المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الهامشيون والبيئة (4) حواس القاهرة الخمس



محسن رشاد أبو بكر
25/03/2008, 04:51 AM
حواس القاهرة الخمس

كم هى صعبة رحلة العودة إلى البيت لينعم الفرد بالراحة والسكينة مع أسرته ، بعد يوم عمل طويل وشاق فى مدينة .. فقدت كل حواسها .. مدينة ، على الرغم من أنها لازالت حية وقاهرة ، إلا أنها ، لا ترى ولا تسمع من كثرة الضباب والضجيج المحيط بها ، فقدت حاسة الشم بعد أن امتلأت أنوفها بالروائح النافذة من مقالب القمامة المنتشرة هنا وهناك ، لا تتذوق ما تقدمه من أطعمة ملوثة لأبنائها وبناتها ، هى ، لا تستطيع حتى أن تميز بين من يربت على كتفيها ، وبين من يركلها بشدة وعنف فى مؤخرتها.

مستويات تلوث المياه والهواء والتربة والضوضاء تجاوزت المعايير المسموح بها دوليا ، وأصبحت القاهرة واحدة من أكثر مدن العالم تلوثا ، لدرجة أن شركات السياحة الأجنبية أصبحت تحذر عملائها من الإقامة بها فترة طويلة ، وتنصحهم بالابتعاد عن تناول المياه والخضروات الطازجة بها ، فقط لأنه يتم غسيلها بالمياه المتدفقة من صنابير المياه التى يشرب منها أغلب المقيمين بالقاهرة.

كم هى صعبة مثل تلك الرحلة ، رحلة العودة إلى البيت ، خاصة لو كان الفرد يمتهن عملا من الأعمال الشاقة ، كأن يكون "سواق عربية كارو" ، يعانى حرارة الشمس الحارقة فى الصيف ، وبرودة الطقس فى الشتاء ، أو "مبيض محارة" يقضى معظم وقته وسط أسمنت ورمل وأتربة ، أو أن تكون مثلها .. علياء .. بائعة الملابس ذات الثمانية عشرة ربيعا ، والتى تستقيم فوق قدميها لأكثر من عشر ساعات يوميا فى ذلك المول (المركز التجارى) الضخم بمنطقة "المعادى" قبل أن تعود إلى بيتها بعزبة خير الله بمصر القديمة .. المهملة.


عزبة خير الله ، كما العديد من المناطق العشوائية التى تنامت كثيرا فى العقود الأخيرة حتى أصبحت تشكل أكثر من 60% من إجمالي المناطق السكنية بالقاهرة الكبرى ، تنتشر فيها القمامة بكميات كبيرة على جانبى الشوارع ... تنعدم الإضاءة تماما ... يصعب السير على الأقدام أو حتى الدخول بالسيارات لتدهور حالة الأسفلت .. الكلاب الضالة تبحث عن زادها وسط القمامة .. الشباب المدمن يتسكع على جانبى الطريق ...

"علياء" .. فتاة .. حلوة الملامح ، باسمة الثغر ، حالمة ، تحلم كثيرا ببيئة نظيفة .. تحلم كل يوم ، أثناء عودتها بعد منتصف الليل ، تحاول أن تتناسى ما حولها ، تطلق العنان لخيالها ، تحلم بشارع منير نظيف يقبع فى نهايته محل للورود ، تبتاع منه وردة لأبيها القعيد ، منذ سنين ، وأخرى لأمها العاملة بأحد المصانع الصغيرة ، ووردة ثالثة لأختها التلميذة بالمدرسة الابتدائية.

تحلم ثم تحلم ثم تحلم ، كل يوم ينال الحلم منها ، يغتصبها بإرادتها ، حتى تصل إلى بيتها .. لكنها فى تلك الليلة ، وقبل أن تصل إلى بيتها ، وسط الحلم ... تنزلق قدماها فوق حجر من تلك الأحجار الملقاة وسط بركة مياه الصرف الصحى القابعة ، هناك ، عند مدخل الحارة التى تقطن بها ، لتشكل لها آخر جسر للعودة إلى بيتها ، الغارق فى مياه الصرف الصحى منذ شهور .. تلتقط أنفاسها ، وتقوم من نكستها ، وسط بركة مياه الصرف الصحى ، وتصيح بأعلى صوتها ، حرام عليكم يا ولاد الكلب.

إلى لقاء آخر مع هامشيين آخرين
أبو بكـر