المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصيدة( بانتظار القصف ) للشاعرة بشرى البستاني / قراءة في محنة الحرب



عبدالوهاب محمد الجبوري
14/03/2008, 06:27 PM
قصيدة (بانتظار القصف) للشاعرة بشرى البستاني(*)
قراءة في محنة الحرب
د. بتول حمدي البستاني(**)
متابعة أدبية : الأستاذ عبدالوهاب محمد الجبوري (***)

الملخص
يمثل هذا البحث قراءة في قصيدة (بانتظار القصف) للشاعرة بشرى البستاني، التي عمدت فيها الذات الشاعرة إلى الكشف عن الخوف والحزن اللذين يجتاحان النفس الإنسانية حينما تنتظر فعل القهر والدمار المنبعث من أدوات الموت التي يصنعها الآخرون من أجل استلاب الإنسانية..ذلك الخوف الذي يتشظى ليشمل كل ما هو حي أو غير حي، وليتمخض بعد ذلك عن فعل مقاومة يتحقق النصر بعدها لصدق القضية وحتمية انتصار الإنسان على العدوان...وقد ركّـــز البحث على دراسة تقنيات عديدة وظفت في النص منها التناص والتوازي واللعب باللغة.
.
القصيدة والتحليل

إذا كانت مهمة الشعر مثلما يقول هاوسمان ( هي تنسيق أحزان العالم ) فأن مهمة الذات الشاعرة في هذا النص الكشف عن الخوف والحزن اللذين يجتاحان النفس الإنسانية حينما تنتظر فعل القهر والدمار المنبعث من أدوات الموت التي يصنعها الآخرون من اجل استلاب الإنسانية 00 ذلك الخوف الذي يتشظى ليشمل كل ما هو حي أو غير حي وليتمخض بعد ذلك عن فعل مقاومة يتحقق النصر بعدها لصدق القضية وحتمية انتصار الإنسان على العدوان 00

تبدأ قصيدة ( بانتظار القصف ) للشاعرة بشرى البستاني (1) بزمان متوتر – منتصف الليل – يلفه الغموض والخوف ، انه زمن العدوان الذي يوحي به العنوان 00 فهو يتكون من جملة اسمية محذوفة المبتدأ تتسم بالثبوت وتعلن عن زمن ثقيل ملئ بالأخطار لأنه زمن ( انتظار القصف ) والذي يخلق هذا الزمن ، إطلاق صافرة الإنذار 00وحذف المبتدأ هنا يفتح أفق التأويل على المحذوف أهو ( نحن ) ؟ ( الوطن ) ؟ ( المدينة ) ؟ ( الليل ) ؟ 000 من هو الذي ينتظر القصف 00 ؟ وهكذا تمتزج الأزمنة امتزاج الأسباب بالمسببات :
دقت الصافرة
ستأتي الصواريخ
منتصف الليل هذا

ولصافرة الإنذار صوت لا يشعر بخطره إلا من أدرك ما وراءه من ويلات 00 وهو يخلق في من يسمعه مزيجاً من الرعب والغضب والتوجس فكيف إذا كان هذا الصوت يطلق ليلاً ، والليل في الشعر العربي يحمل تراثاً من المواجد والمواجع والتجليات ، هو ليل حزن امرئ القيس الذي أرخى السدول على روحه أمواجاً لا تهدأ ، وهو ليل النابغة في أشواقه وأرقه وخوفه وتوجسه من ممدوحه ، وهو ليل لوعة العذريين في حرمانهم وتوقهم .
إن الشعور بالفاجعة جعل الذات الشاعرة تخلق صوراً استعارية وتشكيلات لغوية أنبأت عن اضفاء الحياة على كل مظاهر الكون ضد الظلم الموجه من قبل قوى غاشمة خلقت الهلع والرفض في الأشياء ، فما أن تدق الصافرة حتى يغدو الزمن ثقيلاً ، وتخلو الساحة له ليفعل ما يشاء بالشاعرة :

دقت الصافرة
هو الوقت لا ينقضي
يقطع الوقت أوردتي
والدقائق ليست تمرّ
تعلقني فوق حبل مدلّى 000
فالإنسان الفاعل بالزمن ، الذي يقطعه بالإرادة والإنجاز ، صار الآن ضحية للزمن الذي يقطع أوردته التي تؤدي دوراً مهماً في حياته إذ إن الأوردة التي هي جمع وريد " عرق يتصل بالكبد والقلب ، [ وفيها ] مجاري الدم والروح " (2) . وهي تنقل الدم من أنحاء الجسم الى القلب ، وتتألف جدرانها من أنسجة أرق مما في الشرايين وأقل مطاطية 00 وتوجد فيها صمامات تشبه الجيوب تتجه فتحاتها نحو القلب وبذلك تمكن الدم من السير نحو القلب ولا تسمح له بالرجوع بالاتجاه المعاكس 00 وتكون الأوردة اقرب الى سطح الجسم من الشرايين لذلك تقع عليها التأثيرات مباشرة وتكون اكثر إيلاماً ووقعاً (*) 00 إذن ، فالوقت هنا يصنع لها مشروع شنق إذ يعلقها ( فوق حبل مدلّى ) 00
شكل المكان بؤرة مهمة في النص إذ أسقطت الذات الشاعرة مشاعر القلق والانتظار على عناصره المختلفة المتمثلة بالبيت ومحتوياته والشوارع والأرض والبساتين وكأنها ( جسد وروح ) ، فهي أليفة تكره الموت وتتشبث بالحياة ، فقد كانت ساكنة تستعد للنوم ، وقسم منها نام فعلاً نومة خفيفة – ( غفا ، كان سيغفو ) – لم تطل بسبب صوت الصافرة :

وبيتي كان على وشك النوم
الياسمين غفا
السرو كان سيغفو

واضفاء الحياة على ما لا حياة فيه هنا هو الرد الحاسم على الفناء الذي تضمره الصافرة التي أزعجت جنس الطيور – والطيور هنا هي الهواجس – فضلاً عن الأطفال المعادلين لها ، وقد تجسد ذلك الانزعاج من خلال الفعل ( فزّ ) الذي يوحي بالفزع والاضطراب والوثبة من المكان بانزعاج والخروج من السكينة الى الهلع(3) :
على صوتها فزّ سرب الطيور ،
وسرب الطفولة
فزت شوارع آمنة ،
وحقول 000
وفزّت 00 ( لماذا 000 ؟ ) 00000
وفزّ الحنين الى نخل أهلي

ويبدو النص رداً شاملاً على مشروع الدمار المتمثل بما سيحدث أثناء وبعد القصف 00 فما أنسنة كل الأماكن والأشياء ، وما التعالق الاستعاري المكثف إلا محاولة لتحدي الموت الكامن الذي يمثله القصف ، فـ : الشرفة – ترمق / السجاجيد – تخشى الحريق / الجدار – يقول خذيني / أركان البيت – تلملم ، تهمس / الشجر يأتي ، يلقي ، يتمتم ، يكره / الدروب – تطير / الليل – يتلقف ، يلقي / الماء – يهرب ، يسكن 00
إن هذه الأجزاء تلتم أخيراً لتشكل حركة كلية مستنجدة ومقاومة ولائذة من شبح الدمار القادم ، هي حركة البيت متوقعاً ما سيحدث ، هامساً : لا تفزعي من نزيفي 00 ونجد جدلية الداخل والخارج إذ إن الرعب لا يقتصر على الداخل بل ينسحب الى الشجر الذي يغادر مكانه ليلقي بأشجانه فوق صدر الراوية وكأنه الطفل لاجئاً الى أمه و ( يتمتم ) بكراهية الشر ، وكأن هذا الهمس وهذه التمتمة محاولة لاضفاء الحياة على المكان واختراق الصمت الجاثم عليه وتحدي الموت – السكون 00
وما إضافة ياء المتكلم الى لفظة البيت ( بيتي ) – خمس مرات – إلا محاولة توحد الذات الشاعرة ببيتها وما يحويه ، فبيت الإنسان قصره (4) ، ومأواه الذي لا يعود اليه فقط بل يحلم بالعودة اليه 00 وبدونه يصبح كائناً مفتتاً فهو يحفظه عبر عواصف السماء وأهوال الأرض (5) .

وفضلاً عن ذلك فان ياء المتكلم تكررت في النص ولا سيما في ما يخص الذات الشاعرة والناس المقربين اليها ، ( أوردتي ، أهلي ، طفلي ، أخي ، جارتي ، نزيفي ، إليَّ ، صدري ، غيظي ، دمي ، روحي ، يقيني ، عيوني ، جروحي ، موتي 000 ) ويدل ذلك على توحد الذات بالمجموع فضلاً عن اصرار النص على تأكيد الوجود أمام الفناء الذي يهدد الإنسان ويهدد المكان ، كما ان ضمير المتكلم هنا يشيع فاعلية في النص كونه الضمير الأكثر حميمية وحرارة فضلاً عن ان الشاعر " لا يتحدث عن نفسه فقط ولا يحيا لها او ينقل احساساتها فحسب وانما هو ينقل مع معاناته معاناة الآخرين ويصور بقلمه كل ما يمكن أن يخطر في النفس البشرية من أحاسيس وانفعالات " (6) . وان فعل التوحد ورؤيا التواشج " ينبعان من ( ويولدان في الآن نفسه ) الإحساس بحلول الإنسان في الطبيعة والأشياء ، وانحلال الأشياء والطبيعة في الإنسان . أنسنة الأشياء هنا عملية حيوية تفيض من ذوبان الأشياء في الإنسان أصلاً ، ولا تعني انفصاماً بين الإنساني والطبيعي ، أو الاشيائي والإنساني " (7) .

لقد أسقطت الذات الشاعرة مشاعر الخوف والهلع على بيتها وما يحيط به ، ولا شك ان البيت هنا هو رمز للوطن الكبير المحارَب ، فالمكان – البيت – هنا فعل وفاعل فعلي ينفتح وينمو وله خصائص تكبيرية (8) . أما القوى المحاربة فتمثل الظلم في كل زمان ومكان ، ويمثل البيت واهله كل ما هو إنساني يفيض بحب الخير ورفض العدوان 00
ان اهتمام الشاعرة بالصور يعد علامة تشير الى جهدها في السيطرة على الموقف المعاصر وتوضيحه ، فالاستعارة " هي اللغة الطبيعية للحالات المتوترة وللاثارة ، لأنّها تمكن الإنسان بعنف مركز من التعبير عن الارتفاع في مستوى الموقف العنيف الذي يثيره . والصور هي ، كما كانت دوماً ، وسيلة لإزالة التوتر الشديد في الحياة بحيث يمكن أن يعطي هذا التوتر ضوءاً ينير الدرب للإنسان ، ودفئاً لقلبه " (9) .
× × × ×
لقد وظف النص أسلوب الاستفهام بما يحمله من روح درامية اكثر من مرّة ، مما يدل على انه اشتغل على التوجس والانتظار والحيرة والخوف ، ويوحي بمخلفات الحرب البشعة ( الموت ، القطع ، التهشيم 00 ) فضلاً عن كون الأسئلة تفتح أفق النص وتعبر عن حجم كبير من القلق والتوتر :

من سيموت بآخرة الليل :
طفلي ،
أخي 000
جارتي 000
يد من سوف تقطع في آخر الليل ،
أو ساقهُ
جسمُ من ستهشم
تلك الصواريخ ،

إنّ الأفعال المضارعة في النص تمثل زمن المستقبل وتوحي بارتقاب الموت وانتظاره ، وما اقترانها بحروف التنفيس ( السين وسوف ) إلا محاولة لتخليصها من الزمن الضيق المحدود الى زمن الاستقبال غير المحدود الذي يعطي حضوره داخل النص " نوعاً من الجذب المركزي لبقية أفعال الصورة أو المقطع أو القصيدة كلها لأن افق التوقع الذي يمنحه فضاء الاستقبال للقارئ ، يعطيه تساؤلاً بادها هو " ماذا بعد " يتساءل القاري ماذا سيحدث ، وتعليق الشاعر الحدث بزمن الاستقبال فكأنه انتهى من ماضيه وحاضره ، وعلق حركة النص ، حركة الحدث الى شيء قادم " (10) .

وينعطف النص من المتكلم الى فضاء اشمل تحققه التساؤلات المتلاحقة التي تستمر في خلق تشكيلات الخوف بعد القصف ، ويأتي التساؤل :
لماذا تخاف العصافير من قصفهم 00

وللعصافير قدرة على إرباك الغيظ على الرغم من ضعفها لأن خوفها يثير في الذات الشاعرة مشاعر إشكالية يمتزج فيها العذاب بالحنان والحنين واللهفة بالغضب على هذه المخلوقات الجمالية الشفافة التي تشكل ترميزات حياتية عدة لكل ما هو جميل في وطنها : ( العصافير تربك غيظي ) ، لأن الحنان على خوفها والرأفة برقتها يقطع على الشاعرة غيظها من العدوان ومواصلة التخطيط للمواجهة 00

ولليل أيضا وظيفته في هذه الدقائق ، وهي احتضان الدروب المهددة إذ يتحول الليل من علاقة وحشة الى علاقة مقاومة ، وهذا ما يقود المقطع نحو انعطافة حادة في التجربة الشعرية لدخول عنصر فاعل هو الحب وعوامل الاشتياق واللوعة ، ومحاولة البحث عن الآخر لمواجهة الخطر ، فينسى الزمن رعبه ، وتنسى اللحظات برودها ويغيب الخوف فيتواشج الليل ، الزمن ، مع الدروب / المكان :

العصافير تربك غيظي ،
وتردي دمي في الدروب اليك ،
الدروب تطير بلا وجل ،
يتلقفها الليل ،
يلقي بها في سنابل مقفلة

ونجد هنا تحولاً في الزمن ، من زمن قاتل يقطع الأوردة الى زمن طائر منهمر ، سريع لانه زمن الشوق الذي تحركه لواعج الحب 00 وفي فضاء الحب ينسى المشتاق مخاطر القصف وشظايا الدروب لأنه يسعى حينها لإدراك خلاصه إذ تسعى عوامل التواصل للحفاظ على الحياة ، ( يلقي بها في سنابل مقفلة ) . اذ يعمل الشعر الاصيل دوماً على مقارعة الموت بالحب 00 ان الشاعرة من خلال هندسة تكوين العلامات الشعرية المتمثلة بـ ( غفا ، فزّ ، يقطع الوقت أوردتي ، ستهشم ، تنزف ، ترمقني ، يلملم ، نزيفي ، يتمتم ، وجل ، يتلقفها ، سنابل مقفلة 00 ) خلقت نصاً او لنقل " إن النص تخلّق في رحمها " (11) ، لغرض انتزاع الحياة ورفض الموت بطرائقه المختلفة ، فضلاً عن أنها عمدت الى تخصيب اللغة بحيث أصبحت برموزها وإيقاعاتها تمثل بؤرة الاهتمام في الوظيفة الشعرية .

أما الماء المحدد بماء دجلة – ودجلة يعني العراق – رمز كل ما هو حي ، فقد ذعر هو الآخر من الموت واسرع في الفرار من باب بيتها ليستقر في سعفة ، ففي الباب يتعادل البعد النفسي بالبعد الواقعي ويستظل الشاعر بذاته (12) ، فهو أداة الدخول الى البيت والخروج منه ، وهو وسيلة مهمة من وسائل الحفاظ عليه وعلى أهله في حالة انغلاقه ، وقد تكون النجاة حينما يكون مفتوحاً . ان النص لم يحدد هل كان الباب مفتوحاً أو مغلقاً ؟ وهل استنجد بها مثل غيره من الأشياء أم لا ؟ إلا أن هروب الماء يعني انه كان مهدداً بالموت في حالتي الانفتاح والانغلاق ، لذلك اختار مكاناً آخر يحافظ فيه على حياته .
وفي محاولات النجاة هذه وصلت الثعابين ، وهي رمز لطائرات الأعداء التي تجلب الموت :

وتدور الثعابين حول بساتينه ،
آه 00 تسعى الثعابينُ
في روض روحي 000

فالأفعال المضارعة ( تدور ، تسعى ) توحي بملازمة هذه الطائرات المستمرة لهذه الأماكن في الحاضر والمستقبل المنظور 00 ونجد لهذه الصورة مرجعيتها في أسطورة ( أورفيوس ) الفنان الذي هزم الموت بموسيقاه الخالدة إلا أن الموت تمكن منها حينما تمثل لحبيبته وزوجته في صورة أفعى لدغتها فماتت ، فضلاً عن أن الأفعى ترمز لـ " روح الشر والغواية والمعرفة بالأعمال الشيطانية " (13) .

ان النص على يقين بعدالة القضية لذلك تعلن الشاعرة رفضها لتطفلهم المتواصل إذ تقول :
وأصرخ في حومة الليل ،
اصرخ 00 لا 00
لن يمروا 00
تكسر شباك بيتي ،
لكنهم ذعروا من يقيني ،

ذلك اليقين المتمثل في إرادة خلاقة قادرة على المواجهة والتجاوز لأنها ترتكز على منجز حضاري وانساني يمتلك جذوره في أعماق الزمن ولذلك فان روح التفاؤل تومض في اشد حالات الحرب قسوة وضراوة :
تكسر شباك بيتي ،
لكن ورد عيوني
تناثر فوق الرياح التي عصفت بالغصون

فالورد هنا – معادل لليقين – مقابل الرياح التي كانت عامل خراب وتدمير 00 ونجد تحولات النص من الأنا الى النحن ، ومن الخاص الى العام ، من ( بيتي ) الى ( ارض العرب ) ، فالقضية واحدة ، والمكان واحد ، من الماء للماء ، من الخليج الى المحيط ، ولكن الاختلاف موجود ، وتتنازع المكان أسئلة وأجوبة تخلق جروحاً وناراً للذات الشاعرة .
وأسئلة الشام ،
أجوبة النيل ،
كانت تراود روحي ،
حوار جريح يحرّض نار جروحي
ثم يتحقق الحلم بالثورة :
من الماء ،
للماء كان اللهب
يخضب ارض العرب 000
ويصرخ في وجههم :
اطلقوني 00

إذ لا تكف الذات الشاعرة عن فضح الأنظمة التي سارت وتسير في ركاب العدوان والتي تضع حدوداً وقيوداً ضد إطلاق نداءات الأمة في مواجهة أعدائها 00 وتعود الحياة ثانية في صباح جديد :
فينفتح الماءُ عن زهرة غاربة
وتدنو العصافير ثانية ،
في الصباح 0000
وهكذا ينبثق التفاؤل – من خضم الخوف والانتظار – بفعل ثوري يحلم فيه الإنسان بحياة تسودها السكينة .
× × × ×

تراكمت في النص تناصات متتالية عمقت الرؤيا الشعرية وتواشجت مع الاستعارة فانتجا دلالة تهدف الى بيان بشاعة العدوان مما أدى الى إثراء النص وجعله اكثر عمّقاً .
والتناص ترحال للنصوص وتداخل وامتصاص ففي فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى (14) ، وهو يحرك دينامية القراءة والكتابة ، ويؤكد وجود ترابط نص مع نص آخر ، ويكشف عن خاصية كانت مطمورة فيه (15) ويعد بالنسبة للشاعر تلويناً وتنويعاً ولعباً فنياً محكماً بالأزمنة والأمكنة والوقائع مما يغني النص الجديد ويزيد من ثرائه 00 فقد شكل تكرار ( دقت الصافرة ) تناصا داخليا 000 وكوّن لازمة قبلية افتتح بها النص تكررت في ثناياه 00 لتضفي إيحاءات إيقاعية ودلالية عليه ، ولتوحي بالإنذار ، وتعبر عن حالة التوتر التي يعيشها الإنسان زمن انتظار القصف 00 أما التناص الخارجي فقد تمثل بالتناصات القرآنية التي شكلت ستراتيجية عمدت الى تفجير الدلالات الموحَية بالقتل والعدوان :
لضرب الرقاب ،
وشدّ الوثاق ،
لضرب بلا فدية ،

إذ جاء التناص هنا مع سورة ( محمد ) التي كان لها اسم اخر هو سورة القتال وهو اسم حقيقي لها ، فالقتال موضوعها ، ويشكل عنصراً بارزاً فيها ، وهو في صورها وظلالها ، وجرسها وإيقاعها 00 تبدأ السورة بإعلان حرب على الأعداء ، بل هناك أمر صريح بها : " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما منّا بعدُ وامّا فداء ، حتى تضعَ الحربُ أوزارها " (16) . ومن ثمّ بيان حكمة القتال ، وتشجيع عليه ، وتكريم من الله تعالى للذين يستشهدون فيه ، ويقابل ذلك تهديد الكافرين وخذلانهم وضعفهم وتركهم بلا ناصر (17) . ان الآية الكريمة تؤكد لقاء الطرفين للقتال ، في حين لا نجد في النص لقاءً بين طرفين بل نجد قوى غاشمة تعلن الصافرة عن مجيئهم لقتال الطرف الآخر بعد منتصف الليل ، حيث الناس نيام مطمئنون 00 إن هذه القوى اختارت اللّيل غيلة وغدراً لتكون اكثر تخفياً وغموضاً ويكون عملها اكثر قسوة وإيلاما 00 وفي الوقت الذي ينصّ فيه النص القرآني على قتل الكثير من الكفار ثم أسر الآخرين الذين سيطلق سراحهم بعد انتهاء الحرب بفدية أو بأسرى ، يؤكد النص الشعري القتل وبدون خيار ( بضرب بلا فدية ) 00 وياتي التساؤل الإنساني الطافح برفض الحرب :

فمتى تضع الحرب أوزارها ؟
ان هذا النص يتناص مع آيات من القرآن الكريم وحديث نبوي شريف كما يتناص مع شعر جاهلي :
- " ووضعنا عنك وزرك " سورة الشرح : الآية 2 .
- " كلا لا وزر " سورة القيامة : الآية 11 .
- " ولا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى " سورة الزمر : الآية 7 .
- " ألاّ تزر وازرة وزر أخرى " سورة النجم : الآية 38 .
- " ولا تزر وازرة وزر أخرى " سورة الإسراء : الآية 15 ، وسورة فاطر : الآية 18 ، وسورة الأنعام : الآية 164 .
- " فانه يحمل يوم القيامة وزرا " سورة طه : الآية 100 .
- " ولكنا حُملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها " سورة طه : الآية 87 .
وجاء في الحديث النبوي الشريف عن سلمة بن نفيل الكندي قال : كنت جالساً عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رجل يا رسول الله أذال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا : لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها ؟ فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوجهه وقال : كذبوا 00 " (18) .
وقال الاعشى : (19)
وأعددت للحرب أوزارها :

رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا

إن هذه التناصات توحي بتساؤلات عديدة وتؤكد دلالات القتل والموت التي تتولد من الحرب 00 فمتى تنتهي الحرب بما فيها من أدوات القتل والتدمير 00 ؟ ومتى ينقضي أمرها وتضع أثقالها من آلات موت وسلاح ؟ ان هذه التساؤلات تنبثق من ثقل هموم الحرب على الإنسان وضيقه من ويلاتها 00 ؟
وتتوالى التناصات التي تتواشج مع الاستعارات التي تؤكد استمرار الحرب وبشاعتها ، تلك الحرب التي عطلت وظائف الأشياء ، وحوّلت الحياة الى ضبابية وظلام :
عشبها في العيون ثوى ماؤه
عشبها في ظهور الخيول

فقد صار للحرب عشب مرتو بالماء ، كناية عن طولها ، ولكن أين نما هذا العشب ؟ إنه في العيون مصدر الرؤية والإبصار والترقب والانتباه ، ثم ألا ترى اشتباكات دلالية في قولها ( ثوى ماؤه ) ؟ أليست لهذا الماء علاقة بالدمع رفيق الحروب والفقدان في كل مكان ؟
وقد نما عشبها أيضاً في ظهور الخيول مما أدى الى تعطيل مهمتها ، فللخيل دلالاتها التراثية عند العربي فهي بمثابة " نداء للمجتمع كلّه كي يؤدي رسالة هدي وإنقاذ 000[ و ] هي مفتاح باب النصر " (20) في عصر ما قبل الإسلام والفتوحات الإسلامية .
إذن 00 فقد شلت الحرب كل القوى التي تمتلك القدرة على المواجهة والعطاء ، فالأرض فقدت قدرتها على الإنبات فهي مبتلاة تنزف مكوناتها :
حجراً ،
حجراً
تنزف الأرض محنتها

ولكن متى تُخرج الأرض مكوناتها ؟ ألا يعد هذا النص تناصاً مع الآيات القرآنية الكريمة ، " إذا زلزلت الأرض زلزالها . واخرجت الأرض أثقالها ، وقال الإنسان ما لها " (21) إنه مشهد من مشاهد يوم القيامة 00 فالأرض تخرج ما فيها من معادن ومياه وصخر وذلك بسبب تكرر الانفجارات الناشئة عن اضطراب داخل طبقاتها وانقلاب أعاليها أسافل وأسافلها أعال (22) . لكن ارض النص تعاني من اعتداءات تؤثر فيها حدّ النزف 00 فماذا تنزف الأرض ؟ إنها تنزف محنتها 00 وضمير الهاء هنا يفيد تمكن المحنة منها " وتكرره حتى كأنه عرف بنسبته اليها لكثرة اتصاله بها " (23) 00 والمحنة ما يمتحن به الإنسان من بلية ، وأصل المَحن الضرب بالسوط 00 ومحن ، ضرب ، ومحنت البئر إذا أخرجت ترابها وطينها ، ومحنت الفضة اذا صفّيتها وخلصتها بالنار ، وامتحنتَ الذهب والفضة إذا أذبتهما لتختبرهما حتى خلّصتَ الذهب والفضة (24) 00 ان هذه الدلالات تؤكد عذاب الأرض وابتلاءَها واختبارها ، وهي المعادل الموضوعي للإنسان والوطن المحاصر 00 كما انها تتجاوز هذه المحنة على الرغم من الأذى الذي يلحق بها ، إذ إنها تنزف حجارة ستكون وسيلة من وسائل مقاومتها للعدوان 00 إن ذكر الحجر هنا يعد فعالية تناصية خدمت الرؤيا الشعرية ودلّت على مقاومة الموت 00 انها الحجر نفسها التي تمنى الشاعر الجاهلي قبل اكثر من ألف واربعمئة سنة أن يكون مثلها في الصلابة والخلود (25) :
ما أطيب العيش لو أنّ الفتى حجر

وهي نفسها الأداة التي يقاوم بها الفلسطيني عوامل القهر والعدوان 00
ويعلو صوت الذات الشاعرة المملوء يقيناً بالنصر في لحظة غضب وغيظ ، لأن البقاء لأصحاب هذه الأرض ، أرض المحنة ، على الرغم من همجية العدوان ، وأولئك لا قضية لهم إلا العدوان ، لذا تطالب بإدانتهم وحسابهم :
انتصروا أيها الوارثون
ان النص يتناص مع آيات قرآنية كريمة نذكر منها :
- " أولئك هم الوارثون . الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون " سورة المؤمنون : الآيتان : 10-11 .
- " وزكريا إذ نادى ربّه ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين " سورة الأنبياء : الآية 89 .
- " ونريد أن نمُنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " سورة القصص : الآية 58 .
- " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " سورة الأنبياء : الآية 105 .
- " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " سورة الأعراف : الآية : 128 .
- " وقفوهم انهم مسؤولون " سورة الصافات : الآية 24 .
- " ثم هم يوم القيامة من المحضرين " سورة القصص : الآية 61 .
- " وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون " سورة الروم : الآية 16 .
- " والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العقاب محضرون " سورة سبأ : الآية 38 .
- " وان كلّ لمّا جميع لدينا محضرون " سورة ياسين : الآية 32 .
- " فكذبون فانهم محضرون " سورة الصافات : الآية 127 .
- " ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين " الصافات 57 .
-
ان ( محضرون ) حملت دلالات الحساب والعذاب والتهديد ، وكذلك ( قفوهم ) ، أما ( الوارثون ) فحملت دلالات النصر والجزاء بالإحسان بعد معاناة محن الحرب ، فضلاً عن أن كل هذه الآيات الكريمة تجتمع مع بعضها ، تتراكم دلالاتها وتترسب في ذهنية الذات الشاعرة فتنتج دلالة شعرية في تركيب يتواصل تواصلاً حميماً مع الموروث الديني ليؤكد وجود طرفين ، الأول ، صاحب قضية صادقة يدين العدوان ، والثاني ، صاحب قضية خاسرة مهما طال به الزمن لان القتل أداته 00
ونلاحظ تواشجا بين الزمان والمكان من اجل الحفاظ على الحياة وسط العدوان :
الدروب تطير بلا وجل ،
يتلقفها الليل ،
يلقي بها في سنابل مقفلة

فالدروب – هنا رمز لمكان الألفة ولكل جميل عاشاه معا – تتشبث بالحياة وتهرب ، يساعدها في ذلك الليل الذي يتلقفها بكل ما يوحي به هذا الفعل من سرعة وحفاظ على الشيء – ليضعها في مكان آمن ، ( سنابل مقفلة ) ، فالسنابل بؤرة دلالية تفاؤلية توحي بأن الأمن سيعود يوماً ما الى الوطن 00 فهي تعمل أرصدة ضد القتل والإبادة ، وتذكرنا بسنابل يوسف ( عليه السلام ) ، وقد مرّت بالناس سنوات جدب تغلب عليها النبي يوسف بعقله وحكمته ، كذلك عانى الإنسان في وطننا من الحصار فقاومه بالعمل والعلم فضلاً عن أن كلّ شيء كان يتعاون من اجل درء الموت : " قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون " (26) . فالسنبلة المقفلة اذن رمز الحماية والرعاية .
ولم ينج الماء من العدوان ، لذا هرب من اجل البقاء وهو رمز الحياة واصل كل الكائنات :
ماء دجلة يهرب من باب بيتي ،
ليسكن في سعفة ،
فهو يرفض التبدد والجريان ويتحول الى أسفار ويقيم في سعفة ليعاود كتابة التاريخ 00 ان استخدام السعفة هنا لم يأتِ اعتباطاً ، بل جاء توظيفاً شعرياً للتراث ، فالسعفة أداة من أدوات الكتابة عند العرب ولا سيما عند العراقيين منذ عصور ما قبل الميلاد (27) 00 ألم يكن العراق أوّل من اكتشف الكتابة في التاريخ الإنساني والعالمي ؟ إن الماء سيمنح الحياة للسعفة ويتواصل الخصب وتستمر الحضارة ، أليست الكتابة رمزاً للخلود والبقاء والاستمرار 00 ؟

إن هذا النص بتناصاته العديدة للآيات الكريمة ولرموز التراث خرج عن أن يكون نصاً ذاتياً " لأن الذاتية في الشعر ، ونقصد الذاتية المغرقة في تتبع شؤون الشاعر وحده ، نادراً ما تقترب به من التراث ، بسبب إصغائه الى صوته الداخلي بتفصيلات لا ترقى الى مستوى أعلى من تلك الذات ولا تتسع لما حولها " (28) 00
ويوظف النص اللعب باللغة الذي هو شكل من أشكال التغيير باللغة وأزمانها والتصرف في أنظمتها تركيباً وتصويراً وترميزاً وإيقاعاً بغية إنتاج رؤية جديدة للعالم والأشياء والنص (29) . ويتجلى ذلك عن طريق التجمعات الصوتية والتكرار :
الياسمين غفا
السرو كان سيغفو

فتكرار الفعل ) غفا ، سيغفو ) يثير الإحساس بالأمان والطمأنينة فضلاً عن تكرار صوت السين المهموس الذي يضفي إيقاعاً داخلياً على النص ويوحي بالجمال والأمان 00
ونجد في النص حسب ياكبسون ، نسقاً من التناسبات المستمرة على مستويات متعددة منها المستوى النحوي – التركيبي ، والمستوى الصوتي والدلالي فضلاً عن تنظيم وترتيب الترادفات المعجمية ، وهذه المستويات تترابط مع بعضها بوساطة التوازي وتخلق انسجاماً واضحاً وتنوعاً كبيراً (30) 000
على صوتها فزّ سرب الطيور ،
وسرب الطفولة
فزّت شوارع آمنة ،
وحقول 000
وفزّت 000 ( لماذا 000 ! ) 000
وفزّ الحنين الى نخل أهلي ،
ان تكرار الفعل ( فزّ ) يضفي إيقاعاً على النص مؤكداً خوف الذات الشاعرة الذي أسقطته على سرب الطيور وسرب الطفولة والشوارع والحقول والحنين الى نخل الأهل تشبثاً بالجذور وملاذاً من شبح الموت بالخيوط التاريخية الحية رامزة لها بالنخل شجرة العرب الخالدة في صحرائهم قبل آلاف السنين .

وان مجيء الاستفهام (لماذا 000 ! ) - التي تتكون من لام التعليل وما الاستفهامية – بتقدير محذوف هو جملة لماذا فاعلاً للفعل ( فزت ) إنما من باب احتواء اللغة الشعرية لكل ما هو غير متوقع ، إذ أراد النص أن يحقق دلالة نهوض أسئلة جمة ، كل سؤال فيها يحمل دهشته من ظلم ما يحصل ويحمل عجبه واستغرابه ، فجاء اسم الاستفهام مكثفاً كل تلك الأسئلة ، ملخصاً توجيهاته الأليمة وهي تبصر معالم الظلم والعدوان 000
وفزت لماذا 000 ؟

وقد آزر كل ذلك ورود علامات الترقيم بعد ( لماذا ) التي هي عبارة عن نقطتين وعلامة تعجب وقوسين على شكل نصفي دائرة 000 ان هذه العلامات بوصفها فضاءً طباعياً يمنح النص إيقاعاً دلالياً خاصاً يعبر عن الرؤيا الشعرية المعاصرة كما تعبر عن حيرة الذات الشاعرة ورفضها لما يحدث وكأنها تبحث عن سبب كل الحالات الدرامية التي كشف عنها النص 000 وقد عملت علامات الترقيم على تماسك النص وانفتاحه على أفق التساؤلات وتأشير الدلالات المتنوعة ، وقوت العلاقة بين المبدعة والمتلقي بحيث صارت القضية مشتركة بينهما 000
ويتمثل التوازي أيضا في :

من الماء ،
للماء كان اللهب
يخضب أرض العرب
ويصرخ في وجههم :
اطلقوني 000
ويزحف سرواً ،
ونخلاً ،
وطير
ويركن حول شبابيك بيتي ،
ويرفض ،
يرفض موتي

فاللهب واللهيب اشتعال النار وحرّها واتقادها 000واللهبان ، توقد الجمر بغير ضرام ، والتهب عليه ، غضب وتحرق 000 واللهب الجري الشديد الذي يثير غباراً (31) 00 وللهب في النص وجهان ، وجه يتسم بخاصية إنسانية مرهفة فهو مع المظلوم إذ يخضب ارض العرب ، ففيه إذن خاصية الإخصاب ، والخضاب ما يخضب به من حناء ، وخضبت الأرض ، ظهر نباتها واخضر ، وخضب العرفج ، أورق ، والخضْب النبات الجديد الذي يصيبه المطر فيخضر(32) فهو هنا رمز للغضب العربي الثوري إذ ستنهض الأمة وتعيد مجدها الحضاري الزاهر مثلما تعيد الحناء الشباب ورونقه 000 واللهب متحرك غير ساكن فهو يتحول الى حركة إيجابية على النقيض من الحكام الذين تحولوا عن رسالتهم والتزموا الصمت 000 فاللهب يتحول الى

اللهـب




سرو نخل طير

فالسرو رمز الأمان والاستقرار ودوام الخضرة ، وذلك دليل التحضر والجمال 00 وقد عرف بقوته إذ انه من شجر الجبال ، وتتخذ القسَيّ منه (33) .

والنخل رمز تراثي وديني وقد شبه المؤمن بها في رسوخ إيمانه وثباته 00 (34)
ونجد الحوار والبوح اللذين يحركان النص مقابل سكون الزمن ضمن هيكلية التوازي :
تقول السجاجيد :

أخشى الحريق
يقول الجدار :
خذيني ،
يلملم أركانه البيت 00
يهمس :
لا تفزعي من نزيفي ،
ويأتي الى الشجر 00
ويُلقي بأشجانه فوق صدري
يتمتم :
اكرههم ، 000
ثم يأتي التوازي القائم على التقابل الدلالي :
تكسّر شباك بيتي ،
لكنهم ذُعروا من يقيني
تكسّر شباك بيتيَ
لكنّ وردَ عيوني
تناثر فوق الرياح التي عصفت بالغصون
000000000000000
من الماء ،
للماء كان اللهب
يخضب أرض العرب
000000000000000
ويزحف :
سرواً ،
ونخلاً ،
وطيرْ
ويركن حول شبابيك بيتي

فهنا نجد حركتين متضادتين ، الأولى ، عدوانية نتج عنها تكسر الشبابيك بفعل العدوان ، والثانية ، ثورية إذ تنطلق الثورة لتستقر حول الشبابيك حيث يتحول الشباك الى أداة تحمي الثورة ومن ثم البيت – الوطن 00 وتتواشج المفارقة مع التوازي في قولها :
وتدور العصافير حول النوافذ ،
تذبح حول النوافذ
0000000000000000
وتدور الثعابين حول بساتينه
آه 000 تسعى الثعابين
في روض روحي

تدور + العصافير + حول + النوافذ
فعل مضارع + الفاعل + ظرف مضاف + مضاف اليه


تدور + الثعابين + حول + بساتينه
فعل مضارع + الفاعل + ظرف مضاف + مضاف إليه / مضاف

وهنا نجد مفارقة حادة إذ تحاول العصافير رمز الإنسان المحب السعيد والمسالم 00 الهرب من الخارج والاحتواء في الداخل للنجاة من الموت ولكن دون جدوى لأن الداخل مهدد أيضا . فالعصافير تدور بكل براءة بينما الثعابين تسعى بكل حقد لاستهداف مواطن الخصب والعطاء إذ تتم على يديها محاولة التخريب في الخارج والداخل ، فالبساتين هي الوطن والوطن هو روض الروح 00 ونجد اختفاء الفاعل وظهوره في نص المفارقة المتوازي :

تذبح + حول + النوافذ
فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر + ظرف مضاف + مضاف اليه

تسعى + الثعابين + في + روض + روحي
فعل مضارع + الفاعل + حرف جر + اسم مجرور مضاف + مضاف إليه مضاف

فنائب الفاعل المستتر في ( تذبح ) يكشف التوتر الذي خلق زمناً مليئاً بالخوف واللهفة على كل ما هو بريء وجميل ، فلم يعد هناك وقت للذات الشاعرة للإعلان عن تحديد ما يذبح فضلاً عن أن الفاعل حُذف لكراهية ذكره 00 بينما التركيز على إظهار أدوات القتل جعل الذات الشاعرة تكرر ظهور الفاعل – الثعابين – مع الفعل تسعى لتؤكد أن الأعداء يطلبون ويتقصدون تخريب كل ما هو جميل لديها 000

ان التوازي هنا لم يقتصر على وظيفته الإيقاعية حسب بل خدم الدلالة وتآزر مع المفارقة للكشف عن التناقضات التي يعيشها الإنسان في هذا الوطن المحارب والمحاصر .
ان النص يعج بفورة العدوان والخوف والغضب والتوتر ويمتد عبر (91) سطراً ، ( 88 ) سطراً استغرقت فورة الرفض في القصيدة أي رفض ما يحدث في الواقع ، وقد قابلت هذه الحركة العنيفة حركة ثانية تتسم بالثقة واليقين تشكلت من (3) اسطر فقط :
فينفتح الماء عن زهرة غاربة
وتدنو العصافير ثانية ،
في الصباح 0000

**************************************************

(*)بشرى البستاني : شاعرة عراقية كبيرة
(**) د. بتول البستاني : كلية التربية / جامعة الموصل
(***)باحث وأكاديمي عراقي / كلية الآداب / جامعة الموصل / رئيس تحرير جريدة الإنقاذ العراقية


الهوامــش

1.مكابدات الشجر : شعر بشرى البستاني ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 2003 : 33-38 .
2.المفردات في غريب القرآن : أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني ( ت 502هـ ) ، تحقيق وضبط : محمد سيد كيلاني ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، ( د.ت ) : 520 .
(*) Clinical Anatomy , Snell , 2004 , p.25 .
3.ينظر : لسان العرب المحيط : ابن منظور ، إعداد وتصنيف : يوسف خياط ، دار لسان العرب ، بيروت ، ( د.ت ) : مج 1/292- 293 .
4.ينظر : المصدر نفسخ : مج 1 / 292 .
5.ينظر : جماليات المكان : جاستون باشلار ، ترجمة غالب هلسا ، سلسلة كتاب الأقلام (1) ، يصدر عن مجلة الأقلام ، دار الجاحظ ، بغداد : 131 ، 45 .
6.عضوية الموسيقى في النص الشعري : د. عبد الفتاح صالح نافع ، مكتبة المنار ، الأردن ، الزرقاء ، ط1 ، 1985 : 32 .
7.كمال أبو ديب ، يعاني ، يكتنه ، يعاقب ، يستعيد ، يرتعش في صدمة / هزة الاستعارة أو جماليات الانتهاك وبنية الإلصاق والإضافة أو مغامرات الخيال الربربي : كمال أبو ديب ؛ مجلة ثقافات ، 1/شتاء 2002 : 58 .
8. ينظر : جماليات المكان : 226 .
9.الصورة الشعرية : سي – دي لويس ، ترجمة : احمد نصيف الجنابي ومالك ميري وسلمان حسن إبراهيم ، دار الرشيد ، بغداد ، 1982 : 113 .
10.محمود درويش ومواقيت القصيدة جماليات الزمن النصي مقاربة وصفية سيمائية : عبد الله السمطي ، مجلة القاهرة ، 151/ 1995 : 74-75 .
11.اللغة والإبداع ، مبادئ علم الأسلوب : شكري محمد عياد ، ط1 ، 1988 : 131 .
12.ينظر : جماليات المكان في شعر السياب : ياسين النصير ، دار المدى للثقافة والنشر ، سوريا ، بيروت ، 1995 : 193 .
13.البنيات الدالة في شعر أمل دنقل : عبد السلام المساوي ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، 1994 : 402 .
14.ينظر : علم النص : جوليا كرستيفا ، ترجمة : فريد الزاهي ، مراجعة ، عبد الجليل ناظم ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، ط1 ، 1991 : 21 .
15.ينظر : تفسير وتطبيق مفهوم التناص في الخطاب النقدي المعاصر : عبد الوهاب ترّو ، مجلة الفكر العربي المعاصر ، ك2 / شباط ، 1989 : 78 .
16.سورة محمد – الآية 4 .
17.ينظر : في ظلال القرآن : سيد قطب ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، ط7 / 1971 : 7/437-438 .
18.حديث سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه : أخرجه ابن حبان في صحيحه : صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان الفارسي لمحمد بن حبان بن احمد ابي حاتم التميمي البستي ، تحقيق : الشيخ شعيب الارنؤوط ، نشر مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ، ط2 / 1993 : 16/ح ( 7307 ) .
19.شرح ديوان الأعشى : قام بشرحه : إبراهيم جزيني ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ط1 ، 1968 : 90 .
20.قراءة ثانية لشعرنا القديم : د. مصطفى ناصف ، دار الأندلس ، بيروت ، ط2 ، 1981 : 86-87
21.سورة الزلزلة : الآيات : 1 و 2 و 3 .
22.ينظر : تفسير التحرير والتنوير : محمد الطاهر ابن عاشور ، دار سحنون للنشر والتوزيع ، تونس : 12/491 .
23.المصدر نفسه .
24.ينظر : لسان العرب المحيط : مج 3/448 .
25.ديوان ابن مقبل ، تحقيق : د. عزت حسن ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، دمشق ، 1962 : 273 .
26.سورة يوسف : الآيات 47-49 .
27.ينظر : مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية : د. ناصر الدين الأسد ، مكتبة الدراسات الأدبية (1) ، دار المعارف ، مصر ، ط4 ، 1969 : 82-83 .
28.اثر التراث في الشعر العراقي الحديث : علي حداد ، دار الشؤون الثقافية العامة – وزارة الثقافة والإعلام ، دار الحرية للطباعة ، بغداد ، ط1 ، 1986 : 213 .
29.ينظر : الشعر واللعب في أغنية 000 لإخفاء الحبيب ومحاريب القمر : خالد الغريبي ، ضمن كتاب : شعراء ونقاد وجها لوجه : المشاركون في أعمال ملتقى الزيتونة الشعري الأول 26-27 ديسمبر 1998 تنظيم : وزارة الثقافة – تونس : 112 .
30.ينظر : قضايا الشعرية : رومان ياكبسون ، ترجمة : محمد الولي ومبارك حنون ، دار توبقال للنشر ، المغرب ، ط1 ، 1988 : 106 .
31.ينظر : لسان العرب المحيط : مج 3 / 400-401 .
32.ينظر : المصدر نفسه : مج1 / 845 – 846 .
33.ينظر : المصدر نفسه : مج2 / 140 .
34.ينظر : المصدر نفسه : مج 3 / 604 .

المصادر والمراجع
أولاً :- العربية :
-اثر التراث في الشعر العراقي الحديث : علي حداد ، دار الشؤون الثقافية العامة – وزارة الثقافة والإعلام ، دار الحرية للطباعة ، بغداد ، ط1 ، 1986 .
-البنيات الدالة في شعر أمل دنقل : عبد السلام المساوي ، منشورات اتحاد الكُتاب العرب ، 1994 .
-تفسير التحرير والتنوير : محمد الطاهر بن عاشور ، دار سحنون للطبع والنشر ، تونس .
-تفسير وتطبيق مفهوم التناص في الخطاب النقدي المعاصر : عبد الوهاب ترّو ، مجلة الفكر العربي المعاصر ، ك2 / شباط ، 1989 .
-جماليات المكان : جاستون باشلار ، ترجمة غالب هلسا ، سلسلة كتاب الأقلام (1) ، تصدر عن مجلة الأقلام ، دار الجاحظ ، بغداد ، 1980 .
-جماليات المكان في شعر السياب : ياسين النصير ، دار المدى للثقافة والنشر ، سوريا ، بيروت ، 1995 .
-ديوان ابن مقبل ، تحقيق : د. عزت حسن ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، دمشق ، 1962 .
-شرح ديوان الأعشى : قام بشرحه : إبراهيم جزيني / دار الكتاب العربي ، بيروت ، ط1 ، 1968 .
-شعراء ونقاد وجهاً لوجه : المشاركون في أعمال ملتقى الزيتونة الشعري الأول 26-27 ديسمبر 1998 ، تنظيم : وزارة الثقافة – تونس .
-صحيح ابن حبان بترتيب ابن بليان الفارسي لمحمد بن حبان بن احمد أبي حاتم التميمي البستي ، تحقيق : الشيخ شعيب الارنؤوط ، نشر مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ، ط2 /1993 .
-الصورة الشعرية : سي – دي لويس ، ترجمة : احمد نصيف الجنابي ومالك ميري وسلمان حسن إبراهيم ، دار الرشيد ، بغداد ، 1982 .
-عضوية الموسيقى في النص الشعري : د. عبد الفتاح صالح نافع ، مكتبة المنار ، الأردن ، الزرقاء ، ط1 ، 1985 .
-علم النص : جوليا كرستيفا ، ترجمة : فريد الزاهي ، مراجعة ، عبد الجليل ناظم ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، ط1 ، 1991.
-في ظلال القرآن : سيد قطب ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، ط7 ، 1971 .
-قراءة ثانية لشعرنا القديم : د. مصطفى ناصف ، دار الأندلس ، بيروت ، ط2 ، 1981 .
-قضايا الشعرية ، رومان ياكبسون ، ترجمة : محمد الولي ومبارك حنون ، دار توبقال للنشر ، المغرب ، ط1 ، 1988 .
-كمال ابو ديب ، يعاني ، يكتنه ، يعاقب ، يستعيد ، يرتعش في صدمة / هزة الاستعارة أو جماليات الانتهاك وبنية الإلصاق والإضافة أو مغامرات الخيال الربربي : كمال ابو ديب ، مجلة ثقافات ، 1/ شتاء 2002 .
-لسان العرب المحيط : ابن منظور ، إعداد وتصنيف : يوسف خياط ، دار لسان العرب ، بيروت ، (د.ت ) .
-اللغة والإبداع ، مبادئ علم الأسلوب : شكري محمد عياد ، ط1 ، 1988 .
-محمود درويش ومواقيت القصيدة جماليات الزمن النصي مقاربة وصفية سيمائية : عبد الله السمطي ، مجلة القاهرة ، 151/1995 .
-مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية : د. ناصر الدين الأسد ،مكتبة الدراسات الأدبية (1) ، دار المعارف ، مصر ، ط4 ، 1969 .
-المفردات في غريب القرآن : ابو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني ( ت 502) هـ ، تحقيق وضبط : محمد سيد كيلاني ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، (د.ت ) .
-مكابدات الشجر ؛ شعر بشرى البستاني ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 2003 .
ثانيا : - الأجنبية :
Clinical Anatomy , Snell , 2004 .

بانتظار القصف
دقت الصافرة
ستأتي الصواريخُ
منتصف الليل هذا
وبيتي كان على وشك النوم
الياسمينُ غفا
آلسرو كان سيغفو
على صوتها فزّ سربُ الطيور ،
وسربُ الطفولة
فزّت شوارعُ آمنةٌ ،
وحقولْ 0000
وفزّت 00 ( لماذا 0000 ؟ )
بأعين كلّ المرايا
وفزّ الحنينُ الى نخل أهلي ،
لضرب الرقاب ،
وشدّ الوثاق ،
لضرب بلا فدية ،
فمتى تضع الحربُ أوزارها
عشبها في العيون ثوى ماؤه ،
عشبها في ظهور الخيول 000
حجرا ،
حجرا تنزف الأرضُ محنتها
انتصروا ايها الوارثون ،
قفوهم ،
فهم محضرونُ 000

* * *
دقت الصافرة 000
هو الوقتُ لا ينقضي
يقطع الوقتُ أوردتي
والدقائق ليست تمرّ

تعلقني فوق حبل مدلّى 00
تسائلُ :
من سيموت بآخرة الليل :
طفلي ،
أخي 000
جارتي 000
يدُ منّ سوف تقطع في آخر الليل ،
أو ساقهُ ،
جسم منّ ستهشّمُ
تلك الصواريخُ ،
ترمقني الشرفة الحائرة ،
تقولُ السجاجيدُ :
أخشى الحريق ،
يقول الجدارُ :
خذيني ،
يلملم أركانه البيتُ 000
يهمسُ :
لا تفزعي من نزيفي ،
ويأتي اليّ الشجر 00
ويُلقي بأشجانه فوق صدري
يتمتمُ :
أكرههم ،
أكره الموت في مائهم
وتدور العصافير حول النوافذ ،
تذبح حول النوافذ
آه 000
لماذا تخاف العصافير من قصفهم
ألعصافير تربك غيظي ،
وتُردي دمي في الدروب اليك ،
الدروبُ تطير بلا وجل ،
يتلقفها الليلُ ،
يلقى بها في سنابل مقفلةٍ
ماء دجلة يهرب من باب بيتي
ليسكن في سعفةٍ ،
وتدور الثعابينُ حول بساتينهِ
آه 000 تسعى الثعابينُ
في روض روحي 000
وأصرخُ في حومة الليل ،
اصرخُ 000 لا 00
لن يمروا 00
تكسّر شباكُ بيتي ،
لكنهم ذعروا من يقيني ،
تكسّر شباك بيتي ،
لكنّ ورد عيوني
تناثر فوق الرياح التي عصفت بالغصون
وأسئلة الشام ،
أجوبة النيلِ ،
كانت تراود روحي ،
حوارٌ جريحّ يحرّض نار جروحي
من الماءِ ،
للماءِ كان اللهبْ
يخضبُ أرض العرب 000
ويصرخ في وجههم :
أطلقوني 000
ويزحف سرواً ،
ونخلاً ،
وطير
ويركن حول شبابيك بيتي ،
ويرفض ،
يرفض موتي
فينفتح الماء عن زهرة غاربة
وتدنو العصافير ثانيةً ،
في الصباحْ 000000