المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( الترجمة : أمانة أم خيانة ؟ ) - د. شاكر مطلق



الدكتور شاكر مطلق
07/04/2008, 11:39 AM
التّرجمةُ : أمانةٌ أمْ خيانةٌ ؟ د. شاكر مطلق

" كلُّ مترجمٍ خائنٌ ". هذه العبارةُ الجَوْفاءُ ، تكاد تسمعها أو تقرؤها دوماً ، وحيثما تعلّق الأمر بالترجمة وبمشاكلها وإشكالياتها ...
لماذا وجدَتْ ، عاشت وترعرعت ؟ بينما المنطقي والبدَهيّ والعادل ، أن يقال - بدلاً عنها ، وحسبما أرى – :كلّ مترجم أمين مؤتَمن ... حتى يَثبتَ " العكسُ " ، ولكن لماذا هذا الطرح المغاير ؟! .
سأحاول ، من خلال هذه الأفكار ، التي لا يمكن لها إلاَّ أن تكون مناقشة للحديث في موضوع هام وشائك وإِشكالي ، في آن واحدٍ معاً ، قرأنا وسمعنا عنه وحوله الكثير الكثير ، وهو موضوع الترجمة ، سأحاول أن أعبر بإيجاز وتكثيف عن رأيي حوله وفيه :
الترجمة ، وحيثما ورد ذكرُها في سياق هذا العرض ، تعني ، حصراً ، الترجمة الإبداعية ، التي تتناول الموضوعات الإبداعية المختلفة ، في الأدب والفن والموسيقى وربما إلى حد ما ، أيضاً ، الترجمة العلمية ، الراقية ، ولا تعنى أبداً بضرب من الترجمة يتناول الوثائق والنشرات الدعائية أو التّقنيّة ... أو غير ذلك .
الترجمة – إذن – وحسب ما أرى وأفهم – عملٌ إبداعي ، تعاد فيه صياغة النص الأصلي ، بأعلى مستوى من المهارة اللغوية والفكرية مع الحفاظ على أكبر قسط من الأمانة للنص ولروحه ولمحتواه .
صحيح أنّ هذه الأمانة في الترجمة تقـتضي الحفاظ على كل هذا ولكن الصحيح أيضاً أنّ الترجمة الإبداعية لا يمكن أن تكون مجرد نقل حرفي ومعجمي لما يرد في النص الأصل ، وإلاَّ فإنها ستقدِّم لنا جسداً ميْتاً خالياً من الحيَوية ، ومن تلك النكهة الخاصة التي تحتويها كلُّ اللغات والتي لا يمكن لنا ، في كثير من الأحيان ، ملامستها إلاَّ برفق شديد وإلاَّ سقطنا في شرحٍ عقيم ، طويل ومملٍّ لكلمةٍ أو عبارة رشيقةٍ مكثّـفةٍ موجودةٍ في النّص الأصل.
هنا لا بأس أن يلجأ المترجم إلى اختيار عبارة ، من لغته ، قد تكون ، تلك العبارة عينها مصوغةً بكلمات أخرى ، ووضْعها ضمن قوسين هكذا : ( ) ،أو بوضع كلمة ، تحتاجها طبيعة لغتنا لتجعل من العبارة المترجمة عبارة سليمة اللغة ، أنيقة التسلسل الفكري ، مفهومة المعنى للقارئ .
لكنْ على هذا التدخُّل على النص الأصل أو التداخلُ – إنْ صحّ التعبير ، وهو ما يمكن للبعض أن يصفَه " بالخيانة " – أنْ يجري في أضيق نطاق ضروريّ ومطلوبٍ، وهذا بالتالي يتعلق أيضاً ، بأمانة نقل المعنى الأصل ، ضمن مناخ النص ، إلى القارئ المحليّ ، بشكل يجعل من النصّ المُترجم نصاً ذا معنى في مَضمونه ورونقه .
مثال على ذلك :
تقرأُ قصةً أو روايةً مترجمةً إلى العربية لأديب ألماني ... وتتمتع وتفهم ما هو أمامك ، إلى أن تصل إلى مقولة ، يشير فيها بطل الحدث ، إلى ضرورة " تغير أوراق الجدران " عنده ... تتوقف ، تنفر .. وتفكر بالمعنى الشّاذ الخارج عن السّياق ، وعمّا تعنيه هذه العبارة ضمن سياق رواية تتحدث عن الانكسارات والقلق والملل لدى بطَل الرّوايةِ.
تعود إلى النص الأصل ، إن كان ثمة وصولٍ إليه ، لتقرأ الكلمة المستعملة نفسها في النص المترجم ، والتي تتحدث عن أوراق الجدران ( تابيتَه – Tapete ) لتقرأ وتدرك أن هذه الكلمة لا مكان لها أبداً في سياق النص ومعناه ولا علاقة لها بأوراق الجدران ، لا من قريب ولا من بعيد . إنها مجرّد تعبير عن حالة الملل التي أصابت بطل القصة والتي تدعوه إلى الحديث عن تغير المشهد اليومي وكسر الروتين والخروج منه ، ربما في إجازة أو غير ذلك ... فتأمل ! .
كذلك الأمر مع ترجمة عبارة " آلة غسل النقود " وهي الآلية التي يتبعها المجرمون عادة في توظيف المال الحرام من أجل أن يبدو فيما بعد مالاً " مشروعاً " وغيره الكثير من الأمثلة .

حول مهام المترجم :
علينا أن نتذكر ، أنّ العملَ الإبداعي في الأصل ، غيرُ موجه إلى قارئ بعينه ولا اللوحة الفنية موجّهة إلى مُشاهدٍ متأملّ معين ، وبالتالي فإن الترجمة يجب أن تنطلق من هذه الحقيقة أيضاً . فالسؤال مثلاً حول : ما تريد أن ( تقولَه ) القصيدة وما تريد أن توصلَه إلينا ، هو سؤال لا يمكن طرحه بهذه المباشرة الفجة ، ومحاولة الإجابة عليه من خلال إقحام معنى ما في النص المُترجَم وإسقاطه عليه ، لأن طبيعة العمل الإبداعي ليست القول أو الإيصال فقط وإنما إثارة حالة من النشوة الفكرية والجمالية عند المتلقي، من خلال التّداعيات وربطها بمضامين جمالية ونفسية ، قد تكون ذاتية بحتة ، بقدر ما يمكن لها أن تكون ناجمة عن حسٍّ جمالي جَمعيّ ، وإذا لهثَ المترجِمُ وراء محاولة الإيصال هذه ، فإنه لن يوصلَ للقارئ أكثر من الإبلاغ وبالتالي فهو لا يوصل إليه شيئاً هاماً ، لأنه لم يُدخلْه في عالم النشوة السرية والدَّهَش الأخّاذ ، هذا العالم الذي كثيراً ما يتمنّع ويستعصي على إمكانيّة القبض عليه ووضعه في قوالب حسيّة ملموسة .
قد يجعلنا المترجم نرى ونلمس وربما نتذوَّق طعمَ " الإله " المصنوع من التّمر ، الموضوع في الركن العاتم من قدس الأقداس ، غير أنه سيُخفق في أن يجعلنا نحس ونشتم وجود هذا الكل القدسي المحيط بنا من كل الجهات .
إذا كانت الترجمة تشكّل شكلاً بسيطاً ( Form ) أو قالباً ، نحاول أن نملأه بالكلمات المعبرة الخلاقة ليتجسم وينمو إلى الشكل الأكثر تجسيداً ليصبح " غيشْـتالـتاً – Gestalt " حياً - ، له خصوصيته وعالمه وإيقاعه المميز ، فإنّ علينا دوماً ، أن نبحث في الأصل ، عن المرجعية الوحيدة التي تعلِمنا إنْ كان هذا النص أصلاً قابلاً للترجمة أم لا ؟. ولا أعني بالطبع الترجمة اللفظية وإنما الطبيعة اللّغويّة الخاصة والخصوصية التي تتمنع عن الانسكاب في هذا القالب أو ذاك .
أستطيع هنا من خلال خبرتي الخاصة في ترجمة الشعر الألماني ، أن أشير إلى مثل هذه الحالة التي عرفتها إبان ترجمتي لشاعر ألماني ساخر وفيلسوف – حسب رأيي – وهو المسمى ( يؤاخيمْ رنغِـل ناتْـسْ ) واسمه الحقيقي " هانْس بوتشَر " (1 ) حيث توجد عبارات ومصطلحات تحتاج – إذا أصررتَ على ترجمتها – إلى جمل وسطور لشرح محتواها ... ولا علاقة لهذا بترجمة الشعر فهو مقتل له . الترجمة الخلاقة ، التي تتجاوز عبثية الإيصال ، تتكون عندما نصل بالنص الإبداعي إلى حياة جديدة لا تقل تألقاً عن تلك التي عاشـها النصُّ في زمن نشوئه ومجده، وهذا هو الهدف الذي تتمحور حوله ، وتسعى إليه كل الجهود والمهاراتِ الفنية عند المترجم .
ولكنّ هذا لا يمنع من أن يَدخلَ النصُّ ، في حياته الجديدة هذه ، فضاءً أرحبَ من الفضاء الذي ولد فيه ، لأن الترجمة ، في المحصلة ، هي التعبير عن علاقات اللغات المختلفة وتفاعلها معاً ، ولأن هذه اللغات بشكل عام وبصرف النظر عن كل الأسباب التاريخية في النشوء والخصوصية ، تَظل لغاتٍ متقاربة ، بعضها من بعض ، من حيث إمكانية الإفصاح عما تريد أن تقوله لنا .
أفكار في نظرية الترجمة :
إن نظرية الترجمة تعلِمنا وتلحّ علينا أن نعمل على إيصال الشكل والمعنى ، للنص الأصل ، بأكبر دقة ممكنة ، لأنّ هذا هو الهدف والمأمول ، ولكن يجب علينا أن لا ننسى بأن النقد المعرفي يعلِمُنا أيضاً باستحالة تحقيق هذا الهدف ، من خلال تطبيق نظرية الترجمة بشكل حرفي نسخي ، حيث لا موضوعية يمكن لها أن تتواجد هناك ، وبالتالي هذا النمط من الترجمة لن يحقق التناغم والتطابق الدقيق مع الأصل ولأسباب عديدة .
الكلمة ، ذات المعنى الثابت المحدود ، يطرأ عليها ، مع تطور الزمن ، تطور لاحق ينال من دلالتها القديمة ، قليلاً أو كثيراً ، ويمكّن الاتجاهات الدلالية الجديدة ، من الانفلات من تلك القوالب القديمة وربما البسيطة أيضاً ، وذلك لأن الإيقاع والقالب الشكلي ، للقصيدة مثلاً ، وهي الأصل هنا ، قد يكون لَحِقَ بهما التطور والتبدل ، خلال القرون ، كما لَحِق أيضاً باللغة التي يُـتَرجَم إليها .
أقدّم ُمثالاً على ذلك " أناشيد دير بورِنْ " – التي وُجدت في ذلك الدّيْر – والمعروفة باسمها اللاتيني ( كارمينا بورانا ) أي أناشيد دير بورِنْ : لقد عكفتُ منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، مع زميلي المرحوم الدكتور " سمير ضاهر " – وهو عارف بالموسيقى – على محاولة ترجمة هذه النصوص أو بعضاً منها ، إلى اللغة العربية ، وكان عليه أن يدرس موسيقاها ويحللها .
لم أستطع يومـها ، أنْ أعثر في ألمانيا الاتحادية ( الغربيّة سابقاً )على نسخة كاملة مِن الأناشيد لأختار منها ما يمكن لي ترجمته ، إلاَّ عن طريق مكتبة ضخمة عثرتْ لي على نسخة – بعد نفاد الطبعة – في إحدى المدن الأمريكية ‘ فطلَبتها وبَعد حينٍ حصلتُ عليها ، وفسّرتْ ضخامتُها لي – تـقع في نحو ألف صفحةٍ مِن القطْع الكبير –ارتفاعَ ثمنها ، وكانت تستحقّ ذلك .
غير أن عملية الترجمة قد تعثّرتْ جداً ، بل وكادت أنْ تتوقفَ ، لأن الكثير من المصطلحات وهي ألمانية فصيحة ونصف فصيحة ، وعامية أيضاً تحتوي على كلماتٍ قديمةٍ ، من زمن الُمنشدين الجوَّالين ، لا مرادف مقنع مُختَزَل ومعبّر لها عندنا على حسْب علمي ، ثمّ توقّفتْ نهائياً بوفاة الزميل المرحوم بحادث سير مفاجئ .
في هذا السياق ، قد يبدو من المفيد ، أن أشير إلى مقولة للعالم ( يوت – جي – هامان ( 1730 – 1788 ) يقول فيها –في كتابه " مذكرات السُّقراطية " - :
" إنّ الكلماتِ لها قـِيَم تتحدّدُ كالأرقام حسْب الَمرتبة الواقعة فيها ، أما المفاهيم فـتشبه في مدلولاتها وظروفها العمليةَ التي تتغير حسب المكان والزمان ... إضافة إلى ذلك تحمل كل جملة ، حتى لو خرجت من نفس الفم والقلب ، عدداً لا نهاية له من المعاني الإضافية التي تمنحها إياها والتي تتخذها بنفس الطريقة التي تتخذ بها الأشعة الضوئية هذا اللون أو ذاك ، حسب السطح الذي تنعكس عليه ، عائداً إلى عيوننا " – أ هـ . - .
في مقالة بمجلة " ألمانيا " ( العدد الرابع – آب – 1994 ) نقرأ للباحث " إرفين شارْغاف " مقالةً بعنوان ( الأوطان واللغات الأم : أُطروحاتٌ عن مفهوم " الأوروبي ") وفيها بعضُ العبارات ، التي قد تسهم أيضاً ، في شرح هذا الأمر حيث يقول هناك:
" إنني أعتقد بأن كلَّ شخص يأتي إلى العالم ومعه معجمه الخاص به ، ومعه قواعده الخاصة به ، لا بل ومعه منطقه الخاص به
وكل ذلك في إطار البنية المتشابكة للغـته الأم ، وأعتقد بأن هذه الحالة لا يمكن تفسيرها بواسطة الأسس المادية المعروفة لدينا حالياً في مجال علم الوراثة ، ذلك أن هناك ظواهر لا تعطيها التفسيراتُ سوى مزيدٍ من الغموض ... مثل " الرّوح " وكذلك " الزمن " ، كما وينطبق ( هذا ) أيضاً على كثير من العبارات التي تبدو لنا بسيطةً جداً ومنها عبارة " اللغة الأم " التي يظن المرءُ أنه قد قال كلَّ شيء عنها ، عندما يوضِح أنها اللغة الأولى التي يستوعبها عقل الطفل في أعوامه الأولى . فنحن نفتقر إلى القدرة على وصف النّبرات التي ترافق كل فكرة تعبّر عنها الكلماتُ "– أ هـ .- .
إنّ القرابة َبين لغتين ، لا يمكن البحث عنها مثلاً في تشابه الشعر أو الكلمات فقط ، وإنما في مستوى أعلى من المستوى التاريخي ، حيث يكون المقصودُ بهذا القول أو ذاك ، واحداً دوماً وحيث يشكّل مجموعُها وتكاملُها ، وليس إحداهما فقط ، ما يسمى بـ " إنْـتِنْسيون – Intention " – وهي عملية تَـعرِّفِ الوعي على شيءٍ ما ، وعلى مقصِدِه – وهي التي تُـفضي إلى ما يسمى بـ " اللغة الصافية " .
هذا القانون ، هو أحد أهم مقوّمات فلسفة اللغة ، ومع ذلك يجب التّمييز بين ما يقدمه " الإنْـتِنْسيون " عن القصد وبين كيفية وطبيعة المقصود . هذا هو ما يجعل من الترجمة أمراً نسبياً لا يمثل القولَ النهائي ولا الشكل النهائي أيضاً . فثمة افتراضٌ بأن الشعراءَ العِظامَ هم المترجمون العِظام للشعر ، وأولئك الأقل شهرة هم أقل نجاحاً في الترجمة .
هذه المقولة تدحضها الحقائقُ التاريخية نفسها :
هناك مجموعة من المفكّرين الكبار أمثال " مارتين لوثر – M.Luther " - " شْليغِل – Schlegel " – " فوسْ – Voss " ، قدّموا ترجمات ٍ رائعةً تُعتَبَر أهمَّ من إبداعهم في أعمالهم الشعرية والأدبيّة .
كما يوجد شعراءٌ كبارٌ مثل " هولدرين – Hoelderlin " – " جورج – George " أَخفَقوا في ترجماتهم الأدبية ، لأن للترجمة شكلاً خاصاً وتـقنّـياتٍ خاصةً ووعياً مغايراً ،لا ينطَبق بالضرورة مع الوعي الشعري والحساسية الإبداعية الشعرية .
المترجمُ ، يوصِل إلينا ، بل يوقظ فينا صدى النص الأصل ، من خلال تعامله الدقيق مع علاقاتٍ لغويةٍ معيّنة للمحتوى ، تحكمها أنظمةٌ دقيقةٌ .
كما تخلو الفلسفة من الإلهام الشعريّ - المُسمى عندهم " موسه – Muse " ، وهو ما يُسمّى عندنا بـ " شيطان الشعر " - كذلك تخلو الترجمةُ من هذا الإلهام ومن الانسياقِ خلفَ إغراءاته ، على الرغم من كونه ، أحياناً ، عمليّةُ إعادة إبداعٍ ، لأنه يَخضَع لتلك القوانين الدقيقـةِ الناظِمة والمنَظِّمة للعمل وبصرامة وجديّة لـتَنضَج فيها بذورُ " اللغة الصافية " وغالباً من دون جدوى .
الحرية والأمانة :
يشكّل موضوعُ الحرية والأمانة أحدَ المحاور الهامـة ، في كل نقاش يتعلّق بالترجمة ، وبشروطها ونظريتها . الحرية في إيصال المعنى والمقصد مع الأمانة للكلمة .
كيف نحقق هذه المعادلة ؟
نظريةُ الترجمة تتطلب أكثرَ من إيصال المعنى والقَـصد ، والترجمة لا يمكن لها دوماً من خلال الأمانة والوفاء للكلمة أنْ توصلَ المعنى والقصد الموجود في الأصل ، ناهيك عن الكيفية والسّياق ، لأن الكلمة الشعرية ، مثلاً ، لا تنهي مهَـمَّتُها عند إيصال المعنى فحسب ، وإنما بالكيفـيّـة التي صيغ فيها المقصود للتعبير عن القصْد في كلمة أو كلمات معينة .
لأنّ للكلمةِ لحنُ مشاعر يرافـقُـها ، لا يمكن لنا الوصولُ بها إلى شكل مفهوم ومقبول من خلال ترجمتها الحرفية المستندة إلى قوانين الـ " سينتاكس – Syntax " – وهو علم بناء الجمل وتنظيم الكلمات – فقط ، لأن النصَّ المترجَم سيصبح خالياً من المعنى المقصود ، وربما سقط في الإبهام أو العبثية : ( أُذكِّر هنا بكلمة " أوراق الجدران وبآلة غسل النقود ) ، كما أذكّر بما أوردناه أعلاه عن ترجمة الشاعر ( هولدرلين ) – في أواخر أيامه – من خلال ترجمتهِ لمأساتين من أعمال " سوفوكليس – Sophokles " ، وهي ترجمةٌ تعتَبر أنموذجاً مدرسياً للترجمة السيئة ، حيث يهبط التناغم اللغوي فيها إلى مستوى متواضع لا يسمح بالإحاطة بعمق المعنى الموجود في النصّ الأصـل ، إلاَّ بقدرِما تسمح به نسمةٌ عابرة تمرّ على مزمار القصب ، لـلّحْـنِ بأن يتشكلَ فيه وينطلقَ في آفاقهِ .
بينما نجد العكسَ تماماً في ترجمة " بورْشارد – Borchard " لعمل " بـِندار – Pindar " في نشيده الساخر - الكومودي - الثالث للجَوْقة ،المتعلق " بعرَّاف دِلفي – Orakel V . Delphi " فالترجمة الحقيقة تكون شفافة تَظهر من خلالها ملامحُ النصّ الأصيل ، فلا تحجبه .
– أودّ هنا أنْ أشيرَ إلى ضرورة استعمال الكسرة تحت حرف الدّالِ في كلمة ( دِلـفين ) – الدُّخَـسُ - وهو اسمٌ مأخوذٌ عن الأصل الإغريقي – اسم مدينة دِلفي - وليس كما ورد في المعجم العربي الحديث بالفـَتحة ، وهو اسمٌ متَرجَمٌ مأخوذٌ عن الإنكليزية ( دولفين – Dolphin ) وليس عن الأصل .
إذا كان الصراع مستمراً بين الحرية والأمانة ، فإن الغلَبَـة ستكون لتلك الحرية ، التي تسعى بأمانة كاملة لإيصال روح النص حيةً ، على الرغم من أن علم الـ " سينتاكس – Syntax " يجعل من الكلمة العنصرَ الأولّ في عمل المترجم وليس الجملةُ الحاجبة كالستار ، كما يُـعلَّمُ ، للغة الأصل .
وعلى الرغم من مقولة :
" في البدء كان الكلمة " فإن التّـناغمَ والتكاملَ بين اللغات ، ومن خلال خصوصية ذاتية ، هو الذي يمكّن النصَّ الأصلَ ، من الحضور الشَّفيف والدائم بين سطور شكله الجديد ، ويمكّـنُه من تحقيق خصوصيته – وإن شئتَ – " هُويّـته " أيضاً .
في كل اللغات وفي بنيتها ثّمةَ حضورٌ لما يمكِن لكَ أن توصِلَه ، كما يوجد حضورٌ أيضاً لذلك غيِر القابل للإيصال ، الذي تحِـسّ بوجوده ، من خلال علاقات النص ، رامِـزاً أو مرمَّـزاً بين السّطور .
رامِزٌ فقط من حيث محدودية البُنية اللغويةِ ، ومرمَّزٌ من خلال عملية التطور الدائمة للغة ذاتها ، والتي هي في المحصلة نواةُ " اللغة الصافية " ، حيث المَنطوقُ ملتصِقٌ باللغة وبتبدّلاتها فقط ، بينما الَمغزى أو المعنى الصعب الغريب ملتصقٌ بهيّكلتِها ، وهذا غيرُ القابل للترجمة المتمَـنّع عن الإمساك به وسكبه على الورقة ، لا يأتي من صعوبة ترجمة الكلمة وإنما من تلك الشّفافيَةِ الطيارة التي يَـلتصق بها المعنى على الكلمات .
فاللغة الصافية التي تَجعل الرّامِـزَ مرَمَّزاً ، وتطلق اللغةَ وتسمح لها باستعادة حركتها ، تقدّم للترجمة هذه الإمكانية الضخمة والوحيدة ، حيث تلامس الترجمةَ ملامسةً ، من خلال عدد لا يحصى من النِّقاط ، المغزى أو المعنى في الأصل لتصلَ به ، عن طريق قانون الأمانة ، إلى حالة حرية اللغة ، وحيث تـتْبَع الترجمةُ مدارَها الذاتيَّ الخاصَّ والمميِّـزَ لترجمةٍ بعينها .
في كتابهِ " أزمة الحضارة الأوروبية " تحدثَ رودولف بان فيتْس – R. pannwitz " عن المعنى الحقيقي لهذه الحرية ، من دون أن يسميها مباشرة أو يبررَها ، وذلك من خلال مناقشته للمجموعة الشعرية المعروفة والمسومـةِ بـ " الديوان الغربي - الشرقي " لشاعر ألمانيا العظيم " وولفْـغانغ يوهان فونْ غوتِه – بالتاء المخفّـفـة – Goethe " ، وليس كما تُرجم العنوانُ تحت اسم " الديوان الشرقي لمؤلفـه الغربي "، المناقشةُ التي تعتَبر من أهم ما كُتب ونشر في اللغة الألمانية حول " نظرية الترجمة " ، والتي يشيرُ فيها إلى خطأٍ في المنطِق ، حتى في الترجمات العظيمة ، عندما تحاول اللغةُ الألمانيةُ
" جَرْمَنة " الهندي والإغريقي والإنكليزي ، بدلاً من أنْ تحوّلَ الجرماني – الألماني إلى تلك اللغات وتُدخلَها في زوابعها وتحدّياتها ، لـتستفيدَ من المعطيات الجديدة المغايرة ، من خلال الرجوع إلى آخر عناصر اللغة ، حيث تَـتّحدُ الصورةُ بالإيقاع ، وحيث لا يمكن تحديدُ الكَمِّ الإبداعيِّ- الذي تسمح به لغةٌ ما ، عند تحويلها إلى لغة أخرى – بأن يعبِّرَ عن ذاته ، ومن المؤكد أن هذا العمل شاق حساس ودقيق .
في ندوةٍ للترجمة ، أقامتها الملحقيةُ الثقافية الألمانية الغربية ( معـهد غوتِه ) بالتعاون مع
" الملحقيّة الثّقافيّة الشرقية "(!) لدولة D.D.R. - قبل الانهيار طبعاً – في مقرها بدمشق بتاريخ 27 / 10 / 1989 ، ودعَت إليها مجموعة ًمن العاملين بالترجمة عن الألمانية ، وممن يدرِّسون الألمانية في الجامعات السوريّة، وكنت من بين المدعوين أيضاً بصفتي الشّخصية فقط، في هذه الندوة قام بعضُ المترجمين السوريين العرب بترجمة قصة قصيرة لأديب ألماني ناشئٍ ، تافهٍ ومتغطرسٍ - كما قلت له بالندوة حرفياً – تتحدث عن شراء جهاز تِلفاز ( هو الأفضل في الجمهورية ) وبالتالي فأنت تستطيع أن تعرفَ – إن كنتَ من العارفين – بأن القصة تدور أحداثُها في الجمهورية المرحومة للعمال والفلاحين
( D.D.R ) من دون أن يشير إليها – في النص – ولو بكلمة واحدة ... لأن هذه هي الطريقةُ المميِّـزة للكلام هناك يومها... ويتحدث فيها عن جدته التي تعمل خادمة لدى إحدى سيدات إقطاع الأرض
" لاندْغريفِن – Landgraefin " .
بما أنّ هذه العبارةُ لم تُفهمْ من قِـبَل أكثر من مترجم لهذا النص التافه ، قام البعضُ بترجمها :
( جدتي التي هي ملِكة المطبخ ) أو ( أميرة المطبخ ) ... بينما قام مترجمٌ معروف وذكي يحمل وساماً في الترجمة من تلك الدّولة، بتجاهل هذه الكلمة نهائياً ، ربما عن سهوٍ ، والله أعلم ! . أما لماذا وصفتُ ذلك النص وصاحبه بالتفاهة والغطرسة أيضاً فالحق يقال أنّ صياغتَه اللغوية الألمانية فقيرة وبائسة وتتكرر فيها كلمة ( ألزو ) أي ( إذن ... هكذا ) في كل عبارة تقريباً ،ناهيك عن بؤس المحتوى ...
ومع ذلك فقد كان يتحدث إلى الأساتذة والدكاترة المترجِمين بلهجة فوْقية تعليمية ، مما دفعني إلى قول ما ذكرته أعلاه ، مشيراً إلى أن بعض الترجمات إلى العربية المقروءَة في النّدوة – لو كان بإمكانه فهمَها – لأدركَ أنها رَفعت من مستوى نصه البائس ، بسبب اللغة الرفيعة والصياغة الأنيقـة المستَعملة في ترجمة تلك العبارات البائسة التي كتبها هو .
يمكن للمترجم - إذن - أنْ يرقى بنصه المتَرجَم إلى أفقٍ أعلى من النص الأصل أحياناً أو أن يهبـِط به إلى مستوى أدنى ، وإذا كان الأوّلُ هذا غيَر مرغوب به فإن الآخرَ غيُر جائزٍ تحت أية ذريعة كانت .
إنْ لم تستطع أن تجد في معجمك اللغوي ما يسمح لك بترجمة النص بقدر معقول من الكلمات المناسبة – التي قد لا تكون موجودة أصلاً بين يديك – كما في أسماء النبات والحيوان في اليابانية أو الصينية على سبيل المثال – فإن الأفضلَ لك أن تتركَ النص وتنفضَ يديك منه ، أو أن تجدَ لك بديلاً معقولاً ومقبولاً من الكلمات ، مع الإشارة لذلك ، في الحواشي ، بالطبع ، كأن تجعل من طائر
( الفلامِـنكو ) وهو زهري اللون ، اللقلقَ المائي ، إن لم ترغبْ في استعمال كلمة ( البَشْروش ) العربية ، وأن تضعها في الحاشية وربما مع الاسم اللاتيني – العلمي لهذا الطائر .
إنّ تجربتي ، في ترجمة شعر اليابان والصين ، عن اللغة الألمانية ، قد علّمتني ذلك ، وفي الوقت ذاته فرضت عليَّ ، وهنا عودة أخرى إلى موضوع الأمانة وليس الخيانة ، أنْ أتعلم كيفية لفظ ونُطق وكتابة أسماء الشعراء وأسماء العلَم ، بشكلٍ يكاد يكون مطابقاً للأصل ، عن الأصل .
صحيح أنني تعلمت ‘ خلال زيارتي لبلدان الشرق الأقصى ومنها الصين واليابان ، بعض قواعد اللغة وبعض الكلمات والعبارات ، غير أن هذا لم يكف لمعرفة نطق الأسماء بشكل دقيق ولهذا فقد عمدت إلى تعلم شيءٍ من اللغة ، من خلال أشرطة خاصة ، لكي أستعين بها على ترجمة الأسماء ، على الأقل ، بشكل سليم (2) .
من الطريف هنا ، أن أشير إلى بعض الملاحظات المتعلقة بهذا الأمر . مثال على ذلك من اللغة الصينية
لفظُ الكلمات الصينية :
بغية مجاراة معظم الأعمال العلمية يستعمل أسلوب " ويدغايلز - WADE-GILES " للنقل الحرفي للكلمات الصينية إلى الإنكليزية في هذا الكتاب والألفاظ العربية المقابلة مقدمة أدناه .
CH ج كما في TAO TE CHING ( جينغ ) .
CH تش . كما في سلالة CHIN ( تشين ) الحاكمة .
HS ش . كما في TA HOSEH ( شوه ) العلم الأكبر .
I . كما في GEN ( رن ) ت العاطفة الإنسانية .
K . غ كما هي الآلهة البوذية KUAN – YIN ( غوان بن ) .
K. كما في KUNG – FU – TZU ( كونغ – فو – دزو ) أو كونفوشيوس .
T د . كما في TAO ( داو ) – الطريق .
R ت كما في سلالة TANG ( تانغ ) الحاكمة .

عودةٌ قصيرة إلى موضوع المعجم اللغوي وتطويره - في اللغة الألمانية – وهي مثال أستطيع أن أتحدثَ عنه بدقة . العديد من الكلمات الغريـبة ، مختلفة الأصل ، تضمها معاجم خاصة ، لعل أشهرها هو المسمى ( معجم دودن – DUDEN ) لـ " الكلمات الغريبة " ، ومنه نسخة مختصَرة ونسخة كبرى تقع في خمسة أجزاء وتحتوي – قبل ثلاثين سنة – على أكثر من أربعين ألف كلمة غريبة الأصل موجودةٌ في مكتبتي . الكلمات الغريبة تولد ، من خلال الحياة اليومية، وتدخل في متن اللغة الألمانية . هذا المعجم يتزايد كل عام ، بسبب التطور التقـني والاقتصادي بشكل مذهل ٍ وجعل منه الناسُ موسوعةً حقيقية ومن دون تردّد ولا حَرَجٍ.
هذا من جانب ، أما من جانب تطور اللغة الألمانية عينها وما يتعلق بالإضافات السنوية التي ترفد هذا المعجم المخصص أصلاً للغة الألمانية الـفصحى ، فإننا نشير إلى أن عدداً من الكلمات الجديدة ـ قد يصل إلى خمس كلمات أو أكثر يستقيه المعجم كل عام من مجلة " دير شْبـيغِل - DER SPIEGL " – المرآة – وحدها ، وهي المجلة " – السياسية – الثقافية الشاملة التي تصدر في هامبورغ شمال ألمانيا الاتحادية والتي يَـشتَقُّ ويخترع كتَّابها – وهم من المختصين في اللغة طبعاً – كل عام – مصطلحاتٍ وكلمات جديدة .
مثال :
( فيديو إسْت – VIDEO IST ) – وذلك للتعبير عن حالة الإدمان التي تصيب البعض من جراء مشاهدة أفلام ( الفيديو ) والذي اختُرعَ قبل حوالي بضعة عقود فقط ، وذلك على غرار كلمة ( إيدياليسْت – مثالي – IDEA LIST ) أو ( كومونيست – شيوعي – KOMMONIST ) وذلك بإضافة هذا الجذر
( IST ) المستَمد من اللغة اللاتينية والذي لا يرى أحدٌ ضيراً في اعتماده أو في إدخال تلك الكلمات الجديدة إلى المعجم الرسمي .
هناك تعبير أدخَله " هانْس فايْـهِـنْـغَر - Hans - Vaihinger " عام 1876إلى اللغة الألمانية وهو مصطلح " als ob " – ويعني بالعربية " كما لو ... " ، قام الإنكليز بنقله إلى لغتهم واستعماله بالكامل وبلفظه الألماني ، ويعني عندهم : " as if " - موجود هكذا في معجم المصطلحات الإنكليزية - .
المصطلح أو التعبير لاتيني الأصل " ab Ovo " استعمله الشاعر " هوراس " في كتابه " أرس الشعري – Ars Poetica " ويعني الحديث المفصّل في موضوع ما منذ بداياته ، وهو مستعمل هكذا في معظم لغات أوروبا الغربية .
في تشرين الثاني من هذا العام ( 1994 ) تمَّ لقاءٌ في ألمانيا بين عدد كبير من علماء اللغة " لتيسير " وتطوير أمور اللغة من حيث الكتابة ، مثلاً حرف ( ٍS ) المزدوَج – يصبح هكذا : SS أو إلغاء الحرف الكبير من أوائل الكلمات وغير ذلك من الأمور الهامة ،وسوف تعتمد هذه التغيرات رسمياً لأن تطور الحياة اقتضى ذلك ‘ ,وإنْ كانت المناقشات حول الأ مر لم تنته حتى اليوم أي بعد ثلاثة عشَر عاماً... فـتأمل ...
منذ أعوام عديدة ، قرأت للناقد الصديق الأستاذ حنا عبود مقالةً في إحدى صحف دمشق المركزية ( البعث ) – العدد 6976 تاريخ 8/1/1986 – يتحدث فيها عن كلمة ( إكسوتكْ – EXOTIK ) وكتبها هو ( إكزوتك ) – بحرف الزّين ( ولا يوجد فيها حرف الزد Z اللاتيني الذي قد يبرر تلك الكتابة) وعرض فيها آراءَ عدد من الأدباء يستعملونها بشكل وبمعاني مختلفة ، ويبدي رأيه في الموضوع .
بدا لي الأمر طريفاً حقاً ، لأن كل من تحدث في هذا المصطلح منفرداً كان غيرُ مصيبٍ تماماً ، وأما إذا أخذنا رأيَهُ مجتمعاً مع آراء الآخرين ، فكان على صواب .
كيف ذلك ؟
سأتطرق – بإيجاز – للموضوع ولأن له بالطبع علاقة بموضوعنا هذا .
الكلمة ( إكسوتك - EXOTIK ) ذات أصل ياباني – لاتيني – كما جاء في المعجم " دودن - DUDEN " ( ولها علاقة بذلك السحر أو الانبهار الذي أصاب الأوروبي ، عندما تعرف عالم الشرق الأدنى أو الأقصى أو غيره من عوالم ( ما وراء البحار ) – وهذا ( الما وراء البحار ) نعرفه جيداً من معجم المستعمِر في بدء حركة الاستعمار – وهو يعبر عن الدَّهَش أمام تلك الألوان والفنون والتقاليد التي رآهـا وعن العجائبية والغرائبية المحيطة بها .
المصطلحُ يضمّ كلَّ هذه الأشياء مجتمعةً وليس بعضاً منها فقط ... فماذا يَضير – إذن - ، لو أدْخَلنا هذا المصطلح كما هو إلى لغتنا واستعملناه ؟ وهل كلمة ( التِّلفاز ) – المعرَّبة – تعبّر حقاً عن كلمة : تِلِي – فيزْيون ( Tele Vision ) وتيلي هو ( البعيد ) وفيزْيون – الرُّؤية - له علاقة بالأبصار وكذلك بالرؤيا مثلاً : ( رؤى يوحنا ( JOH. VISIOEN ) ، وحرفيْ ( EN ) في الأخير فهما للجمْعِ ، مع أنّ الأصلَ لاتينيُّ ويَـعني : ( الوجه الداخليّ – الرُّؤيا – الصورة المخادعة ( السّراب ) .
فهل ترى معي ، يا صاحبي ، مدى الثّراء الذي يُمكن له أنْ يصيبَ اللغةَ جَرَّاءَ الانفتاح على اللغات الأخرى وضمِّ ما يُغني ويفيدُ منها إلى لغتك الأمّ ؟
القرآن الكريم لْم يتحرَّج في استعمال تلك الكلمات الغريبة والأعجمية التي تزيد فيه – على حد علمي – على الخمسمئة كلمة : كالبُستان – الزّبَرجد – القِسّ – الأتُون – مخففاً ومشدداً – وغير ذلك الكثير ... فلماذا نحجم نحن أبناء القرن الحادي والعشرين عن الاستفادة من كل هذا بحجة المحافظة على سلامة اللغة ، التي يريدونها مقدسة – أي كما وصف ( هيرودوت ) الهيروغليفية – التي انتهت إلى زوال ، ونريدها لغة الحياة الحية والمتفاعلة والمبدعة ، لماذا ؟! .
أما فيما يتعلق ( بالأخطاء الشائعة ) ، التي يتعامل معها المترجم اليوم وبدون عناء أو توقف فهذا موضوع طريف شيّق ويكفي أن أشير إلى أن شيوعه لا يبرر استمرارية استعماله ، بعد أن أصبحنا في موقع معرفي يسمح لنا باستعمال الكلمة بشكل صحيح ودقيق ، وإنْ وجَد البعضُ مشقّـةً في التعامل معها بادئَ الأمر .
شاعر ألمانيا العظيم ( يوهان وولفغانغ فون غوته ) يصبح اسمه البسيط ( غوتِه ) بالتاء المخففة جيتَه أو بالتاء المشدد ة ، لماذا ؟ كذلك اسم شاعر ألمانيا العظيم الآخر ( شِلَر ) باللام المخففة – يشدد ويصبح ( شلَّر ) وكذلك اسم ( شْـتيفان تْسفايغ ) يصبح زفايج – بالزّين – لماذا ؟ هناك العديد من الأخطاء الشائعة ، التي لا مكان لها اليوم في عالم الترجمة الدقيقة الأمينة ، بحاجة إلى إعادة نظر فيها . لقد كان الأوروبيون يسمّون – على سبيل المثال – منذ قرون عدة ( ابن رشد ) AVEREUS أفيريوس – ويسمون ( ابن سينا ) أفـيسينا – AVECINA – وتعلّموا بعدئذ النُّطقَ السليم للأسماء وكتبوها صحيحةً، ولن تجد اليوم مستشرقاً واحداً محتَرماً لا يكتب الاسم العربي للعلَم كما يجب أن يُلفظَ ويكتبَ .
أعتقد أن هذا يكفي للحديث حول موضوع الترجمة الواسع ، وقبل أن أختم لا بأس من إشارة سريعة إلى موضوع هام وهو :
ماذا نترجم ؟ وكيف ولماذا ؟ .
باختصار شديد : أنا أترجم ما يثير لديَّ المتعة وينمّي المعرفة ، وأجد من المفيد إيصاله إلى الآخرين وبصرف النظر عما يسمى بالجدوى الاقتصادية أو متطـلبات السوق .
"دار الذاكرة " بحمص – التي أملكها – قدمَت العديد من الكتب ، غير الرائجة ولا الراّبحة أيضاً ، ولكنها – حسب رأيي – تشكل ضرورة معرفية وتقدّم متعةً ، ولو للنخبة من القرّاءِ مثل كتاب ( لا تبح بسرك للريح ! شعر وحكم من اليابان ) أو كتاب شعر عن الهايكو أو عن الزن – ZEN أو الشعر الياباني الحديث لشعراء ولدوا بين عامي 1850 – 1900 ( على شاطئ الأيام البعيدة ) وغير ذلك من الكتب التي ستجد طريقها للنشر قريباً ، والتي قمت بترجمتها عن الألمانية . ولكن هل يمكن ترك موضوعات الترجمة الخطرة لمزاجك الشخصي ؟!
طبعاً يمكن ذلك ، طالما لا توجد للترجمة خطةٌ موحدة علمية ولا دور ترجمةٍ ومراكز رسمية ، حتى اليوم ، على مساحة العالم العربي – على حد علمي – وعلى الرغم من أن جريدة تشرين الدمشقية أوردت بتاريخ 29/10/1989 رقم ( 4603 ) خبراً عن مناقشة مجلس الشعب لمشروع قانون يتعلق بإحداث مركز ، تابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، مقرّه دمشق يحمل اسم
" المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر ... ولا أعرف مصيره بعد ذلك .
انقضت قرون عديدة على تأسيس ( دار الحكمة ) وأمجاد العرب ، ولا أحد يستطيع أن يطلبَ من أديب بعينه ، أو دار نشر خاصة بعينها ، أن تنظمَ لمشروع خطير وهام مثل موضوع الترجمة الذي يجب أن تحمل رايتَه الدولُ والحكومات ، للوصول بشعبها إلى مستويات أرفع من المعرفة وإلى تعريف الشعوب الأخرى بتراث العرب الماضي والمعاصر، ونحن لا نقف على هذا الصعيد ، قطعاًُ ‘على أرض بورٍ يبابٍ .
============================================
الهوامش :
1- ( ص 3 ) : للمزيد انظر دراستَنا في " الآداب الأجنبية " العدد 28 السنة الثامنة – آب 1981 الصفحة 5 – 36 – اتحاد الكتاب العرب – دمشق .
2 – ( ص 7 ) للمزيد حول الموضوع يمكن العودة إلى المقدمة التي وضعناها لكتابنا الموسوم بـ " فصول السنة اليابانية " الصادر عن اتحاد الكتاب العرب – دمشق عام 1990 .
================================================== =============

ملخّص الدّراسة ( التَّرجمةُ أمانةٌ أمْ خيانةٌ ) – د. شاكر مطلق - حمص - سورية:
-------------------------------------------
تحاول الدراسةُ أن تسهِمَ بشيءٍ في موضوع الترجمة .
تتطرَّقُ الدراسة هنا ، من خلالِ طروحاتٍ نظريةٍ وأمثلةٍ تطبيقيَّةٍ أنْ تلقي بعضَ الضوءِ على إشكالياتِ وموضوعاتِ الترجمة ، وبخاصةٍ فيما يتعلقُّ بالمقولةِ الفاسدةِ " كلُّ مترجمٍ خائنٍ " .
تتحدثُ الدراسةُ باختصارٍ عن مهامِ المترجمِ وتطرحُ أفكاراً حول نظريةِ الترجمةِ مع استشهاداتٍ عمليةٍ حولها ، كما تتطرّقُ إلى موضوعِ الحريةِ والأمانةِ في الترجمةِ وتقدِّمُ بعضاً من خبرةِ الباحث الشّخصيةِ في ترجمته لأعمالٍ إبداعيةٍ من اللغة الألمانية لنصوص ألمانية وكذلك لمجموعةٍ من الكتبِ الإبداعيةِ التي أصدرتها حولَ الشعرِ الصيني والياباني ، وما صادف من صعوباتٍ تتعلقُ بمحاولة الحفاظِ على المعنى في غيابِ المعادلِ اللغوي الموضوعي والسّليمِ في بعضِ الأحيانِ وكيفية التعاملِ مع مثلِ هذه الحالاتِ ومع غيرها من الإشكالاتِ المتعلقةِ بالترجمةِ بعامةِ من اللغاتِ الأجنبية إلى العربيةِ .
---------------------------------------------------
E-Mail:mutlak@scs-net.org

محمد إسماعيل بطرش
08/04/2008, 08:11 PM
[يجب أم نفرق بين نوعين من النقل من لغة أجنبية إلى اللغة العربية: الترجمة و التعريب.
أما الترجمة فتعمد إلى نقل أفكار الكاتب الأجنبي بأقرب المعاني للأصل بعد معرفة جيدة بكلتا اللغتين المنقول عنها و المنقول إليها و في هذا يكون المترجمون على درجات. أما التعريب فبالإضافة إلى توافر شرط المترجم يفترض في المعرِّب أن يكون أديبا يستطيع أن يكسب المعاني الأجنبية ألق اللغة العربية و سعة بيانها ما يجعل النص المعرب من عيون الأدب العربي.
اللغة تعبير عن الإنسان و الناس عموما في الطبيعة إخوان و أمثال رغم اختلاف مخزوناتهم الحضارية و تاريخهم الفردي. الإنسان ابن ييئته و مجتمعه و لعل ابتعاد الناس عن بعضهم كان أحد أسباب تنافرهم, و لعل ما يميز عصر العلمنة أنه سمح بالانفتاح على حضارة الآخر و تبادل المعارف. و رغم أن هذا الأمر حديث العهد إلا أنه, بسبب الأحداث المؤسفة, اضطر البعض أن يتعلم لغة الآخر أو يحاول التعرّف على عاداته و تقاليده و ربما ومعتقداته و لو كان الأمر في هذا المجال لا يزال يعاني من سوء الفهم أو سوء القصد كما أنتجه الاستعمار الجديد مع العالم الإسلامي. و الموضوع بعد هذا ينتظر دارسين يتحلون بالورع العلمي و هذا في عصر الهيمنة الأمريكية يبدو بعيد المنال.