المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شعائر الموت ومعتقداته في الهلال الخصيب .د. بشار خليف



د. بشار خليف
08/03/2008, 04:10 PM
شعائر الموت ومعتقداته في المشرق العربي القديم
ثمة شيئان لا يمكن للمرء أن يحدق فيهما، الشمس والموت، والموت ضمن المنظور الإنساني يبدو أنه غير محبذ، لا بل يتم تجاهله كونه يشكل مصدر الخوف من المجهول. ومعلوم أن للخوف أذنين كبيرتين وعينين أيضاً.
ولعل أول صدمة جابهت الإنسان في وجوده على الأرض /لاسيما حين تطور القشرة الدماغية والقسم الطرفي من الدماغ/، هي صدمة الموت، ولم يكن هذا ليتحقق لولا توافر مجموعة من الاشراطات والمعادلات الفيزيولوجية والبيولوجية، على صعيد الدماغ الإنساني والجسد البشري، ثم تداخلات المناخ والبيئة الطبيعية.
والموت همّ فردي، وتجمّع الهموم الفردية أدى إلى نشوء هموم للتجمعات الإنسانية القديمة، ولكن مع تقدم عمل الدماغ وتطوره ومن ثم نشوء المجتمعات الأولى، لم يكن ثمة هم مجتمعي من الموت، لأن المجتمعات تبقى بينما الأفراد يزولون. وبذا صار المقياس الأوحد في دراسة المجتمعات وظواهرها، هو مدى انعكاس حياة الفرد في الجماعة، ومدى انتمائه لها، وبذا يستمر المجتمع ويزول الأفراد، ولا يبقى منهم إلا ما قدّموه للمجتمع من تطوير وإبداع. ولعل قمة الإبداع تكمن في التضحية من أجل المجتمع.
وبهذا يصير الموت في المستوى الاجتماعي، ليس نقيضاً للحياة بل جزءاً منها. ولعل الانشغال بظاهرة الموت، اقتضى مرور ملايين السنين من الوجود البشري على الأرض، حتى غدا دماغ الإنسان قادراً على وعي هذه الظاهرة، واستنباط الحلول التعويضية /لا شعورياً/ تجاهها. وهذا ما سنحاول رصده من خلال تاريخ الوجود البشري في المشرق العربي القديم، والذي يرقى إلى حوالي المليون سنة. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الوثائق هنا /لعدم وجود الكتابة بعد/ تعتمد على اللقى والأدوات التي تركها ذلك الإنسان القديم، بالإضافة إلى بعض البنى والكثير من المدافن والقبور ومحتوياتها، ولاسيما مع ظهور إنسان النياندرتال (100000) سنة.
ظهور الإنسان على الأرض وفي المشرق العربي القديم:
حددت دراسات علوم ما قبل التاريخ وجود الإنسان على الأرض بحدود ثلاثة ملايين سنة من الآن. وذلك في أفريقيا «هذا حتى الآن». أما في المشرق العربي فدلائل أول وجود إنساني تعود إلى حوالي مليون عام «سلطان محيسن» (1) وبعضهم يعيدها إلى مليون ونصف المليون عام «زيدان كفافي» (2) وأيضاً هذا حتى الآن.
وتذكر الدراسات أن الإنسان القديم الذي أتى إلى المشرق العربي جاء عبر طريقين من أفريقيا:
الأولى: ساحلية على امتداد البحر المتوسط.
الثانية: على طول الإنهدام السوري ـــ الافريقي الممتد من جنوب وشرق أفريقيا مروراً بالبحر الأحمر ثم وادي عربة ثم وادي الليطاني فوادي العاصي شمالاً. (3)
وحتى الان يبدو أن أقدم آثار لإنسان ماقبل التاريخ خارج أفريقيا عثر عليها في سورية، في موقع «ست مرخو» قرب اللاذقية. كما عثر على آثار لهذا الإنسان في موقع خطاب قرب حماة على العاصي وموقع العبيدية في فلسطين الذي يؤرخ بحدود 700.000 سنة حيث عثر هنا على أجزاء من هياكل عظمية إنسانية هي الأقدم في المشرق العربي.
كانت حياة ذلك الإنسان تعتمد على الصيد والتقاط الثمار، وكان يتنقل خلف مصادر غذائه الحيواني والنباتي. ولم يكن ثمة خصوصية حضارية، بل أن صفات إنسان تلك المرحلة كانت متقاربة في كل أنحاء العالم. وفي موقع اللطامنة في سورية والذي يؤرخ بحدود 500.000 سنة عثر على دلائل مبكرة لاستعمال النار والشروع في البناء. وباطراد كانت تلك التجمعات الإنسانية تتطور، وكانت تعتبر نفسها جزءاً لايتجزأ من الطبيعة، لا بل أن إنسان تلك المرحلة كان يظن نفسه أنه واحد من خصائص الطبيعة، وهذا لم يكن إلا نتيجة لعدم تطور الدماغ لديه ولاسيما قشرته الدماغية. ما اقتضى مرور مليونين وتسعمئة ألف سنة على صعيد الإنسان الأفريقي، وتسعمئة ألف سنة على إنسان المشرق العربي كي تحصل طفرة في بنيته الدماغية تدفعه نحو الأمام في وعي ظاهرة الموت لأول مرة منذ وجوده على الأرض. وما قبل لم يقدم الدماغ له أوليات الدفاع عن موتاه فتركهم نهباً للوحوش المفترسة والجوارح، حتى كان تطور الإنسان القديم المنتصب إلى إنسان النياندرتال، وذلك في حوالي 100.000 سنة حيث يؤكد فرنسيس أور «أن بلاد الشام تشكل مكاناً أصيلاً لإنسان النياندرتال». (4)
النياندرتال المشرقي 100.000 ـــ 40.000 سنة: مقاربة أنثروبولوجية:
تدل الأبحاث العلمية البيولوجية والفيزيولوجية، على أن دماغ الإنسان يتألف من ثلاثة أقسام: القشرة الدماغية والقسم الحوفي والدماغ الزواحفي. أما المظاهر العاطفية والدينية فهي من اختصاص القسم الحوفي، في حين أن القشرة الدماغية تعنى بفعل الإدراك، ومعلوم أن القشرة الدماغية تؤلف ـــ حسب كارل ساغان ـــ حوالي 90% من دماغ الكائنات الحية. (5)
لهذا فحين نرصد ظاهرة وعي الموت عند مجتمع النياندرتال، فإننا لابد واقعون على حقيقة أن ثمة تطوراً حصل في القسم الحوفي والقشرة الدماغية. ويؤكد ساغان على أن حياة الصيد والالتقاط لدى الإنسان القديم والحضارة التكنولوجية لدى الإنسان المعاصر هما من نتاج القشرة الدماغية(6). وقد دلت الأبحاث العلمية أيضاً لدى دراسة الجانب الداخلي لجمجمة إنسان النياندرتال، إلى أن التناسب القائم بين مختلف أجزاء المخ يجعل الإمكانات العقلية عنده قريبة من مثيلتها عند الإنسان العاقل، الذي تطور في المشرق العربي حوالي 40.000 سنة عن سلفه النياندرتال(7). والمعلوم أن الإنسان العاقل السوري هو جدنا المباشر أما الجد البعيد فهو إنسان النياندرتال. وعلى هذا يمكننا القول مع ساغان أن سلوكنا نحن الآن لا يزال واقعاً إلى حد كبير تحت سيطرة ماورثناه عن أسلافنا. (8)
لا بل أن كارل غوستاف يونغ رائد علم النفس التحليلي يركز في طروحاته على «أن لاشيء يدل على أن ذلك الإنسان يفكر أو يشعر أو يدرك بطريقة تختلف اختلافاً أساسياً عن طريقتنا في التفكير أو الشعور أو الإدراك،(9) فأداؤه النفسي هو جوهرياً أداؤنا نفسه ولا يختلف عنا إلا في مسلّماته الأولية».
ويؤكد أيضاً أن ذلك الإنسان /النياندرتال ثم العاقل/ ليس وحده الذي يمتلك سياقات نفسية قديمة، وإنما إنسان عالم اليوم المتمدن الذي بدوره يكشف عن هذه السياقات النفسية القديمة، دون أن تكون هذه السياقات مجرد ارتدادات متفرقة أتت على الإنسان الحديث من صعيد الحياة الاجتماعية.
ويصل يونغ للقول: كل إنسان متمدن مهما بلغت درجة نمو وعيه، لم يزل إنساناً قديماً في الطبقات السفلى من كيانه النفسي. فكما أن الجسم البشري يوصلنا بالثدييات ويكشف لنا عن بقايا كثيرة من تطور مراحل أولية ترجع إلى عصر الزواحف، فكذلك النفس البشرية نتاج تطور إن تابعنا أصوله تكشّف لنا عن عدد لاحصر له من السمات القديمة.
مجتمعات النياندرتال في المشرق العربي القديم 100000 سنة خلت:
عاش النياندرتاليون في المشرق العربي في الكهوف والمغائر واستطاعوا أن يكيفوها حسب احتياجاتهم وحوائجهم، كما استخدموا النار وصنعوا الأسلحة الصوانية ومارسوا الصيد عبر رجالهم، أما نساؤهم فكن يلتقطن لبذور والثمار والجذور الصالحة للطعام، كما كن يصنعن الملابس من جلود الحيوانات.
وقد أدى تطور البنية الدماغية لديهم إلى وعي لظاهرة الموت، لا بل أضحى مشهد موت إنسان يدهشهم عبر انتقاله المفاجئ من كائن مدرك وواعٍ، دافئ وممتلئ بالحيوية، إلى جثة ساكنة وباردة وشاحبة وقابلة للتعفن، مما أصابهم بالصدمة الأولى، وهذا ما دفعهم إلى مواراة الجثة في التراب، وإجراء الدفن المتعمد والإرادي، لأول مرة في تاريخ الوجود البشري. وقد بدا أن التطور الروحي الذي بلغه إنسان النياندرتال تجاوز ما بلغه في الحياة الاقتصادية (10). وأدت التنقيبات الأثرية إلى العثور على مواقع نياندرتالية عدة في المشرق العربي ولعل أهمها:
موقع مغارة الديدرية قرب حلب:
يؤرخ هذا الموقع بحدود 100.000 سنة حيث عثر فيه على حوالي 70 قطعة عظمية بشرية تعود لهياكل نياندرتالية مختلفة.
وفي مطلع التسعينيات، تم العثور على هيكل عظمي لطفل عمره سنتان وطوله 82 سم حيث دفن في حفرة مستلقياً على ظهره، أما يداه فممدودتان وقدماه مثنيتان وعثر تحت رأسه على بلاطة حجرية كما على صدره فوق قلبه ويعود تأريخه إلى حوالي 100000 سنة. وفي عام 1997 عثر على هيكل عظمي لطفل ثانٍ بالعمر نفسه، وقد دلت طرق الدفن على أسلوب منظم ومدروس ويرقى إلى حوالي 80000 سنة، وهذا الكشف المهم يمثل حتى الآن أقدم عملية دفن للموتى في التاريخ البشري. وفي فلسطين عثر في مغارة قفزة على مقبرة بشرية تحوي 12 جثة نياندرتالية أرّخت بحدود 50.000 سنة وكانت الجثث لـــ 6 أموات كبار و7 أطفال. وأهم ما عثر عليه فيها، والذي يعني دلالة لها معناها الاجتماعي والروحي، هو قبر امرأة شابة مستلقية على جنبها الأيسر ومثنية الرجلين والى جانبها طفلها الواضع رأسه على صدرها في حين كان بين يديه غزال /رمز الخصب/.
ويبدو أن هذا يدل على وجود مفهوم للأسرة عند النياندرتاليين وهذا ما سيتوضح أكثر في موقع سبق هذا الموقع بحوالي عشرة آلاف سنة، أقصد موقع شانيدار في العراق والذي يؤرخ بحدود60.000 سنة فقد عثر في الكهف على هيكل عظمي لرجل نياندرتالي في الأربعين من عمره، وبدا من الفحص العلمي أنه يعاني منذ طفولته من شلل نصفي كما أنه أعور ويعاني من التهاب في المفاصل، ويبدو أنه مات في شهر حزيران. والطريف في الأمر أن أمراضه لم تمته، ولكن الذي قتله سقوط صخرة من سقف الكهف عليه.
إن الدلالة الروحية ـــ الاجتماعية لدى هذا الإنسان تشير إلى مبلغ العناية التي أحيط بها وهو المشلول والأعور. ويتبدى ذلك أكثر في أن أهله فرشوا قبره بالورود، دلّ على ذلك تحليل حبات الطلع.
وفي كهف السخول في فلسطين عثر على هياكل عظمية في مقبرة جماعية تراوحت أعمار موتاها بين 3 ـــ 50 سنة. ولوحظ أنه لم يوجد مرفقات جنائزية مع الموتى إلامع أكبرهم سناً، حيث كان يقبض بيده على عظم فك علوي لخنزير بري. /وربما يدل هذا على وجود أو تبلور بداية مفهوم للسلطة أو القيادة عند النياندرتاليين/. ولوحظ أن مدافن الرجال والأطفال عندهم تفوق مدافن النساء.
ويعج المشرق العربي بمواقع نياندرتالية مثل موقع الكبارا، وعدلون ويبرود وكهف الدوارة وجرف العجلة وأم التلال ومغارة العصفورية شمال بيروت.
ويبدو أن بنية الدماغ كانت آخذة بالتطور، ما دفع الإنسان النياندرتالي في أواخر عهده يتجه في المشرق العربي نحو التطور إلى الإنسان العاقل /لا سيما في فلسطين/، جدنا المباشر، وذلك في حدود 40.000 سنة. (11)
الإنسان العاقل في المشرق العربي القديم 40.000 سنة خلت:
نحن الآن أمام جدّنا المباشر وجهاً لوجه، فهو يمتلك تقريباً كل الصفات الفيزيولوجية والاجتماعية التي يملكها إنساننا الحالي. فطرداً مع تطور بنيته الدماغيه، وحجم دماغه، تطورت أساليب عيشه، وتطورت حياته الروحية والاجتماعية والاقتصادية. ويبدو أنه صار يفهم الطبيعة أكثر، فهو جزء منها ويحاول الانفكاك عنها عبر السيطرة عليها.
كل هذا أدى إلى تطور في مناحيه الروحية وبالتالي المعتقدية والفنية، وبقي صياداً ولاقطاً مع تبلور إحساس اجتماعي أقوى من سلفه.
أما شعائر الموت لديه فقد استمرت على ما كانت عليه عند سابقه، مع ميل للعناية بشكل واضح بالموتى، دلّ على ذلك أن المرفقات الجنائزية ازدادت وطرق الدفن أصبحت أكثر تعقيداً، فقد بقي يدفن موتاه داخل الكهوف، في وضعية القرفصاء، ويبدو أنه اتجه لدفن الأموات قرب المواقد «كما كان يفعل النياندرتال»، /ربما لأن برودة الجثة دفعته لتدفئتها عسى أن تعود إلى الحياة/. كما أن طريقة الدفن كما /وضعية الجنين/، ذكرّت بعض الباحثين أن لدى الإنسان العاقل ميل روحي، لاعتبار أن الدفن الجنيني هذا ربما يعيد الميت إلى الحياة كون أن الأرض رحم!!.
لكننا نستبعد مثل هذا الاعتقاد لدى الإنسان العاقل.. ونميل للأخذ باعتبارات أن مساحة الكهف هي التي حددت وضعية الدفن الجنيني، أو أخذ جثة الميت هذه الوضعية بشكل طبيعي، ربما نتيجة لموت طبيعي وما إلى ذلك.
ولوحظ أيضاً أن الجثث بدأت تطلى بالمغرة الحمراء، ونعتقد أن هذا يدخل في مجال التعويض عن الشحوب الذي يعتري الجثة. وهذا ما أثبتته الأبحاث العلمية على قبائل بدائية تعيش في أفريقيا حتى الآن حيث ظهر أنهم مازالوا يصبغون الجثث بهذه المغرة لاعتقادهم أنها علامة الحياة. (12)
ولوحظ أيضاً أن لدى الإنسان العاقل بدأ يتشكل إحساس الرهبة من الموت، وقد دل على ذلك أنهم كانوا يضعون أحجاراً ضخمة على أيدي الميت وأقدامه وصدره، ربما كي لا يستطيع القيام والعودة إلى الحياة وبالتالي إيذاء الأحياء. وهذا ما أكدته الأبحاث الأنثربولوجية التي جرت على قبائل بوبواس في غينيا الجديدة، حيث لوحظ أنهم كانوا يضعون الحجارة الكبيرة على رأس الميت وصدره وأقدامه.
ومن مواقع الإنسان العاقل في المشرق العربي هناك كهف الواد ـــ قفزة ـــ عرق الحمر ـــ الكبارا ـــ مصطبة الخيام ـــ كهف الأميرة ـــ كسار عقيل ـــ انطلياس ـــ يبرود ـــ الكوم ـــ وتدمر.
وفي حوالي 12000 تعتدل البيئة والمناخ بشكل يتماشى مع تطور مجتمعات الإنسان العاقل، ويزداد مردود الثروات الطبيعية، وتبدأ تلك المجتمعات تبني قراها نصف المستقرة ومع هذا فلم تغادرالكهوف نهائياً. وبقيت أساليب الدفن متواصلة على ما كانت عليه، مع ميل نحو ظهور مظاهر دفنية، معمارية تمثلت بصفّين من الحجارة للمدافن. وتغيرت أدوات المرفقات الجنائزية مع الحفاظ على ماسبق حيث، عثر في أحد القبور في موقع الكبارا على ثلاثة حجارة طحن، إحداها مدقة موضوعة فوق الرأس. كما عثر على زبدية بازلتية بجانب الرقبة وجزء من حجر الطحن أيضاً. فهل هذا يدل على مهنة صاحب القبر وبالتالي الإيحاء بأن بعض الرجال في هذه الفترة مارسوا الحرف والمهن بديلاً عن الصيد؟. لأن هذه المرفقات «المهنية» سوف نجدها بغزارة في قبور العصور التاريخية مع أصحابها. وفي العراق في كهف شانيدار عثر على قبر لطفل في هذه الفترة حوت مرفقاته على مئات القطع من الخرز والأحجار المنوعة كما عثر على قبر امرأة حوى سكيناً بقبضة عظمية ونصلة صوانية.
ومع حلول الألف العاشر ونتيجة للتطور الآخذ صعداً في مجاري الحياة الاقتصادية الاجتماعية والروحية، بدأنا نلاحظ أننا أصبحنا أمام مجتمعات متجانسة تميزت بالسكن في البيوت وتحولت الجماعة إلى مرحلة القبيلة وبقيت تمارس الصيد والالتقاط ولم تغادر الكهوف نهائياً.
أما طرق وشعائر الدفن، فقد بنيت المقابر الكبيرة ومورست عملية الدفن الفردي والجماعي ويبدو أن المقابر انفصلت عن المساكن وبقيت إلى جوارها. وطليت الجثث بالمغرة الحمراء. وهذا لا يعني أن الدفن لم يجر في المساكن، فقد عثر على عمليات دفن تحت أرضيات البيوت. وهنا يبدو أنه قد حصل انعطاف في البنية الذهنية للإنسان، حيث تبدأ بواكير فصل الجمجمة عن الجسد، ودفنها منفردة. بما يوحي ببوادر نشوء اعتقاد «عبادة الأجداد»، والذي سوف يتوضح أكثر في العصور اللاحقة.
مواقع هذه الفترة: عين الملاحة ـــ المريبط ـــ الجرف الأحمر ـــ أبو هريرة ـــ نهر الحمر ـــ الطيبة ـــ جيرود ـــ شقبة.
والملاحظ في هذا المجال أن الدفن كان يتم في قبور منتظمة، أما المرفقات الجنائزية فكانت عبارة عن أسلحة حجرية وأسنان ولؤلؤ وقرون غزال بالإضافة إلى سن حصان وأجزاء حيوانية أخرى. (13)
وفي الفترة بين 8300 ـــ 6000 ق. م: تم ولوج البشرية منعطف جديد عبر الثورة الزراعية التي خرجت من المشرق العربي القديم إلى العالم.
ويبدو أن هذه الثورة العلمية ما كانت تتحقق، لولا تراكم مجمل المعطيات على مجرى العصور السابقة ما أدى إلى حصول هذا الابتكار المشرقي العربي، والذي سيعكس من الآن فصاعداً جملة من المعايير والاعتقادات، ويخلق بالتالي تحولات اقتصادية واجتماعية وروحية مهمة، إن كان على صعيد دورة الحياة أو على الصعيد الذهني البشري. فقد أدى هذا التحول إلى نشوء القرى الزراعية الثابتة والمستقرة. ويبدو أن الإنسان بدأ يهجر الكهوف والمغاور نهائياً، ولكن هذا لا يعني أنه لم يستمر في حياة الصيد والرعي، لا بل إن حياة المجتمعات آنذاك شملت عالم الزراعة، بالإضافة إلى عالم الصيد والرعي واللذين تعايشا جنباً إلى جنب في دورة اقتصادية اجتماعية واحدة سوف توثقه أساطير العصور التاريخية، ولاسيما أسطورة المزارع والمراعي، ووثائق المشرق العربي في الألفين الثالثة والثانية ق. م.
ومع ابتكار الزراعة، انتقل الإنسان بوصفه جزءاً من الطبيعة إلى الانفصال عنها، والسيطرة عليها. وهذا سوف يؤثر في بنيته الذهنية وفي تفاعله مع الطبيعة ونواميسها، والتي ترتكز في ظاهرة الموت /الموت الدوري للنبات ومن ثم انبعاثه في مواجهة الموت الخطي قبل الانفصال عن الطبيعة/. ولاسيما في نشوء ظواهر الاعتقادات الدفينة الخصبية التي تجلت في ميل اعتباري للثور /الظاهرة الأقدم/ وعبادة الأم الكبرى، وصولاً إلى الأرواحية أو عبادة الأجداد، التي يعبرّ عنها بعبادة الجماجم عبر فصلها عن الأجساد.
ففي حوالي منتصف الألف الثامن قبل الميلاد سوف تغدو الجماجم موضع اهتمام كبير وهذا ما توضح في مواقع هذه الفترة، ففي المريبط، عثر على هياكل دفنت بلا رؤوس تحت أرضيات بيوت السكن. أما الجماجم فبعد فصلها عن الأجساد، كانت توضع على امتداد جدران المنازل لاعتبارات اعتقادية. كذلك عثر على نفس هذه الظاهرة في أريحا في فلسطين.
ولم تكن الجماجم لتترك بل أنهم كانوا يعالجونها كنوع من التعويض في المستوى النفسي الجمعي، ويحاولون إعادة تشكيلها من الجص، وصبغها بما يماثل لون البشر، ثم تنزل العيون بالصدف أو القواقع ويرسم على الجمجمة خيوط بنية كدلالة عل شعر الرأس.
وقد عثر على هذه الجماجم المقبولة في مواقع عدة في أريحا وبيسامون ووادي حمار وفي تل الرماد.
مقاربة نفسية ـــ أنثربولوجية لظاهرة الأرواحية «عبادة الأجداد»:
تدل الأبحاث العلمية، والميدانية الأنثربولوجية، إلى وجود جماعات بدئية إلى الآن تعيش منعزلة في أماكن عدة من المعمورة، ولاسيما في أفريقيا وأستراليا والأسكيمو، مازالت تمارس الأرواحية التي مرت بها المجتمعات الإنسانية في أطوارها السالفة. وقد بينت هذه الدراسات الميدانية أن سكان هذه الأماكن يعتقدون أن الأجداد يستمرون بالتدخل في حياة الجماعة لا بل ويظهرون موافقتهم أو عدمها عبر مدلولات طبيعية /كون أنهم مازالوا جزءاً من الطبيعة وخاصية من خواصها/ ولعل الأحلام عند هؤلاء تلعب دوراً مهماً في ربط عالم الأموات مع عالم الأحياء (14). ويبدو أن عبادة الأجداد تنزع فيما تنزع إليه، إلى تمتين أواصر اللحمة بين الجماعة واستمرارية تقاليدها وأخلاقها التي صاغها الأجداد وبذا تتوضح ظاهرة المعتقد هنا بأنها ظاهرة اجتماعية بحتة أوجبتها ظروف الصراع في الحياة من أجل البقاء.
فحسب تلك الجماعات إن الجد المدفون يجعل الأرض خصبة إذا عرفوا كيف يكسبون عطفه. لهذا فإذا أرادت جماعة ما أن تهاجر فينبغي أن تحمل جماجم أجدادها معها. فالأجداد إذاً هم جزء من المجتمع الإنساني الحي وعلى حد قول فرويليش فإن عبادة الأجداد هي عقدة من سلسلة طويلة اسمها الزمن. (15) لهذا فإن معرفة الأنساب والحفاظ عليها لها فائدة كبرى في المجال الاجتماعي، حيث تمتّن الأواصر الاجتماعية بقيادة الأجداد، إذاً هي ظاهرة قبلية بامتياز. فالأجداد هم ضامنو النسب للقبيلة وعبادتهم تضمن استمرارية التقاليد والأخلاق الاجتماعية بين أفراد الجماعة، كما أن هذه العادة تؤدي إلى توازن في المستوى النفسي الجمعي بين عالم الأحياء وعالم الأموات بما يضمن استمرارية دورة الحياة للأجداد واستمرارية حياة الأموات في وجود الجماعة. وهذا ما يطلق عليه تعبير الأخلاق النفعية. ويختصر أحد شيوخ القبائل التي درست عبادة الأجداد بقوله: «إن الأموات يعيشون بقدر ما نفكر بهم وعلينا أن نطيعهم». (16)
ويشار أيضاً في هذا المجال إلى وجود ظاهرة أخرى هي ظاهرة الأقنعة والتي عثر عليها في موقع وادي حمار حيث أن هذه الأقنعة توحي بتظاهرات ذات طابع جمعي شعبي حيث كان القناع يصمم لكي يضعه أحد الأشخاص /كرمز إرواحي/، وتقام طقوس وشعائر ربما في عيد الأموات. ويشير جاك كوفان أنه ربما يحمل دلائل خصبية (17).
كانت الأقنعة تثقب بثقوب دائرية، أما الأنف فعبارة عن نتوء قليل البروز والفم نصف مفتوح، وثمة تلاوين بالأحمر والأخضر تشكل خطوطاً مشّعة من المركز باتجاه محيط الوجه، وتحمل هذه الأقنعة على طرفها صفاً من الثقوب من أجل تثبيتها مع وجود آثار حمر تدل على استخدام مادة لاصقة لشعر مستعار. ويشير كوفان إلى أن هذا الطقس إنما يعبر عن أصل المسرح المقدس في المشرق العربي ويعتقد أنه ربما يعود لعصور أقدم بكثير من زمنه. (18)
الفترة بين 6000 ـــ 5000 ق. م:
استمر تطور المجتمعات الزراعية مع تعايشها مع مجتمعات الصيد والرعي، وقد بقيت طقوس الدفن تتم تحت أرضيات المساكن أو بقربها، وشملت المرفقات الجنائزية، أواني فخارية وحجرية ودمى نسائية وحيوانية مع ملاحظة أن هذه الفترة، لم يعثر في مواقعها على دلائل تشير إلى استمرار عقيدة عبادة الأجداد، كما لم يعثر /حتى الآن/ على جماجم مقولبة، مع اعتقادنا أنها استمرت لأنها ستظهر في العصور اللاحقة.
أهم مواقعها: رأس شمرا والعمق والكوم وبقرص في سورية، ووادي اليرموك والحولة وأريحا ووادي رباح في فلسطين، أما في لبنان فأرض قليلة وجبيل، وفي العراق أم الدباغية وتل حسونة وسامراء.
الفترة بين 5000 ـــ 3500 ق. م:
تطورت التقنية في مجال الزراعة إلى الري الصناعي والأقنية، وأصبحت الزراعة أكثر انتاجية. ومن المدافن يستنتج أنه ثمة تمايز اجتماعي يبدأ بالظهور بين الكهنة، ورجال الدين والسلطة والتجار من جهة، وبين بقية الناس من جهة أخرى. فقد حفلت قبور الأغنياء بالمعادن الثمينة، ولاسيما الذهب والفضة (19).
مجتمعات هذه الفترة مارسوا الدفن، ويبدو أنهم دفنوا الجماجم بمعزل عن الأجساد ما يشي بعبادة الأجداد، التي سوف تستمر حتى العصور التاريخية. حيث عثر على عبادة الأجداد في إيبلا عبر اكتشاف المقبرة الأمورية هناك والتي تعود للألف الثاني قبل الميلاد (20).
والجدير ذكره هنا، هو ظهور ظاهرة دفنية جديدة، تجلت في حرق الجثث ووضعها في جرار. وكان هذا يتم للكبار فقط أما الصغار فكانوا يدفنون بشكل اعتيادي. (21)
وأكثر الدفن داخل البيوت كان يتم للمواليد الجدد المتوفين، أما الكبار فقد دفنوا خارج البيوت. وقد عثر في بعض القبور على مرفقات جنائزية مثل التماثيل والأواني مع وجود سفن من طين. وهذه دلالة على نشوء مفاهيم جديدة في هذه الفترة لعالم ما وراء الموت، سوف يتوضح في العصور الكتابية حيث ثمة في العالم الآخر، نهر يعبره الإنسان بسفينة كي يصل إلى العالم السفلي. (22)
والذي يبدو كما هو واضح، في سياق البحث، أن وقفة الإنسان القديم تجاه ظاهرة الموت هي سلسلة واحدة تبدأ من إنسان النياندرتال، وصولاً /كما سنرى/ إلى الإنسان الحديث والمعاصر. مع فارق بسيط يوضحه عالم النفس يونغ بقوله: «إن الإنسان القديم يفعل ما يفعل، لكن الإنسان المتمدن يعرف ماذا يفعل» (23). وفي هذه النقطة تكمن وظيفة الدماغ ومدى الوعي الإنساني الذي لا حدود له.
استنتاجات تختص بالفترة التي امتدت
من حوالي 100000 سنة وحتى 3500 ق. م:
إن أقدم دليل أثري على وجود بشري في سورية يرقى إلى حوالي مليون سنة وبعضهم يعيد ذلك إلى مليون ونصف مليون سنة.
إن إنسان النياندرتال في المشرق العربي القديم، هو أول من وعى مسألة الموت متزامناً هذا مع تطور بنية الدماغ لديه ولاسيما القشرة الدماغية والقسم الحوفي من الدماغ.
إن عبادة الأجداد = الأرواحية تجلت منذ بواكيرها، في حوالي الألف العاشر قبل الميلاد. وهذا يشكّل انعكاساً لحالة النظام الاجتماعي القبلي نصف المستقر، والذي مارس الصيد والتقاط البذور. وهنا بدأت بواكير فصل الجمجمة عن الجسد لتتكرس وتتبلور مع الثورة الزراعية التي شهدها العالم آنذاك، انطلاقاً من سورية وذلك في حوالي منتصف الألف التاسع قبل الميلاد.
كان الدفن يتم تحت أرضيات الكهوف والمساكن. كما شهدت المنطقة بناء مقابر منتظمة ومعزولة عن المساكن في مواقع عديدة.
ظاهرة الموت ومعتقداته في العصور التاريخية 3200 ق. م:
نحن هنا مع استمرار لتقاليد وشعائر الدفن التي كانت سائدة سابقاً، مع ازدياد في التطور لجهة مناحي الحياة الدفينة، ولاسيما مع بداءات نشوء المدن، ومع فجر الكتابة والذي انطلق من المشرق العربي القديم
ولعلنا وفي مجال متابعة البحث، ولاسيما في العصور التاريخية /الكتابية/ نجد أنه ينبغي الإشارة إلى عدة مرتكزات:
أولها: أن العصور التاريخية في المشرق العربي تعد نقطة اتصال أو حلقة بين العصور ما قبل التاريخية والعصر الحديث لجهة شعائر الموت ومعتقداته، بمعنى أن ثمة استمرارية حضارية متواصلة مع الأخذ بعين الاعتبار ما قدمته الثورة المدينية = العمرانية من جهة، وما قدمه اختراع الكتابة من معايير وقيم جديدة على حياة المجتمع آنذاك والشعائر التي مارسها في مجال الموت من جهة أخرى. بالإضافة إلى بدء اعتمادنا، على ما خطه أجدادنا على الرقم الطينية، بما أدى إلى توسيع دائرة الرؤية، لجهة معرفة شعائرهم ومعتقداتهم، بشكل يبتعد عن الاعتقاد، إلى الجزم.
وسوف نجد أن ثمة شعائر ومعتقدات وحياة رمزية، مازالت موجودة إلى الآن في حياتنا تستمد جذورها من العصور القديمة.
ثانيها: كنا في مجال العصور ما قبل التاريخية نعتمد على اللقى وبقايا المباني والمقابر والمرفقات الجنائزية لتفسير موقف المجتمع من الموت، أما مع اختراع الكتابة فنحن الآن مع مسار يأخذ منحيين:
الأول: إرجاعي بما يفسر الرموز والبنى ماقبل التاريخية عبر الوثائق الكتابية المكتشفة.
الثاني: واقعي بما تقدمه الوثائق، وتدعم ذلك البنى الاثرية واللقى في حيز العصور التاريخية بهذا شكلت الوثائق الكتابية، حالة توثيق لمناحي المجتمع كلها ومنها مسألة الموت.
ثالثها: قدر الامكان ابتعدنا عن الاستعانة بالنصوص الأسطورية والأدبية، ليس لعدم أهميتها، بل لأننا شئنا البحث في موضوع الموت وشعائره وفق ما كان يجري، لا ما كان يتم تصوره (24). فالأسطورة على أنواعها المختلفة تستند إلى ركائز رمزية وكون أن الرمز مشحون بانفعال، فلا نعتقد أن البحث العلمي يقوم على الانفعال، بل على الوقائع الحياتية /لجهة هذا البحث/. وسأعطي مثالاً عن الانفعال الذي ذكرت، فقد ورد في ملحمة جلجامش أنه بنى أسوار أوروك، تلك التي لم يشهد مثلها إنسان (25)، لكن الكشف الأثري في مدينة «موقع حبوبة» في سورية أثبت أن سور حبوبة الكبيرة يفوق ضخامة سور أوروك المعاصر له. (26)
وأيضاً، فمسألة الموت في الأسطورة المشرقية، صحيح أنه كان يعبرّ عن موقف المجتمع من الموت لكنه يتضمن في الوقت نفسه خلفية للثقافة الزراعية، وصراعاً للرموز فيما بينها، على قاعدة ثنائية الموت ـــ الانبعاث. ومجالنا نحن هو ليس في التصور والتخيلات بقدر ما هو رصد الممارسات ومجمل السلوك الإنساني المجتمعي الواقعي والذي وثّقته كتابات ونصوص المشرق العربي، بعيداً عن التصورات والانفعالات. /هذا مع احتفاظنا بمقولة إن الفكر الفلسفي انبثق من الأسطورة/.
ومع عصر فجر التاريخ /حوالي 3500 ق. م/، نلاحظ أن شعائر الدفن في المشرق العربي القديم بقيت على حالها، واستمر الدفن تحت أرضيات المساكن /الظاهرة الأقدم/، مع ملاحظة هنا، أننا أصبحنا أمام ظاهرة دفن تتم في الجرار الفخارية، للأطفال أولاً ثم شملت الكبار أيضاً.
وفي هذه الفترة، وباطراد مع الزمن، لم يعثر على ظاهرة فصل الجماجم عن الأجساد. ما يعني أن عبادة الأجداد أو حتى ظاهرة الجماجم المقولبة لم تظهرها المواقع الأثرية حتى الآن. وربما الذي حصل ونتيجة للاتجاه الاجتماعي ـــ الاقتصادي ومع بداءة تأسيس المدن ونشوء الزعامة بشكل نظام سياسي، أن تحولت عبادة الأجداد /القبلية/ إلى عبادة للملوك وتأليههم بعد الموت، تبعاً للتطور الاجتماعي ـــ الاقتصادي الحاصل في المجتمعات. دون أن ننسى دور الكهنة في عامل الربط بين السماء والأرض.
ومن ناحية المرفقات الجنائزية /وهذه التسمية نعتقد أنها أفضل من الأثاث الجنائزي/، نلاحظ استمرارية لما كان سائداً من قبل.
مواقع هذه الفترة:
عثر في بيبلوس «جبيل» في لبنان على مقبرة تؤرخ بحدود 4000 ـــ 3100 قبل الميلاد حيث دفن الموتى داخل جرار كبيرة بعد أن تم قص أحد جوانب الجرة لادخال الجثة وتم الاستفادة من القسم المقصوص بأن أصبح غطاءاً للجرة. (27)
المرفقات الجنائزية كانت عبارة عن أوانٍ فخارية كانت تحوي طعاماً وشراباً، وزود الموتى بالأسلحة الحجرية والنحاسية، وشملت قبور النساء على أدوات زينة وتبرج.
وفي جرة كبيرة عثر على هيكل عظمي لرجل، والى جانب هذه الجرة ثمة جرة صغيرة حوت هيكلاً عظمياً لكلب، /ما يشي باعتقاد أن الميت كان صياداً/. وفي أريحا في فلسطين عثر على قبور محفورة في المنحدرات الصخرية ويعتقد أن الدفن فيها استمر لأجيال متعاقبة ولمئات السنين.
وفي العراق عثر في موقع تل قاليج آغا على دفن تحت أرضيات البيوت بالإضافة إلى العثور على جرار تحوي هياكل أطفال. كانت جرار الأطفال ذات شكل كروي ولها فوهات واسعة حيث يدفن الطفل فيها بوضع جنيني. ويتم دفن الجرة في باطن الأرض بعمق يتراوح بين متر وأربعة أمتار.
وفي مواقع أخرى عثر في بعض القبور على نماذج فخارية لزوارق شراعية وهذا ما سنناقشه لاحقاً مستندين على النصوص المسمارية.
وفي موقع أور في العراق عثر على مقبرة تضم 16 قبراً ملكياً وتعود لحوالي 2900 ـــ 2750 ق. م، والشيء اللافت هنا هو احتواء المقبرة على ضحايا بشرية ترافق الملك في عالم القبر وكأنه اعتقاد بأن الميت يحيا في القبر بانتظار انتقاله إلى العالم السفلي عبر نهر، فلا بد من وجود حاشيته معه للعناية به. ففي قبر عائد لملك أور (آ ـــ كلام ـــ دك) عثر على 40 مرافقاً من الحاشية وفي قبر عائد للملك (آ ـــ بار ـــ كي) عثر على ثلاث ضحايا بشرية في جزء منه وفي جزء آخر عثر في حفرة كبيرة على 62 جثة بينها 6 جثث لجنود وتسع لنساء.
والملاحظ أن أصحاب هذه الجثث دفنوا بكامل ملابسهم وزينتهم أما الحرس فكانوا يحملون أسلحتهم والموسيقيون قيثاراتهم وصنوجهم. وقد تقدم هذه الضحايا عربتان ربط إلى كل منهما ثلاثة ثيران وقد جلس في داخلها الحوذيون.
أما قبر الملكة «بور ـــ آبي» فقد عثر على عدة جثث لنساء رتبت في صفين، وفي آخر الصفين توجد قيثارة بالقرب منها هيكل امرأة امتدت عظام يديها عبر حطام القيثارة. وبلغ عدد الضحايا البشرية مع الملكة حوالي 25 ضحية.
كما عثر في قبر آخر على حوالي 74 ضحية بشرية منها 68 لنساء والبقية لرجال.. يبدو أنهم جنود حيث اتكأوا على الجدار مع أسلحتهم، في حين كانت أربع نساء يقفن أمام قيثاراتهن (28). ولتفسير هذه الظاهرة الاستعبادية عبر وجود ضحايا بشرية ترافق الملك في عالم القبر. والتي تعتبر في رأينا ظاهرة مستوردة، لا تعبر عن ذهنية المشرق العربي بدليل عدم تواجدها سابقاً وعدم استمراريتها، رغم العثور على ما يدل أن مواقع مدينة كيش الرافدية قد شهد هذه الظاهرة (80 ضحية دفنت مع حكام). فنحن نعتقد أن هذه الظاهرة مستمدة من الطقوس المصرية فقد عثر حول قبر الفرعون (جير) خليفة (غور آخا) في أبيدوس على حوالي 388 قبراً معظمهم لنساء والذي يبدو أنه جرى تقديمهن كقرابين كي ترافق الفرعون إلى العالم الآخر.
وفي موقع آخر جرى دفن 269 ضحية بشرية إلى جانب الفرعون كما رافقت زوجة الفرعون «ميرنيت» (41) ضحية، في حين أن الفرعون (أوداجي) رافقه 174 ضحية.
والذي يلاحظ أن الضحايا يكونون من أصحاب الحرف كالخزافين والنجارين والحجارين والرسامين وصانعي السفن وكل مع أدواته وتعود هذه القبور لحوالي 3100 ـــ 3000 ق. م. (29) وفي موقع أبو ضنّة في سورية، والذي يعود لمطلع الألف الثالث ق. م، عثر على عمليات دفن تحت أرضية البيوت تمت في جرار فخارية. (30)
أما في ماري في سورية، فقد لوحظ انه في الألف الثالث قبل الميلاد كان السكان يدفنون موتاهم تحت التراب دون أي تابوت. وكانت الجثة تحاط بطبقة من الجرار الصغيرة. أما المرفقات الجنائزية فكانت عبارة عن أوانٍ فخارية تحوي الأطعمة والشراب بما يؤمن للميت قوت يومه في العالم الآخر. أما قبور الملوك فكانت ومنذ مطلع الألف الثالث عبارة عن قبور ضخمة حجرية. (31)
الطقوس الجنائزية في العصور التاريخية:
كانت الطقوس الجنائزية تعتبـر ذات أهمية لدى الناس في المشرق العربي، فقد ساد الاعتقاد أنه إذا لم تقدم القرابين للموتى سواء الطعام أو الماء أو إقامة الشعائر على الأموات في يوم الندب، فسوف تخرج أرواح هؤلاء الموتى المحرومين بهيئة أشباح، تعكر صفو حياة الأحياء وتعيث فساداً وشراً. فإحدى التعاويذ المقروءة على نص مسماري تقول على لسان إنسان يبدو إنه ضحية مرض أو شأن سلبي فهم منه أنه يعاني من شبح تقول:
«سواء كنت شبح شخص غير مدفون، أو كنت شبحاً لم يلق عناية لائقة، أو شبح الميت الذي لم تقدم له القرابين الجنائزية أو الذي لم يسكب له الماء..» (32).
كما أن أحد النصوص يتحدث عن «أن الأشباح الشريرة تخرج من القبر من أجل الحصول على الطعام والماء». (33)
ولقناعتنا الآن /في العصر الذي سوف تسود فيه الروح العلمية/، بأن حالة المرض أو الحمى أو كل ما كان يصيب الإنسان، كانت تفسر تبعاً لحالة البنية الدماغية لديه ومدى تطورها، لذا فان تعليله المعتمد على اعتقادات طقوسية، جعلته في حالة مرضه سواء العضوي أو النفسي، يلجأ إلى الإشارة بإصبع الاتهام إلى الأرواح الشريرة. وهذا ما استمر ولو بشكل أقـــل حتى حياتنا المعاصرة وعند بعض شرائح المجتمع ولاسيما التي لا تملك المعرفة العلمية. وتتحدث النصوص أيضاً عن شخص ابتلي بمرض ما /وحسب اعتقاده بروح شريرة/ حيث يتضرع إلى أرواح الموتى من عائلته لينقذوه فيقول بحس وجداني عالٍ:
«يا أرواح عائلتي، يا أرواح أبي وأمي وأجدادي وأخي وأختي وكل أهلي وأقربائي.. كنت أقدم إليك القرابين الجنائزية وأسكب الماء لك وأبذل العناية لك وأبجلك.. قفي الآن أمام شمش وجلجامش واعرضي قضيتي واحصلي على قرار رأفة بحقي.. ليتسلم نمتار الروح الشريرة التي في جسدي وأعصابي وليمنعها نيدو من العودة ثانية، خذي هذه الروح إلى أرض اللاعودة ودعيني أنا خادمك، حياً.. سأقدم الماء البارد لشربك فامنحيني الحياة لأغني بمديحك» (34). وثمة رسالة من حاكم ترقا «التابعة لماري» إلى ملك ماري زمري ليم، يشير فيها الأول إلى أن الإله دجن طلب بوساطة الكاهن /ماخو/ إقامة الشعائر الجنائزية لروح يخدون ليم والد زمري ليم، حيث يبدو أن زمري ليم انقطع عن إقامة الشعائر لوالده المتوفى(35). وهاهو آشور بانيبال يذكر في أحد نصوصه: «لقد قمت بإعادة الشعائر التي تشمل الطعام والشراب المقدم لأرواح الموتى الملوك، والتي كانت مهملة، وأنجزت كل ما هو حسن للإله والإنسان، للميت والحي» (36).
وكان موعد إقامة الشعائر والطقوس يختلف بين المدن، ففي بابل مثلاً، كان يتم في التاسع والعشرين من كل شهر، حيث يعتقد أن أرواح الموتى تتجمع في ذلك اليوم والقمر محاقاً. وكان هذا اليوم يوصف /بيوم سكب الماء. يوم القرابين الجنائزية، يوم الكآبة، يوم الندب/، وفي إيبلا كان يتم في الشهر الحادي عشر من السنة وهو شهر عشتار، أما العيد السنوي لإقامة الطقوس فكان يتم في شهر آب في بابل وفي آشور كان يتم تقديم الطقوس في شهر شباط. وينبغي الإشارة أيضاً إلى أن الطقوس الجنائزية كانت تقام أيضاً لإرضاء الآلهة ولاسيما آلهة العالم السفلي.
فقد جاء في أحد النصوص: «انك تقدم القرابين الجنائزية من أجل الحقل الذي لاينتج.. ومن أجل الأقنية التي لاتجلب الماء.. إنك تقدم القرابين لآلهة العالم السفلي» (37).
ومن طرائف الأمور أن إحدى الوثائق الأكادية التي تعود للألف الثالث ق. م تذكر أن من يُتبنى، عليه أن يلتزم بتقديم القرابين إلى روح متبنيه بعد موته حيث جاء في النص:
«في حياتي تقومين بإطعامي وحين أموت تقدمين لي القرابين الجنائزية». (38)
الحرمان من الدفن كعقاب مجتمعي ضد الأفراد في الحروب:
شكـّل الحرمان من الدفن عقاباً لمن لا يمتثل للقانون في مدن الدول آنذاك، إضافة إلى أن الانتقام خلال الحروب، كان يركز على نبش أضرحة ملوك الأعداء. ففي الأدعية كان يقال: «عسى أن يتهاوى جسده ولا يدفنه أحد» (39).
«وعسى ألا يدفن جسده في التراب» (40). لا بل أن أحد القوانين الآشورية يذكر: «إذا أجهضت امرأة حامل نفسها فيجب أن يحاكموها وإن أدينت توضع على الخازوق ولا تدفن، وإذا ماتت أثناء الإجهاض فيجب أن توضع على الخازوق لا تدفن جثتها» (41).
وعلى مسلة تعود إلى أمير لجش آي ـــ أناتم، وتؤرخ حوالي 2600 ق. م، ثمة صور منقوشة تصور انتصاراته على أهل مدينة «أوما»، حيث يظهر القتلى مكدسين على الأرض، وجنود أمير لجش يسيرون فوقها، وقد نقشت رسوم النسور على المسلة وهي تطير من ميدان المعركة، حاملة بمناقيرها ومخالبها رؤوس وأيدي القتلى من الأعداء (42). ويؤكد ذلك نص يصف فيه الأمير حربه وانتقامه فيقول: «بتصرف»:
«ذبحت جيش أوما في مدينتهم.. وتركت أجسادهم في السهل للطيور والوحوش، لتلتهمها ومن ثم كومت هياكلهم خمسة أكوام في خمسة مواضع منفصلة». (43)
وتذكر حوليات آشور بانيبال، أنه في حربه ضد العيلاميين، خرّب أضرحة ملوكهم، وأخرج عظامهم ونقلها معه إلى آشور كأسلوب انتقام: «لقد نبشت قبور ملوكهم السابقين والمتأخرين الذين لم يخافوا من هيبة آشور، والذين أقلقوا أسلافي من الملوك، لقد نبشتها وعرّضت هياكلهم للشمس وأخذت عظامهم إلى بلاد آشور، لقد فرضت الإزعاج على أرواحهم وقطعت عنهم قرابين الطعام وسكب الماء». (44)
ومن الطريف في هذا المجال، ما فعله«مردوك ـــ بلادان» حين تمرد على الملك سنحاريب، فعقب فشل تمرده، أخرج هياكل أسلافه وفر بها بعيداً، لخشيته من أن يلحق سنحاريب الأذى بها. (45)
التوابيت:
مع بداية العصور التاريخية، كانت الجثث تدفن بعد لفها بحصر من القصب. أو تدفن الجثة في قبر مبطن بالحصر، وهذا ما أكدته مواقع أور ـــ تل صوان ـــ كيش.
كما استعملت التوابيت الخشبية في كيش. وعثر على توابيت طينية في موقع خفاجة.
وشاع الدفن في الجرار الفخارية في المشرق العربي، كما استعملت السلال في دفن الأطفال. وعثر على توابيت فخارية تشبه «طشت الغسيل»، حيث كانت تغطى بجذوع النخيل أو أغطية فخارية أو طينية. ففي موقع الأنصاري قرب حلب «2400 ـــ 1600 ق. م» عثر على مقبرة تشبه مقابر بلاد الشام من الناحية المعمارية، ومن ناحية المرفقات الجنائزية، ولاسيما مقابر قطنة والسلنكحية وتل برسيب وإيبلا.. وحوى أحد القبور، على هيكل عظمي لامرأة داخل جرة كبيرة لها فوهتان. (46)
وفي ماري شاع الدفن داخل الجرار الفخارية خلال الألف الثاني قبل الميلاد، وقد عثر على جرتين كبيرتين كانت فوهة كل منهما مقابلة للأخرى. وكان ممن أهم المرفقات الجنائزية، ثلاثة أقنعة لرجال مرد، مع زوائد متطاولة تمثل الأذنين وقد ثبّت القناع على صدر الميت(47). والجدير ذكره أن الأقنعة هذه عثر عليها في مواقع عديدة في الجناح الشرقي للمشرق العربي وفي أوغاريت.
شعائر الموت في إيبلا:
تقول مرغريت يون: «من البحر المتوسط وحتى الفرات يلاحظ استمرار العديد من مظاهر الأثاث الجنائزي للمدافن». (48)
فإيبلا لا تشذ عن هذا الأمر. ويبدو بشكل عام أن شعائر الموت ومعتقداته وبدءاً من السيادة العمورية على مدن المشرق العربي القديم قد تجانست ضمن معايير معينة وضمن نظام واحد مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف البيئة الخاصة بين مدينة وأخرى.
فقد عثر في إيبلا على مقبرة ملكية أمورية تعود للألف الثاني قبل الميلاد، وحول هذا يقول باولو ماتييه: «إن هذا التقليد الإيبلائي يعود إلى فجر التاريخ وقد شاع هذا التقليد /ويقصد المقبرة الملكية تحت القصر الملكي وفي قلب المدينة/ في جنوب الرافدين منذ منتصف الألف الثالث ق. م، كما في أور». فقد ظهرت تحت أرضيات القصر الغربي مقبرة ملكية هي عبارة عن أربعة مدافن(49)، أهمها مدفن الأميرة ومدفن سيد الماعز ومدفن الخزانات.
مدفن الأميرة يعود لحوالي 1800 ق. م، أما مدفن سيد الماعز فيؤرخ 1750 ق. م، وفي هذا المدفن عثر على تميمتين من العاج إحداهما، تشي بطقس جنائزي، حيث أنها تتألف من سلسلتين من الصفائح العاجية الرقيقة، وقد حوى المشهد الأول منها على وليمة جنائزية مؤلفة من رجل عاري الرأس، يمسك بعصا، ويجلس رواء منضدة مليئة بأرغفة الخبز، ويقف أمامه عدد من الخدم ورجل وامرأة عاريين، أما المشهد الثاني فيتألف من قردين في حالة ايتهال أمام ثور، ومن شكل ثانوي لرجل يحمل فأساً. وقد فسر ماتييه هذا المشهد مستنداً على أبيات من شعر أوغاريتي تتعلق بالإله «كيريت»، حيث يتولى الابن الأكبر والإبنة الكبرى مهمة مراسم دفن والدهما الملك المتوفى. ففي المشهد الأول يكون الملك هو صاحب الوليمة الجنائزية، ومن ثم تنسخ روحه بعد الوفاة في شكل ثور يبتهل له القردان. ويشير ماتييه إلى تفسير هذه المشاهد وفق أسطورة تموز. (50)
الجدير ذكره أن مدافن تلك الفترة تتشابه مع مثيلاتها في أريحا في فلسطين وجبيل في لبنان.
وقد دلت المقبرة الأمورية في إيبلا على ظاهرة عبادة الأجداد أو عبادة الملوك /ماتييه/(51)، ونحن نعتقد أن الظاهرة هنا، لا تعبر عن عبادة الأجداد بالمعنى القبلي، لأن نظام إيبلا السياسي شهد ملوكاً مختلفين ولا يشكلون علاقة أسرية متوارثة، وبالتالي فنحن أميل للأخذ بتقديس الملوك بعد موتهم.
شعائر الموت في أوغاريت:
تم اكتشاف الكثير من المدافن في أوغاريت، حيث توضعت تحت أرضيات المساكن. فالبيت الأوغاريتي بشكل عام، يحتوي طابقه الأرضي على مركز للأعمال الحرفية أو المنزلية والمستودعات ويكون مفتوحاً على الشارع. وثمة طابق ثانٍ، مخصص لسكن العائلة، وربما يوجد طابق ثالث ثم السطح. أما تحت الطابق الأرضي فيتوضع مدفن العائلة ويكون لها باب إلى الشارع مباشرة إضافة إلى ارتباطها ببقية أجزاء المنزل. (52)
عثر في أحد المدافن ضمن المنازل، على مرفقات جنائزية تضم بيوض النعام، كانت تستورد من مدن المشرق العربي الأخرى. كما كانت القبور تحوي على الأسلحة والحلي. وعثر في القصر الملكي على مدافن ملكية كبيرة تعود لحوالي 1400 ق. م، وحوى أحد القبور على منحوتة لموسيقي يعزف على صنجين.(53)
وقد تم قراءة أحد النصوص الأوغاريتية التي تتحدث عن أرواح الموتى «الابوم»، ويبدو أنها مرتبطة بعبادة أو تأليه الموتى /ربما الملوك/، أو إقامة شعائر جنائزية في ما يسمى بالمرزح.
ويبدو أن المرزح كان على شكل مؤسسة اجتماعية، تعنى بالطقوس الجنائزية التي تقام في دار مرزح لبكاء الأموات، وربما استذكارهم. حيث يقتسم الخبز ويشرب النبيذ للتعازي بالأموات. وفعل رزح، يفيد بمعنى السقوط إلى الأرض. وقد افترض جوناس جرينفلد أن ثمة توافقاً بين المرزح وبين طقس كيسبو الرافدي، فالمدعوون إلى الوليمة يكونون الأجداد وأرواح الموتى(54). ويبدو أن المرزح كان يشمل وليمة جنائزية، يتم عبرها دعوة أرواح الأجداد لذكراهم والتبرك بهم. وفيما يعاصر أوغاريت نميل نحو أريحا في فلسطين، حيث أدت المكتشفات الآثارية، إلى العثور على مدافن شبيهة ببقية مدافن بلاد الشام، ولكن الشيء الجديد هنا، هو أن المرفقات الجنائزية جديرة بأن نطلق عليها اسم أثاث جنائزي، فقد حوى أحد المدافن على أثاث «مناضد وطولات وكراسي خشبية» حيث استلقى الميت وسط الغرفة، على سرير بالقرب من طاولة، محملة بقطع من أدوات مهنية، استخدمها الميت في حياته /حيث كانت مستعملة/. ويبدو أن الأثاث الجنائزي هذا كان تشبهاً بالمدافن المصرية. (55)
العالم السفلي عند المشرقيين القدماء:
يتألف العالم السفلي حسب أحد النصوص الآشورية، خلال فترة السيادة الأمورية على المشرق العربي 2000 ق. م، إلى أن الأرض تقسم إلى ثلاث طبقات:
الأرض العليا = أرصيتو إليتو «بالأكادية»، الأرض الوسطى = أرصيتو قبليتو، الأرض السفلى، /العالم السفلي/ = أرصيتو سبليتو.
أما مداخل العالم السفلي، فهي القبر وأيضاً مدخل يقع عند مغيب الشمس.
وفوق العالم السفلي /الذي يتوضع في الطبقة الأخيرة تحت الأرض/ كانت تمتد مياه العمق، وثمة نهر يؤدي إلى العالم الأسفل يطلق عليه بالأكادية نهر /عبر/، وهو يحيط بالمدن. وباعتقاد أجدادنا آنذاك، أنه لا يمكن العبور للموتى بهذا النهر والوصول إلى أسوار مدينة الموتى، إلا بعد إقامة الشعائر الجنائزية وتقديم القرابين لآلهة العالم السفلي، عبر نهر عبر. لهذا كانت المرفقات الجنائزية ترفق بسفن ونماذج منها، إضافة إلى قطع نقود سوف يأخذها المسؤول عن عبور الموتى للعالم السفلي.
كان الاعتقاد بشكل عام في المشرق العربي، أن شهر شباط هو شهر لأخذ الأموات، حيث يكثر الموت /وهذا الاعتقاد مازال مستمراً في عصرنا الحديث/ وكان يسمى /بشهر نهر عبر/، حسب الوثائق الآشورية.
وورد في أحد النصوص المشرقية العائدة للألف الثاني ق. م: « دعهم يعبرون نهر العالم السفلي ولا يعودون» (56).
ومن أسماء العالم السفلي وصفاته، فإننا نلاحظ مدى تشابه الكلمات الأكادية مع الكلمات العربية، فالقبر في الأكادية: قبرو، وأرض الموتى = أرصيتو ميتوتي. وأناس سفليون «في العالم الأسفل» نجدها في الأكادية: نسي سبلاتي. وخربة أي مقبرة نجدها في الأكادية: خربو. (57)
شعائر الموت عند الآراميين:
دفن الآراميون موتاهم بطرق الدفن العادي، حيث دفنت الجثث داخل قبور مبنية على شكل غرف. كما كانوا يحرقون الجثث، والذي يبدو أنه تقليد لطقوس أناضولية لا تمت بصلة لذهنية الموت في المشرق العربي القديم.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن شواهد القبور هي ابتكار آرامي بامتياز، استمر إلى عصرنا الحاضر. ففي شمأل، عثر على شاهدة قبر ارتفاعها متر ونصف، وتمثل مشهد مائدة تجلس اليها سيدة ترتدي ثياب الاحتفالات، وأمامها طاولة تحوي أصنافاً من المأكولات، وخلف المرأة وقفت الوصيفة وبيدها الأولى مذبة، وبيدها الأخرى سكين. (58)
ويعتقد الدكتور علي أبو عساف بأن هذا المشهد يصف تصويراً لعقيدة الحياة في العالم السفلي. (59)
بالإضافة إلى شواهد القبور ظهر لدى الآراميين ابتكار التماثيل الجنائزية، حيث عثر عليها في عدة مدافن آرامية، ففي جوزن تم اكتشاف تمثالين لامرأتين جالستين وتمثال لرجل وامرأة يجلسان على مقعد واحد. وقد اتسمت هذه التماثيل بالتعبير الواقعي لحالة الموت، حيث العيون مغمضة وتوحي الشخوص بالجمود، دلالة على أنهم أموات.
وفي تل حلف عثر على تماثيل للموتى توضع كشاهدة قبر، وانتشرت الكتابة تحت قوس شاهدة القبر وعلى أسفل ثوب الميت. فمثلاً عثر على شاهدة قبر لكاهن /سن/ المتوفى، حيث نقرأ أسفل الثوب على الشاهدة:
«سن ـــ أرز ـــ ابني» كاهن سن هو متوفي وهذه صورته وقبره. وينتهي النص بلعن كل من يسيء إليه. (60)
وبشكل عام لم يظهر عند السوريين القدماء تفكير ما بوجود حياة بعد الموت، ولعل المرفقات الجنائزية من طعام وشراب وسفن ونقود إلخ، بالإضافة إلى الشعائر والطقوس الجنائزية، كانت تتم لتهدئة روح الميت، وجعله مطمئناً أولاً، وثانياً، من أجل ابتغاء مرضاة آلهة العالم الأسفل كي تعتني بالميت في العالم الآخر / السفلي.
وهذا ما جعل السوريين القدماء يعملون للحياة ومن اجل الحياة والمجتمع أكثر ما كانوا يشغلون تفكيرهم بالموت وعالمه. وهذا ما تبدى معنا منذ ما قبل التاريخ مروراً بالعصور التاريخية وحتى مملكة تدمر في القرون الميلادية الأولى والتي سمت المدافن ببيت الأبدية.
ولعلنا نختم بحثنا هذا بمقولة العالمة الإيطالية غابرييلا ماتييه:
«لم يكن السوريون غير مهتمين بمسائل ما بعد الحياة أو الوجود وإنما كانوا أقل استعداداً ليوم الموت، وهذا ما عرفناه من بقاياقبور مدمرة في سورية مثل إيبلا.
السوريون يصورون مكان الموت والقبر وحياة العالم الأسفل كمكان حزين، مكان حداد، مكان دخاني رمادي.. الموت عند السوريين بشكل عام نهاية مفتوحة للحياة» (61).

الهوامش
(1) د. سلطان محيسن. الصيادون الأوائل. دار الأبجدية. دمشق. 1991
(2) الوحدة الحضارية للوطن العربي القديم. مجموعة باحثين. وزارة الثقافة. دمشق. 2000
(3) محيسن. مرجع سابق.
(4) فرنسيس أور. حضارات العصر الحجري القديم. ت: سلطان محيسن. دمشق. 1989
(5) كارل ساغان. تنانين عدن. ت: نافع لبس. اتحاد الكتاب العرب. 1996
(6) المرجع السابق.
(7) تظهر بعض المعطيات الأثرية الحديثة، أن الإنسان العاقل ربما لم يتطور عن سلفه النيادرتال. /رغم أن المؤشرات تؤكد تطور الإنسان العاقل الفلسطيني عن سلفه النياندرتال/. ولكن ظهور دلائل عن وجود الإنسان العاقل، في جبل قفزة في فلسطين، بما يعود لحوالي 100000 سنه، ربما يعيد النظر في الكثير من المفاهيم السابقة. /راجع. محيسن. الصيادون الأوائل/.
(8) ساغان. مرجع سابق.
(9) كارل غوستاف يونغ. علم النفس التحليلي. ت: نهاد خياطة. دار الحوار. سورية. 1985
(10) محيسن. مرجع سابق.
(11) يمكن العودة للهامش رقم 7
(12) ه. فرويليش. ديانات الأرواح الوثنية. ت يوسف شلب الشام. دار المنارة. دمشق. 1988
(13) بورهارد برينتيس. نشوء الحضارات القديمة. ت: جبرائيل كباس. دار الأبجدية. دمشق. 1989
(14) فرويليش. مرجع سابق.
(15) المرجع السابق.
(16) المرجع السابق.
(17) جاك كوفان. الألوهية والزراعة. ت: موسى خوري. وزارة الثقافة. دمشق. 1999
(18) المرجع السابق.
(19) برينتيس. مرجع سابق.
(20) ابلا. مجموعة باحثين. ت: قاسم طوير. دار يعرب. دمشق. 1984
(21) برينتيس. مرجع سابق.
(22) د. نائل حنون. عقائد مابعد الموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة. وزارة الثقافة. بغداد. 1985
(23) يونغ. مرجع سابق.
(24) باعتقادنا، أن عقائد الموت وشعائره تتطلب حين دراستها، عدم الخلط بين الحقيقه التاريخية الموثقة، في الكتابات المسمارية وغيرها. وبين الأساطير والتي يناقشها البعض، وكأنها أحداث حقيقية. فالمعلوم أن الأساطير على أنواعها، هي ضرب من التصورات والتخيلات، لرموز وآلهة، والرمز بشكل عام، هو تصور مشحون بالانفعال، وبذا فلا يمكن تحقيق الغرض العلمي في بحثنا، اذا خلطنا الوقائع التاريخية المعاشة، مع التصورات والتخيلات الأسطورية. وربما يحتاج هذا، لبحث في الموت في الأسطورة لوحده، أو محاولة اجراء مقاربة للموت بين الوقائع التاريخية المعاشة، في مقابل الموت في الأساطير.
(25) طه باقر. ملحمة جلجامش. بغداد. 1962 وزارة الارشاد.
(26) ايفا شترومينغر. حبوبة. وزارة الثقافة. دمشق. 1984
(27) د. علي أبو عساف. آثار الممالك القديمة في سورية. وزارة الثقافة. 1988 ـــ دمشق
(28) حنون. مرجع سابق.
(29) برينتيس. مرجع سابق.
(30) الحوليات الأثرية السورية. 34 ـــ 1983
(31) أندريه بارو. ماري. وزارة الثقافة. دمشق. 1979. ت: رباح نفاخ.
(32) حنون. مرجع سابق.
(33) المرجع السابق نفسه.
(34) المرجع السابق نفسه.
(35) المرجع السابق نفسه.
(36) المرجع السابق نفسه.
(37) المرجع السابق نفسه.
(38) المرجع السابق نفسه.
(39) المرجع السابق نفسه.
(40) المرجع السابق نفسه.
(41) المرجع السابق نفسه.
(42) أندريه بارو. سومر. ت: سليم التكريتي ـــ عيسى سلمان. بغداد. وزارة الثقافة. 1978.
(43) حنون. مرجع سابق.
(44) المرجع السابق.
(45) المرجع السابق.
(46) الحوليات الأثرية السورية. مجلد 33 ـــ 1983
(47) بارو. مرجع سابق.
(48) الحوليات الأثرية السورية. مجلد. 29 ـــ 30/1979 ـــ 1980
(49) ابلا. مرجع سابق.
(50) المرجع السابق.
(51) المرجع السابق.
(52) الحوليات. 92 ـــ 30. مرجع سابق.
(53) المرجع السابق.
(54) المرجع السابق.
(55) برينتيس. مرجع سالق.
(56) حنون. مرجع سابق.
(57) المرجع السابق.
(58) د. علي أبو عساف. الآراميون. دار الأماني. 1988
(59) المرجع السابق.
(60) المرجع السابق.
(61) مجلة البناء اللبنانية. حوار مع غابرييلا ماتييه. 21/10/1989.

مراجع البحث الأخرى
• د. سلطان محيسن. المزارعون الأوائل. دار الأبجدية. 1994
• سيغموند فرويد. الطوطم والتابو. ت: بوعلي ياسين. دار الحوار. سورية. 1985
• بيتر فارب. بنو الإنسان. ت: زهير الكرمي. عالم المعرفة. 67/1983. الكويت.
• أشلي مونتاغيو. البدائية. ت: جابر عصفور. عالم المعرفة. 53/1982. الكويت.
• جاك كوفان. ديانات العصر الحجري الحديث. ت: سلطان محيسن. دار دمشق. 1989
• ايف كوبنز. افريقيا وقصة الإنسان. ت: سلطان محيسن. دار شمأل. دمشق. 1996
• الميثولوجيا ونشوء المعتقدات القديمة. مجموعة باحثين. ت: حسان اسحق. الأبجدية. 1993.
• د. خالد ـــ أبو غنيمة. أساليب الدفن في العصور الحجرية. دراسة. جامعة اليرموك.
• Exposition syro - éuropeenne d’archéologie - Paris 1996.
• Syrie terre de civilisations. 1999. quebec.
• انطون مورتكات. تموز. ت: توفيق سليمان. دار المجد. سورية 1985.

فصل من كتابنا \ دراسات في حضارة المشرق العربي القديم \ مركز الانماء الحضاري . سوريا . حلب 2003

أزار غزلان
18/12/2008, 08:53 AM
شكرا على الدراسةالقيمة
تحياتي