فؤاد بوعلي
01/10/2006, 12:49 PM
لا حديث في الشارع السياسي المغربي هذه الأيام إلا عن الاستحقاقات الانتخابية 2007 . تتعدد المجالس والاجتماعات واللقاءات على كافة المستويات ترتيبا لما هو آت . وبالرغم من أن الوقت لازال مبكرا لمثل هذا الكلام إلا أن رهان الفاعلين الجمعويين والسياسيين على احتلال مناصب مهمة في المرحلة الجديدة من حكم محمد السادس وعلى تغيير نمطية الحكم في البلاد يدفع إلى الاستعداد المبكر . فما الجديد إذن في انتخابات 2007 ؟
مؤشرات التغيير
كان تقليد الحسن الثاني لعبد الرحمان اليوسفي ـ المعارض اليساري والصديق القديم للمهدي بنبركة والفقيه البصري وزعيم أكبر الأحزاب المغربية ـ في فبراير 2002 ، إعلانا من قبل النظام الحاكم عن بداية مرحلة جديدة في الحياة السياسية المغربية قائمة على الإصلاح الشامل . وكان الزعيم الاشتراكي يؤكد دوما على أنه تلقى ضمانات قوية من طرف الملك من أجل الدخول في عملية إصلاح شاملة . لذلك راهن الزعيم الاشتراكي على تحقيق مكاسب تاريخية من خلال تحالف المعارضة مع القصر بشكل فريد في التجربة السياسية العربية . لكن مع اعتلاء محمد السادس سدة الملك وإعفاء اليوسفي وتعيين التكنوقراطي ادريس جطو رئيسا للحكومة بدأت عملية الإصلاح تتخذ أبعادا جديدة من خلال التركيز على الجانب الاجتماعي وتقنين الحياة السياسية وتدخلات الملك في كل الملفات . وإذا كانت انتخابات 2002 قد برهنت على استمرارية الحكم في الإمساك بخيوط اللعبة الديمقراطية من خلال الرهان على التوازات التقليدية والتحكم في طبيعة المنتخبين وولاءاتهم ، فإن الحديث الذي يروج في أوساط المتتبعين حاليا يؤكد على أن المغرب مقدم على مرحلة جديدة في سيرورته السياسية . إذ يؤكد المراقبون أن المرحلة السابقة من حكم محمد السادس كانت محاولة لمعرفة الواقع وتغيير دواليب التسيير ، لكن المستقبل هو مزيد من الإصلاحات وتوسيع لهامش التداول . والذي يزكي مثل هذا القول المفرط في التفاؤل مجموعة من المؤشرات :
أولا ـ إصدار قانون للأحزاب المغربية : يحيل قانون الأحزاب الذي صادق عليه البرلمان المغربي ليلة الجمعة 21 أكتوبر 2005 على مجموعة من الرسائل والمؤشرات . فقد عاشت الساحة الحزبية المغربية على إيقاع البلقنة وتفريخ الأحزاب بغية تشتيت القوى السياسية الكبرى وتثبيت قوة القصر في إدارة دواليب اللعبة الديمقراطية . وإذا كان هذا السلوك قد أفاد النظام في الحفاظ على التوازنات الحزبية والاجتماعية فإنه قد أدى إلى إفراغ العملية برمتها من مضمونها ، وذلك ما تبرهن عليه المشاركة الضعيفة للقاعدة الشعبية في مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي وصلت في بعض المحطات إلى أقل من 30 في المائة من المسلجين، مما غدا يسمى في العرف السياسي بالأغلبية الصامتة . لذا راهنت الدولة من خلال هذا القانون على إعادة الحياة للساحة السياسية كما غبر عنه في الديباجة :" إن هذا القانون، الذي يطمح إلى تمكين الأحزاب السياسية من إطار تشريعي يعيد للعمل السياسي اعتباره ومصداقيته، لا يعتبر غاية في حد ذاته بقدر ما هو وسيلة لتهيئة مناخ سياسي ملائم، يجعل من الحزب السياسي أداة لإشعاع قيم المواطنة، وصلة وصل قوية بين الدولة والمواطن، مبرزا على الخصوص مسؤولية الأحزاب السياسية في العمل على التفعيل الأمثل والسليم لأحكامه وترسيخها عن طريق الالتزام بتطبيق مضمونها، والتقيد في إحداثها وبرامجها وطرق تمويلها وتسييرها وأنظمتها الأساسية والداخلية بقواعد ومبادئ الديمقراطية والشفافية". مما يعني أن الغرض هو نقل الحزب من الملكية الخاصة لمديريه وقادته إلى جعله منتدى عام خاضع للمراقبة والمتابعة المالية والقانونية .
لكن هذا القانون بالرغم من صورته البراقة يحوي في ثناياه العديد من مؤشرات الضعف التي دفعت العديد من القوى المدنية والحقوقية إلى رفضه بل والدعوة إلى مناهضته . وهكذا دعت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إلى رفضه، "والنضال الوحدوي من أجل إقرار دستور ديمقراطي كمدخل حقيقي لتطوير الحياة السياسية على أسس ديمقراطية، ولبناء دولة الحق والقانون ومجتمع المواطنة بكافة الحقوق"، واعتبرت أنه : " حصر دور الأحزاب في المساهمة في تنظيم المواطنين وتمثيلهم، دون التنصيص على هدف تقلد السلطة التنفيذية لتطبيق برامجها وممارسة المعارضة بحرية للسلطة الحاكمة".أي أنه أفرغ محطة الانتخابات من مضمونها الحقيقي المؤسس على التداول والتناوب على السلطة .
ثانيا ـ الحركية الاجتماعية : لعل أهم محطات حكم محمد السادس (الذي يقترب من إكمال عامه السابع في 30 يوليوز) هي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تعد إقرارا صريحا بعمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في المغرب . وقد تضمنت هذه المبادرة برنامجا تفصيليا ذا طبيعة اجتماعية للقضاء على مظاهر الفقر والهشاشة والتهميش الاجتماعي الذي تعاني منه العديد من المدن والمناطق القروية في المغرب، مثل القضاء على دور الصفيح والسكن العشوائي، ومحاربة الأمية، وكهربة العالم القروي، وتزويده بالماء الصالح للشرب، والاهتمام بفئة المعاقين. وعلى العكس من سلفه ، ركز محمد السادس منذ اعتلائه العرش على الصورة الاجتماعية التي منحت له من قبل وسائل الإعلام وعامة الشعب والتي تتلخص في وصفه بأنه " ملك الفقراء" . ومن المعقول الإشارة إلى الزيارات المتعددة التي يقوم بها شخصيا لكل مناطق المملكة خاصة تلك التي عرفت تهميشا فظيعا في عهد والده مثل المناطق الشرقية والشمالية مما يثبت رغبة الملك في التواصل المباشر مع الشعب ومراقبة مختل المنجزات والعراقيل .إضافة إلى تسارع وتيرة المشاريع الاقتصادية وفق برنامج مضبوط واستراتيجية عملية تضبط الفعل المجتمعي . وقد رأى العديد من المراقبين أن هذه المبادرة ليست إلا محاولة للحد من نفوذ الحركات الإسلامية التي تستفيد في دعوتها من العامل الاجتماعي وتركز نفوذها على المستويات المهمشة من المجتمع المغربي .
ثالثا ـ التعديل الدستوري : أصبح من باب الأكيد أننا مقبلون في المغرب على تعديل دستوري . فكل الفرقاء السياسيين يؤكدون أن التعديل الدستوري هو مدخل للإصلاح الحقيقي . والحديث عن التعديل الدستوري يعني بالأساس التقليص من صلاحيات الملك والدفع باتجاه توسيع اختصاصات مؤسسة الوزير الأول ومنح البرلمان القدرة على التدخل في سياسة الدولة . وهذا هو الحل من أجل تنشيط الحياة السياسية وإعادة الحياة لدواليب الأحزاب المغربية قبل إجراء الانتخابات المقبلة . وكل النقاش يدور بالخصوص حول فصل حاسم في الدستور الحالي هو الفصل 19 الذي ينص على أن "الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة". وهذا ما يمنحه صلاحيات واسعة في تدبير الشأن العام . لكن إرادة التغيير لدى جميع الفاعلين تنطلق من تفاهمات المعارضة مع الملك . وبتعبير محمد اليازغي، رئيس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المشارك بالائتلاف الحاكم: "لا يمكن أن نعيش في انتقال ديمقراطي إلى ما لا نهاية"، أي أن الضمانات التي أعطيت للحزب لا ينبغي أن تبقى معلقة إلى أجل غير محدود بل ينبغي الخلوص إلى إصلاح شامل في بنية القانون التأسيسي للوطن . لكن يبقى الخلاف بين الأطراف السياسية حول طبيعة التعديل ومداه . إذ نجد بعض التيارات اليسارية والإسلامية تطالب بإحداث إصلاح جوهري مؤسس على الانتقال نحو الملكية البرلمانية حيث الملك يسود ولا يحكم ، مثل إسبانيا وبريطانيا . في حين تراهن الأحزاب الكبرى على ضبط توازن السلطات بين الملك ومؤسسة الحكومة ، بل يرى بعضها أن الإشكال ليس في النصوص الدستورية ولكن في تفعيلها .
الرعب الإسلامي
تختلف طموحات الأحزاب والقصر وتتباعد وتتعارض ، لكنها تتفق حول موضوع واحد هو الموقف من الإسلاميين . فلقد كان للاستطلاع الذي نظمه المعهد الجمهوري الدولي الأمريكي، وهو هيئة مدنية أمريكية ، حول شعبية الأحزاب الوطنية والذي خلص إلى فوز كاسح لحزب العدالة والتنمية الإسلامي بنحو 47 في المائة في الانتخابات التشريعية المتوقعة للسنة المقبلة، وقع كبير في الشارع السياسي المغربي . حيث أثبت القوة المتصاعدة للحركة الإسلامية بصورها المختلفة حزبية كانت أو غير مرخص لها . ففي التجربة الماضية خلال الانتخابات التشريعية في ايلول/سبتمبر 2002 أرغم إسلاميو العدالة والتنمية ـ بهد أحداث 16 ماي الإرهابية بالدار البيضاء ـ على الإحجام عن الدخول بكامل قوتهم في كامل الدوائر الانتخابية . وبالرغم من ذلك فقد حققوا اختراقا كبيرا عندما أصبحوا ثان قوة معارضة برلمانية في المملكة المغربيةبحصولهم على 43 مقعدا من أصل 325. لكن في الانتخابات المقبلة التي يراهن الجميع على نزاهتها تلاحظ تخوفا لدى العديد من الأطراف من اكتساح قوي للإسلاميين : مراقبون دوليون ، أحزاب وطنية ، القصر... ولعل هذا ما يفسر الحملة المنظمة حاليا على أعضاء جماعة العدل والإحسان المحظورة التي تعد أكبر قوة تنظيمية إسلامية في المغرب . كما يفسر التفريخ المفاجئ للأحزاب الإسلامية مثل البديل الحضاري والنهضة والفضيلة . وهي أحزاب تتفق في استمدادها من المرجعية الإسلامية .
والواقع أن الخوف من الإسلاميين ليس وليد اليوم بل يعتبر العامل الرئيس وراء جل التحالفات بين المعارضة والقصر بل هو الذي سرع دخول الاتحاد الاشتراكي للحكومة للوقوف في وجه "التيار الظلامي". فقد دق تدخل الطلبة الإسلاميين في وجه تنظيم الجامعة الربيعية لحزب الاتحاد الاشتراكي في ناقوس الخطر في وجه الرافضين للتطبيع مع النظام . وبعد أحداث 16 ماي وفشل رهان العديد من السياسيين على إلصاق تهمة المسؤولية المعنوية لحزب العدالة والتنمية ، وخروج هذا الأخير من تلك المرحلة قويا ، إضافة إلى نجاحه في التدبير الجيد لمجموعة من الجماعات التي أدارها وفق منطق الطهارة السياسية ، كل هذا يجعل الرعب الإسلامي القادم أمرا واقعا يهدد مصالح النظام والأحزاب . وبالرغم من التنازلات الكثيرة لحزب العثماني وإصراره على الظهور بمظهر معتدل في كافة المحافل فإنه لم يستطع أن ينال ثقة الفاعلين السياسيين الذين ينظرون إليه بارتياب خوفا من استغلاله الإسلام في الدعاية السياسية . بل الأكثر من ذلك أن العدالة والتنمية قد أتقن الاستفادة من وضعه كحزب معارض وحيد نتيجة لضعف اليمين في أداء دور المعارضة وفشل الحكومة في تدبير العديد من الملفات، مما يعني أن رغبة المواطنين في معاقبة الأحزاب المشاركة في تسيير شؤون الدولة يعني اختيار اللون الإسلامي . وهذا ما يدل على أن الأحزاب لم تستطع أن تستوعب أن المغاربة يعيشون نموذجين مختلفين للمغرب : مغرب النخبة والاجتماعات والنقاشات ، ومغرب التهميش والمشاكل الاجتماعية .
مفاوضات اللحظة الأخيرة
انطلقت منذ مدة المشاورات بين وزارة الداخلية المغربية والأحزاب المشاركة في الحكومة للاتفاق على النمط الذي ستجري وفقا له الانتخابات البرلمانية. ولا تزال جلسات هذه المشاورات المستمرة تشهد جدلا حادا بين مختلف الأحزاب. وانتقل هذا الجدل إلى داخل مؤسسات الأحزاب ذاتها . حيث ترى الأحزاب الكبيرة المشاركة في الائتلاف الحكومي (الاتحاد الاشتراكي، حزب الاستقلال، التجمع الوطني الأحرار، حزب التقدم والاشتراكية) بالإضافة إلى العدالة والتنمية الإسلامي ، أن نظام الاقتراع باللائحة النسبية يناسب المغرب ؛ لأنه يحد من الفساد الانتخابي ومن الاتصال المباشر بالناخبين بحكم أن التصويت يكون على البرنامج الانتخابي وليس على الشخص . غير أن الأحزاب "اليمينية" مثل الاتحاد الدستوري والحزب الوطني الديمقراطي ، إضافة إلى الحركة الشعبية بالرغم من مشاركتها في الحكومة، ترى أن نظام الاقتراع الفردي أفضل لارتفاع نسبة الأمية بين المغاربة ولتخوفها من أن نظام اللائحة سيعطي فرصة أكبر للأحزاب الإسلامية لاكتساح الانتخابات. ولعل غياب المعارضة عن هذه المشاورات يثبت أن أصحاب القرار لا ينوون التخلي عن سلطتهم في إدارة دواليب اللعبة الحزبية ، زيادة على محاولة الأحزاب الكبرى التحكم في سيرورة العملية المستقبلية .
لكن المثير في هذا النقاش هو حرص المتفاوضين على استبعاد الجالية المغربية بالخارج من المشاركة في الاستحقاقات. وحسب المراقبين فإن استبعاد مشاركة مغاربة الخارج ترجع إلى أن المهاجرين المغاربة غير منظمين، وليس لدى الدولة الإمكانيات الضرورية لتنظيم مشاركتهم الانتخابية. لذلك تؤكد أغلب الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي ضرورة اختيار ممثلين عن المهاجرين المغاربة لتعيينهم في البرلمان عن طريق نسبة محددة بشكل انتقائي وليس عن طريق الانتخاب . وهذا ما أثار حفيظة تمثيليات المهاجرين التي انتفضت للمطالبة بحقهم الدستوري في الانتخاب والتمثيل . حيث أعلن "المؤتمر العالمي للمغاربة بالخارج" " أنه إذا كانت بعض الأحزاب المغربية المشاركة في الحكومة تسعى إلى تأجيل ولوج المهاجرين إلى قبة البرلمان ربما خوفا من المنافسة أو لأسباب أخرى، فإنها تطالب بتأجيل الانتخابات بضعة أشهر" من أجل تنسيق مشاركتهم في الانتخابات. كما استغل العدالة والتنمية الفرصة للدخول على الخط مطالبا بضررورة مراجعة القرار الحكومي وهو ما يستبعده المراقبون نظرا لحسابات الكتل النيابية في الشوط الأخير الذي يفصل عن موعد الاستحقاقات .
رؤيـا 2007
لامناص من الإقرار بأن المغرب يعيش في ظل العهد الجديد حركية سياسية واجتماعية ترتكز على تأهيل الشأن السياسي والاقتصادي . ولعل الاهتمام المفرط بالمحطة الانتخابية المقبلة ليس وليد تكرار حمى التجارب الماضية ، بل لقد استطاع الحكم أن يراكم مكاسب لصالح رؤيته الخاصة في التغيير على جميع المستويات . حيث استطاع احتواء الحركة الجمعوية الأمازيغية داخل المعهد الملكي للأمازيغية . كما انضم جزء كبير من الفاعلين الحقوقيين إلى مسار هيئة الانصاف والمصالحة . وتكونت أحزاب إسلامية مختلفة التوجهات باستثناء جماعة العدل والإحسان التي تطالب بتغيير دستوري شامل . هذا إضافة إلى الحركية الاجتماعية الملاحظة . كل هذه العوامل وغيرها تشير إلى أن محطة 2007 لن تكون كسابقتها .
لكن في المقابل تطل العديد من المعوقات التي تعرقل كل توجه إصلاحي . وأهمها التعديل الدستوري الذي أضحى مطلبا ضروريا خاصة مع إقرار مبدأ الجهوية الموسعة للأقاليم الصحراوية ، ومطالبة العديد من الفاعلين الجمعويين بضرورة دسترة الأمازيغية كلغة رسمية . لكن الأهم في نظرنا هو إقرار إصلاح سياسي يمكن بموجبه تنظيم العلاقات بين السلطات الموجودة على قواعد التداول والمراقبة ، وتمكين المؤسسات الموجودة (البرلمان والحكومة) من وسائل العمل، وهو ما لا ينسجم مع وجود مؤسسة ملكية تنفيذية تنخرط في تفاصيل الشأن العام دون أن تكون محل محاسبة أو مراقبة. كما أن محاولة القوى المتآلفة داخل الحكومة الاستفادة من وضعها لتمرير قوانين انتخابية تفيدها في حملتها لن يفيد في تحسين صورة السياسي أمام الرأي العام الوطني. فالمهم هو أن نجعل الانتخابات محطة لتجاوز الأزمات وإلا فالأفق الاقتصادي والاجتماعي يهدد بحلكة نتمنى ألا نصلها .
مؤشرات التغيير
كان تقليد الحسن الثاني لعبد الرحمان اليوسفي ـ المعارض اليساري والصديق القديم للمهدي بنبركة والفقيه البصري وزعيم أكبر الأحزاب المغربية ـ في فبراير 2002 ، إعلانا من قبل النظام الحاكم عن بداية مرحلة جديدة في الحياة السياسية المغربية قائمة على الإصلاح الشامل . وكان الزعيم الاشتراكي يؤكد دوما على أنه تلقى ضمانات قوية من طرف الملك من أجل الدخول في عملية إصلاح شاملة . لذلك راهن الزعيم الاشتراكي على تحقيق مكاسب تاريخية من خلال تحالف المعارضة مع القصر بشكل فريد في التجربة السياسية العربية . لكن مع اعتلاء محمد السادس سدة الملك وإعفاء اليوسفي وتعيين التكنوقراطي ادريس جطو رئيسا للحكومة بدأت عملية الإصلاح تتخذ أبعادا جديدة من خلال التركيز على الجانب الاجتماعي وتقنين الحياة السياسية وتدخلات الملك في كل الملفات . وإذا كانت انتخابات 2002 قد برهنت على استمرارية الحكم في الإمساك بخيوط اللعبة الديمقراطية من خلال الرهان على التوازات التقليدية والتحكم في طبيعة المنتخبين وولاءاتهم ، فإن الحديث الذي يروج في أوساط المتتبعين حاليا يؤكد على أن المغرب مقدم على مرحلة جديدة في سيرورته السياسية . إذ يؤكد المراقبون أن المرحلة السابقة من حكم محمد السادس كانت محاولة لمعرفة الواقع وتغيير دواليب التسيير ، لكن المستقبل هو مزيد من الإصلاحات وتوسيع لهامش التداول . والذي يزكي مثل هذا القول المفرط في التفاؤل مجموعة من المؤشرات :
أولا ـ إصدار قانون للأحزاب المغربية : يحيل قانون الأحزاب الذي صادق عليه البرلمان المغربي ليلة الجمعة 21 أكتوبر 2005 على مجموعة من الرسائل والمؤشرات . فقد عاشت الساحة الحزبية المغربية على إيقاع البلقنة وتفريخ الأحزاب بغية تشتيت القوى السياسية الكبرى وتثبيت قوة القصر في إدارة دواليب اللعبة الديمقراطية . وإذا كان هذا السلوك قد أفاد النظام في الحفاظ على التوازنات الحزبية والاجتماعية فإنه قد أدى إلى إفراغ العملية برمتها من مضمونها ، وذلك ما تبرهن عليه المشاركة الضعيفة للقاعدة الشعبية في مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي وصلت في بعض المحطات إلى أقل من 30 في المائة من المسلجين، مما غدا يسمى في العرف السياسي بالأغلبية الصامتة . لذا راهنت الدولة من خلال هذا القانون على إعادة الحياة للساحة السياسية كما غبر عنه في الديباجة :" إن هذا القانون، الذي يطمح إلى تمكين الأحزاب السياسية من إطار تشريعي يعيد للعمل السياسي اعتباره ومصداقيته، لا يعتبر غاية في حد ذاته بقدر ما هو وسيلة لتهيئة مناخ سياسي ملائم، يجعل من الحزب السياسي أداة لإشعاع قيم المواطنة، وصلة وصل قوية بين الدولة والمواطن، مبرزا على الخصوص مسؤولية الأحزاب السياسية في العمل على التفعيل الأمثل والسليم لأحكامه وترسيخها عن طريق الالتزام بتطبيق مضمونها، والتقيد في إحداثها وبرامجها وطرق تمويلها وتسييرها وأنظمتها الأساسية والداخلية بقواعد ومبادئ الديمقراطية والشفافية". مما يعني أن الغرض هو نقل الحزب من الملكية الخاصة لمديريه وقادته إلى جعله منتدى عام خاضع للمراقبة والمتابعة المالية والقانونية .
لكن هذا القانون بالرغم من صورته البراقة يحوي في ثناياه العديد من مؤشرات الضعف التي دفعت العديد من القوى المدنية والحقوقية إلى رفضه بل والدعوة إلى مناهضته . وهكذا دعت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إلى رفضه، "والنضال الوحدوي من أجل إقرار دستور ديمقراطي كمدخل حقيقي لتطوير الحياة السياسية على أسس ديمقراطية، ولبناء دولة الحق والقانون ومجتمع المواطنة بكافة الحقوق"، واعتبرت أنه : " حصر دور الأحزاب في المساهمة في تنظيم المواطنين وتمثيلهم، دون التنصيص على هدف تقلد السلطة التنفيذية لتطبيق برامجها وممارسة المعارضة بحرية للسلطة الحاكمة".أي أنه أفرغ محطة الانتخابات من مضمونها الحقيقي المؤسس على التداول والتناوب على السلطة .
ثانيا ـ الحركية الاجتماعية : لعل أهم محطات حكم محمد السادس (الذي يقترب من إكمال عامه السابع في 30 يوليوز) هي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تعد إقرارا صريحا بعمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في المغرب . وقد تضمنت هذه المبادرة برنامجا تفصيليا ذا طبيعة اجتماعية للقضاء على مظاهر الفقر والهشاشة والتهميش الاجتماعي الذي تعاني منه العديد من المدن والمناطق القروية في المغرب، مثل القضاء على دور الصفيح والسكن العشوائي، ومحاربة الأمية، وكهربة العالم القروي، وتزويده بالماء الصالح للشرب، والاهتمام بفئة المعاقين. وعلى العكس من سلفه ، ركز محمد السادس منذ اعتلائه العرش على الصورة الاجتماعية التي منحت له من قبل وسائل الإعلام وعامة الشعب والتي تتلخص في وصفه بأنه " ملك الفقراء" . ومن المعقول الإشارة إلى الزيارات المتعددة التي يقوم بها شخصيا لكل مناطق المملكة خاصة تلك التي عرفت تهميشا فظيعا في عهد والده مثل المناطق الشرقية والشمالية مما يثبت رغبة الملك في التواصل المباشر مع الشعب ومراقبة مختل المنجزات والعراقيل .إضافة إلى تسارع وتيرة المشاريع الاقتصادية وفق برنامج مضبوط واستراتيجية عملية تضبط الفعل المجتمعي . وقد رأى العديد من المراقبين أن هذه المبادرة ليست إلا محاولة للحد من نفوذ الحركات الإسلامية التي تستفيد في دعوتها من العامل الاجتماعي وتركز نفوذها على المستويات المهمشة من المجتمع المغربي .
ثالثا ـ التعديل الدستوري : أصبح من باب الأكيد أننا مقبلون في المغرب على تعديل دستوري . فكل الفرقاء السياسيين يؤكدون أن التعديل الدستوري هو مدخل للإصلاح الحقيقي . والحديث عن التعديل الدستوري يعني بالأساس التقليص من صلاحيات الملك والدفع باتجاه توسيع اختصاصات مؤسسة الوزير الأول ومنح البرلمان القدرة على التدخل في سياسة الدولة . وهذا هو الحل من أجل تنشيط الحياة السياسية وإعادة الحياة لدواليب الأحزاب المغربية قبل إجراء الانتخابات المقبلة . وكل النقاش يدور بالخصوص حول فصل حاسم في الدستور الحالي هو الفصل 19 الذي ينص على أن "الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة". وهذا ما يمنحه صلاحيات واسعة في تدبير الشأن العام . لكن إرادة التغيير لدى جميع الفاعلين تنطلق من تفاهمات المعارضة مع الملك . وبتعبير محمد اليازغي، رئيس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المشارك بالائتلاف الحاكم: "لا يمكن أن نعيش في انتقال ديمقراطي إلى ما لا نهاية"، أي أن الضمانات التي أعطيت للحزب لا ينبغي أن تبقى معلقة إلى أجل غير محدود بل ينبغي الخلوص إلى إصلاح شامل في بنية القانون التأسيسي للوطن . لكن يبقى الخلاف بين الأطراف السياسية حول طبيعة التعديل ومداه . إذ نجد بعض التيارات اليسارية والإسلامية تطالب بإحداث إصلاح جوهري مؤسس على الانتقال نحو الملكية البرلمانية حيث الملك يسود ولا يحكم ، مثل إسبانيا وبريطانيا . في حين تراهن الأحزاب الكبرى على ضبط توازن السلطات بين الملك ومؤسسة الحكومة ، بل يرى بعضها أن الإشكال ليس في النصوص الدستورية ولكن في تفعيلها .
الرعب الإسلامي
تختلف طموحات الأحزاب والقصر وتتباعد وتتعارض ، لكنها تتفق حول موضوع واحد هو الموقف من الإسلاميين . فلقد كان للاستطلاع الذي نظمه المعهد الجمهوري الدولي الأمريكي، وهو هيئة مدنية أمريكية ، حول شعبية الأحزاب الوطنية والذي خلص إلى فوز كاسح لحزب العدالة والتنمية الإسلامي بنحو 47 في المائة في الانتخابات التشريعية المتوقعة للسنة المقبلة، وقع كبير في الشارع السياسي المغربي . حيث أثبت القوة المتصاعدة للحركة الإسلامية بصورها المختلفة حزبية كانت أو غير مرخص لها . ففي التجربة الماضية خلال الانتخابات التشريعية في ايلول/سبتمبر 2002 أرغم إسلاميو العدالة والتنمية ـ بهد أحداث 16 ماي الإرهابية بالدار البيضاء ـ على الإحجام عن الدخول بكامل قوتهم في كامل الدوائر الانتخابية . وبالرغم من ذلك فقد حققوا اختراقا كبيرا عندما أصبحوا ثان قوة معارضة برلمانية في المملكة المغربيةبحصولهم على 43 مقعدا من أصل 325. لكن في الانتخابات المقبلة التي يراهن الجميع على نزاهتها تلاحظ تخوفا لدى العديد من الأطراف من اكتساح قوي للإسلاميين : مراقبون دوليون ، أحزاب وطنية ، القصر... ولعل هذا ما يفسر الحملة المنظمة حاليا على أعضاء جماعة العدل والإحسان المحظورة التي تعد أكبر قوة تنظيمية إسلامية في المغرب . كما يفسر التفريخ المفاجئ للأحزاب الإسلامية مثل البديل الحضاري والنهضة والفضيلة . وهي أحزاب تتفق في استمدادها من المرجعية الإسلامية .
والواقع أن الخوف من الإسلاميين ليس وليد اليوم بل يعتبر العامل الرئيس وراء جل التحالفات بين المعارضة والقصر بل هو الذي سرع دخول الاتحاد الاشتراكي للحكومة للوقوف في وجه "التيار الظلامي". فقد دق تدخل الطلبة الإسلاميين في وجه تنظيم الجامعة الربيعية لحزب الاتحاد الاشتراكي في ناقوس الخطر في وجه الرافضين للتطبيع مع النظام . وبعد أحداث 16 ماي وفشل رهان العديد من السياسيين على إلصاق تهمة المسؤولية المعنوية لحزب العدالة والتنمية ، وخروج هذا الأخير من تلك المرحلة قويا ، إضافة إلى نجاحه في التدبير الجيد لمجموعة من الجماعات التي أدارها وفق منطق الطهارة السياسية ، كل هذا يجعل الرعب الإسلامي القادم أمرا واقعا يهدد مصالح النظام والأحزاب . وبالرغم من التنازلات الكثيرة لحزب العثماني وإصراره على الظهور بمظهر معتدل في كافة المحافل فإنه لم يستطع أن ينال ثقة الفاعلين السياسيين الذين ينظرون إليه بارتياب خوفا من استغلاله الإسلام في الدعاية السياسية . بل الأكثر من ذلك أن العدالة والتنمية قد أتقن الاستفادة من وضعه كحزب معارض وحيد نتيجة لضعف اليمين في أداء دور المعارضة وفشل الحكومة في تدبير العديد من الملفات، مما يعني أن رغبة المواطنين في معاقبة الأحزاب المشاركة في تسيير شؤون الدولة يعني اختيار اللون الإسلامي . وهذا ما يدل على أن الأحزاب لم تستطع أن تستوعب أن المغاربة يعيشون نموذجين مختلفين للمغرب : مغرب النخبة والاجتماعات والنقاشات ، ومغرب التهميش والمشاكل الاجتماعية .
مفاوضات اللحظة الأخيرة
انطلقت منذ مدة المشاورات بين وزارة الداخلية المغربية والأحزاب المشاركة في الحكومة للاتفاق على النمط الذي ستجري وفقا له الانتخابات البرلمانية. ولا تزال جلسات هذه المشاورات المستمرة تشهد جدلا حادا بين مختلف الأحزاب. وانتقل هذا الجدل إلى داخل مؤسسات الأحزاب ذاتها . حيث ترى الأحزاب الكبيرة المشاركة في الائتلاف الحكومي (الاتحاد الاشتراكي، حزب الاستقلال، التجمع الوطني الأحرار، حزب التقدم والاشتراكية) بالإضافة إلى العدالة والتنمية الإسلامي ، أن نظام الاقتراع باللائحة النسبية يناسب المغرب ؛ لأنه يحد من الفساد الانتخابي ومن الاتصال المباشر بالناخبين بحكم أن التصويت يكون على البرنامج الانتخابي وليس على الشخص . غير أن الأحزاب "اليمينية" مثل الاتحاد الدستوري والحزب الوطني الديمقراطي ، إضافة إلى الحركة الشعبية بالرغم من مشاركتها في الحكومة، ترى أن نظام الاقتراع الفردي أفضل لارتفاع نسبة الأمية بين المغاربة ولتخوفها من أن نظام اللائحة سيعطي فرصة أكبر للأحزاب الإسلامية لاكتساح الانتخابات. ولعل غياب المعارضة عن هذه المشاورات يثبت أن أصحاب القرار لا ينوون التخلي عن سلطتهم في إدارة دواليب اللعبة الحزبية ، زيادة على محاولة الأحزاب الكبرى التحكم في سيرورة العملية المستقبلية .
لكن المثير في هذا النقاش هو حرص المتفاوضين على استبعاد الجالية المغربية بالخارج من المشاركة في الاستحقاقات. وحسب المراقبين فإن استبعاد مشاركة مغاربة الخارج ترجع إلى أن المهاجرين المغاربة غير منظمين، وليس لدى الدولة الإمكانيات الضرورية لتنظيم مشاركتهم الانتخابية. لذلك تؤكد أغلب الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي ضرورة اختيار ممثلين عن المهاجرين المغاربة لتعيينهم في البرلمان عن طريق نسبة محددة بشكل انتقائي وليس عن طريق الانتخاب . وهذا ما أثار حفيظة تمثيليات المهاجرين التي انتفضت للمطالبة بحقهم الدستوري في الانتخاب والتمثيل . حيث أعلن "المؤتمر العالمي للمغاربة بالخارج" " أنه إذا كانت بعض الأحزاب المغربية المشاركة في الحكومة تسعى إلى تأجيل ولوج المهاجرين إلى قبة البرلمان ربما خوفا من المنافسة أو لأسباب أخرى، فإنها تطالب بتأجيل الانتخابات بضعة أشهر" من أجل تنسيق مشاركتهم في الانتخابات. كما استغل العدالة والتنمية الفرصة للدخول على الخط مطالبا بضررورة مراجعة القرار الحكومي وهو ما يستبعده المراقبون نظرا لحسابات الكتل النيابية في الشوط الأخير الذي يفصل عن موعد الاستحقاقات .
رؤيـا 2007
لامناص من الإقرار بأن المغرب يعيش في ظل العهد الجديد حركية سياسية واجتماعية ترتكز على تأهيل الشأن السياسي والاقتصادي . ولعل الاهتمام المفرط بالمحطة الانتخابية المقبلة ليس وليد تكرار حمى التجارب الماضية ، بل لقد استطاع الحكم أن يراكم مكاسب لصالح رؤيته الخاصة في التغيير على جميع المستويات . حيث استطاع احتواء الحركة الجمعوية الأمازيغية داخل المعهد الملكي للأمازيغية . كما انضم جزء كبير من الفاعلين الحقوقيين إلى مسار هيئة الانصاف والمصالحة . وتكونت أحزاب إسلامية مختلفة التوجهات باستثناء جماعة العدل والإحسان التي تطالب بتغيير دستوري شامل . هذا إضافة إلى الحركية الاجتماعية الملاحظة . كل هذه العوامل وغيرها تشير إلى أن محطة 2007 لن تكون كسابقتها .
لكن في المقابل تطل العديد من المعوقات التي تعرقل كل توجه إصلاحي . وأهمها التعديل الدستوري الذي أضحى مطلبا ضروريا خاصة مع إقرار مبدأ الجهوية الموسعة للأقاليم الصحراوية ، ومطالبة العديد من الفاعلين الجمعويين بضرورة دسترة الأمازيغية كلغة رسمية . لكن الأهم في نظرنا هو إقرار إصلاح سياسي يمكن بموجبه تنظيم العلاقات بين السلطات الموجودة على قواعد التداول والمراقبة ، وتمكين المؤسسات الموجودة (البرلمان والحكومة) من وسائل العمل، وهو ما لا ينسجم مع وجود مؤسسة ملكية تنفيذية تنخرط في تفاصيل الشأن العام دون أن تكون محل محاسبة أو مراقبة. كما أن محاولة القوى المتآلفة داخل الحكومة الاستفادة من وضعها لتمرير قوانين انتخابية تفيدها في حملتها لن يفيد في تحسين صورة السياسي أمام الرأي العام الوطني. فالمهم هو أن نجعل الانتخابات محطة لتجاوز الأزمات وإلا فالأفق الاقتصادي والاجتماعي يهدد بحلكة نتمنى ألا نصلها .