المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحلم الأزرق



محمد فري
02/12/2006, 04:08 PM
الحلم الأزرق
محمـــد فـــري
فرح فرحا شديدا وهو يحملق في الورقة بين يديه، أثاره عنوانها الكبير:" مغادرة طوعية "(1)..طالما حلم بأن ينهي مسيرته العملية بتقاعد مريح، وهاهم المسؤولون قد دبروا هذا الأمر.لقد انتبهوا لوضعيته ووضعية حشود الموظفين.
حقيقة أن أجرته قد اشتكت منه كثيرا، ورزحت تحت أثقال الديون التي لم يعرف كيف تراكمت عليه ولا من أي الجهات..لكن..لايهم !..هاهو الفرج قد أقبل..تعويض المغادرة الطوعية سيحل مشاكله كلها، سيؤدي ديونه، ويَفضل قدر لا بأس به سيفكر في كيفية استغلاله.
لقد عاش حياته كلها متفانيا في عمله، وفيا لمهمته ومسؤوليته، لم يتذكر يوما أن تأخر عن تلاميذه، كان أسبقهم إلى الفصل..يمسح السبورة غير مبال بغبارها الذي كان سببا في تآكل عينيه.. ومع ذلك لم يشك يوما لأحد..هو جندي مجهول من حملة الطباشير، وكثيرا ما ردد:" سأموت والطباشير بيدي !"، عشق الطباشير إلى درجة العبادة، تفاعل ببياضه ونصاعته، واعتبره سلاحا في ميدان عمله، ووساما ساميا على صدره، على الأقل من خلال لطخاته على ثيابه التي كانت تشتكي منها زوجته، لكنه يعتبرها رمزا للفضيلة والتبجيل.." قم للمعلم وفه التبجيلا "..شعار تستريح نفسه إليه، رغم خبث الخبثاء الذين يحلو لهم أن يغيروا الباء فاء، لكن..لايهم، تكفيه قيمه التي يلقنها لتلاميذه. كم كان يستبد به الحماس في بعض اللحظات، وينطلق صوته مدويا بخطبة وعظية يهيمن رنينها في الفصل، فيصمت التلاميذ، ويحملقون فيه بعيونهم الصغيرة المفتوحة، ولا يهم إن كانت أدمغتهم كذلك.
كثيرا ما اشتكت زوجته من سوء الحال، وتحمل بصمود زعيقها المتواصل، لسانها مدفع رشاش سريع الطلقات، وصدره هدف ثابت يتحمل ذلك بصبر وصمت، قنوع بحاله، راض عن وضعه، لا يهمه شيء من ذلك، حتى غمزات بعض زملائه الميسورين لا يكثرت لها، يتقبل تعريضهم ويتحمل افتخارهم بيسرهم وممتلكاتهم..سفهاء جهلة..
لا يدركون أن الغنى غنى النفس والروح..و.." لولا أبناء الفقراء لضاع العلم "، ثروته المعرفية تعوضه عن مختلف الثروات..لكن لابأس.. هاهو الفرج يفتح بابه، فرج طوعي تجره المغادرة، ويدفعه الصبر، وما فاز إلا الصابرون.
شرح له صديقه بالوزارة كل دقائق وضعيته، وحدد له مقدار التعويض الذي سيناله بعد خصم الرسوم..مقدار فيه الخير والبركة، أمل سيتحقق لامحالة..ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، الحال سيتحسن بحمد الله..يفكر في مشروع محلبة..يحلو له أن يسميها ملبنة..ريعها وفير، وخيرها كثير، أو مخدع هاتفي أنيق، يجلس بداخله " حارسا عاما " يراقب الزبناء، ويبدل أوراقهم النقدية إلى قطع معدنية تلتهمها أجهزة الهاتف بشراهة..الصرف مهنته المفضلة..صرف كل الأفعال..وفي جميع الأزمنة..وهاهو زمنه قد أتى، مرحبا براحة آخر العمر، وما أبهج الحياة بعد الكد والتعب..وإن بعد العسر يسرا..كل التعابير المتفائلة التي استهلكها بالفصل تتزاحم في ذهنه..والمشاريع الآن كثيرة ومختلفة، وما عليه إلا أن يختار ويقرر، " رأس المال " آت لاريب فيه، وكن جميلا تر الوجود جميلا..
وغرق في ابتسامة عريضة، تحولت إلى ضحكة صاخبة، سرعان ما تطورت إلى قهقهة مدوية..لم يتمالك نفسه طبعا، ولم يكن ليصمد لكل هذا الفرح..ابتسم للحظ يبتسم لك، ومن حقه أن يبتسم ويحلم الآن، هاهو يغوص في حلمه الأزرق..يحب اللون الأزرق كثيرا..لقن تلاميذه رمز الزرقة..سلام وأمل..السماء زرقاء..البحر أزرق..الأوراق البنكية الكبيرة زرقاء..زرقة في زرقة..كل ما يحيط به أصبح أزرق..اختفت كل الألوان..ولم يبق إلا الأزرق..حملق في الأفق، وأمسك بالزرقة، فاكتشف بين يديه بالونة زرقاء، أثاره لونها..أعاده إلى طفولته السعيدة..أغرته هذه " العودة " بالتشبث أكثر بالبالونة..
أحاطها بأصابعه، أحس باهتزاز يصدر عنها، ولم ينتبه إلا وهي تحلق به عاليا..فيرتفع معها في الهواء..صعود لذيذ يخدر أعصابه، ترتفع البالونة باستمرار، يرتفع معها..فيجاور الطيور في زرقة الأثير.
ياسلام !لم يشعر أبدا براحة مثل هذه، تحليق مخدر للأعصاب، يسمو به إلى الملكوت...إلى الأعلى...إلى الحلم..ما أجمل الحلم..صعود..صعود..ما أفظع الحياة في الأسفل !
يزداد تمسكه بالبالونة، يخشى أن تنفلت منه،يتشبث بها بقوة.. فــ..تنغرس أظافره في جلدها..تنفجر فجأة، يكتشف نفسه معلقا في الفضاء دون سند..ينظر إلى الأسفل، يكتشف الهوة سحيقة، يغمض عينيه، ويسلم نفسه إلى السقوط..يتهاوى..يسقط..يسقط..يقترب من الأرض..وتكون الصدمة قوية، يرتطم جسده، يتعالى الغبار..يتضبب المكان حوله، تختفي الأشياء، تغيب الزرقة، تغلفها دكنة قاتمة..تتلاشى الدكنة تدريجيا..تتراءى فوقه وجوه تحملق فيه وتحاول مساعدته على النهوض..تفرس فيها، فتبين من بينها جاره الخضار..وبقال الحي..وصاحب البيت الذي يزوره في أول كل شهر..و..وحاول النهوض متهالكا..ثم انتصب واقفا وهو يترنح من الألم..ألم الصدمة.." كل صدمة لا تقتلني تقويني "..
ارتاح للفكرة..عزى نفسه بها..فكر في استغلالها موضوعا إنشائيا يحرره تلاميذه غدا !!
محمـــد فــــري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقاعد اختياري

الشربيني المهندس
03/12/2006, 01:16 AM
وغرقت في ابتسامة عريضة وشقاوة التلاميذ وحكاياتهم مع طباشير الاستاذ ، ثم تحولت إلى ضحكة صاخبة مع طلقات ثقيلة لزوجة نعرفها جميعا ، سرعان ما تطورت إلى قهقهة مدوية والحلم يأخذ الوان متعددة ..
لم أتمالك نفسي طبعا وأنا أطير في الهواء متجاهلا
ماطار طير وارتفع الا كما طار وقع
جميلة يا استاذنا

مصطفى لغتيري
03/12/2006, 11:31 AM
العزيز محمد فري.
تحية لك ولحبيبنا الشربيني المهندس..
حق لمهنة "الطباشير" أن تلهم المبدعين أجمل النصوص.
تحياتي القلبية.

محمد فري
03/12/2006, 01:00 PM
وغرقت في ابتسامة عريضة وشقاوة التلاميذ وحكاياتهم مع طباشير الاستاذ ، ثم تحولت إلى ضحكة صاخبة مع طلقات ثقيلة لزوجة نعرفها جميعا ، سرعان ما تطورت إلى قهقهة مدوية والحلم يأخذ الوان متعددة ..
لم أتمالك نفسي طبعا وأنا أطير في الهواء متجاهلا
ماطار طير وارتفع الا كما طار وقع
جميلة يا استاذنا
ردك بمثابة هامش على متن..
وإضافة جميلة زادت النص امتدادا واتساعا
شكرا لروحك البهية أخي الشربيني
مع أزكى التحية

محمـــد فـــري

محمد فري
03/12/2006, 01:06 PM
العزيز محمد فري.
تحية لك ولحبيبنا الشربيني المهندس..
حق لمهنة "الطباشير" أن تلهم المبدعين أجمل النصوص.
تحياتي القلبية.

وتبقى مهنة الطباشير أشرف المهن رغم
كل المعاناة " الطباشيرية "
مع أزكى التحية
وإلى لقاء مقبل أخي مصطفى

محمــد فــري