمت أثدائي ، ونعم صوتى ، وكبرت أردافى ، التفت لى بعض شباب القرية ، كانوا يطاردوننى بالكلام المعسول ، كنت أفرح به ويطير النوم من عينى ، وطوال الليل ، أسترجع كلماتهم ، الهامسة أحيانا والصريحة أحيانا أخرى ، فى جسدى ، وعيني ، وشفتى ، وصدرى .. كانوا يحومون حول المقابر بالنهار ، ويمطروننى بعبارات الغزل وجمل الهيام .
كان لكل بنت فى المدرسة حبيب ، يداعب أنوثتها ، وأحلامها ، كنت أحلم بفارس ، يأتى ، على جواد أبيض ، يأخذنى خلفه ، ويطير بي ، فوق السحاب ، يسكنى على سطح القمر ، أو فى أى كوكب آخر ، ينتشلنى من الفقر ، والمقابر ، والأموات ، وشباب القرية التى تحولت كلماتهم إلى رصاصات ، فتجرأت أياديهم على صدرى ، وعلى خصرى فى الطريق ، يتحلقون حولى ، وأشعر بعشرات الأيادي تمتد لتستبيح جسدى ، أصرخ ، والطريق إلى المقابر ، غالبا ما يكون خال من المارة .
أحفن بيدى التراب ، وألقيه فى أعينهم ، وأقبض على الطوب والأحجار ، وأحدفهم وأنا أجرى ، وأصرخ ، ويتناهى إلى مسامعى سبابهم ، ومعايرتهم لى بأبى وأمي .
كنت أدعو عليهم بالموت ، ليأتوا لنا فى المقابر ، فأنتقم منهم ، كنت أشكو لآبائهم أو أمهاتهم أو أعمامهم أو أخوالهم – الذين ماتوا !!.. كنت أتمنى أن يأتوا ويدفنوا ، فأنبش عنهم المقابر ، فأفقأ عيونهم النهمة ، وأقطع ألسنتهم التى ترجمنى ، وأبتر أرجلهم التى تركلنى ، وأياديهم التى تمتد إلى صدرى وخصرى ، ولا أنسى أبداً ذلك الولد العفى ، الذى باغتنى وأنا عائدة ، وخرج من غيطان الأذرة ، وكتم فمى بيده ، ولوى ذراعى ، وحملنى ودخل بي متدثرا بعيد أن الأذرة الفارغة ، وطرحنى أرضا ، وبرك فوقى ، أحسست به كجبل ، مزق قميصى ، وجذب سروالى ، و " سلت " بنطاله ، وبكل ما أوتيت من قوة رحت أقاومه ، لم أستطع أن " أتعتعه " . كان مثل الثور الهائج ، لا يحس بنبش أظفارى ولا بأسنانى المغروسة فى لحمه .
ولما قضى حاجته . إذ بقوته تخور ، وبجسده يخمد ، وبكل ما أوتيت من عزم و قوة دفعته بساقى ، فوقع على الأرض على ظهره ، ونهضت صارخة ، ألملم ملابسى ، وأمسح عرقى ، وأبصق فى وجهه ،وعدوت منهارة ، وهو لم يزل نائما ، مهدودا ، مثل العجل ، يرمقنى بابتسامة بلهاء !
" وتدفع بزجاجة الخمر إلى فمها ، وتضحك ... "
ـ وظلت صورته لا تفارقنى ، يأتينى كثيرا فى النوم ، ولكنى لا أقاومه أبدا ، كان يشبعنى فى الحلم لما توقف بهاء عن إشباعى ، انشغل بالمال والتجارة ، ويئس منى ، ومن نفسه ، كان يحلم بولد يرثه ، وكنت أحلم بعشرة أولاد ، بل عشرين ، ذكورا وإناثا ، طفنا على كل الأطباء . حتى السحرة قالوا لا فائدة مني ولا منه.
كل هذه الثروة من يرثها ؟!
ـ الرجل الكفيف والمرأة العجفاء ! أظنهما ماتا ! لم أرهما منذ أن غادرت القرية ، حتى لو كانا حيين ، فماذا يفعلان بها ؟! .. اتفقنا . بهاء وأنا على أن نعطى ظهرينا للماضى ، ونسد كل الطرق إليه ، وخلعنا إسمينا ، وجذورنا الهشة ، وبدأنا المسيرة ، كنا نعرف أن الزمن الآتي زمننا ، وأن الدنيا ستفتح لنا ذراعيها ، وفتحت لنا ذراعيها ، وأغدقت علينا ، ولكنها حرمتنا أيضا ، كنت أتعذب وأنا أراني أرضا يبابا .
" تغمض عينها ، وتضع يدها على بطنها ..، وتتناول كأسا " :
ـ كنت أتوق لأن أرى بطنى ، تتكور ، وتتمدد ، وتنفرط أمامى ، وأحس مثل كل النساء الحوامل ، بأصابعه الرقيقة الناعمة ، تنقر على بطنى ، وبقدميه الدقيقتين ترفسانى .
أتأمل بطنى ، وأنا أبدل ملابسى ، أنقر عليها بأصابعى ، أحس بخواء وخراب ، فالأرض جدب ، والمطر شحيح ، فأبكى ، وأبكى .. وأظل أبكى .. وأبكى ، حتى يزورنى النوم ، وفى نومى ، أرى القابلة لا الطبيب ، قد سحبته من رحمى ، طفلا جميلا ، أول ما وقعت عليه عيناى ، اختلج قلبى ، وغمرتنى فرحة ، أتناوله من القايلة ، أضعه فى حجرى ، يستكين ، أغمره بالقبلات ، أستيقظ ، وأوقظ بهاء ، وأنا أشعر وكأن ، أجنحة طير أبيض تهفهف ، وتخفق فى بطنى ، وبأصوات وكأنها هديل حمام أو زقزقة عصافير أو تغريد كروانات ، أو شدو بلابل أبصرته .. أبصرته فى نومى وأنا فرحانة ، فإذا هو على غير عادة الأطفال الساقطين لتوهم من رحم أمهاتهم ، مبتسم ، ابتسامة تملأ وجهه الصبوح .
أقول لبهاء . الذى لا يصدق بأنى أحس به يمد عنقه ، ويفرط يديه الصغيرتين ، بأنه يتحسس بطنى ، وينقر عليها بأنامله ، نقرات خفيفة ، كأنها قطرات ندى تسقط على ورق الشجر ، أطلب من بهاء الذى لا يصدقنى ، أن يتحسس بطنى وأن يضع أذنه عليها ليصغى إلى خفقات ابنه ، مغتاظا يغادر الفراش وأنا أصرخ فيه :
ـ ابق بجوار ابنك ، ولا تفارقه .
" ويخرج صافقا الباب خلفه "
وتزداد خفقات الأجنحة فى بطنى ، وأبقى وحدى – أصيخ السمع ، ولا أدرى ، إن كنت أسمع هسيساً أو همساً أو أصوات طير لا أتبينها ، ولا أدرى إن كنت فرحة أم حزينة ، كل ما أدريه – أنى فى عالم غير العالم ، وأبصر نفسى ، وأرانى ، أنا الممتلئة قليلا ، أخف ، وأشف ، وأصير مثل العصفور ، وبطنى الممدود أمامى يرق ويرق ، وتصير جلدة بطنى مثل الزجاج الشفيف ، وأرى هذه المرة بنتا لا ولدا ، وجهها بلون البدر ، وشعرها قطع من الليل ، أتناولها برفق ، أضمها لصدرى ، أهدهدها ، ألاعبها ، أحممها ، أعطرها ، أضع الكحل فى عينيها ، أزجج حاجبيها ، وأراها تكبر ، وتكبر ، وتجرى مع البنات هنا وهاهنا ، وشعرها السارح خلفها يتطوح ويتموج .
قال الساحر : لا حل لحالتكما إلا فى المقابر .
كان آخر شعاع أمل ، تردد بهاء
قلت :
ـ سنتسلل فى الليل ولن يرانا أحد .
وذكرته بأول لقاء .
وتسللنا إلى المقابر ، وبريق أمل يومض فى نفسى ،
أحسست به بارداُ .
منذ زمن وأنا أحس به بارداُ.
وأشعل سيجارته ، وأنا مستلقية على ظهرى ، وأقسم ألا يعود للمقابر مرة أخرى
أمام دموعى وحالتى النفسية التى تسوء يوما بعد يوم ، حول هذا المكان إلى المقابر عكف على صناعتها بنفسه ، وكنت أساعده ، ويحدونى الأمل ، وها أنت ترى المقابر – بكل تفاصيلها ، حتى أفراس النبى ، والسحالى ، كل الجزئيات ، والمنمنمات الصغيرة لم تغب عنا ، أنظر إلى تلك السحلية وهى تسعى ، أصغ إلى هذا الدبور وهو يزن ! وتلك الأشجار ، أنظر إلى ظلالها !! ومساحات الظلال .
وبدأنا نمارس الحب هنا ، فقد كان السرير الوثير باردا ، والحجرة باردة
نهرب إلى هنا ..
ننام على هذه الحصيرة المتآكلة ، ونشرب من هذه " القلة " وتلك الأسطوانات جئنا بها ،
" تدير أسطوانة "
" صفير الرياح ، وحفيف أوراق الشجر ، وصوت البرق ، وصوت الرعد والمطر "
" وتتناول كأسا .. "
ـ وأصبحت أقضى جلّ وقتى هنا ، يختلط فى ذهنى الماضى بالحاضر والمستقبل .
كنت أظن أنى دفنت الماضى ، فكنا بهاء وأنا نبعده عنا حتى لا يعيق خطا تقدمنا .
حاولنا أن نصنع ماضيا على هوانا .
هو ابن الحلاق أصبح ابناً لطبيب صيدلى . وأنا بنت التربى أصبحت ابنة لواحد من كبار رجال الأزهر !
وعندما تملك المال – لا أحد يسأل أو يهتم ، فقولك صدق ، فالأغنياء ملائكة لا يكذبون ، ولا .. ، ولا ..
" وتضحك " :
ـ هئ هئ .. هئ هئ ..
وامتلكنا المال ! .. لا تقل كيف ؟!
كان لا بد أن نملكه ، ونقبض عليه ، وقبضنا عليه فى بضع سنين .. لم أكن جميلة ، ولكنى عرفت كيف أكون جميلة ، مسئولون ، وموظفون كبار ، من درجة مديرين عموميين ووكلاء وزراء ، فصاعدا ، نتسلل إليهم ، بهاء وأنا ، ونعرف نقاط ضعفهم ، وحاجتهم إلى .. ، وإلى .. ، إلى ...
" وتتجرع من الزجاجة "
ـ هذه شذرات من معاناتى ، ولمحات خاطفة من حياتى ، احك ، احك أنت ، أوقفنى على حكايتك ...
" وتصب له كأسا .. "
ـ اشرب .. ولا تخف ، فسرك فى بئر
" يتناول الكأس ، يدفعه مرة واحدة فى جوفه "، يقول :
= لا يمكن أن أنسى ، منظر الشيخ ، شيخ القبيلة ، وقد احتقن وجهه بالدم والغضب
" ويطوح بعصاته الأبنوس فى الهواء " ويقول :
= من يدرى .. قد يتجرأ فلاح ـ فى قادم الأيام على إغواء فتاة من فتياتنا
وأشار إلي ..
احتضننى الخوف ،
تحلقوا حولى ، وتكاثروا علي ،
جرونى إليه
أحكم قبضته القوية حول معصمى ، لم أبدِ مقاومة .
سحبنى إلى إسطبل الغنم والجداء ..
دفعنى إلى الإسطبل واغلق خلفه الباب ، مكثت يوما أو بعض يوم
حتى كان مساء اليوم التالى
جاء الرجل الأسود ، عبداً حبشياً ، أعرفه ، يأتي مرة كل عام ، يجز صوف الغنمات وشعر الحمير ، كان صديقا لأبي ، وكان أبى يساعده ، ويسامره وهو يعد له الشاي والغذاء ، والنارجيلة ، وينقده أجره قبل أن يجف عرقه ، نيابة عن الشيخ ..
يعرفنى ، بالتأكيد يعرفنى ، آنست به ، حاولت أن أساعده كما كان يفعل أبى ، ولكنه نهرنى ، كنت أريد أن أبوح له وأحكى له ما جرى لأبي ، وكنت أتمنى أن يسألني عن أبى ؟! ، لكنه لم يفعل ، كان هذه المرة ، متجهما ، عابس الوجه .
فيما مضى ، كان يداعبني ، وكان حينما يدس أبى فى جيبه الأجرة يبتسم ، ويمنحنى قرشا ، لماذا يتحاشى النظر الي ؟! لا أريد قرشا يا عم ، ولكن أريد أن تبتسم فى وجهى ، وتأخذني فى حضنك ، وتهدهدنى ..
وفور أن فرغ من جز الصوف وقص الشعر والوبر ، جاء من يساعده فى فصل الجداء والخراف عن المعزات والغنمات ، وسحبها إلى " الجرن " ، ولا أدرى لماذا سحبوني معها ؟!
وبدأت المراسم السنوية ، فى هذا الوقت من كل عام ، يتحلق حوله جمهرة من الناس ، يتابعون عملية الخِصاء ، جدى وراء جدى ، وخروف بعد خروف ، تمزق أصواتها السكون وتشرخ القلب .
قال الشيخ وهو يدفع بعصاته فى صدرى : ـ خذ هذا التيس !
قبل أن يجردونى من ملابسي ، كان البلل قد غطاها ، قيدوا قدمي ويدى ، خرس لسانى ، وجحظت عيناى ، و .. ، ..
[ يضع يداه بين فخذيه ، وتحس به ، ينكمش ، ويتكور على نفسه ، ويصرخ ، تصب له كأسا ، يتجرعه دفعة واحدة ]
ـ تارة أراني جديا ، وتارة أراني خروفا ، أحيانا أمأمأ ، وأحيانا أسير على أربع ، أجرش الفول بين أسناني ، وأخطف العلف ، والبرسيم من أمام البهائم ، انكسرت عيناى ، وتدلت أذناي ، إذا ما رأيت امرأة جميلة ، سال لعابي ، وإذا ما اغلق علينا الباب ، أرغو ، وأزبد ، وأصير مثل الجدى أو الخروف المخصى ..
إذا وطئ الجدى المخصي معزة أو الخروف المخصى غنمة ، جزعت ، ووجلت ، وطرحته أرضا ، وتروح تتفحص مكان أ .. ) بعينها ، وتتشممه بأنفها ، ترفسه برجليها الأماميتين ، وتفر ، وإذا ما نهض وعدا خلفها محاولا ، ترفسه بخلفيتيها .. وكان هذا حالى ، ولكن الجداء والخراف كانت أحسن حالا منى ، فأنقذتها السكاكين ..
[ ويبكي .. تهدهده ، تصب له كأسا .. يتجرعه ، وينظر إليها ]
= ما كنت أريد أن أتورط معك ، حتى لا تفرى منى ، مثل اللائى فررن ، لماذا أصررت ؟ ولماذا انسقت وراءك ؟
فى كل مرة ، مع كل امرأة ، كان يحدونى الأمل !
أمل كاذب .
هل كانت المعجزة ستتحقق معك ؟!
[ ويضحك .. ]
= ولى زمن المعجزات ، وزمن الأنبياء ، وصرنا فى زمن ..
هى " مقاطعة " :
ـ رغم كل شئ ما زال الزمن زماننا
هو " ضاحكا " :
= زمن بنت الترابي !
هى " ضاحكة " :
ـ وابن الكلاف !
[ تصب له كأسا ، ولها كأسا ..]
ـ فى صحتك
[ يطرق كأسه بكأسها ]
= فى صحتك
[ عيناه فى عينيها .. وكفه فى كفيها ... ]
هى :
ـ ما رأيك ؟!
هو :
= فى ماذا ؟
هى :
ـ أنت تملك القلم
هو :
= وأنت تملكين الفلوس 0
** المراسلات :
13 شارع مدرسة التجارة ـ ديرب نجم ـ الشرقية
ت : 3767986/055
[ 1 ]
[ غرفة واسعة ، مفروشة أرضيتها بسجادة فاخرة ، فى جانب منها مكتب فخم ، عليه أوراق ، ومقلمة ، ومطفأة سجائر ، وجرائد ومجلات ، يومية ، وأسبوعية ، وخطابات .
أمام المكتب . كنبة كبيرة ، وأربعة كراسى "فوتيل " ، وفى الوسط ترابيزة متوسطة الحجم ، يعلوها مفرش " الكنافاه " وفى الأركان نباتات الزينة ، وأصص الزهور .
احتضنت جدران الغرفة أرفف مكتبة ، تضم كتبا مختلفة المقاسات والأحجام ، مرصوصة بعناية ونظام . على شباك الغرفة الواسع ، ستارة خفيفة زرقاء ، وأخرى سميكة فى منتصف الغرفة ، تفصل غرفة المكتب عن غرفة أخرى ]
" يدخل السكرتير حاملا فى يده حقيبة "سمسونيت " وخلفه الناقد الكبير .
" يضع السكرتير الحقيبة على المكتب ، ويمضى إلى الشباك ، يزيح الستارة .
" يخلع الناقد الكبير " الجاكت " ويعلقه على شماعة مثبتة على الجدار خلف المكتب ، ويفك رباط العنق ، ويجلس على كرسيه الوثير ، يدور به شمالا ويمينا ، وكأنه يستكشف الغرفة أو يطمئن على نظافتها ونظامها ، خلع نظارته .
جلس السكرتير على أقرب كرسى مجاور للمكتب ، وأخذ يقرأ له أهم عناوين ومانشيتات الصحف والمجلات
الناقد " مبتسماُ ومشيرا بيده ":
= كفى . لا جديد ! ، كلام اليوم هو كلام الأمس ! " وناظراُ إلى تلال الخطابات المكدسة على المكتب "
= كل هذه الخطابات !
السكرتير :
# عشرة خطابات يعرب فيها أصحابها عن إعجابهم بمقالك الذى كتبته الأسبوع الماضى ، وعشرون خطاباُ تحمل كتبا لشعراء ، وقصاصين ، وروائيين ، معظمها من إصدارات نوادى الأدب.
الناقد متنهدا :
= لعنة الله على نوادى الأدب ، إنها هدر للمال العام !
السكرتير " ساحباُ مظروفاُ أبيض كبيرا" :
# هذا الخطاب جاءت به صاحبته ، وانتظرتك ما يزيد على الساعتين ، وانصرفت لقضاء بعض حوائجها، وستعود فى الخامسة مساء .
الناقد :
= وماذا تريد ؟
السكرتير :
# تريد أن تكتشف موهبتها .
الناقد :
= كم عمرها ؟
السكرتير :
# تتجاوز الأربعين .
الناقد :
= أربعون عاما ُ .. ولم تكتشف بعد !
السكرتير " ماطاُ شفتيه ، ولم ينبس "
الناقد :
= وماذا تراها ؟
السكرتير :
# امرأة، نصف جميلة ، نصف موهوبة ، نصف مثقفة ، نصف متعلمة ، وثرية!
الناقد :
= أثرية حقاُ ؟!
السكرتير :
# نعم .. ويبدو عليها الثراء الفاحش .
الناقد :
=إذن . لا تقل نصف جميلة ، نصف موهوبة ، نصف مثقفة ، نصف متعلمة.ولكن قل :
جميلة ، وموهوبة ، ومثقفة ، ومتعلمة .
السكرتير " ضاحكاُ ":
# وهي كذلك يا سيدي .
الناقد " يفض المظروف " :
= إذن . امض مسرعاُ ، واصنع لى فنجان قهوة .
" يخرج السكرتير ، ويترك الناقد ، يقلب فى أوراقها ، التى أودعتها المظروف بعناية فائقة "
الناقد لنفسه :
= ثرية .. ! وخطها جميل . أوه .. قاصة .. !
" يقرأ سطوراً .. ويبتسم .. "
= كم من الآثام ترتكب باسمك أيها الفن المخاتل ، أيها الفن المراوغ الجميل ، ولكن لا بأس ، إنها ثرية !
" يدخل السكرتير مبتسماُ .. يضع القهوة.. " :
# ماذا تراها يا سيدي ؟!
الناقد :
= بالتأكيد تعانى من عثرات البدايات ، ولكن لا بأس مادامت ثرية
" يرشف من فنجان القهوة ، ويشير للسكرتير بالجلوس "
الناقد :
= قل لى : ماذا عرفت عنها وهى تثرثر معك أثناء انتظاري ؟
السكرتير :
# عرفت أنها كانت زوجة لرجل أعمال .
الناقد :
= كانت .. !
" وعابثاً بشاربه " :
= إذن هى مطلقة .
السكرتير :
# بل أرملة
الناقد " مبتسماُ " :
= الله يرحمه .
" وناظرا إلى ساعته ، وإلى السكرتير "
" وقبل أن يغلق السكرتير الباب خلفه ، يلتفت إلى الناقد . غامزا له بإحدى عينيه ، وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة ".
[ 2 ]
" فى الوقت الذى تعلن فيه الساعة المعلقة على الحائط عن الخامسة مساء بدقات رتيبة ومنتظمة ، تُسمع دقات ناعمة على الباب . كأنها نغمات ، يهرول الناقد إلى مكتبه ، ويجلس على كرسيه ، ويفر فى أوراق أمامه "
ينادى بصوت مرتفع :
= تفضل بالدخول
" يندفع الباب بحذر ورفق ، ومن انفراجة صغيرة بالباب ، يتسلل عطر أنثوى يملأ الغرفة ، وساق بيضاء ملفوفة ، لا شوائب فيها ولا زغب "
" الناقد مادا عنقه ، ومبحلقا بعينيه ، وموسعاً طاقتي أنفه ، ومهدلا شدقيه .. "
" فرحة هى بآثار فتنتها عليه ، وتفرج ثغرها المكتنز عن ابتسامة حلوة ، وبنظرة سريعة ، كالومضة ، تشع سحرا .. "
ـ م .. س .. ا .. ء .. الخير
" ومقتربة من مكتبه ، واقفة قبالته تماما ً، باسطة يدها البضة .. وبنعومة .. "
ـ حضرتك الأستاذ الدكتور ..
" ناهضا ، ولم تزل يدها الرقيقة الناعمة فى يده .."
= نعم .. نعم .. تفضلى .
" فى المسافة الصغيرة الفاصلة بين مكتب الأستاذ والكرسى المجاور لمكتبه ، تقف ، فاردة جسمها على قدر ما تستطيع ، عيناها فى عينه ، وقائلة برقة :
ـ سمعت عن احتضانك الحنون للأدباء .. و..
" لم يفرط فى يدها ، فلم تزل يمناه تحتضن يُمناها ، وعيناه تسبحان فى فضاء صدرها الرحيب "
= حضرتك أكيد " مدام نجوى "
" ساحبة عينيها من عينيه " :
ـ نعم .. نعم
" وساحبة أيضاً يدها بخفة ورقة ، وجالسة على المقعد الذى على يمينه "
هو :
= ماذا تشربين ؟
هى " بالفرنسية " :
ـ مرسى
هو :
= هذه أول مرة تزورينني فيها ، لابد أن تأخذى واجب الضيافة .
" وناهضاً" :
= اسمحي لى أن أصنع لكى مشروباً بنفسي .
هى :
ـ أن يصنع لى ناقد كبير مثلك مشروبا بنفسه ، فهذا كثير عليّ .
" منحنيا أمامها بحركة تمثيلية " :
هو :
= أديبة موهوبة مثلك ، تستحق أن ينحنى أمامها كل النقاد !
هى " خجلة و فرحة " :
ـ أنا لا أصدق أنني أديبة و ..
هو " مقاطعاُ " :
= بل أنتِ موهوبة ، موهوبة ، وموهبتك فى القص ليس لها مثيل فى بنات ونساء العرب من المحيط إلى الخليج !
هى :
ـ أنا لا أكاد أصدق .
هو " مشيرا بيده إلى العقد الذى تطوق به جيدها " :
= هذا العقد ..
" ثم يمد يده ليفر حباته " :
= من الأقدر على معرفة قيمته ؟!
" ثم مجيبا على نفسه " :
= بالتأكيد " الجواهرجى "
" تاركا حبات العقد ، لتمس أصابعه صدرها مسا خفيفاُ ، فينهض واقفاً ، ناظراُ من الشباك ،ومعطياً ظهره لها لثوان ، ثم ملتفتا لها بسرعة ..قبل أن تزول أثار مس أصابعه لصدرها "
= أنا الجواهرجى !!
= جبت مصر من أقصاها إلى أقصاها، من أسوان إلى الإسكندرية ، ومن مرسى مطروح إلى بورسعيد و دمياط ، أعرف عزب مصر كلها ، وكفورها ، وقراها ، ونجوعها ، وأزقتها ، وجبتها كلها بحثا عن " الألماظ " والجواهر ، عن المواهب المدفونة فى ثرى أرضنا الطيب ، والآن ، وبعد رحلة بحث زادت عن الثلاثين عاماُ
" مبتسماُ " :
= لا يغرنك شكلى ، فأنا فى منتصف العقد السادس..
هى " مصطنعة الذهول " :
ـ لا يبدو عليك ، فمن يراك ، يظنك على الأكثر فى منتصف العقد الثالث .
" ثم ضاحكة وفاردة يدها لتقبض على أحد أركان الترابيزة " :
ـ وهاأنذا يا سيدي أمسك الخشب !
هو " مصطنعا الجدية ":
= أنت رقيقة ومجاملة ، العمر ينسرب ، ولا ندرى ، وها أنت تهلين .. !
هى" مبتسمة " :
ـ عفواُ .. خدعتك عيناك ، فالمسافة الزمنية بيننا ليست شاهقة .
هو " مقتربا منها ":
= أتمنى ألا تكون بيننا مسافات !
هى " فى نفسها " :
ـ من أول جلسة تريد أن تلغي المسافات وكأنه أدرك ما يجول برأسها
هو :
= الناقد ، والفنان المبدع ، يجب أن تتلاشى المسافة بينهما .
هى :
ـ زدنى وضوحاُ
هو :
= أقصد أن ينكشف المبدع للناقد .
هى " فى نفسها " :
ـ تتلاشى المسافة بيننا ، ثم أنكشف أو أتعرى ، لك أو أمامك ، لا فرق ! ..إنه الثمن ! أقرأه فى عينيك الواسعتين ، النهمتين ، وفى نبرات صوتك ، إنه ثمن الوصول !!
لم أستبعد هذا الاحتمال ، ولكنى أرجأته ، وجعلته أخر الاحتمالات .
ثم لماذا تعزف على هذا الوتر من البداية أيها الناقد الكبير ؟
.. أعرف أن جواز مرور أى كاتبة يكون من خلالك ، أو بمعنى أكثر وضوحاُ أو صراحة أو وقاحة ، من خلال فراشك ! .. بالتأكيد تلك الستارة السميكة تفصل بين المكتب عن غرفة أخرى للنوم !
هو :
= لماذا أنت ساهمة ؟
هى :
ـ كنت أفكر .
هو :
= فيم تفكرين ؟
هى :
ـ فى الثمن !
هو " مرتبكاُ " :
= أن .. أن .. أنت ..
" ثم مستدركا بسعادة " :
= أنت أذكى من قابلت .
هى :
ـ بل قل أكثر واقعية من كل من التقيت بهن .
هو :
= أدركت من قراءتي لبعض نصوصك أنك ..
هى " مقاطعة ":
ـ رغم أنني لم أكتب سطراُ ، أو حتى كلمة تشير من قريب أو بعيد إلى ...، إن كل من قرأ لى أدهشه أن ما أكتبه ...
هو " ضاحكاُ وهازئاُ :"
= ومن الذى قرأ لكِ ، رئيس نادى أدب مدينتك المجهولة ، وهو غالبا مدرس على المعاش ، وعلى الأكثر مدرس لغة عربية وتربية إسلامية لا يعرف فى الأدب أو حتى فى الدين أكثر مما تتضمنه مناهج وزارة التربية والتعليم .
" ومصطنعا الجدية " :
= المسكوت عنه فى قصصك يا سيدتى ، لا يفقهه إلا أولو النهى .
هى :
ـ وما هو المسكوت عنه فى قصصى ؟
هو :
= أنت ..
هى :
ـ أنا !
هو :
= نعم
هى :
ـ كيف ؟
هو :
= لم أرك فى قصصك ؟
هى " وكأنها تخاطب نفسها " :
ـ ولن ترانى .
هو " ضاحكاُ " :
= ولكننى أراك ، فهاتان عيناك السوداوان الجميلتان ، وهاتان شفتاك القرمزيتان الدقيقتان ، وخداك المتوردان ، وجبتهك العريضة بلون الفضة ، وأنفك العربى ، الشامخ
هى " ساهمة " :
ـ فيما مضى – من ربع قرن أو يزيد ، كانت عيناى عمشاوتان ، وخداى صدئين ، وشفتاى زرقاوين .. و.. " تغمض عينها "
هو " ناقرا بيده على المكتب " :
= أراك تسرحين ، وتشردين كثيرا .
هى " باسمة " :
ـ كلى آذان مصغية .
هو " ضاحكا " :
= ما أجمل أذنيك !
هى " ضاحكة " :
ـ كم واحدة دخلت هنا،وجلست على هذا الكرسى ، وسمعت هذا الكلام الجميل ؟
هو :
= ليس بينهن من فى جمالك !
هى :
ـ جمالى فقط .
هو :
= وموهبتك.
هى " جادة " :
ـ هل أنا فعلا ، أملك الجمال والموهبة ؟
هو :
= بالتأكيد . أنا عينى لا تخطئ الجمال ، وحدسى لا يخطئ الموهبة .
هى :
ـ ماذا لو أضفنا إلى نعمتى الجمال والموهبة نغمة المال ؟
هو " مصطنعا الدهشة " :
= المال !
هى :
ـ نعم .
هو " مبتعدا عنها بعينيه وممثلا الشرود " :
= الجمال " وكأنه يخاطب نفسه " ، والموهبة ، والمال ، لا .. لا ، " ثم مستديرا لها بعينيه ومصطنعا الجدية "
ـ لنكن صرحاء ، توفر المال ، والجمال ، والموهبة ، فى شخص واحد يكاد يكون معدوماُ ، بل مستحيلاً ، من خلال .. ملاحظاتى ، ومشاهداتى ، ومتابعاتى ، وقراءاتى ، وتجوالى ، وخبراتى التى تراكمت عبر سنين طوال ، أجزم باستحالة تجمع هذه النعم الثلاث فى شخص واحد . ولكن أنا لا أستطيع أن أكذب عينى ، فها أنت أمامى ، وعينى لا تخطئ الجمال ، وحدسى لا يخطئ الموهبة ، أنا أستطيع أن أشم الموهبة على بُعد أميال ، شممت موهبتك قبل عطرك ، وموهبتك أنفذ ، ملأت خياشيمى ، وتسللت إلى قلبى وعقلى قبل أن يتسلل عطرك إلى أنفى ، قبضت عليها من السطور الأولى ، ثم تأتى لتضيفى عطية ثالثة من عطاء الرب لك وهى المال .. هذا كثير !
" ضاربا كفا بكف .. ومستدركا " :
= أستغفر الله العظيم ، فليس هناك كثير على الله ، ولكن أصحاب المواهب وخاصة الأدبية ، لا يأتيهم المال إلا متأخرا ، وفى بلدنا هذا وزمننا هذا قد لا يأتيهم أبدا
" ناظرا إليها " :
= هل أتاك المال عن ميراث مثلاُ ؟
هى " متنهدة " :
ـ لم أولد وفى فمى ملعقة من ذهب .
" ومسحت بإبهامها جبتها وقالت " :
ـ هكذا أتانى المال !
" اعتدلت في جلستها .. وأضافت " :
ـ أنا أعرف أن أصحاب المواهب ينشغلون بمواهبهم عن جمع المال ، وإن كنت لا أنكر أن جمع المال يحتاج إلى موهوبين أيضا ، وقد أكرمنى الله بأن قيض لى زوجا يملك موهبة جمع المال ! .. وبعد أن آل المال لى وحدى ، ولم يكن لى ابنا أو ابنة يرثانى ، فكرت فى وقف جزء منه لأصحاب المواهب الأدبية الذين يعانون ، هؤلاء الذين يوازنون مثلا بين شراء أرغفة من الخبز وبين شراء كتاب ، هؤلاء الذين يقتطعون من أقواتهم وأقوات أولادهم وأطفالهم لينشروا إبداعاتهم ، كم من مرة – قرأت فى الصحف مناشدات لوزير الثقافة ولرئيس الوزراء ولأصحاب القلوب الرحيمة بالتدخل ، لعلاج الشاعر الفلانى ، أو الأديب العلانى ، لأنه للأسف لا يملك ثمن العلاج ولا حتى ثمن القوت ! .. كم يؤلمنى أن يصبح علاج الأديب استجداء .
" مخرجا علبة سجائره الأجنبية ، وقبل أن يفتحها ، مدت يدها ، ناولها سيجارة ، وأشعلها لها بقداحته الذهبية ، وأشعل هو الأخر سيجارته ، أخذت نفسا عميقا ، ونفثته ببطء واستطردت :
ـ ها أنذا يا سيدي أملك المال ؟
هو :
= والموهبة والجمال .
هى " ضاحكة " :
ـ أشك
هو :
= ألا تشعرين بالجوع ؟!
هى :
ـ بل أشعر به يقرص أحشائى .
هو " مديرا قرص التليفون "
هى :
ـ ماذا تفعل ؟
هو :
= أطلب العشاء من المطعم .
هى :
ـ بل أنا أدعوك للعشاء . فى مطعم أحبه ، وأحيانا أحضر إلى القاهرة خصيصا لأتناول وجباتى المفضلة فيه والتى يحسن طهاته طهيها وإعدادها .
هو " ضاحكا " :
= ولكنك " ضيفتى "
هى :
ـ كلنا ضيوف على القاهرة
هو " مبتسما " :
= نعم .. وأنا لست قاهريا !
هى " ضاحكة " :
ـ وأنا أيضا
هو :
= بصرة إذن .
[ 3 ]
" يزيح الستارة التى تفصل غرفة المكتب عن الغرفة الأخرى ويدعوها لتتناول معه مشروبا "
هو " واضعا يده على بطنه :
= أنا مدين لك بهذا العشاء الفاخر والشهى ، امتلأت بطنى عن أخرها وكأنى لم آكل من قبل !
هى :
ـ بالهناء والشفاء .
" مخرجا زجاجة خمرة من الثلاجة "
هو :
= أتتناولين معى كأسا ؟
هى :
ـ لا بأس . قليل منه يشفى .
" يصب فى كأسين ، يناولها كأسا ، ويتناول كأسا .. قائلا فى صحتك !
" تصب كأسا أخرى له ، وكأسا لها ، تقرع كأسها فى كأسه ، قائلة فى صحتك ! "
" يضحكان ، ويجلسان على أريكة وثيرة بجوار السرير "
هو : " موزعا نظره بينها وبين السرير "
= هذا السرير ..
هى :
ـ ماذا به ؟!
هو " وهو يدفع بجوفه ما تبقى فى الكأس "
= شهد معارك عنيفة !
هى " ناظرة له بجانب من عينها "
ـ يبدو أن مفعول الخمر ظهر! ، أعرف أنك داهية !
هو " مدعيا أنه مخمور " :
= تمددت عليه برنسيسات ، وأميرات ، " ضاحكا " .. ، وخادمات ، ها ها.. ثيبات وأبكار ، مصريات ، عربيات ، أفريقيات ، أوروبيات ،..
هى " ضاحكة ضحكة ممطوطة " :
ـ يخرب بيتك يا دكتور ،كل هؤلاء قدرت عليهن!! ناولنى كأسا ليلتك " للصبح "
هو "مصفقا بيده ":
= أيوه كده ، اشرب ، قربع ياجميل ؟!
" متماديا فى تمثيل الدور ، ومخرجا من الدولاب ، ملبوسات داخلية أنيقة وجميلة ، ومثيرة ، مختلفة أحجامها ، وأشكالها ، وألوانها ، يفردها أمامها ويمسك قميص تلو قميص ..
= هذا القميص " ويشم رائحته " ، لزنجية ، وهذا القميص لخليجية ، وهذا " ويقربه من أنفه " : مازالت رائحتها فيه ، عرقها أشتمه عطرا ، تخللت أنوثتها نسيجه وصارت من مكوناته .
وهذا القميص ! " يحتضنه ويشرد قليلا .. "
= كانت ليلة !
= لا أعتقد أن قضى مثلها واحد من خلفاء أمية أو حتى من بنى العباس
هي " والخمر تدور في رأسها " :
ـ وكيف تعرفت عليهن ؟ !
هو " مقتربا منها ، وواضعا يده علي كتفها " :
= أقول لك ، شوفي يا ستي ، بعضهن يأتين ليدرسن الأدب العربي ، أو ليحصلن علي الماجستير والدكتوراه ، ولكل شيء ثمنه ! ، ومن يأتين أيضا طالبات للشهرة ، فمصر كما تعلمين هي جواز المرور للشهرة ، والأدب مثل الفن وغيره ، تحتكره مصر ، هل سمعت مثلا عن مطربه أو ممثله أو حتى راقصة حققت شهره إلا من خلال اعتمادها في مصر !
هي " ضاحكة " :
ـ وما أكثر اللواتي اعتمدن في مصر
هو "ضاحكا " :
= والعبد لله هو الذي يعتمد الأديبات اللائى يفدن إلي مصر !
هى " ضاحكة " :
ـ هنا .. على هذا السرير !
هو :
= على هذا السرير ، وكل من دخلن هذه الغرفة اعتمدن ! وأصبحن نجمات يملان سماء دنيا الثقافة والأدب .
هى " متطوحة " : وهل مازلن يذكرنك ؟
هو " متطوحا " : أحيانا ! ، و" شاردا" ..
= غالبا ما يأخذهن الحنين ، ويأتين .
قد أفاجأ بواحدة منهن أحيانا ، تأتى ، بعد مرور سنوات فى محاولة منها لاستعادة الماضى والذكريات .
هى " وهى تدفع بآخر رشفة فى قاع الكأس فى جوفها "
ـ وتعتمدها من جديد !
هو " وهو يصب كأسا جديدة ":
= نعم .. واعتمادها هذه المرة يكون أوقع وأمتع وألذ ، فانتفت المصلحة !
هى " وهى تتناول منه كأسا " :
ـ " هى دى مصر !"
هو " ضاحكا " :
= من ذقن حلاوتها لا ينسينها أبداُ ، ويعاودهن الحنين بين الفينة والأخرى .
هى " تناوله كأساُ " :
ـ صب لى كأسا ، فمازال فى عقلى نبض ، أريد أن يتوقف !
هو " يصب لها كأسا وله كأسا " :
[ لحظة صمت ]
" يدير جهاز التسجيل تنبعث منه موسيقى ، هادئة ، ناعمة .. "
هو " قاطعا الصمت " :
= لماذا لا تفضفضين ؟!
هى :
ـ فيما أفضفض ؟!
هو :
= تطلعيني على السر أو الأسرار التى تدفنينها فى أعمق أعماقك .
هى :
ـ أى سر وأي أسرار تقصد ؟
هو:
= ما خفى عنى ، وعن كل الناس .
هى :
ـ ليس عندى ما أخفيه ؟
هو :
= بحثت عنك فى قصصك ولم أجدك .
هى :
ـ كيف تجدنى ، وأنا لا أكتب سيرة ذاتية .
هو :
= الكاتب مبثوث بطريقة أو بأخرى فى أعماله ، وأستطيع بحكم دراستى ، وخبرتى ، أن أستخرج الكاتب بسهولة من أعماله .
كل من قرأت له ، حددت ملامحه العامة والخاصة ، وطرائق تفكيره ،وأسلوب حياته ، ومزاجه النفسى و ..
" يوقف جهاز التسجيل ، يفر فى أشرطة أمامه ، ينتقى شريطا ، يضعه فى جهاز التسجيل ، يديره ، تنبث موسيقى أكثر نعومة ، و... يقلل كمية الضوء ، بالكاد تنير الغرفة "
هى : " تسترخى " تغمض عينها :
هو :
= لما لا تتمددي على هذا السرير ، وتتحررى ..
هى " سابحة مع الموسيقى " :
ـ تريدنى أن أتحرر من ملابسى ! وأصير مثل صديقاتك . مجرد قميص نوم شفاف ، أترك لك فيه رائحتى ، ذكرى لليلة الجميلة أو حتى ليلة خائبة . ويأخذ رقماً ، ويدون عليه تاريخ الليلة ، ويدس فى الدولاب مع غيره من القمصان .
هو " مقتربا منها وواضعا يده على كتفها " :
= صدقينى . لم أقصد هذا التحرر ، لكنى أقصد التحرر من الداخل .. تطلعينى على صفحات نفسك المطوية .
من فضلك ، وبنعومة :
ـ هذا السرير . [ يبسط لها يده ، تقرأ فى عينيه رجاء ، تمد له يدها ، شئ خفى يدفعها للنهوض ، مغمضة العينين تسير وكأنها مغيبة ، يتناول يدها برفق ، تخلع حذائها الأبيض ، تصعد إلى السرير ، تحت تأثير الخمر والموسيقى ، وسحر كلامه ، تستلق ]
هو :
= أصغى إلى الموسيقى ، وانظري إلى اللوحات المعلقة على الجدار ، أو أغمض عينيك ، وانظري إلى داخلك ، واسمعيني نبضات قلبك ، وأصداء نفسك ، ولا بأس من كأس تلو كأس ، فالخمر تغيب العقل الذى يحد من الفضفضة ، كلنا بحاجة إلى البوح ، بوحى ؟!.. اشربي حتى الثمالة ، لتخرجى كل المدفون – هناك فى القاع وفى الأغوار ، وتأكدى ، تأكدى أنك لو غبت تماما عن الوعى ، فجسدك فى مأمن.
هى " مغمضة العينين " :
ـ نعم .. أحتاج للفضفضة .
هو " بصوت ناعم ودافئ " :
= بوحى ؟! .. اتركي نفسك على سجيتها ، لا تقفى فى طريقها ، غيبى العقل أو نحيه جانبا .
هى :
ـ أراني !
هو :
= ماذا ترين ؟
هى :
ـ أراني فى حجرة صغيرة ملحقة بمسجد صغير بجوار مقابر القرية
هو " مندهشا " :
= استرسلي ، بوحى .. ؟ .. بوحى ؟! .. بوحى ؟! .
هى :
ـ كنت أحبو بين المقابر .
ويُحكى أن أمي ، كانت تأتى أخر الليل عندما تعود من العمل فى الغيطان أو فى دور الموسرين . تجدنى قد دخلت قبراُ مفتوحاُ ، وغلبنى النعاس ونمت فيه .
وكان أبى كفيفاُ ، حفظ فى طفولته بعض سور القرآن ، كانت كفيلة بأن يوكل إليه الرجل الثرى الذى بنى المسجد – بإقامة الصلاة على وقتها ، وبالصلاة على الميت ، والقراءة عليه ، نظير أجر ، وحراسة المقابر .
" يبدل شريط الموسيقى ، بشريط أخر، تنبعث منه موسيقى أكثر شجناُ .
ـ أذكر أن أبى كثيرا ما كان يقيم الصلاة ، ويصلى بمفرده ، فلم يكن للمسجد من رواد ، إلا عابر سبيل ، ونادرا ما يطرق هذا الطريق عابر .
أحيانا ، أحيانا قليلة ، يرتاد المسجد بعض من يعملون فى الغيطان حينما يريدون قضاء الحاجة أو الهروب من الشمس وقت الظهيرة !
[صدى صوته يتردد فى أركان الحجرة .. بوحى ؟!.. بوحى ؟!.. بوحى ؟! .. ب..و..ح..ى.. ح.. ى..ى..ى .... ]
ـ قـُدر لنا أن نعيش مع الأموات ، فالمسافة بيننا وبين القرية ، تزيد عن الثلاثة كيلومترات .
هناك على طريق غير مأهول ، على أرض كانت فى الزمن البعيد تنكر الزرع ، أقاموا مقابرهم ، كنت أفرح بكل ميت جديد ، فهو بالنسبة لنا فلوسا ، تدس فى يد أبى خفية وجهرا ، أو فى جيبه نظير قراءته ، ولحوما وفاكهة تملأ حجر أمي ، وحكايات النساء عن المتوفى ، زوجته أو أمه ، أخته ، وعمته ، خالته وجارته .
على صغرى كنت أندس بينهن ، وأصغى لحكايتهن عنه ، أعرف تفاصيل حياته ، وأقف على أفعاله ، أعرف الأموات واحدا واحدا ، الشرير والطيب ، الكريم والبخيل ، النبيل واللئيم ، المريض والسليم ، البدين والنحيف ، الجميل والدميم . كنت أعجب بهذا ، وأبغض ذاك .
" وتضحك ضحكا متواصلا لدقائق ، يناولها كأسا ، تتجرعه دفعة واحدة "
ـ أول حب فى حياتى ، كان لواحد ميت . تصور !
اقتحمنى من خلال حكايات أمه وأخته وابنة عمه عنه . اللائى رحن يعدون محاسنه ومآثره ، وينعين جماله وشبابه ، ومن الصدف – كان اسمه يوسف ، واقترن فى ذهنى بيوسف الصديق ، وظللت لأيام أراوده فى نومى عن نفسه !
" وتضحك ، فيناولها كأسا "
ـ فى المدرسة . كنت أجتذب البنات بحكاياتى ، وخيالاتى ، وشطحاتى ، كنت أجذبهن لى ، بل كن يسعين إلى ويخطبن ودى ، ويتمنين لو أظل أحكي لهن طوال العمر ، وكم تكون سعادتهن عندما يتغيب مدرس أو يعتذر عن الحصة ! يتحلقن حولى ، وأنا كل يوم أصنع حكاية جديدة ، فالمدد عندى لا ينفد ، شهرزاد حكت ألف حكاية وأنا حكيت ألف ألف حكاية . حكايات الأموات ، والأحياء .
الأموات الذين يتعاركون ويتصايحون فى الليل ! الذين يخرجون من مقابرهم ، ويحكون لى عن حياتهم الخاصة ، فهم لا يظهرون إلا لى ، ثقة منهم فى " هئ هئ هئ هئ " هل فعلا يتصايحون ويتعاركون ؟! .. هل فعلاً يخرجون ؟! .. هل حقا يثقون بي ؟!.. هئ هئ .. هئ ....
من تطلب مني أن أحكي لها عن أبيها ، ومن تطلب منى أن أحكي لها عن أمها أو أخيها ، هذه تسألنى عن عمتها أو خالتها ، وتلك تسألنى عن حبيبها الذى اختطفه الموت ..!
كيف يعيشون ، وماذا يأكلون ؟ وماذا يلبسون ؟ .. عشرات الأسئلة تحتاج إلى إجابات .. عرفت كيف أستقطبهن ، وكيف أستثمرهن . أحكي لهذه همسا بأن أبيها فى الجنة ، وأن أبو البنت التى لا تحبها فى النار ، .. وأطلب منها ألا تخبرها ، فتفرح بما أسررته لها ، فتزيد من عطاياها لى ، كتبا وكشاكيل ، وأقلاما وملابس ، والأخرى أخبرها بعكس ما أخبرت به عزيمتها ، فتكثر من عطاياها لى ، عرفت كيف تكون لحكاياتى ثمن ؟! .. وأصبح على أن أدافع عنها ، فهى تعطينى نوعا من الوجاهة والتميز ، وتدر على دخلا ، ومصدر رزقى ، ومدرس اللغة العربية و التربية الدينية يمثل خطرا لى وعلى ، فيقول للبنات بغير ما أقول .. أحيانا أجدنى لا إراديا ، أقف فى الحصة معترضة ، ومحتدة على ما يقوله ، فيبتسم ، تغيظنى ابتسامته ، وثقته وهدوءه ، أشعر به يعرينى ، ويسفه من أفكارى ، وحكاياتى للبنات .
تطفر الدموع من عينى ، وأنا أقرأ فى كلماته – تلميحا لحياتى مع الأموات ، ونشأتى فى هذه البيئة ، كرهته . نعم كرهته. وزادت كراهيتى له عندما حفرت أصابعه خطوطا على خدى وقال علنا : بأن بنت التربى ستفسد البنات !
" تتحسس خدها " ، " يبادر بصب كأس لها "
ـ أول يد تصفعنى ، ابتلعت غيظى ، وأقسمت ألا أعود إلى المدرسة ، وظللت يومين أو أكثر منقطعة عن المدرسة ،حتى زارتنى بعض زميلاتى ، أول مرة يزورنى أحد ، وأول مرة أخجل من غرفة واحدة هى مسكننا ، وحصيرة متآكلة مفروشة ، على أرضيتها ، ولحاف متسخ مثقوب تخرج منه قطع القطن ، و" حِرام " من الصوف ، الخشن متهرئ ، وبعض أطباق وحلل صدئة ، ووابور جاز، وقلة ماء هى كل متاعنا ، ورجل ضرير ، بالى الثوب ، صامت دائما ، عايرنى به فى المدرسة فى الفصل أمام البنات ، وامرأة عجفاء ، ناحلة ، وطويلة ، تخرج مع أول ضوء للنهار ولا تعود إلا فى منتصف الليل معها الزاد والزواد .
ولأول مرة أشعر بالفارق ، بالمسافة الواسعة بينى وبينهن ، أخذنني من يدي ، وسرن بي بعيدا عن الغرفة الرطبة والنصف مظلمة ، وجلسنا هناك فى ظلال شجرة عند أحد المقابر .
قلن : ولا يهمك يا بنت .. نحن نعلم أنه يغار منك ، لأن حكاياتك أكثر تشويقا وإمتاعا ، تتسلل إلى القلب ، وتدغدغ النفس وتلهب الخيال ، أما هو فحكاياته باردة ، والأحاديث التى يوردها مأخوذة عن فلان .. عن علان .. عشرات العنعنة ، أما أنت ، فتأخذين منهم حكاياتك مباشرة ، تلقى فى روعك ، إنهم يثقون فيك ، يبوحون لك بأسرارهم ، يوقفونك على أحوالهم ، أحيانا يأتى الميت لمن يحب فى المنام ، ويوصيه وصية أو يطلب منه طلبا أو يخبره بأمر أو يسر له بسر ، وأنت هنا ، تعيشين بينهم ..
" وتضحك ، يناولها كأساُ "
ـ أخرجت إحداهن كتاباً كانت قد دسته فى حقيبتها ، لأول مرة أرى كتابا غير كتب وزارة التعليم ، كتابا أكثر أناقة وأكثر فخامة ، قلبت الكتاب بين يديها وقالت : هذا الكتاب يتحدث مؤلفه ، وهو بالمناسبة رجل مشهور – عن الأرواح والأشباح والجن والعفاريت والأموات !
وراحت تقرأ من الكتاب بعض الحكايات – كانت قد خطت تحته بالقلم ، تتفق فى مضمونها ، وفى معظم تفاصيلها مع ما أحكيه لهن ، الفارق هو اللغة الأنيقة ،والساحرة التى يكتب بها،وتناولت منها الكتاب بفرح،واستأذنتها فى استعارته كنت أتعجل انصرافهن حتى أخلو بالكتاب ، وانفردت به بعد انصرافهن ولم أقم ، إلا بعد أن أتيت عليه جملة ، التهمته كلمة ،كلمة،وسطرا ، سطرا..رد لى هذا الكتاب اعتباري ، وحضنته ،وقبلته ،وقبلت صورة مؤلفه الوسيم على ظهر الغلاف ، وفى الصباح ، ذهبت إلى المدرسة ، وقد أعاد لى هذا المؤلف المشهور كبريائى أمام هذا المدرس المغرور والمغمور ، وقلت للبنات بزهو وأنا أقرأ لهن صفحات من الكتاب : احكمن أنتن ، ومن الذى يوثق فيه ، هذا المدرس المغمور ، الذى لا يعرفه أحد أم هذا المؤلف المشهور الذى تعرفه الدنيا كلها.
وانحزن إلى المؤلف المشهور ، وبالطبع انحزن لى ، وأعدت الكتاب لزميلتى التى أخذته من مكتبة أخيها لتعيده ، ورجوتها أن تبحث لى عن كتب أخرى لهذا المؤلف ، وفاجأتنى فى اليوم التالى بكتابين آخرين له ، وسعدت بهما سعادة لا توصف ، ومن يومها عرفت القراءة ، وأحببتها ، وأدمنتها ، وهذا الكاتب – بنى إمبراطوريته من حكايات تشبه حكاياتى ، ورحت أوثق صلتى بالأموات ، أجلس أمام مقابرهم – فى أوقات متفرقة من الليل والنهار ، أتصنت على قبورهم ، أرهف السمع وأدقق النظر ، أعيش بالكلية معهم ، ومع حكاياتهم التى تتناثر من أفواه المشيعين والزوار ، صرت أسمع نحيبهم وضحكهم ، أنينهم ونجواهم ، يخرجون .. نعم .. أراهم يخرجون ، ويمرقون بسرعة تفوق سرعة الريح ، وبعضهم يومض كالبرق الخاطف ، كالشهب ، دربت أذني على سماع دبة النملة ، وعيني على رؤية كف يدي فى الظلام ، وأنقى على الشم دون أخذ الشهيق ، خففت جسدى بالامتناع عن الأكل والصوم لفترات طويلة ، حتى دق ، ورق ، وشف ، وصرت من النحافة ، بحيث تذرونى الرياح ، فى الليل تستطيل أذناى وأشعر بها وأنا أستعيد صورتي في ذلك الزمان ـ كأنهما طبقان هوائيان مثل تلك الأطباق التي تملأ الآن أسطح عمارات القاهرة ، ويتمدد أنفي ويصبح بطول ذراع ، وتستدير العينان ، وتتسع الحدقتان ، وانشغلت بها لفترات طويلة عن كل ما حولي ، عالم غريب وعجيب ولجته ، وعشته ، كل قبر دخلته ، أتحول إلي عينين كبيرتين أو أتحول إلي أذنين ، أتعذب بما أري وبما أسمع ، قصص مثيره وعجيبة ، تجاوزت حدود العقل ، وفاقت الخيال .
[ كانت تتحدث ، وجسدها كله ينتفض ]
[ الناقد ناظرا لها ، مأخوذا ومذهولا ، بالرعشة العنيفة التي ترج السرير ]
" مد يده إلى جبينها ، غاصت يده في عرق مالح ، وكأنها محمومة ، راحت تهذي ، تذكر أسماء غريبة ، ومصطلحات لم يسمع بها من قبل ، وتحول لسانها فجأة إلي لغة . ليست بالعربية ولا الإنجليزية ولا الفرنسية ولا الفارسية ولا الألمانية ، ولا أي لغة يعرفها ، قال في نفسه : لابد أنها لغة .... ، ارتعدت فرائصه ، أخذ يهزها بعنف ، هزت رأسها ، فتحت عينها ، دعكتهما بيديها ، وقالت :
ـ دكتور ! .. أنا تعبانه يا دكتور
[ يمد يده ، يربت علي كتفها ، يصب لها كأسا ، تدفعه في جوفها دفعه واحدة ]
ـ هل يمكن أن تجد لي علاجا يا دكتور ؟! ..
" هو قائلا في نفسه : ماذا تظنني ؟! "
= شهورا انقضت يا دكتور ولا أمل في الشفاء ، مرتين في الأسبوع ،
وأحيانا ثلاث مرات ، أتردد علي عيادتك .. قالوا أنك أفضل طبيب للأمراض العصبية والنفسية في مصر ، صارحني ، صارحني يا دكتور
هو " في نفسه " :
= طبيب ،طبيب نفسي ، لا بأس !
هو " متقمصا دور الطبيب النفسي "
هي :
ـ لا أدري يا دكتور ـ لماذا يقفز إليّ ، من هوة سحيقة في أعماقي ، يبدأ بحجم القزم ، يتنطط أمام عيني ، ويتنامي شيئا فشيئا حتى يصبح عملاقا يقطع علي الطريق ، ويسد كل منافذ الرؤية ، شبحا أسود قاتما رهيبا ، يقلق مضجعي ، ويعكر صفو تفكيري وحياتي ، يصارعني وأصارعه ، في النوم وفي اليقظة
هو :
= ومنذ متي يأتيك هذا الشبح ؟!
هى :
ـ تحديدا منذ أن مات بهاء !
هو :
= هل تستطيعين أن تحددى ملامحه ؟
هى :
ـ أصوات تتعارك ، وتتصايح ، لا أتبين لها ملامح ، تتداخل ، وتنمو ، وتكبر ، شيئا فشيئا ، وتصير شبحا واحدا ، عملاقا ورهيبا ، يجثم فوق صدرى ويكاد يزهق روحى .
هو :
= هل تستطيعين أن تحددى من أين تأتى هذه الأشباح الصغيرة قبل أن تتحد فى شكل واحد ؟
هى :
ـ من فوهة قبر !.. من مشرحة فى مستشفى !.. وربما لقمة فى حنك أرملة تصير شبحا .. أو جنيها فى جيب موظف .. أو .. أو ..
هو :
= استرخى أكثر .. وارجعى إلى القبر .
هى :
ـ القبر .. القبر لا يفارقنى .
هو " متخابثا " :
= هل تعرفين القبر ؟
هى :
ـ أعرفه ؟ نعم أعرفه .. لا أحد يعرفه مثلى .. إنه يسكننى وأسكنه .
هو :
= أتخافين عذابه ؟
هى :
ـ ليس فيه عذاب .
هو :
= وما أدراك أن ليس فيه عقاب ؟
هى :
ـ كنت أعيش فى المقابر ، لم أر الثعبان الأقرع ، ولم أسمع طقطقة العظام ولا اختلاف الأضلاع ، ولا رأيت ملائكة العذاب ولا حتى ملائكة الرحمة .
هو :
= ما دينك ؟
هى :
ـ دينى ؟! " لحظة صمت "
هو :
= لا بأس . هل تستطيعين أن تتذكرى تاريخ ميلادك ؟
هى :
ـ ميلادى !
[ لحظة صمت ]
ـ ميلادى الحقيقى – مع قرار الانفتاح الذى اتخذه الرئيس السادات
هو :
= والسنوات التى قبلها .
هى :
ـ الانفتاح يجب ما قبله !
هو :
= أهجرة جديدة إذن ؟!
" تفرط يدها ، وبصوت مرتفع "
هى :
ـ نعم .. بزغ عصر جديد ، ودين جديد .
هو :
= ودخلت فى الدين الجديد ، والعصر الجديد ؟
هى :
ـ نعم .. كنا من الطلائع !
هو :
= الطلائع ؟!
هى :
ـ نعم .. فلكل دين طلائع ومبشرين .
هو :
= وكيف دخلت هذا الدين الجديد .
هى :
ـ زارني لأول مرة .
هو :
= من ..؟
هى :
ـ بهاء .
هو :
= زوجك ؟
هى :
ـ نعم ، كان يكبرنى بثلاثة أعوام ، تعرفت عليه فى كلية التجارة ، قابلته لأول مرة فى مبنى شئون الطلبة ، كنت أسأل عن استمارات الإعانة الاجتماعية ، ساعدنى ، وسهل لى مأموريتي ، سرعان ما تصادقنا ، وتحاببنا ، كنت مبهورة بثقافته ، فمع الناصريين كان يعرف عن ناصر وثورته أكثر من الناصريين ، ومع الشيوعيين يعرف عن ماركس ولينين والثورة البلشفية أكثر مما يعرفون ، ومع الإسلاميين ، يعرف عن حسن البنا وسيد قطب والإخوان أكثر مما يعرفون ، ولأن الناس على دين ملوكهم .. اختار الملك !
وزارنى لأول مرة ، فالقرية التي يعيش فيها لا تبعد عن القرية أو المقابر التي نعيش فيها غير بضعة كيلو مترات ، فاجأني ، وأسعدني بزيارته ، جلسنا بجوار مقبرة وقال : ـ اسمعي يا هنومة ،
هو :
= أكان اسمك هنومة ؟
هى :
ـ نعم .. كان اسمي " هنومة " واستبدلته بنجوى وكانت أمي تدعى على ألسنة الناس بشيتا وكان إسمه " شرخبيل " واستبدله ببهاء ، وكما غادرنا إسمينا ، غادرنا قريتنا ، والمحافظة كلها ، وسرنا بإسمينا الجديدين إلى محافظة أخرى بعيدة نبدأ فيها من جديد !
قال لى : لا اشتراكية ، ولا شيوعية ، ولا ناصرية بعد اليوم .
قلت : كيف ؟
قال : الرئيس سيفتح المنافذ .
قلت : إمبريالية أم رأسمالية ؟
قال : إمبريالية ، رأسمالية ، لا يهم !.. المهم أن الرياح ستأتى من الغرب ، وهذه فرصتنا !
قلت : كيف ؟
قال : دائما – تكون هناك قرارات مصيرية فى حياة كل مجتمع ، قرارات – تحول المجتمع مائة وثمانون درجة ، المهم من يكون مؤهلا لاستقبال هذه القرارات ، واحتضانها ، والاستفادة منها . " وأضاف "
منذ عام 1952م والمجتمع المصرى معبأ بشعارات ، وأحلام ، وحدة عربية ، قومية عربية ، ثوار يا عرب ثوار ، أمجاد يا عرب أمجاد ..
من الصعب أن يتقبل الشعب المصرى هذه القرارات ، أو يتحول بين عشية وضحاها ، قد تحتاج معظم شرائح المجتمع إلى وقت أطول ، كل حسب قناعته وإيمانه بمبادئه ، والتخلص من ناصر صعب ويحتاج إلى وقت ، فتحول المبادئ وإحلال القناعات ، مبدأ بمبدأ وقناعة بقناعة يحتاج إلى زمن ، ونحن مقبلون على قرار ، سيتحول فيه المجتمع من الضد إلى الضد ، وحتى يستقر النظام الجديد ، سيحتاج إلى وقت ، وقد تكون هناك حالات ارتباك ، وهنا فرصتنا !
قلت وأنا مبهورة بتطلعاته وتحليلاته :
ولكن ما هى بشائر هذا الانفتاح ، وكيف نتعامل معه ، وما الأدوات التى سنستخدمها ، كنت أقصد الآليات التى نتعامل بها مع النظام الجديد .
قال : أنا لا أكف عن المتابعة ، والقراءة ، والبحث . فى الدول التى تحولت من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالى إلى النظام الديمقراطى ، إلى الاقتصاد الحر ..
قلت : إذن سنجعل النموذج الغربى نبراسا لنا .
قال : أمامنا وقت طويل حتى نصل إلى النموذج الغربى ، فالنموذج الغربى نضج وإكتمل واستقر . أما هنا فالأمر يختلف .
قلت : ولماذا لا تكون المسالة كلها لا تعدو أن تكون مناورة سياسية .
قال : لا أظن ، فالمسألة تبدو لي عند الرئيس ، مسألة قناعة ، ومنذ أن طرد الخبراء الروس وقام على الناصريين فى مايو ، وأنا أرى فى أفق خياله وفى مرامى كلماته البعيدة بذرة التحول ، وعندما وافق على وقف إطلاق النار فى 1973 م ، وزار إسرائيل ، وعقد الصلح ، خرج الأمر من حيز الظن إلى حيز اليقين ، وها هو الأمر يتحقق بقرار الانفتاح السعيد ، السعيد علينا ، " ونظر إلى مبتسما "
والسعيد على أولادنا !
فرحة قلت : أولادنا !
قال وهو يداعب وجنتيّ : نعم أولادنا .. هل عندك شك ؟
وسرقنا الوقت ، وسرقتنا الأحلام ، ودخل الليل ، ولم نشعر بالبرد إلا عندما برقت الدنيا ورعدت ، وهطلت بالمطر...
أسرعنا بالدخول إلى المقبرة ، نحتمى بها من العواصف والأمطار .
فى ظلام القبر ، جلسنا القرفصاء ، نرتعد ، التصق بي ، والتصقت به ، كل منا ينشد الدفء فى الآخر ، ورحنا نلتصق أكثر . وكانت تلك الليلة الأولى التى أسلمه فيها جسدى .
ولا أدرى لماذا بعد سنوات ، رحت أربط بين الانفتاح هنا والانفتاح هناك !!
[ 4 ]
كانت قد منحت الخدم إجازة ، بعد أن أنهوا أعمال النظافة بالفيلا ، وإعداد الطعام ، وأخذت حماما ، وتأنقت ، وتعطرت ، وجلست تنتظره
فى تمام الساعة الخامسة مساءاُ ، رن جرس الباب ، همت لتفتح ، وما كادت تفتح الباب حتى وجدته أمامها بطوله الفارع وعطره النفاذ ، وابتسامته العريضة ، لم تستطع أن تدارى فرحة نطت فى عينيها .
احتضنت يدها يده ، وأمطرته بعبارات الترحيب ، قادته عبر ردهة طويلة على جانبيها نباتات الزينة ، وأصص الزهور ، إلى سلالم خشبية ، وتقدمته إلى غرفة واسعة بالطابق الثاني تحوى :
مكتبة كبيرة ، تليفزيون ، فيديو ، جهاز كاسيت ، بيانو ، مكتب فخم أمامه بضع كراسى وثيرة ، وفى جانب من الغرفة سرير .
هو :
= ذوقك جميل .
هى : " بالفرنسية " :
ـ مِرسى
هو " ناظرا لصورة رجل معم على الحائط " :
= أبوك ؟!
هى :
ـ نعم .. من رجال الأزهر !
هو " مبتسما من داخله " :
= من رجال الأزهر يا بنت التربى !
" ملتفتا إليها "
ـ يبدو عليه وقار العلماء ، وسمت العظماء ، وفى طلعته هيبة .
هى :
ـ رحمة الله عليه ، كان مفوها ، وعالما جليلا ، جاب مصر من أقصاها إلى أقصاها لنشر الدعوة ، ولم يكن أبدا متزمتا .
" مستدركة " :
ـ أمازلت واقفا ؟.. أف لى ! .. كم أنا آثمة !.. كيف لم أنتبه إلى أنك مازالت واقفا؟ .. تفضل ، تفضل بالجلوس يا دكتور ، فأنا لا أصدق أنك لبيت دعوتي .. ماذا تشرب ؟
هو :
= أنا ضيفك ، وأي مشروب تحتضنه يدك يكون لذيذاُ ومثيراُ .
هى " مبتسمة " :
ـ أولا أنت لست ضيفا ، أنت صاحب بيت ..
هو " مقاطعا وضاحكا " :
= تقصدين صاحب فيلا ! ثم ماذا عن ثانيا ؟
هى " بدهاء " :
ـ فلنكمل أولا أولا ، فتتمة أولا – الفيلا تزدان بك وتصبح قصراً منيفا .
أما ثانيا : فأنا لست " ديكتاتورة " حتى أفرض عليك مشروبا ، فلك أن تختار !
هو "ضاحكا ُ " :
= "ديكتاتورة " مؤنث ديكتاتور ، أليس كذلك ؟
هى :
ـ نعم ، ولكنى لست هى .
هو :
= يا سيدتى العلم كله مبنى على الديكتاتورية ، فالديكتاتورية هى الأصل ، والحرية والديمقراطية هما الاستثناء .
هى :
ـ أرجوك – لا تفسد جلستنا بالكلام فى السياسة .
هو :
= نفترض أن المشروب الذى أريده ليس متوفرا ، فماذا يكون الموقف ؟
هى :
ـ لو طلبت لبن العصفور سأحضره لك . أو حتى النوق الحمر !
هو " ضاحكا " :
= يا ولد يا عنترة !
هى :
ـ صدقنى أنا فرحانة ، وسعيدة جدا بتشريفك لى .
هو :
= وأنا سعيد جدا بأنني تعرفت عليك ، فأشعر بأن ثمة شيئا ما يشدنى إليك ، وأنك تختلفين عن كل من التقيت بهن .
هى :
ـ هذه المشاعر الجميلة نحوى تسعدنى ، وكلامك يأسرنى .
هو " كان طوال الطريق يفكر ، كيف يجذبها – إلى الفضفضة والبوح ، كيف تُسر له بخيبات نفسها وشروخ روحها ، وتطلعه – دون أن يستخدم الخمر وسيطا – على عالمها الغريب ، عالم غرائبى ومثير ، حالة خاصة جداُ "
ـ كنت أظن أننى ... ، ولكن هناك من هو أسوأ ! ولم لا أفضفض أنا لها ، حتى تأنس لى ، وتفضفض .. ولماذا لا أكون أنا فعلا محتاج للفضفضة
هى " ضاحكة " :
ـ ألو .. نحن هنا .. أين ذهبت يا دكتور ؟
هو " ناظراً إليها " :
= كنت أفكر .. لماذا أنت وحدك – التى أريد أن أفضفض لها ؟
هي " بسعادة " :
ـ فضفض ؟! .. فضفض يا دكتور ؟! .. كلي آذان صاغية !
هو " ضاحكا " :
= الصواب مصغية .
هي :
ـ صاغية أو مصفية ، لا يهم ، المهم أن تفضفض ، والأهم أنك اخترتني من دون النساء جميعا لتفضفض لي .
هو :
= وكيف أفضفض ؟
هي :
ـ مطرقة رأسها قليلا ، ثم قائلة :
ـ وجدتها :
هو " مبتسما " :
= ماذا يا نيوتن ؟
هي :
ـ فكرة رائعة ..
ـ اخلع نعليك ؟
هو " متلفتا ًحوله وضاحكا " :
= هل نحن بالواد المقدس ؟
هي :
ـ اخلع نعليك وتمدد علي هذا السرير !
هو :
= ماذا ؟!
هي :
ـ لا تسيء الظن : ، سأفعل معك كما يفعل أطباء النفس !
هو :
= ناهضا ، وخالعا نعليه ، وفاردا جسمه علي السرير .
= ولكنني أريد أن أتوسد رجليك ، أو أن أدفن رأسي في صدرك وأفضفض .
هي :
ـ دعك من الشقاوة . وتذكر أنني طبيبتك . هل تستطيع أن تفعل هذا مع طبيبتك ؟
هو :
= حين أتوسد رجليك ، قد انكمش وأعود طفلا .. و..
هي " مخرجة أوراقا وقلما ، وتلبس نظارة طبية " :
ـ ها أنذا الطبيبة ! ، تخيل انني الطبيبة ، احك ، فضفض ؟، بح ؟ تفضل .. أوه ـ تصور أنني نسيت أن أحضر لك المشروب .
هو :
= دعك من المشروب ، فإما أن تسقيني من شهد رضا بك أو تأتيني بخمر
هي :
ـ سآتيك بخمر ، فالخمر أرحم من الذى تطلبه !
[ تعود بعد قليل بزجاجة خمر معتقة ، وثلج ، وكأسين ، وتصب له كأسا تلو كأس ..]
هو " وفي ذهنه من البداية ألا يغادر منطقة البين بين ، وأن يظل في المنطقة الفاصلة بين الوعي واللاوعي " :
= أراني !!
هي " فرحة " :
ـ ماذا تراك ؟!
هو " مغمض العينين " :
= أراني ، طفلا صغيرا .
هي :
ـ استرسل ؟ ..استرسل يا دكتور ..
" وتصب له كأسا "
هو :
= ولدت في قرية صغيرة ، لأب كان يعمل كلافا !
هي " في نفسها " :
ـ كلافا !
"وتصب له كأسا تلو الأخر .. "
هو :
= كان يعمل كلاّفاً عند أسرة تنحدر من سلالة عربية ، ذات حسب ونسب
" ويضحك " :
= وطبعا كل الأسر العربية من نسل طاهر !..و..
هي:
ـ وماذا بعد يا دكتور .
هو : " وهو يدفع بما تبقي في الكأس في جوفه " :
= وانحسرت حياة أبي في زرائبهم واسطبلاتهم ، لا يغادرها إلا ساعات قليلة ، يأتينا فيها آخر الليل ، كان راضيا ، وقانعا ، خادما أمينا ، لم يتطلع يوما إلى ما منّ الله به علي مخدومه من خير وفير ورزق كثير .
قبل أن يغادر فراشه كل صباح ، يقبل باطن كفه وظهره ، ويحمد الله ويستغفره " ويضحك " .
ويستغفر من ذنب لم يقترفه ، ومن ذنب قد يقترفه ولن يقترفه أبدا ..
كنت وهند وحيدين بعد موت أمي ، يأخذني في كل صباح من يدي لأساعده ، نطعم البهائم ، ونسقيها ، كنت علي صغرى أسوق ثلاثة حمير ، يحملني إياها بالروث ، ويوصيني ألا أنشغل في الطريق باللعب ، ويحذرني من وقوع " السباخ " علي الأرض أو انحراف الحمير عن مسارها ، " وتُجرِد " في أراضي الجيران ، فتتلف زراعتهم ونقترف إثما .
" تصب له كأسا .."
ـ عندما طلبت الست الكبيرة " هند " للخدمة في البيت الكبير مجاملة لأبي ، ولتقيه عناء همها ، وانشغاله عليها ، ولتكون تحت بصره ، راوغ ، ولم يكن أبدا مراوغاً ، وتعلل بصغر سنها ، وضعف جسمها ، ومرضها ، وما كانت ضعيفة ، ولا عرف المرض الذى يجتث أطفال القرية الغلابة طريقة إليها .
لماذا ناورت ، وراوغت ، وكذبت يا أبي ؟ ..
هل كنت تعلم أن ابنتك ..؟! .. فعصمتها من الخدمة في البيت الكبير ، وأقصي أماني بنات القرية ، أن يخدمن فيه حتى لا يفترس العمل في الحقول جمالهن .. وعلي صغرهن ينهد حيلهن ، ويذبلن وهن في عمر الزهور .
من يدرى ؟ !
.. قد يظن الكثيرون ـ أن الناس الغلابة ـ بينهم وبين الله مسافة بعيدة ، وان الله قريب فقط من الأثرياء والوجهاء .. " ويضحك فتناوله كأسا .."
الوجهاء ! .. الوجهاء!..
الوجهاء يسكنون .. ، الوجهاء يأكلون .. الوجهاء .. الوجهاء .. الوجهاء ـ في الصفوف الأولي في المساجد ! ، وكأنها محجوزة لهم ، وعلي مقاعد الصدارة في سرادقات الأفراح ! ، والعزاء!، يفسحون لهم الطريق إذا ساروا !.. حتى لا تقع عينهم علي قبيح .
لا أذكر ـ حين كنت أصلي ، أن تجرأ فقير، ودخل المسجد ، وتخطي الرقاب ! ، وجلس في الصفوف الأولى !!.
أحيانا يكون المسجد خالي من المصلين ، ولكنه أبدا لا يتجرأ علي التقدم إلي الأمام ، يختار مكانا في مؤخرة المسجد ، وينوى الصلاة ، وإذا فرغ من أداء الفرض ، يتلفت يمينا ويتلفت يسارا ، وكاللص يتقدم بحذر خطوة ، خطوة واحدة ليصلي السنة ، فإذا رجع هذه الخطوة للخلف فمن المؤكد عند الركوع أو السجود .. ستصطدم مؤخرته بالجدار ، وإذا ازدحم المسجد يوم الجمعة بالمصلين ، يخرج الأجراء والبسطاء من المسجد ، ويتراصوا خارجه ، فالأرض لهم فقط " مسجدا وطهورا " !!
" تلاحقه بكأس .."
ـ الولد ابن الشيخ ـ شيخ القبيلة ، وقع في هوى هند ، وهند بنت فلاحة . بنت الكلاف أسرت عقله ، واستعمرت قلبه ، انشغل بها عن بنت العم ، بنت الحسب والنسب .
" لحظة صمت "
ـ جيء بأبي ، علقوه من قدميه في سقف الغرفة ، وظلوا يضربونه بالخيزران بقسوة ، حتى شحب جسده بالدم ، وكووه بالنار . فالولد ـ ابن الحسب والنسب ، حزم أمتعته وبرح مع البنت هند في القرية ، فأرض الله واسعة .
الويل لكم كل الويل يا أهل هند الفقراء ، قالها الشيخ ـ لساكني العشش وألأكواخ الحقيرة التي أشعلوا فيها النيران .
" لا تدرى إن كان يضحك أو يبكي ، اختلط الضحك بالبكاء ، صبت له كأسا ، دفعة في
جوفه مرة واحدة .."
ـ شق صراخ النساء ، وبكاء الصبية الليل ، ولم يرحم الرجل ، شيخ القبيلة يتيما ولا أرملة ، عجوزا أو طفلا !
" ينكمش علي السرير ، وينكمش ، ويضع يديه بين فخديه .. "
وقال الرجل الشيخ ـ قد تصير سُنة عند الفلاحات الحقيرات ، يغوين الواحدة تلو أخرى سباب القبيلة .
" وأضاف مطوحا بعصاه الأبنوس في الهواء " :
ـ ومن يدرى .. قد يتجرأ فلاح في قادم الأيام علي إغواء فتاة من فتياتنا ، ونظر إلي .. وقال هاتوا هذا الولد ، وأخذوني ، وضعوا علي عيني عصابة ..و..
"يضع يده بين فخديه ، ويصرخ :
ـ لا..، لا..
هي " تناوله كأسا " :
ـ وماذا فعلوا بهند يا دكتور ؟
هو :
= طلب من شباب القبيلة أن يطاردهما في المدن وفي القرى ، وفي الحوارى وفي الأزقة ، وفي البحار ، وفي الصحارى .. يجب أن يدركوهما ولو كانا في بطن الحوت " يبتسم " :
ـ هند ، هند شقيقتي الوحيدة ، لا تفارقني ، كانت تكبرني بعشر سنين ، كان بينى وبينها خمس بطون ماتوا ، قليل من الأطفال كانوا يعيشون !
بنت فلاحة ، تحيك الثوب ، وتطعم الطير ، وتكنس الدار ، وتربى الماشية ، عفية كالمهرة ، وسامقة كالنخلة ، ذات عينين سوداويين وشعر أسود فاحم ، هل بارك أبى حب محمد لها ؟!.. لا أظن ، ولكننى متأكد أنه طلبها على شرع الله وسنة نبيه ، وبالتأكيد أبى أمهله ولم يعطه ردا حتى يقنع أهله وعشيرته ، وبالتأكيد كان يعلم أنه المستحيل ! .. ألهذا يا أبى ، ناورت ، وراوغت ، وكذبت ، ورفضت ، أن تخدم هند فى البيت الكبير ، هل أنا أجوب القرى المدن وأجوس خلال الديار ، كل الديار ، بحثا عن مواهب أو بحثا عن هند .
بالتأكيد محمد يعيش باسم غير اسمه ، وهند تعيش باسم غير اسمها ..
" علا نحيبه ، وانهمرت دموعه "
" جففت دمعه بمنديل ومسحت رأسه ، وهزته "
" استفاق ، ونهض قائلا وهو يردد " :
ـ هند .. هند .
هى " مبتسمة وقائلة " :
ـ اهدأ ..؟! اهدأ يا دكتور ؟! .. من هند ؟!
هو " ناظرا حواليه " :
= أنا قلت هند ؟
" مبتسما "
ـ هند وما هند إلا مهرة عربية
سليلة أفراس تزوجها بغل
هى " فى نفسها " :
ـ مهرة عربية ، وسليلة أفراس يا بن الكلاف !
هل تقرض الشعر يا دكتور ؟
هو :
= أبدا .. أنا فقط أردد ما قالته هند – عندما أخذها الحجاج عنوة وأرغم زوجها على تطليقها وتزوجها !
[ 5 ]
هو " ما شيا بجوارها بحديقة الفيلا " :
= المنظر هنا ، رائع وجميل .
هى " تشير إليه بالجلوس ، حيث بضع كراسى فى ظلال الأشجار ، وبين أحواض الزهور "
ـ المكان هنا أهدأ ، وأروع حين تستقبل الغروب .
هو " نافخا " :
= الحياة فى القاهرة خانقة ، وأصبحت لا تطاق .
كم أتوق لأن أرتمي فى أحضان الطبيعة ، وأعود من جديد لأستقبل الشمس وهى تشرق ، وتبدد مساحات العتمة ، ونسمات الفجر الندية ،..
هى " مقاطعة وضاحكة " :
ـ ها هى الطبيعة ، أرتم فى أحضانها كيف تشاء ؟!
هو " ضاحكا " :
= أنت الطبيعة .
" ويفتح ذراعيه "
ـ دعينى أرتمي ؟!
هى :
ـ أنت " شقى أوى " يا دكتور
هو " متنهداً " :
= أنا فعلا شقى ، فالشقاء أنا .
هى :
ـ حيرتنى !
والله حيرتنى . حينما أتحدث معك وأنا أقصد ظاهر اللفظ ودلالته المباشرة ، تأخذ أنت ما يستتر خلف اللفظ.
" وضاحكة "
ـ أنا لن أتحدث معك إلا بعد أن أقرأ كل كتب البلاغة والفصاحة وما تتضمنه من كناية ، واستعارة ومجاز وتمثيل .
" وواضعة يدها علي فمها " :
ـ وها أنا قد لزمت الصمت .
هو " ضاحكا وناظرا ليدها التي وارت فمها ، ولعينيها الباسمتين " :
= في صمتك فصاحة وبلاغة ، و..
هي " مقاطعة ، وناهضة برقة " :
ـ أفضل شيء أفعله الآن ـ أن أنسحب ، وأتركك تستمتع بهذا الجو ، وأصنع لك فنجان قهوة .
[ راح يتأمل ظهرها ، وفخذيها ، وهي تسير الهويني ، تداعب بيدها أغصان الأشجار ـ
التي دنت وتدلت وكانت قاب قوسين أو ادني من متناول يدها ..
ابتلع ريقه ، ريثما ابتلعتها الفيلا ، ونهض واقفا ، يسير بخطوات وئيدة بين أحواض
الزهور . وفي نهاية الممشى ، وفي ركن قص من أركان الحديقة ، لصق ظهر الفيلا تماما
، لفت انتباهه مبني ، ارتفاعه لا يتجاوز المترين ، بارتفاع سور الحديقة ، وبطول
عشرين مترا تقريبا ، وعرض ستة أمتار ، له باب حديدى ضخم ، أسود اللون ، علي
مقربة منه كومة من السباخ ]
تسلق جدران المبني أشجار الياسمين ، ونباتات أخرى كثيرة ، افترشت سقف المبني . دفع الباب ، ليجد المبني مقسما الي غرفتين ..باب الغرفة الأولي مفتوح ، ضيقة هي الغرفة الأولي ، وباب الغرفة الأخرى موصد ، احتلت المساحة الأكبر .
ولج إلى الغرفة المفتوحة ، وراح يتفحص محتوياتها ، سرير حديدى قديم تعلوه مرتبة إسفنجية ، وملاءة رخيصة متسخة ، ووسادة كالحة اللون ، وعلي الحائط دقت مسامير معلق عليها ملابس فلاح .
وفي جانب الغرفة مقطف وفأس وكوريك ، وأجولة قديمة ، وخرطوم ماء ، ودلو ماء ، وسخان كهربائي يعلوه براد قديم صدئ ، وكوبان فارغان متربان ، وبرطمان مملوء بالسكر ، وأخر أصغر حجما يشغل الشاى الخشن نصف حجمه ، وقلة ماء .
وقف في منتصف الغرفة ، وكادت رأسه تلامس السقف ، لا يدرى لماذا تذكر علي التو ـ بينهم الواطئ القديم ، المصنوع من الصين اللبن ، وتذكر أبوة ، وأمه ، وأخته ، وشيخ القبيلة ، الست الكبيرة زوجة الشيخ ، ومحمد ابن الشيخ .
شعر بأن الأرض تدور به ، كاد أن يغشي عليه ، جلس علي السرير ، تتراءى له الصور ، وتترى علي ذهنه الذكريات ..
وجد نفسه يخلع ملابسه ، يعلقها علي مسمار بالحائط ، ويرتدى ملابس الفلاح المعلقة علي الجدار ، وينتعل حذائه القديم ، ويحشر طاقيته في رأسه . يتلمس الفأس ، يتحسس يدها الخشبية ، يتناولها ، يعلقها علي كتفه ، ويمضي ، وفي يده " القلة " ، يقف أمام كومة السباخ ، بتأملها ، يضع الفأس علي الأرض ، يتفل في يده ، يمسك بيد الفأس الخشبية ، ويرفعها لأعلي ، ويهوى بها علي كومة السباخ ، طرقات منتظمة ، وحمحمة منتظمة تخرج من جوفه مع الطرقات ، يتمثل والده ، والعرق يرشح من جسمه .
صغيراً يرى نفسه ، تعود إليه رائحة عرق أبية ، ورائحة السباخ ، وأبقار الشيخ ، وجاموسة ، وخرافه ،ونعاجه ، وتيوسه ، وأسراب البط والدجاج والاوز ..
" مدام نجوى حاملة صينية يعلوها فنجانا قهوة .."
" تمسح بعينها الحديقة ..تنادى " :
ـ دكتور .. دكتور .. يا دكتور ؟!
" تندهش "
ـ عم سعيد ، أنت جئت يا عم سعيد .
" تقترب منه "
ـ ألم تر الدكتور ؟!
الفأس في يده تعلو وتهبط ، يعملها في كومة السباخ ، أصداء ارتطام الفأس ، والحمحمة
، ورائحة السباخ والعرق .
مدام نجوى :
ـ عم سعيد ، ألا تسمعني ؟! .. ألم ترى الدكتور ؟!
" متوقفا عن العمل ، وواقفا ، يمسح عرقه بكم جلبابه ، تشهق ، تهتز يدها ، تسقط
القهوة علي الأرض .."
ـ ماذا تفعل يا مجنون ؟!
" ضاربة كفا بكف ، ومستلقية من الضحك ؟!"
" يرفع " القلة " إلى أعلي ، يكب الماء في فمه ، تصعد حنجرته وتهبط مع ولوج الماء إلى
بلعومه، تنتفخ عروق رقبته ، يتكرع ..
= من قال : أن الماء عديم اللون والطعم والرائحة ؟!
"مازالت تضرب كفا بكف ، تضحك ، ضحكا متواصلا ، وكلما نظرت إليه ازدادت
ضحكا "
" دمعت عيناها من الضحك ، وهي تشير إلى وجهه ، الذى التصق به فتات السباخ ،
وتناثر حول رقبته وشعر رأسه الذى لم تخفه الطاقية وبدا أشعث ، أغبر ، متربا ،
أفزعها أن ترى باطني كفيه قد امتلأتا بالبثور ، وانتفخ جلدها كبالونات ، وفقاقيع
صغيرة ، انفجرت بعضها ، ونزت دماً ، امتعضت ، وجرته من يدها ـ وجرت إلى
حنفية الماء القريبة ، فتحت صنبور الماء ، وراحت تغسل له يده . وفي تلك اللحظة كان
يقف هناك أمام باب الفيلا ينادى :
* مدام نجوى .. يا مدام نجوى
الدكتور :
= هناك من ينادى
مدام نجوى :
ـ إنه سامي
ـ تعال يا سامي . أنا هنا بالحديقة
سامي " حاملا حقيبة جلدية منتفخة " :
* قالوا لي في الشركة أنك لم تحضرى اليوم .
خيراً يا ست الكل .
مدام نجوى :
ـ خيرا يا سامي .
سامي " ناظرا للدكتور ، وقائلا لمدام نجوى " :
*جناينى جديد ، حسنا فعلت ، أنا لا أعرف ما الذى كان يدعوك إلى التمسك برجل مثل عم سعيد .
مدام نجوى " مقاطعة " :
ـ الموضوع ليس كما فهمت الحكاية ..
الدكتور " مقاطعا " :
= نعم .. أنا الجناينى الجديد .
" لحظة صمت "
ثم قاطعا الصمت :
= ومهمتك يا بطل أن تبلغ عم سعيد بأن الهانم استغنت عن خدماته ، فأنت تعلم أن ست الكل ...
سامى " مقاطعا " :
*أعلم أن ست الكل لا تحب أن تقطع عيش أحد ، وكان يمكنها بعد المرحوم أن تتخلص من نصف العمال لو أرادت .
مدام نجوى ناظرة للدكتور بدهشة واستغراب ، يغمز لها الدكتور بطرف عينه " :
مدام نجوى " بالإنجليزية " :
ـ " أوكيه " سامى ، أفعل ما أمرك به الدكتور ؟
سامى " ناظرا حواليه " :
*دكتور !
الدكتور " متداركا " :
= نعم ياسيدى .. أنا الدكتور ، يطلقون على لقب الدكتور لمهارتى فى زراعة وتنسيق الحدائق ، وخبرتى الطويلة التى اكتسبتها من العمل فى حدائق الناس البشوات .
سامى " هازا رأسه " :
*ممكن !!.. لكن ألا ترى معى بأن لقب باش مهندس أليق بك وبعملك من لقب الدكتور ؟!
الدكتور " ضاحكا " :
= ياسيدى ، لا تدقق ، باش مهندس ! ، دكتور ! ، معلم ، كلها ألقاب !
سامى :
* صدقت
سامى " ناظرا للدكتور " :
* لكننى لم أتشرف بمعرفتك بعد !
الدكتور :
= أخوك سليمان ، سليمان أبو عطية .
سامى " متفحصا الدكتور من رأسه إلى قدميه " :
* لكن يبدو أنك لست من أهل الشقاء .
الدكتور " ضاحكا " :
= ماذا تقصد ؟!
سامى :
* شكلك يقول أنك ..
الدكتور " ضاحكا " :
= نصاب ؟!
سامى :
* أستغفر الله ، لكن وجهك المدور ، اللامع ، لا أثر للشمس عليه ،ينز دهناً وسمناً ، هاها .. هاها .. وذقنك الحليق ، وأذناك ، وشعرك البارز من الطاقية ، قفاك العريض الحليق ، وزند رقبتك الممتلئ ، وعظام صدرك المكسوة باللحم ، ويدك البضة ، الطرية ، الناعمة ، و.. لا مؤاخذة ....
مدام نجوى " نافخة بغيظ " :
ـ ماذا جرى لك يا سامى ؟
هات ورقة وقلم ، وافتح له محضرا ، ما شأنك أنت به ؟
هو الجناينى عندك فلاح قرارى ؟!.. أعترف أننا ظلمنا الجناينية . باختيارنا لواحد مثل عم سعيد ، عم سعيد .
أصبح عندك أنت وأمثالك هو النموذج الذى يقاس عليه ، ونسيت أنها مهنة تحتاج إلى علم وفن ودراسة .
سامى " مثأثئا " :
* أ ..أ .. ن ..ا .. أ .. ن .. ا..
مدام نجوى :
ـ أنت تدس أنفك فيما لا يخصك ولا يعنيك .
الدكتور " متدخلا " :
= يا هانم .. لا داعى للعصبية ، فالأخ سامى معذور ، لم يرنى من قبل ، ويريد أن يطمئن أنك لم تقعى فى شرك نصاب .
" وناظرا لسامى " :
= اطمئن يا أخ سامى ، أنا لست غاضبا منك ، بل أغبط حرصك على مصلحة الهانم ، وخوفك عليها ، وتأكد أننى لن أقل عنك حرصا على مصلحتها وخوفا عليها ، وستثبت لك الأيام صدق قولى .
الدكتور " محاولا الانسحاب إلى غرفته " :
= اسمحي لى بالانصراف إلى غرفتى ، فأنا مجهد ، وأحتاج إلى بعض الراحة .. كما أنكما تحتاجان للحديث فى أمور العمل .
مدام نجوى :
ـ ابق معنا ، نحن لن نتحدث فى أسرار ، وغرفتك تحتاج إلى ..
الدكتور" مقاطعا " :
= دعينى أنظفها ، وأرتبها بنفسى ، ..
بإذنك يا هانم
" وملتفتا إلى سامى " :
= أراك على خير يا أخ سامى .
" مدام نجوى لازمة الصمت ، وقد تغير لون وجهها ، وهى تشيع الدكتور الذى ابتلعته
الغرفة .."
كانت الشمس مائلة فى الأفق ، وتبدو من خلف الأشجار العالية كرة صغيرة حمراء .
مدام نجوى :
ـ اجلس يا سامى ، وهات ، ما عندك ؟!
سامى " فاتحا حقيبته الجلدية المنتفخة ، ومخرجا بعض الأوراق " :
وبصوت هامس :
* فى هذه الأوراق تقارير مفصلة عن شركة ( ....) ، كيف تدار ، وعدد العاملين بها ، وتخصص كل موظف ، وعمره ، وحالته الاجتماعية ، حتى أوصافه الجسدية من حيث الطول والقصر ، النحافة والسمنة ، حتى لون الشعر والعينين
" مدام نجوى تفر فى الأوراق وهى مبتسمة "
" الدكتور يحاول أن يتابع بأذنيه من غرفته الحديث ، بصعوبة تلتقط أذناه بعض
الكلمات "
مدام نجوى :
ـ كانت المهمة شاقة ، أليس كذلك ؟!
سامى :
* أبدا ، لم تكن المهمة صعبة أو مستفرية ، فكثيرا ما كنا نقوم بهذه المهام الاستخباراتية أيام المرحوم .
هى :
ـ نعم .. نعم .. رحمة الله عليه .
هو :
= كان المرحوم قبل أن يتورط مع العميل ، أو حين يريد أن يورط المنافس أو يوقعه فى حفرة أو مطب ، يكلفنى على رأس فريق كامل للانتشار ، والسؤال عن العميل أو المنافس ، والوقوف على أحواله المالية ، ومدى أمانته أو التزامه ، وصدقه أو كذبه ، نعرف نقاط ضعفه ، ونقاط قوته ، و.. ، و ...
مدام نجوى :
ـ لكن الأمر هنا ...
سامى " مقاطعا ":
* الأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة للذين يعملون معنا ، فالمطلوب منهم يؤدونه ، فهو عملهم الذى يؤجرون عليه ويقتاتون منه .
مدام نجوى :
ـ بالمناسبة ، ماذا فعلتم مع الموظف الذى ادعى الشرف ورفض التوقيع .
سامى ضاحكا :
* تخلصنا منه .
مدام نجوى :
ـ إياك أن تكون ..
سامى :
* لا .. المسألة لم تصل إلى هذا الحد .
مدام نجوى :
ـ زدني وضوحاً ؟
سامى :
* أبدا – مدير المصلحة التى يعمل بها كان يحتاج إلى مكتب فخم بدلا من المكتب المتهالك ، وكرسى " دوار " يلف به يمينا ويسارا ، ونتيجة حائط ، وأجندة ، ومقلمة ، وقلم شيك .
مدام نجوى " ضاحكة " :
ـ والله – ما توقعت أن يكون ثمنه بخسا لهذه الدرجة .
سامى " ضاحكا " :
= هذا ثمن باهظ بالنسبة لموظف حكومة درجة ثالثة !
مدام نجوى :
ـ والنتيجة ؟
سامى :
* نقل للعمل فى الصعيد ، أحراش الصعيد !
مدام نجوى " ضاحكة " :
ـ والله " برافو " عليك ، أنت تلميذ المرحوم صح .
سامى :
= قولى لى ماذا فعلت أنت مع مدير البنك الجديد ؟
مدام نجوى :
ـ ..........
سامى " ضاحكا " :
* وأصبح مثل الخاتم فى ..
مدام نجوى :
ـ هئ هئ .. هئ هئ ..
سامى :
* ............
مدام نجوى :
ـ ...............
سامى " يلملم الأوراق ، ويضعها فى الحقيبة " :
* بالإذن يا هانم
مدام نجوى :
ـ رافقتك السلامة يا سامى .
" الدكتور فى غرفته ، فأردا جسمه على السرير المتهالك والمترب ، بلباس الفلاح القديم
البالى ، مغمضا عينيه "
" مدام نجوى – تسير نحو الغرفة ، يسوءها أن ترى الدكتور ممددا على الفراش القذر
المترب "
مدام نجوى :
ـ دكتور ، دكتور
هو " وكأنه مغيب ، وكأن صوته قادم من عالم آخر " :
= أنا لست دكتورا !
هى " ضاحكة " :
ـ إذا لم تكن دكتورا – فأنت ماذا ؟!
هو :
= أنا البستانى !
هى " ضاحكة " :
ـ البستانى !!
هو :
= نعم .. أنا البستانى ، وأنت الست كوثر .
هى :
ـ يبدو أنك تقمصت شخصية البستانى ، وعجبك أداء الدور . وأنا الست كوثر ؟!
هو :
= نعم .. أنت الست كوثر ، والمرحوم زوجك سيدي ...
" ينقلب على جنبه الأيمن ، ويوليها ظهره ، ووجه للحائط ، وكلتا يديه بين فخذيه "
" تقترب من السرير تجلس على حافته ، تتحسس يدها رأسه "
هى :
ـ دكتور ، دكتور .
هو :
= أرجوك ، لا تنطقيها مرة أخرى ، أنا لست دكتورا .
هى :
ـ سأفترض أنك لست دكتورا . وأنك فعلا البستانى .
من فضلك . هيا . انهض معى لتنزع تلك الملابس البالية القذرة عن جسدك ، ولتأخذ حماما دافئا .. و . .
هو :
= من فضلك ، تلك الغرفة غرفتى ، وفيها راحتى ، إنها تعيدنى إلى ..
" صوت من الخارج "
** مدام نجوى ، يامدام نجوى .
هو :
= امضى إلى ضيوفك ودعينى .
هى :
ـ لا يمكن أن أوافقك على هذا الجنون ، وعموما أنا لا أنتظر أحد.
" مدام نجوى .. يا مدام نجوى .. "
هو :
= صاحب الصوت يستعجلك .
" مدام نجوى .. يا مدام نجوى .. "
هو :
= اذهبى .. اذهبى إليه من فضلك
مدام نجوى " تنهض ":
ـ لحظات وأعود إليك ، أرجو أن تكون قد تخلصت من هذه الأفكار المجنونة .
" بعد قليل ، تعود مدام نجوى ، تسوق أمامها جديين ، وخروفين "
" ينهض على أصواتها ، يبش فى وجهها ، يهدهدها ، يربت عليها ، يدلك رؤوسها ،
ويناغيها ، تستكين ، تهدأ ثورتها ، تندهش مدام نجوى .
" يصر على المبيت معها فى الغرفة "
[ 6 ]
فى منتصف الليل تماما ، تفتح عليه الباب ، وتدخل ، لتجده ، مرتديا " الشورت " فقط ، ومستلقيا على السرير ، ويغط فى نوم عميق ، ويتصبب جسده بالعرق . تتأمل جسده العارى ، وتبتلع ريقها وتقول فى نفسها :
هي :
ـ ما شاء الله.
" وتمرر يدها على جسده "
" فزعا ينهض "
= من ؟!
هى :
ـ لا تنزعج . أنا نجوى .
" ممسكا بفوطة ، ومنشفا عرقه ، ويتناول قميصه المعلق على مسمار بالحائط ويرتديه
على عجل "
ـ نمت . كما لم أنم من قبل .
" تنظر إلى الجداء والخراف الراقدة حول السرير . لا تحرك ساكنا "
هى :
ـ هل تصر على أن تكمل ليلتك هنا .
هو :
= نعم . هنا راحتى
" تنظر إلى جسده العارى ، تقترب منه تهمس " :
ـ هناك . فى الفيلا . أعددت لك ، غرفة نوم فاخرة .
" همّ أن ينطق ، وضعت سبابتها على شفتيه " :
= تك . تك .. لا تتكلم قبل أن تراها . غرفة أسطورية
" تسمر مكانه ، ولم يتحرك "
قالت :
ـ لا بأس . فأنا مثلك . كرهت الفراش الوثير ، و ..
" منسحبة بدلال وخفة ، ومعلقة خلفها الباب "
" تعود بعد قليل تحمل " صينية " عليها أنواع مختلفة من اللحوم ، وخمور ،
ومسليات "
هو :
= كل هذا الأكل لى ! ماذا تظنينني ؟!
هى :
ـ ولى أيضا .
هو :
= وهل تتنازل سيدتى وتأكل معى .
هى " ضاحكة " :
ـ مازلت مُصرّاً على أنك البستانى . وليكن أنك البستانى .
" وقائلة بنعومة " :
ـ لماذا لا تكون أنت الليلة السيد ؟!
هو " مثأثئا " :
= أ .. أ .. ن .. ا .. أنا الليلة السيد !
هى " تدس فى فمه شطيرة لحم " :
" وتمرر يدها على جسده العارى "
" كأنها تخاطب نفسها "
ـ ما أفسح صدره ، وما أجمل جسده.
هو " مطأطئأ رأسه إلى الأرض "
هى " مطوقة رقبته بيدها وضاحكة " :
ـ أتمثل الخجل ؟!
ـ أين اللواتى اعتمدتهن ؟!
و...
هو :
= أنت سيدتى .. وا .. أنا ..
هى :
ـ لا تندمج " أوى " فى تمثيل الدور . قلت أنت الليلة السيد وتطبع قبله على شفتيه ، وتمسك بيده .
هيا .. تعال .. انهض
" يقوم معها " :
= لى أين ؟!
هى :
ـ لا تخف . على بُعد خطوات من هذه الغرفة ستعرف . تطوق خصره بيدها ، وتسير عبر طرقة صغيرة إلى غرفة واسعة تضيء النور .
ـ تفضل .
هو " مرتجفا . وكاد أن يصرخ ويجرى "
هى " ممسكة بيده وضاحكة "
ـ تعال .. لا تخف .
هو :
= ما هذا ؟
هى :
ـ كما ترى .
هو :
= مقابر !
هى :
ـ هيا كل مقابر ، وليست مقابر .
هو :
= وهل الحب يمارس هنا .
هى :
ـ نعم .
هو :
= ما هذا المزاج الغريب ؟ .. حب فى المقابر ، أعرف أن الحب يمارس فى غرف وثيرة وجميلة ومغلقة ، فى أحواض زهور أو فى حدائق جميلة كما فى أوربا مثلا
هي :
ـ ويمارس أحيانا في خرابات ، في حمامات ، في .. وفي ..
هو :
= هل تعرفين أنني ..
هي " مقاطعة " :
ـ أعرف أنك داهية ، و..
هو :
= فى الحقيقة إننى ..
هى " مقتربة منه ، ونازعة الروب ، لتبدو فى قميص نومها القصير الشفاف – امرأة ، متوهجة ، مكتملة الأنوثة ، تدلك بيدها شعره وتمرر فمها وأنفاسها على شفتيه وأنفه وفمه ، تفك له أزرار القميص ، وتسحب الشورت ، تعلو دقات قلبه وتهبط ، تقبض بيدها على ... ، يبدو فى يدها كقطعة رخوة من عجين ، تنزعج ، وتفرط يدها ، تبتعد عنه ، وتتصلب واقفة ، ناظرة له بدهشة وغضب ، وهو يجرى ، منزويا فى جانب الغرفة ، قابضا على .. بكلتا يديه .. ضاحكة بهستريا .
ـ أنت ..
" هازا رأسه ومطأطأ رأسه "
= نعم .. نعم ..
قائلة بضيق وغضب :
ـ كيف ؟!
هو " مثأثئا ومتهتها " :
هى " مرتدية الروب " وبحسم :
ـ ارتد ملابسك ؟!
هو : " مرتديا ملابسه ":
= أسف يا سيدتى .. كان بودى أن ..
هى :
ـ هئ هئ .. هئ هئ .. لا بأس . لا بأس . وباكية .. تختلط الدموع بالابتسامات والضحك بالبكاء .. وتحدث نفسها :
معقول هذا الجسد الجميل ، القوى ، غير قادر على .. ، .. " ناظرة له "
ـ ثم ما هذا " الفشر " ؟!
وضاحكة " وتقلده فى صوته وحركاته " :
ـ آلاف النساء التقيت بهن ، سمراوات ، وشقراوات ، بدينات ، ونحيفات ، مصريات ، وأوروبيات ، خليجيات ، وأفريقيات ، و.. ، .. تحتضن الهواء .
انظري ! .. هذا القميص !
" وتشد نفسا عميقا "
مازالت رائحتها فيه ، أنوثتها تخللت نسيجه وصارت من مكوناته .
آه – كانت ليلة .. هئ هئ .. هئ هئ ..
" تجلس على حصيرة متآكلة بجوار فوهة المقبرة ، ممسكة بزجاجة الخمر ، وتدفع الخمر من فوهة الزجاجة إلى جوفها مباشرة ، تتطوح قليلا وهى جالسة ، تنادى عليه .
ـ تعال . تعال يا مسكين ، تعال .. تعال يا " أبو لمعة " اجلس بجوارى ، واحك لى ، واسمع منى .
ـ اشرب ؟!
" تقرب الزجاجة من فمه "
ـ احك .. احك يا أبو لمعة ، بدون كذب ، مكسوف ، معلش ، أحكي أنا .
ـ كنا نعيش فى المقابر ، بعيدا عن القرية – أظنك تعرف .. أليس كذلك ؟! . المهم لما نمت أثدائي ، ونعم صوتى ، وكبرت أردافى ، التفت لى بعض شباب القرية ، كانوا يطاردوننى بالكلام المعسول ، كنت أفرح به ويطير النوم من عينى ، وطوال الليل ، أسترجع كلماتهم ، الهامسة أحيانا والصريحة أحيانا أخرى ، فى جسدى ، وعيني ، وشفتى ، وصدرى .. كانوا يحومون حول المقابر بالنهار ، ويمطروننى بعبارات الغزل وجمل الهيام .
كان لكل بنت فى المدرسة حبيب ، يداعب أنوثتها ، وأحلامها ، كنت أحلم بفارس ، يأتى ، على جواد أبيض ، يأخذنى خلفه ، ويطير بي ، فوق السحاب ، يسكنى على سطح القمر ، أو فى أى كوكب آخر ، ينتشلنى من الفقر ، والمقابر ، والأموات ، وشباب القرية التى تحولت كلماتهم إلى رصاصات ، فتجرأت أياديهم على صدرى ، وعلى خصرى فى الطريق ، يتحلقون حولى ، وأشعر بعشرات الأيادي تمتد لتستبيح جسدى ، أصرخ ، والطريق إلى المقابر ، غالبا ما يكون خال من المارة .
أحفن بيدى التراب ، وألقيه فى أعينهم ، وأقبض على الطوب والأحجار ، وأحدفهم وأنا أجرى ، وأصرخ ، ويتناهى إلى مسامعى سبابهم ، ومعايرتهم لى بأبى وأمي .
كنت أدعو عليهم بالموت ، ليأتوا لنا فى المقابر ، فأنتقم منهم ، كنت أشكو لآبائهم أو أمهاتهم أو أعمامهم أو أخوالهم – الذين ماتوا !!.. كنت أتمنى أن يأتوا ويدفنوا ، فأنبش عنهم المقابر ، فأفقأ عيونهم النهمة ، وأقطع ألسنتهم التى ترجمنى ، وأبتر أرجلهم التى تركلنى ، وأياديهم التى تمتد إلى صدرى وخصرى ، ولا أنسى أبداً ذلك الولد العفى ، الذى باغتنى وأنا عائدة ، وخرج من غيطان الأذرة ، وكتم فمى بيده ، ولوى ذراعى ، وحملنى ودخل بي متدثرا بعيد أن الأذرة الفارغة ، وطرحنى أرضا ، وبرك فوقى ، أحسست به كجبل ، مزق قميصى ، وجذب سروالى ، و " سلت " بنطاله ، وبكل ما أوتيت من قوة رحت أقاومه ، لم أستطع أن " أتعتعه " . كان مثل الثور الهائج ، لا يحس بنبش أظفارى ولا بأسنانى المغروسة فى لحمه .
ولما قضى حاجته . إذ بقوته تخور ، وبجسده يخمد ، وبكل ما أوتيت من عزم و قوة دفعته بساقى ، فوقع على الأرض على ظهره ، ونهضت صارخة ، ألملم ملابسى ، وأمسح عرقى ، وأبصق فى وجهه ،وعدوت منهارة ، وهو لم يزل نائما ، مهدودا ، مثل العجل ، يرمقنى بابتسامة بلهاء !
" وتدفع بزجاجة الخمر إلى فمها ، وتضحك ... "
ـ وظلت صورته لا تفارقنى ، يأتينى كثيرا فى النوم ، ولكنى لا أقاومه أبدا ، كان يشبعنى فى الحلم لما توقف بهاء عن إشباعى ، انشغل بالمال والتجارة ، ويئس منى ، ومن نفسه ، كان يحلم بولد يرثه ، وكنت أحلم بعشرة أولاد ، بل عشرين ، ذكورا وإناثا ، طفنا على كل الأطباء . حتى السحرة قالوا لا فائدة مني ولا منه.
كل هذه الثروة من يرثها ؟!
ـ الرجل الكفيف والمرأة العجفاء ! أظنهما ماتا ! لم أرهما منذ أن غادرت القرية ، حتى لو كانا حيين ، فماذا يفعلان بها ؟! .. اتفقنا . بهاء وأنا على أن نعطى ظهرينا للماضى ، ونسد كل الطرق إليه ، وخلعنا إسمينا ، وجذورنا الهشة ، وبدأنا المسيرة ، كنا نعرف أن الزمن الآتي زمننا ، وأن الدنيا ستفتح لنا ذراعيها ، وفتحت لنا ذراعيها ، وأغدقت علينا ، ولكنها حرمتنا أيضا ، كنت أتعذب وأنا أراني أرضا يبابا .
" تغمض عينها ، وتضع يدها على بطنها ..، وتتناول كأسا " :
ـ كنت أتوق لأن أرى بطنى ، تتكور ، وتتمدد ، وتنفرط أمامى ، وأحس مثل كل النساء الحوامل ، بأصابعه الرقيقة الناعمة ، تنقر على بطنى ، وبقدميه الدقيقتين ترفسانى .
أتأمل بطنى ، وأنا أبدل ملابسى ، أنقر عليها بأصابعى ، أحس بخواء وخراب ، فالأرض جدب ، والمطر شحيح ، فأبكى ، وأبكى .. وأظل أبكى .. وأبكى ، حتى يزورنى النوم ، وفى نومى ، أرى القابلة لا الطبيب ، قد سحبته من رحمى ، طفلا جميلا ، أول ما وقعت عليه عيناى ، اختلج قلبى ، وغمرتنى فرحة ، أتناوله من القايلة ، أضعه فى حجرى ، يستكين ، أغمره بالقبلات ، أستيقظ ، وأوقظ بهاء ، وأنا أشعر وكأن ، أجنحة طير أبيض تهفهف ، وتخفق فى بطنى ، وبأصوات وكأنها هديل حمام أو زقزقة عصافير أو تغريد كروانات ، أو شدو بلابل أبصرته .. أبصرته فى نومى وأنا فرحانة ، فإذا هو على غير عادة الأطفال الساقطين لتوهم من رحم أمهاتهم ، مبتسم ، ابتسامة تملأ وجهه الصبوح .
أقول لبهاء . الذى لا يصدق بأنى أحس به يمد عنقه ، ويفرط يديه الصغيرتين ، بأنه يتحسس بطنى ، وينقر عليها بأنامله ، نقرات خفيفة ، كأنها قطرات ندى تسقط على ورق الشجر ، أطلب من بهاء الذى لا يصدقنى ، أن يتحسس بطنى وأن يضع أذنه عليها ليصغى إلى خفقات ابنه ، مغتاظا يغادر الفراش وأنا أصرخ فيه :
ـ ابق بجوار ابنك ، ولا تفارقه .
" ويخرج صافقا الباب خلفه "
وتزداد خفقات الأجنحة فى بطنى ، وأبقى وحدى – أصيخ السمع ، ولا أدرى ، إن كنت أسمع هسيساً أو همساً أو أصوات طير لا أتبينها ، ولا أدرى إن كنت فرحة أم حزينة ، كل ما أدريه – أنى فى عالم غير العالم ، وأبصر نفسى ، وأرانى ، أنا الممتلئة قليلا ، أخف ، وأشف ، وأصير مثل العصفور ، وبطنى الممدود أمامى يرق ويرق ، وتصير جلدة بطنى مثل الزجاج الشفيف ، وأرى هذه المرة بنتا لا ولدا ، وجهها بلون البدر ، وشعرها قطع من الليل ، أتناولها برفق ، أضمها لصدرى ، أهدهدها ، ألاعبها ، أحممها ، أعطرها ، أضع الكحل فى عينيها ، أزجج حاجبيها ، وأراها تكبر ، وتكبر ، وتجرى مع البنات هنا وهاهنا ، وشعرها السارح خلفها يتطوح ويتموج .
قال الساحر : لا حل لحالتكما إلا فى المقابر .
كان آخر شعاع أمل ، تردد بهاء
قلت :
ـ سنتسلل فى الليل ولن يرانا أحد .
وذكرته بأول لقاء .
وتسللنا إلى المقابر ، وبريق أمل يومض فى نفسى ،
أحسست به بارداُ .
منذ زمن وأنا أحس به بارداُ.
وأشعل سيجارته ، وأنا مستلقية على ظهرى ، وأقسم ألا يعود للمقابر مرة أخرى
أمام دموعى وحالتى النفسية التى تسوء يوما بعد يوم ، حول هذا المكان إلى المقابر عكف على صناعتها بنفسه ، وكنت أساعده ، ويحدونى الأمل ، وها أنت ترى المقابر – بكل تفاصيلها ، حتى أفراس النبى ، والسحالى ، كل الجزئيات ، والمنمنمات الصغيرة لم تغب عنا ، أنظر إلى تلك السحلية وهى تسعى ، أصغ إلى هذا الدبور وهو يزن ! وتلك الأشجار ، أنظر إلى ظلالها !! ومساحات الظلال .
وبدأنا نمارس الحب هنا ، فقد كان السرير الوثير باردا ، والحجرة باردة
نهرب إلى هنا ..
ننام على هذه الحصيرة المتآكلة ، ونشرب من هذه " القلة " وتلك الأسطوانات جئنا بها ،
" تدير أسطوانة "
" صفير الرياح ، وحفيف أوراق الشجر ، وصوت البرق ، وصوت الرعد والمطر "
" وتتناول كأسا .. "
ـ وأصبحت أقضى جلّ وقتى هنا ، يختلط فى ذهنى الماضى بالحاضر والمستقبل .
كنت أظن أنى دفنت الماضى ، فكنا بهاء وأنا نبعده عنا حتى لا يعيق خطا تقدمنا .
حاولنا أن نصنع ماضيا على هوانا .
هو ابن الحلاق أصبح ابناً لطبيب صيدلى . وأنا بنت التربى أصبحت ابنة لواحد من كبار رجال الأزهر !
وعندما تملك المال – لا أحد يسأل أو يهتم ، فقولك صدق ، فالأغنياء ملائكة لا يكذبون ، ولا .. ، ولا ..
" وتضحك " :
ـ هئ هئ .. هئ هئ ..
وامتلكنا المال ! .. لا تقل كيف ؟!
كان لا بد أن نملكه ، ونقبض عليه ، وقبضنا عليه فى بضع سنين .. لم أكن جميلة ، ولكنى عرفت كيف أكون جميلة ، مسئولون ، وموظفون كبار ، من درجة مديرين عموميين ووكلاء وزراء ، فصاعدا ، نتسلل إليهم ، بهاء وأنا ، ونعرف نقاط ضعفهم ، وحاجتهم إلى .. ، وإلى .. ، إلى ...
" وتتجرع من الزجاجة "
ـ هذه شذرات من معاناتى ، ولمحات خاطفة من حياتى ، احك ، احك أنت ، أوقفنى على حكايتك ...
" وتصب له كأسا .. "
ـ اشرب .. ولا تخف ، فسرك فى بئر
" يتناول الكأس ، يدفعه مرة واحدة فى جوفه "، يقول :
= لا يمكن أن أنسى ، منظر الشيخ ، شيخ القبيلة ، وقد احتقن وجهه بالدم والغضب
" ويطوح بعصاته الأبنوس فى الهواء " ويقول :
= من يدرى .. قد يتجرأ فلاح ـ فى قادم الأيام على إغواء فتاة من فتياتنا
وأشار إلي ..
احتضننى الخوف ،
تحلقوا حولى ، وتكاثروا علي ،
جرونى إليه
أحكم قبضته القوية حول معصمى ، لم أبدِ مقاومة .
سحبنى إلى إسطبل الغنم والجداء ..
دفعنى إلى الإسطبل واغلق خلفه الباب ، مكثت يوما أو بعض يوم
حتى كان مساء اليوم التالى
جاء الرجل الأسود ، عبداً حبشياً ، أعرفه ، يأتي مرة كل عام ، يجز صوف الغنمات وشعر الحمير ، كان صديقا لأبي ، وكان أبى يساعده ، ويسامره وهو يعد له الشاي والغذاء ، والنارجيلة ، وينقده أجره قبل أن يجف عرقه ، نيابة عن الشيخ ..
يعرفنى ، بالتأكيد يعرفنى ، آنست به ، حاولت أن أساعده كما كان يفعل أبى ، ولكنه نهرنى ، كنت أريد أن أبوح له وأحكى له ما جرى لأبي ، وكنت أتمنى أن يسألني عن أبى ؟! ، لكنه لم يفعل ، كان هذه المرة ، متجهما ، عابس الوجه .
فيما مضى ، كان يداعبني ، وكان حينما يدس أبى فى جيبه الأجرة يبتسم ، ويمنحنى قرشا ، لماذا يتحاشى النظر الي ؟! لا أريد قرشا يا عم ، ولكن أريد أن تبتسم فى وجهى ، وتأخذني فى حضنك ، وتهدهدنى ..
وفور أن فرغ من جز الصوف وقص الشعر والوبر ، جاء من يساعده فى فصل الجداء والخراف عن المعزات والغنمات ، وسحبها إلى " الجرن " ، ولا أدرى لماذا سحبوني معها ؟!
وبدأت المراسم السنوية ، فى هذا الوقت من كل عام ، يتحلق حوله جمهرة من الناس ، يتابعون عملية الخِصاء ، جدى وراء جدى ، وخروف بعد خروف ، تمزق أصواتها السكون وتشرخ القلب .
قال الشيخ وهو يدفع بعصاته فى صدرى : ـ خذ هذا التيس !
قبل أن يجردونى من ملابسي ، كان البلل قد غطاها ، قيدوا قدمي ويدى ، خرس لسانى ، وجحظت عيناى ، و .. ، ..
[ يضع يداه بين فخذيه ، وتحس به ، ينكمش ، ويتكور على نفسه ، ويصرخ ، تصب له كأسا ، يتجرعه دفعة واحدة ]
ـ تارة أراني جديا ، وتارة أراني خروفا ، أحيانا أمأمأ ، وأحيانا أسير على أربع ، أجرش الفول بين أسناني ، وأخطف العلف ، والبرسيم من أمام البهائم ، انكسرت عيناى ، وتدلت أذناي ، إذا ما رأيت امرأة جميلة ، سال لعابي ، وإذا ما اغلق علينا الباب ، أرغو ، وأزبد ، وأصير مثل الجدى أو الخروف المخصى ..
إذا وطئ الجدى المخصي معزة أو الخروف المخصى غنمة ، جزعت ، ووجلت ، وطرحته أرضا ، وتروح تتفحص مكان أ .. ) بعينها ، وتتشممه بأنفها ، ترفسه برجليها الأماميتين ، وتفر ، وإذا ما نهض وعدا خلفها محاولا ، ترفسه بخلفيتيها .. وكان هذا حالى ، ولكن الجداء والخراف كانت أحسن حالا منى ، فأنقذتها السكاكين ..
[ ويبكي .. تهدهده ، تصب له كأسا .. يتجرعه ، وينظر إليها ]
= ما كنت أريد أن أتورط معك ، حتى لا تفرى منى ، مثل اللائى فررن ، لماذا أصررت ؟ ولماذا انسقت وراءك ؟
فى كل مرة ، مع كل امرأة ، كان يحدونى الأمل !
أمل كاذب .
هل كانت المعجزة ستتحقق معك ؟!
[ ويضحك .. ]
= ولى زمن المعجزات ، وزمن الأنبياء ، وصرنا فى زمن ..
هى " مقاطعة " :
ـ رغم كل شئ ما زال الزمن زماننا
هو " ضاحكا " :
= زمن بنت الترابي !
هى " ضاحكة " :
ـ وابن الكلاف !
[ تصب له كأسا ، ولها كأسا ..]
ـ فى صحتك
[ يطرق كأسه بكأسها ]
= فى صحتك
[ عيناه فى عينيها .. وكفه فى كفيها ... ]
هى :
ـ ما رأيك ؟!
هو :
= فى ماذا ؟
هى :
ـ أنت تملك القلم
هو :
= وأنت تملكين الفلوس 0
** المراسلات :
13 شارع مدرسة التجارة ـ ديرب نجم ـ الشرقية
ت : 3767986/055