المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في ثلاث وثائق : حركة فتح تقرأ مستقبلها



غالب ياسين
18/02/2008, 10:13 AM
في ثلاث وثائق : حركة فتح تقرأ مستقبلها


تعاني رام الله من أزمة المفاوضات، وتعاني غزة من أزمة الورود، ورود عيد الحب الحمراء.

تقرأ في الأخبار وعلى لسان قادة التفاوض بأن الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي قد توقفا عن عقد لقاءات تفاوضية، وأن لقاءات فردية تعقد بين أحمد قريع وتسيبي ليفني ولكن من دون أن تحقق أي تقدم. وبعد إعلان إسرائيل عن خططها الجديدة لتوسيع الاستيطان في القدس، بات الفلسطينيون أكثر تشاؤما إزاء فرص حدوث تقدم.

ونقرأ في الأخبار أيضا، أن غزة تنتج الزهور وليس الصواريخ فقط. وبينما يتم إطلاق الصواريخ نحو إسرائيل، فإنه لم يكن من الممكن إطلاق الزهور نحوها، بل وجدت طريقها نحو الإتلاف، لأن معابر التصدير نحو هولندا مغلقة.

إن فشل المفاوضات تعبير قاس عن صورة المستقبل السياسي. وتلف الزهور تعبير قاس عن صورة المستقبل الاقتصادي. وبينهما تبقى القضية الفلسطينية عالقة بين نقد دعاة المقاومة لاستمرار مفاوضات «عبثية»، وبين نقد دعاة التفاوض لاستمرار مقاومة «عبثية»، حسبما يقول كل طرف عن الآخر، عبر ضفتي «المحيط» الذي يفصل بين غزة ورام الله.

وفي قلب هذه الصورة العبثية، والتي تتداخل فيها الصواريخ مع الأزهار، تطالعنا حركة فتح بثلاث وثائق ذات أهمية بالغة.

الوثيقة الأولى صادرة عن فاروق القدومي (ابو اللطف) القائد الفتحاوي المخضرم، وأمين سر حركة فتح، ورئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، والذي ينازع الرئيس محمود عباس منذ ثلاث سنوات على صلاحيات إدارة السياسة الخارجية. تقول وثيقة القدومي إنه تقدم قبل أيام بطلب رسمي إلى وزارة الشؤون الخارجية في السلطة الوطنية الفلسطينية، يتضمن مطالبته بإلحاق الدائرة السياسية، إداريا وماليا، بوزارة الخارجية الفلسطينية. وتقول المعلومات إنه تم تقديم هذا الطلب بناء على «صفقة» تمت بين القدومي والرئيس عباس. وبهذا تكون آخر معاقل منظمة التحرير الفلسطينية والتي هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، قد أصبحت تابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية والتي هي الممثل الشرعي لأهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط.

لا نعرف ما هي الأسباب التي دفعت القدومي لاتخاذ هذا القرار. ولا نعرف ما هي الأسباب التي دفعت الرئيس عباس لقبول هذا القرار. فالاثنان يعرفان، مثلما نعرف نحن وأكثر، أن القرار الفلسطيني الذي ساهما في صنعه وصياغته، بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، هو أن تبقى مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وبخاصة الدائرة السياسية والصندوق القومي، في الخارج، لأن لمنظمة التحرير مهمة تتجاوز مهمة السلطة الوطنية، هي مهمة تمثيل الشعب الفلسطيني في العالم كله، بينما تنحصر مهمة السلطة الوطنية بإطار عمل ضيق وتحت هيمنة الاحتلال الإسرائيلي. فما الذي حدث حتى يتم هذا التحول المفاجىء؟ ما الذي حدث حتى تصير السلطة الفلسطينية أكبر من منظمة التحرير؟

الوثيقة الثانية صدرت تحت إشراف محمد غنيم (أبو ماهر) القائد الفتحاوي المخضرم، ومسؤول التعبئة والتنظيم في حركة فتح، وهي وثيقة البرنامج السياسي الذي سيقدم إلى مؤتمر حركة فتح السادس الذي سيعقد بعد أشهر قليلة. إن الوثيقة هامة وجوهرية وخطيرة، ويفترض بها أن تشكل قاعدة أساسية لتخليص حركة فتح من مشكلاتها البنيوية، كما يفترض بها أن تسلح حركة فتح بجملة من المواقف من أجل استنهاضها، ومن أجل أن تتمكن من العودة إلى موقع القيادة الذي خسرته في الانتخابات الأخيرة. فهل ستنجح الوثيقة في إنجاز المهمة المنوطة بها؟

تقدم الوثيقة تصورا لحركة فتح ينقلها من حال إلى حال، ومن موقع إلى موقع، وتحدث تغييرا جذريا في بنيتها التنظيمية والعسكرية. وكي ينجح تكريس مهمة من هذا النوع، فإن نقاشا داخليا موسعا لا بد أن يتم، ويتمكن من توفير جو من الإجماع التنظيمي حول الوثيقة، حتى يمكن لها أن تشق طريقها نحو المؤتمر، وأن تلعب الدور الحاسم في إنجاحه.

تتحدث الوثيقة عن حركة فتح وكأنها في تماه كامل مع السلطة الوطنية الفلسطينية، والمهمات التي تطرحها الوثيقة أمام حركة فتح، هي بالضبط المهمات المنوطة بسلطة فلسطينية، حتى لا توجد مساحة محايدة بينهما. تتحدث الوثيقة عن حركة فتح على أساس أنها الحزب الحاكم، وعلى أساس أنها ستبقى الحزب الحاكم. وحتى يستقيم هذا الأمر، فإن الوثيقة تتصدى للنقاش الفلسطيني السائد، والذي يسأل عندما يكون الأمر متعلقا بوضع برنامج من هذا النوع: هل نحن في مرحلة تحرر وطني؟ أم نحن في مرحلة بناء الدولة؟ وحسب الإجابة يتقرر البرنامج. ولكن وثيقة فتح تقدم جوابا يدمج بين المسألتين ويقول: إن على هذا البرنامج أن يستجيب لمتطلبات إنجاز مرحلة التحرر الوطني وتحقيق الاستقلال (وهذه مرحلة نضالية كفاحية وربما مسلحة)، وأن يستجيب أيضا لمتطلبات بناء مؤسسات الدولة (وهذه مهمة بناء اقتصادي واجتماعي سلمي). فكيف سيتم الجمع بين هاتين المهمتين، وفي ظل الاحتلال بالذات، الذي يرد على النضال بالقتل، ويرد على النضال بالتدمير؟

والغريب أن الوثيقة، ومن أجل إنجاز هذه المهمة المزدوجة، تقرر إنهاء الوجود العسكري للحركة، من خلال تفكيك كتائب شهداء الأقصى ونزع سلاحها. ولكن معدي الوثيقة يلحظون هنا تناقض موقفهم، فيسجلون ملاحظة غريبة تقول «إن تحديات الوضع الخاص القائم على الأرض، بتداخلاته الداخلية والخارجية، قد تفرض على الحركة الحفاظ على قدرات أمنية معينة تحسبا للظروف». هل يعني ذلك أنه سيكون لدى حركة فتح تنظيم سري مسلح، خافيا حتى على قيادة السلطة التي هي سلطتهم؟ وهل سيسمح بهذا التجاوز لحركة فتح فقط، أم سيسمح به للفصائل الفدائية الأخرى أيضا؟ إن الوثيقة تتعامل مع هذه القضية الأساسية بتسرع لا يليق.

ولا يقتصر هذا التسرع في الوثيقة على معالجة المهمة الجوهرية التي عنوانها تحديد طبيعة المرحلة وأساليب العمل الملائمة لها، بل هو يتناول أيضا المشكلة التنظيمية داخل حركة فتح، والتي شكلت عنوانا أساسيا داخليا في الصراع الذي دار عبر السنوات العشر الماضية. وتكتفي الوثيقة هنا بالقول إنه يجب «الانتقال من مرحلة العمل السري إلى مرحلة العمل العلني، وإحداث تغييرات على الهيكل من الشكل العنقودي إلى شكل أكثر أفقية». ولا بد أن يكون الإنسان متفائلا جدا حتى يعتبر أن مثل هذه الجمل العامة، والتي يغيب عنها أي مضمون فعلي، ستكون قادرة على معالجة قضايا حركة فتح التنظيمية، والتي هي قضايا أعقد بكثير من أن تتم معالجتها بالانتقال من «العنقودي» إلى«الأفقي». ويعرف ذلك بدقة كل من مارس العمل التنظيمي في الثورات والأحزاب، وحتى في الجمعيات الخيرية. الوثيقة الثالثة، تخص نظريا السلطة الفلسطينية، ولكنها عمليا وثيقة تخص حركة فتح، وهي تقرير عن نتائج أعمال لجنة التحقيق في أحداث غزة التي أدت إلى سيطرة حركة حماس عليها. وهو تقرير تم إعداده منذ ستة أشهر، ولكن لم يكشف النقاب عنه إلا الآن.

إن من يقرأ التقرير، ويطلع على الوقائع التي تتحدث عن فساد الكوادر القيادية، وعن التصارع فيما بينها. ومن يقرأ التقرير ويطلع على ما يرويه عن درجة عالية من اختراق حركة حماس لأجهزة السلطة الأمنية (30% في بعض التقديرات و60% في تقديرات أخرى)، والقطيعة بين تنظيم حركة فتح وقادة الأجهزة الأمنية، وقناعة المقاتلين بصحة ما تقوله حماس عن فساد ضباطهم وقادتهم. إن من يطلع على تفاصل هذه المعلومات، لا يستطيع أن يخرج إلا بنتيجة واحدة، وهي حتمية أن يحدث ما حدث في غزة. وقد شاءت الظروف أن يحدث ما حدث على يد حركة حماس، ولكن الأمور كانت تسير باتجاه إجباري حتى لو لم تقدم حماس على ما أقدمت عليه.

جاء في توصيات لجنة التحقيق القول «إن استشراء الفساد ومظاهره الكثيرة، وانعدام الثقة والاحترام لمسؤولين متورطين بقضايا فساد أو ثراء فاحش..... تترك أثرها السلبي البالغ على حافز الدفاع عن السلطة، بحيث لا يجوز استمرار وجود هؤلاء المتورطين في المؤسستين العسكرية الأمنية والمدنية».

يقول ابن خلدون «عندما يدب الوهن في الدولة فإنها لا تنهض أبدا».



بلال الحسن

كاتب ومفكر فلسطيني

belal2004@club-internet.fr