المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المحرقة الفلسطينية مقدمة لمحرقة عربية كبري



غالب ياسين
08/03/2008, 09:07 AM
عار المحرقة التي جرت لأهل غزة هو عارنا جميعا، لا يستطيع أحد أن يتنصل من مسؤوليته عن مثل تلك الجريمة النازية البشعة، وثبت أن الشركاء العرب لا يقلون نازية عن نظرائهم الصهاينة، ولو لم يكونوا كذلك ما سمحوا للمحرقة أن تتم أصلا، مهما اختلفوا مع حماس أو غير حماس.
ولا يجب أن يشعر أي منا بالارتياح لمجرد أنه أشار بأصبعه إلي الأطراف المباشرة. والمسؤولية المباشرة وهي تقع علي أصحاب القرار الصهيوني وآلتهم العسكرية، فهذا لا يعفي المشاركين والمتواطئين من حكامنا ومسؤولينا، ولا يمكن القبول بأي تبرير من نظامنا الرسمي الذي وضع نفسه في خدمة الغزاة والمحتلين والمستوطنين. وأكثر من هذا لا يجب أن يعفي أحدنا نفسه من تحمل نصيبه من المسؤولية، فالمحرقة أثبتت أننا، كشعب ومواطنين، في نظر مسؤولينا بلا وزن ولا لون ولا طعم ولا رائحة.
كان عذرنا في السابق الجهل والفقر والضعف والتخلف، أما الآن فجهلنا أقل، وثروات حكامنا ومن يدور في فلكهم اجتازت حاجز الصوت في الغني والترف، وجيوشنا وشرطتنا أقوي منها في أي زمان مكان، وترساناتنا العسكرية تراكمت فيها ذخائر وأسلحة ومعدات صدأت من قدم التخزين وعدم الاستعمال، والرأي العام تعرف عليها وعلي كمياتها وما صرف عليها من أجهزة الإعلام والصحافة، وعن طريق ما أثير في قاعات المحاكم الأمريكية والبريطانية عن العمولات التي دفعت فيها. أما ضعفنا ما كان ليكون بهذا المستوي دون جهد حكامنا وأولي الأمر فينا، الذين بنوا جبروتهم علي حساب قوة المواطن والوطن، وتخلفنا صنعته سياسات طاردة للعلماء والكفاءات والخبراء والشباب والمنتجين، اختزلت الوطن في حجم حاكمه، شخص أو عائلة أو قبيلة، وبقي المواطن بائسا ذليلا عاجزا مستعبدا، وقواتنا المسلحة الضخمة أصبحت جزءا من المجهود العسكري الصهيوني، وتحت إمرة أباطرة الحروب. يوجهونها حيث يريدون، ويطلبون منها أن توجه مدافعها إلي صدورنا ومدننا ومصانعنا ومتاجرنا وإداراتنا، ومسؤولونا يعملون لدي هؤلاء راضين، غير معترضين ولا متبرمين، وكثيرا ما يهرولون ويعلنون الحرب الإعلامية والاقتصادية والسياسية النفسية لحساب هؤلاء الأباطرة!
لم تبق المشكلة محصورة في آحاد الحكام والمسؤولين، إنما في اتساعها لتحتوي النظام العربي الرسمي في مجمله، ومنذ أن انتصر الاعتدال ، وهو ما كان يعرف بالرجعية فيما مضي، تمادت السياسة العربية في ممارسة الأفعال المحرّمة والمجرّمة، وأضحت جيوش الاعتدال العربي، وأسلحته وأمواله وأراضيه ملكا أمريكيا صهيونيا خالصا. قواعد وتسهيلات، وممرات أرضية وجوية ومائية، ومناورات وجهود عملياتية (لوجستية). وأي قوة غازية أو محتلة يتاح لها مثل هذا العمق تستطيع أن تبيد أمة بحجم الأمة العربية. فالمجهود العسكري والمالي والاقتصادي الذي بدأ وواكب واستمر قبل ومع وبعد غزو العراق كان عربيا، والتهيئة والإعداد لتصفية المقاومة اللبنانية كانت عربية، ولهيب المحرقة النازية لغزة كان ينطق بالعربية والعبرية.
والنظام العربي الرسمي منذ أن دخل عملية التطبيع انتهي أمره، وتحول إلي مصدر خطر بالغ علي الوجود العربي ذاته، وكفاءته المضادة ظهرت حين نفض عن كاهله غبار الكسل، وعبأ طاقاته من أجل تعميم وتعريب التطبيع ، سواء مع الاستيطان الصهيوني أو مع سلطة الاحتلال في العراق. وأسألوا عمرو موسي، وسوف يجيب، ولن ينكر أنه فتح أبواب جامعته مرحبة بحكومة الاحتلال، ليشغل مندوبها مقعد العراق، أحد البلدان العربية السبعة المؤسسة لجامعة الدول العربية. ودوره في لبنان يحمل شبهة فرض الحل الصهيو أمريكي عليه، وهو لم يقترف ولو مرة واحدة فضيلة رفض التهاف علي موائد التفاوض الصهيونية الفلسطينية، وهو ما انتهي إلي مصلحة الدولة الصهيونية. وبدلا من الاستقالة تكفيرا عن دور النظام الرسمي العربي في المحرقة، دعا وزراء الخارجية العرب فباركوها، وكافأوا الحكومة الصهيونية بإحياء المبادرة العربية ، وهي في الأصل مبادرة سعودية، خرجت من مؤتمر قمة بيروت 2002، كجسر لتعريب التطبيع . ثم اسألوه واسألوا معه حسني مبارك وأحمد أبو الغيط وسعود الفيصل عن حالة الاستئساد التي تلبستهم ضد سورية وحزب الله وحماس. وعن تعطيلهم للوفاق الوطني اللبناني، وتبنيهم مخططات تصفية المقاومة العراقية واللبنانية والفلسطينية. وتضافرهم هو الذي جعل الحصار علي الفلسطينيين عربيا، وفرض الجوع والمرض والموت عليهم، وحتي حين فتح معبر رفح أثناء المحرقة أغلقت المستشفيات والطرق والمحلات في وجه الفلسطينيين، ومن لم يستشهد بنار المحرقة مات وهو ينتظر العون من أناس تحجرت قلوبهم وتبلدت مشاعرهم وتمكنت نار الحقد منهم.
وعارنا صنعه تدني وعينا بخطر السياسة الرسمية العربية، وأكده عجزنا عن تعريتها ومواجهتها، وهذا التناقض بين الوعي والفعل خدع كثيرين بإمكانية الرهان علي حلول يأتي بها العدو وأنصاره، وهو ما وضع الشعب العربي والعالم الإسلامي في وضع الأيتام علي موائد اللئام، وجاء ذلك مقترنا بعدم إحساس الحاكم أو المسؤول المعني بوجودنا، فاستهان بكل شيء، وتجاهل أرواح الأبرياء والأطفال والنساء والشيوخ، وحتي استشهاد الطفلة المصرية سماح التي سقطت برصاص أحد النازيين الصهاينة وهي تلعب، لم يحرك استشهادها شعرة في رأس أي من أولي الأمر. وحكم لا يوفر الأمان ليعيش أطفاله طفولتهم، مثل باقي الأطفال في العالم لا يستحق الحياة. ومحو العار يبدأ بالإحساس بالحاجة إلي إعادة ترتيب أولوياتنا، فرادي وجماعات، ووضع خطر العدو الداخلي علي نفس مستوي خطر العدو الخارجي، وملاحقة عدو الداخل، كي لا يسرح ويمرح ويوسع من رقعة المحارق المشتعلة في العراق وفلسطين.
وسياستنا الداخلية في مصر تقوم بما تقوم به عن سبق إصرار وتعمد، ووصل بها الأمر أن بدأت ضخ الغاز إلي شرايين الاقتصاد الصهيوني، في وقت متزامن مع المحرقة، في شكل رسالة تحد واضحة تخرج لسانها للجميع. والغاز المصري تحصل عليه الدولة الصهيونية بأرخص سعر، وبأقل من تكلفة استخراجه، ويباع للمصريين بسعره السوقي والعالمي، ونستشهد هنا بما كتبه رئيس تحرير صحيفة المصري اليوم مجدي الجلاد، عدد الاثنين الماضي، عن العقد الذي أبرمته الحكومة المصرية مع الحكومة الصهيونية: مدته 20 عاما كاملة بسعر 1,5 دولار للمليون وحدة حرارية، بينما تكلفة الانتاج في مصر 2,65 دولار للمليون وحدة حرارية، وهو السعر الذي حددته الحكومة لبيع الغاز للمصانع المصرية كثيفة الاستخدام للطاقة، خلال السنوات الثلاث المقبلة، أي أن الحكومة، كما يقول الجلاد، حرمت المصانع المصرية التي تنتج وتستوعب أيدي عاملة وتصدر منتجاتها للخارج من الدعم، بينما منحته صافيا، خالصا، مخلصا، لإسرائيل. الدولة الصديقة والشقيقة الغالية ، وكشف الجلاد عن اسم وماهية الشركة الوسيطة، فأخبرنا بأنها مملوكة لمصريين وصهاينة، وقدم معلوماته مشفوعة برأي خبراء الطاقة، الذين أفادوا بأن احتياطي مصر من الغاز لا يكفي للاستهلاك المحلي والتصدير، مما حد من عدد الرخص الممنوحة لإنشاء مصانع جديدة للأسمنت لأن الغاز لا يكفي!.
ولا أريد الشماتة في رجال الأعمال المتعاونين مع العدو فهم منبوذون أصلا، وبدأوا يحصدون ما زرعت أيديهم. وتصرفات هؤلاء هي تصرفات متمرسين في أعمال الجريمة المنظمة، ولكونهم أصحاب قرار فقد تعاملوا مع غزة بالطريقة التي يفهمونها. قدموا لها النار والدمار والموت، ومنحوا الدولة الصهيونية الامتيازات وكل سبل الدعم، أغدقوا عليها ولم يحرموا فقط الفلسطينيين إنما حرموا منها المصريين كذلك. وهم الذين ادعوا منذ أن احتلوا مقاعد الوزارة والإدارة والتشريع، ادعوا أنهم مسؤولون عن إطعام المصريين وتشغيلهم وإسكانهم وتعليمهم وعلاجهم، بينما يفعلون العكس. والمطلوب هو تحويل الأنظار إلي الداخل، بعد أن أضحت مهمة إزاحة حكم عائلة مبارك فرض عين. ضرورة تستلزمها عملية السعي في اتجاه التصدي للعدو. ومن نوافل الاقوال أنه لا يوجد حاكم في العالم أقوي من شعبه، وقوته يصنعها تنازل الشعب، طواعية، أو ضغطا، أو قسرا، فيتمكن الحاكم ويستذل البلاد والعباد. ويتصور بعض مستشاري السوء في قصور الحكم أن الظروف الدولية والإقليمية الراهنة تزيد من تمكين الطغاة وخدم الغزاة وترسيخ سلطانهم. اعتمادا علي أن المنطقة العربية وامتدادها الإسلامي موضوعة علي قائمة الإبادة، وهو ما يستلزم تصفية النظام الرسمي العربي، وتغييب التضامن الإسلامي، وتقليص القدرة علي الردع العسكري وفي ذلك ضمان لدوام الهيمنة الأمريكية. يرون فيها غطاء يبقي علي مصالح هؤلاء الحكام والمسؤولين، فما يجمعهم بها أهم مما يجمعهم بشعوبهم.
ومحرقة غزة لا يجب عزلها عن غيرها من المحارق، المعدة للاشتعال في لبنان وسورية وإيران والسودان، وهي جزء من كل، ومع ذلك فإن أهل غزة حققوا انتصارا مكلفا. صنعوا به الفشل الثاني لأولمرت، في أقل من سنتين، كان فشله الأول في تموز (يوليو) 2006 علي يد حزب الله والمقاومة الوطنية اللبنانية. وها هو الفشل الثاني في غزة شباط (فبراير) 2008، بعد مواجهة شاملة لحركات المقاومة الإسلامية والوطنية في القطاع ضد الآلة العسكرية الصهيونية الجبارة. من جهة أخري فإن هذا الانتصار أحبط سياسات الاعتدال السعودية المصرية، ولو مؤقتا. وصحيح أن ميزان القوي العسكري كان في صالح الدول الصهيونية، والصحيح أيضا أن المقاومة استطاعت تحييد التفوق العسكري، وتفرض علي قوات العدو الانسحاب، وتتحقق شروط الانتصار بتوفر عزائم الرجال وصلابتهم، لقد عري منطق الشرعية المتناقضة، فسلطة محمود عباس وهي وإن جاءت عن طريق صندوق الانتخابات إلا أنها جاءت خصما من حساب المقاومة، أما شرعية حماس، هي وإن كانت، هي الأخري، عن طريق صندوق الانتخابات، إلا أنها تعززت بالمقاومة. طريق التحرير والعودة والحل العادل، من هنا توارت شرعية الإذعان وتأكدت شرعية المقاومة، ومع علمنا بالثمن الباهظ الذي دفعته غزة، فعزاؤنا أن التاريخ يؤكد دوما بأن النصر لا يأتي مجانا، وطريقه دائما مفروش بالتضحيات والمعاناة.
ہ كاتب من مصر يقيم في لندن