المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفسير سورة الفاتحة لفضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي



الحركة الإسلامية المغربية
07/04/2008, 12:06 PM
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين

الحركة الإسلامية المغربية
elharakah.@elharakah.com
www.elharakah.com


الإخوة في الله
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
بمناسبة المولد النبوي الشريف لهذه السنة الهجرية 1429 يسعد الحركة الإسلامية المغربية أن تهديكم تفسير فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي لسورة الفاتحة.
لكم خالص التحية والتقدير والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
الأمانة العامة للحركة الإٍسلامية المغربية

تفسير سورة الفاتحة
· سورة الفاتحة نهر للحياة
· في رياض الفاتحة
· نزول الفاتحة على الرسول صلى الله عليه وسلم
· حكم البسملة في أول الفاتحة
· حكم قراءة البسملة في الفاتحة في الصلاة
· مباحث لغوية

النص الكامل في الملف المرفق صحبته (http://www.arabswata.org/forums/uploaded/1_1207559456.doc)

الحركة الإسلامية المغربية
07/04/2008, 12:08 PM
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين

الحركة الإسلامية المغربية
elharakah.@elharakah.com
www.elharakah.com

تفسير سورة الفاتحة
لفضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي

• سورة الفاتحة نهر للحياة
• في رياض الفاتحة
• نزول الفاتحة على الرسول صلى الله عليه وسلم
• حكم البسملة في أول الفاتحة
• حكم قراءة البسملة في الفاتحة في الصلاة
• مباحث لغوية

سورة الفاتحة نهر للحياة
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيَخْرُجُونَ قَدْ امْتُحِشُوا وَعَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَوْ قَالَ حَمِيَّةِ السَّيْلِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهَا تَنْبُتُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً / البخاري
وفي رواية مسلم:" فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمْ الْخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا.

عندما تشرق في قلب المرء آياتُ الإيمان وينغمر القلب في لُُجَجِ اليقين، وتنبعث في الجوانح أنوارُ الهداية، فتقشعر الجوارح وتدمع العين ندما على ما فرط في جنب الله وما أضاع من حق نفسه، وما بدد من سوالف الأيام، في غفلة عن حقيقة الوجود، وسهو عن المبتدأ والمنتهى وعاقبة الورود..
عندما تورق الروح بأزهار الحق، فتنطلق من عقال الهوى والضياع، وتسري فيها نداءات اللطف الرباني، الذي اخْتُصَّ به المصطفون الأخيار، وتتحرر من وهدة الضلال وحمأة الغي وأغلال الهوى إلى فساحة المحبةِ، محبةِ أهل الحق للحق، ورحابةِ الشوق، شوقِ الصادقين إلى ما وُعِدوا به، ولذاذةِ الخوف، خوفِ المخبتين مما حُذِّروا منه...
عندما تتفحص الروحُ ما حولها فتنكره, وتستعرض الأجنادَ المجندةَ حولها فلا تعرفها، وتستشعر ألم الغربة في مجتمعها، فتتوق إلى واحة أرواح تعرفها وتأتلف معها، إلى وطن رحب تقطنه وأهلٍ كرام تأنس بهم، ورفقة طريق منعَّمة تسعد بها، وسفينة هنيئة تشق فيها وبها عُباب المحيط ولججه..
عندما يغترب الإنسان في وطنه، ويتفرد بين أهله وعشيرته، وتضيق نفسه من واقع وهدته، وتتحفز روحه للتخلص من آلام وحدته، وأوجاع قلقه وتوحُّده، وعماء تيهه وضبابية فكره واضطراب تصوره, وسوداوية الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة تراكمَ ظُلَم الليل البهيم
عندما يُعْرَض على القلب الشيءُ وضدُّه، والأمرُ ونقيضُه، فلا يدري أيهما يركب، ويحتار أيهما يختار، فيستشعر عجزَه، ويخرج عن حوله وقوته، ويوقن بحاجته إلى سَنَدٍ يشُدُّ أزْرَه، ومُسْتَنَدٍ يقيم أمره، وهادٍ يأخذ بيده من توتر الضلال وظلامية المتاهة إلى واحة الاطمئنان والسكينة، ويسافِر به من ضيق الجهل إلى رحابة المعرفة والرشد..
حينئذ يهجر نفسَه، ويتنكر لعادته ويستأصل رعوناتِ جِبِلَّتِه وطِباعِه، بياضُ نهاره تَفَكُّرٌ وبحث عن الحق والحقيقة، فإذا أهَلَّ الليل فاضت المآقي دموعا ونأى الجنبُ عن وَطِيءِ الفراش، وهاج الشوق إلى معرفة المبتدأ والمنتهى، وأيقن أنه هالك لا محالة إن لم يُدركْه قَبَسٌ من هداية، ومشعلٌ من نبوة، ومشكاةٌ تنير الدرب، مشكاة لا يملكها إلا نور السماوات والأرض ...
إذ ذاك، وهو في جوف الليل أسْمَعِ الأوقات دعوةً، يطرُق سمعَه الخفيَّ وعقلَه السَّنِيَّ نداءُ ربه الجليل (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ )، فينتفض من وهدة الغفلة إلى نَيّـِرِ الطريق، وينطلق قلبه قبل لسانه، ويلهج حالُه قبل مَقاله :( لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ... رب أنقذني واهدني لأرشد أمري، وخذ بناصيتي إلى صراطك المستقيم ).
هنالك ينير قلبَه يقينُ المعرفةِ، معرفةِ ما صدر من الأمر, ومعرفةِ منبعِ الصدور، إنه الرحمة الربانيةُ تُدرِكُ من سبقت في علم الله سعادتُهُ، فتَسْحَبُه من الشقاء إلى السعادة، وتستخلصُه من جحيم الضلالة وضنَك الغواية إلى نعيم الهداية وطمأنينة الإيمان، حينئذ يُسافَرُ به من غربة الضياع بين أرواح أنكرها واختلف معها، إلى أنس أرواحٍ يعرفها ويطمئن إليها ويرافقها...أرواحٍ تستظل بالذكر الحكيم وتستفتح بالمثاني والقرآن العظيم، وتسترشد في حبها ورجائها وخوفها وولائها وبرائها بوَحْيِ رب العالمين الرَّحمن الرحيم ملك يوم الدين، وهنالك أيضا يُنْتَزَع من مقابر الغفلة والتيه والضلال إلى مشارف الحياة الحقة واليقظة المبصرة (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام:122]
ولئن كان على أفواهِ الجنة نهرٌ للحياة يستحم فيه الجهنميون الذين تدركهم شفاعةُ الرحمن، فيَنْبُتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويخرجون إلى الجنة كاللؤلؤ يعرفهم أهل الجنة عتقاء أدركتهم شفاعة ربهم عز وجل، فإن نهرَ جنةِ الدنيا، جنةِ الإيمان واليقين والإحسان، هو أم القرآن، هو فاتحة الرحمة وبوَّابة الجنان، هذه البوابة الرحبة، فاتحةُ الخيرات والمبرات، وسبيلُ أولي العزم من الرجال، ونبراسُ السلوك للوصول إلى أسعد مآل، لأهميتها نتعبَّد بها في صلواتنا، ونقْنُت بها عند مناجاتنا، ونستنجد بها عند ضائقاتنا، ونستشفي بها في رقيتنا لأنفسنا وأبداننا، ونتثبت بمعانيها عند هجوم الغبش وطغيان الضلالة وتظاهر الجهالة.
شد الله تعالى بها أزرَ النبي الكريم صلوات الله عليه وسلامه وهو في مكة قبل الهجرة بين أنياب الجاهلية الأولى، وفي لفح لهيبِ التكذيبِ والاعتراض، ولَظَى عدوانية قريش ومرارة ظلم ذوي القربى؛ كان إذا برز سمع منادياً يناديه: يا محمد، فإذا سمع الصوت انطلق هارباً، فقال له ورقة بن نوفل: إذا سمعتَ النداء فاثبُتْ حتى تسمع ما يقول لك، فلما برز سمع النداء: يا محمد، فقال: لبيك، قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: قل (الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ الرَّحمنِ الرَّحيمِ مالِكِ يَومِ الدينِ) حتى فرغ من فاتحة الكتاب، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال:(بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ) قالت قريش: رَضَّ الله فاك.
لقد كان نزول سورة الفاتحة في مرحلة مبكرة من عمر الدعوة المكية تمكينا للرسول صلى الله عليه وسلم من سلاح فعال في مواجهة مشاق الطريق، هو سلاح الدعاء، بما يتقدمه من حمد لله تعالى وثناء، وما يصاحبه من خشوع واستعانة ورهبة ورغبة وحسن رجاء، وما يختم به من أدب الاستعاذة من طرق الزيغ والبراءة من سبل الضلال. ولذلك امتَنَّ الله عليه بها في نفس المرحلة بقوله في الآية 87 من سورة الحجر وهي مكية بلا خلاف: (وَلَقَد آتَيناكَ سَبعاً مِّن المَثاني وَالقُرآنَ العَظيمَ) يعني الفاتحة.
وكانت سورةُ الفاتحة بذلك أنسَه في خلوته وترنيمتَه في محنته ونشيدَه عند مناجاة ربه، وتلاوتَه عليه الصلاة والسلام في صلاته قبل هجرته ، ولذلك سماها الحمد وفاتحة الكتاب وأم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، فقال فيما رواه أبو هريرة مرفوعاً: (إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني). وقال:( والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا في القرآن مثلها، إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).
ولا غرابة فهي حقا سورة الحمد، لأنه يفتتح بها في المصاحف وفي التعليم وفي القراءة في الصلاة، ولأن الحمد فاتحة كل كلام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:)كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ ، أَبْتَرُ ، مَمْحُوقُ الْبَرَكَة( وقال: (وكُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ).
وهي الفاتحة، وفاتحة الكتاب، لأنها بداية القرآن الكريم والمصحف الشريف، ولأن كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ناقصة غير تامة لقوله صلى الله عليه وسلم:( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقال: (أَيُّمَا صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ )، وقال (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن هي خِداج هي خِداج، هي خِداج غير تمام.
كما لا غرابة في تسميتها السبع المثاني فقد نزلت مرتين، مرة في مكة، ثم مرة أخرى في المدينة حسب بعض الروايات، وتثنى في كل ركعة كما قال عمر رضي الله عنه:" السبع المثاني فاتحة الكتاب، تثنى في كل ركعة "، ولأنها نزلت على قسمين ثناء ودعاء. وبها سبع آيات كريمات لما أخرجه البيهقي والدارقطني وغيرهم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) فَقَطَّعَهَا آيَةً آيَةً وَعَدَّهَا عَدَّ الأَعْرَابِ وَعَدَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آيَةً وَلَمْ يَعُدَّ (عَلَيْهِمْ)، وأخرج الدارقطني بسند صحيح عن عبد خير قال: سئل عليّ رضي الله عنه عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين، فقيل له إنما هي ست آيات، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم آية.
كما أحصى لها العلماء أكثرَ من عشرين اسما لشرفها ومكانتها، ولا شك في أن كثرةَ الأسماء دالةٌ على شرف المسمى، من هذه الأسماء:
سورة الصلاة لتوقف الصلاة عليها لأنها من لوازمها، من باب تسمية الشيء باسْمِ لازِمِه. ولما رواه مسلم في صحيحه من حديث"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"..{عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَقَالَ اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) قَالَ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ}.
ومن أسمائها : الوافية، لأنها وافية بما في القرآن من المعاني، والكافية، لأنها تكفي في الصلاة عن غيرها ولا يكفي غيرها عنها، و سورة الدعاء لاشتمالها عليه في قوله اهدنا، وسورة تعليم السؤال لما فيها من آداب الدعاء لأنها بدئت بالثناء على الله تعالى قبله فهي تعليم لنا كيف نحمده وكيف نثني عليه وكيف ندعوه ونسأله، وتنبيه إلى أن تقديم الحمد والثناء على الله قبل الدعاء أحرى بالإجابة، وسورة المناجاة، لأن العبد يناجي فيها ربه بقوله (إياك نعبد وإياك نستعين)، وسورة التفويض لاشتمالها عليه في قوله (وإياك نستعين).
ومن أسمائها "القرآن العظيم"، لاشتمالها على المعاني التي في القرآن ولما رواه أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم).
ومن أسمائها الراقية والشافية للحديث النبوي الشريف في رواية البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قال: (انطَلَقَ نَفرٌ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في سَفْرةٍ سافَروها، حتّى نزَلوا على حيٍّ من أحياءِ العرب فاستَضافوهم فأبَوا أن يُضيِّفوهم، فلُدِغَ سَيِّدُ ذلكَ الحيِّ، فسَعَوا لهُ بكلِّ شيءٍ، لا يَنفعُهُ شيء. فقال بعضهم: لو أتيتُم هؤُلاءِ الرَّهطَ الذينَ نزَلوا لعلَّهُ أن يكونَ عندَ بعضهم شيء. فأتوْهم فقالوا: يا أيُّها الرَّهطُ إِنَّ سيِّدَنا لُدِغَ، وسَعينا لهُ بكلّ شيءٍ لا يَنفعُه، فهل عندَ أحدٍ منكم مِن شيء؟ فقال بعضُهم: نعم واللهِ، إني لأرقِي، ولكِنْ واللهِ لقدِ استَضَفْناكم فلم تُضيِّفونا، فما أنا بِراق لكم حتّى تَجعلوا لنا جُعلاً. فصالَحوهم على قَطيعٍ منَ الغنم. فانطلقَ يَتفِلُ عليهِ ويقرأُ: (الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين...) فكأنَّما نُشِطَ من عِقال، فانطَلَقَ يَمشي وما بهِ قَلبَة. قال: فأوفوهم جُعلَهمُ الذي صالَحوهم عليه. فقال بعضُهم: اقسِموا. فقال الذي رَقَى: لا تَفْعلوا حتّى نأتيَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فنذكُرَ لهُ الذي كان فننظُرَ ما يأمُرنا، فقدِموا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم فذَكروا له، فقال: وما يُدريكَ أنها رُقْية، ثمَّ قال: قد أَصبتم، اقسِموا واضربوا لي معكم سَهماً، فضَحِكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم).
وهي أعظم سور القرآن لما رواه البخاري عن أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: ( كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ: أَلَمْ يَقُل اللَّهُ " اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ؟"، ثُمَّ قَالَ لِي لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَالَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ" وقال الإمام علي رضي الله عنه:"نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنـز تحت العرش".


في رياض الفاتحة
عندما تدرك المرءَ رحمةُ الله المهداة، فيفتح قلبه لأم القرآن، ويُقْبِل عليها بتدبر وخشوع وإمعان، تُقبلُ عليه كما هي من رب العزة، ثنائيةً بالعطاء والأخذ، أوَّلُها منه لربه، وآخرُها له من الواحد الأحد، منه الحمد والثناء والتمجيد لربه ومنها الهداية إلى سعادة الدنيا والآخرة، وبين هذا وذاك إبحارٌ في رياض ملكوت السماوات والأرض، ومشاهدةُ ما أعد للمؤمن من جناتٍ ونعيم، وقربٍ من الرحمن الرحيم، وما ينتظر ضُلَّالَ القوم من مُساءلةٍ يومَ الدين يوم يُعرضون على النار خاسئين.
يستهِلُّ المرءُ إبحارَه في الفاتحة استعاذةً بربه من الشيطان الرجيم، واستعدادا للذكر الحكيم، وتحصُّنا من شياطين الجن والإنس، واستبعادا لشرور الوسوسة وما يُلْقَى في النفس من هواجس الفتن وشوارد الفكر وشواغل الدنيا، وهو في التجائه إلى ربه واستجارتِه به واحترازِه بقوته وقدرته، مُقِرٌّ ضمناً بالعجز عن جلب المنعة ودفع المضرة، معترفٌ بانعدام الحَوْلِ لديه والقوة، موقنٌ بأن ذلك كلَّه متعلق بقدرة الله تعالى ولطفه بأوليائه، ورحمانيته الشاملة لعباده. منطلقٌ في جميع أحواله من معرفته بنفسه العاجزة، ومعرفته بربه القادر الحكيم؛ هنالك يقتحم عقبةَ التسليم المطلق فيَلِج رحابَ الخشوع العَصِيِّ إلا على الموقنين، ويسرح في رحاب الإخبات، وينيخ الفؤاد في رياض الآيات النيرات.
ولئن كانت طهارة الصلاة الوضوء، فإن طهارة النفوس والعقول والأفئدة للتلاوة هي الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ولذلك قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل : 98].
ولئن كانت الألْسُن قد تقع في اللغو أو الكذب أو الغيبة أو النميمة فإن الاستعاذة بالله من الشيطان الذي يَسْتَدْرج المرءَ إلى تلك الآثام كفيلةٌ بتطهير الألسن وإعدادها لتلاوة كتاب الله، بقلب غير غافل ولَا لَاهٍ.
وبَعْد روعةِ استهلالِ الإبحارِ في رياض الفاتحة، يكون اسمُ الله خيرَ مَعْبَرٍ إلى رحمته ورحمانيته، وكأن الفاتحةَ سفينةُ نوح عليه السلام، يَفِرُّ بها المؤمن من موبِقات الفتنِ ولجُـََجِ الضَّلال وعاتِيِّ الموج ( وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [هود : 41].
إن أولَ آية من الفاتحة وهي البسملةُ ( بسم الله الرحمن الرحيم)، مشكاةٌ تنير الدروب، وبلْسَمٌ لشفاء القلوب، وأمانٌ من رب العزة لعبده الأواب، وكما كان عاقبة نوح إذ ركب سفينته بسم الله أن خوطب بقوله تعالى: (يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ) [هود : 48]، كذلك عاقبة المؤمن المخبت إذ يفتتح بالبسملة والحمد والثناء على رب العزة، فيفوز بالهداية والسلام، وغنيمة ما سأل من رب الأنام إذ قال: "ولعبدي ما سأل" .
وكما أن القصر ببابه والروضَ بأقحوانه، كذلك البسملة، تقبل على المؤمن بالبشارة والإنارة فينفسح القلب ويتسع الأمل وتعظُم الثقة بكرم البارئ عز وجل، ويهيج شوق الأفئدة إلى رحاب الرضى وحسن المآب، ذلك أن رب العزة يتجلى بثلاثة أسماء له، كلها جلال وقدرة ورحمة ولطف "الله، الرحمن، الرحيم".
فاسم الله تعالى هو الإسم الأعظم على قول جمهرة من أهل العلم، تلحق به أسماؤه الأخرى ولا يشاركه فيه غيره، تحِنُّ إليه الأفئدة، وتشتاق إلى رؤيته المُهَج، وتأنَس بذكره النفوس، وتحتار فيه العقول فلا تدرك له إلا ما بين لها الوحي كتابا وسنة، منه سبحانه لعباده الألوهيةُ المطلقة العامَّة التامة، ومن عباده له الخضوع والطاعة والاستسلام.
أما اسم الرحمن فمن رحمته التي وسعت كلَّ شيء، ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : 156]، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث صحابته على حسنِ الثقة بالله والرجاءِ فيما عنده عز وجل، والتعلقِ برحمته وحده، فعن واثلة بن الأسقع ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( قال الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فلْيَظُنَّ بي ما شاء )، وعن جابر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: ( لا يموتُنَّ أحدُكم إلا وهو يحسن بالله الظنَّ )، وقال تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [البقرة: 186]
ولئن كان اسم الرحمن من الرحمة العامة بجميع الخلق كاسم الله خاصا به عز وجل لا يسمى به غيره، فإن اسم الرحيم من الرحمة الخاصة بالمؤمنين، وقد يطلق على غير الله بما لا يخل بالعقيدة، قال الله تعالى عن نفسه:(إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[البقرة : 143]، وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم:( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[التوبة : 128].
ولقد كان من شامل رحمته تعالى ولطفه بعباده أن افتتح أمَّ القرآن باسمه الأعظم" الله" المتضمن لصفات الألوهية، وهي توحيد الله بأفعال العباد التي أمروا بها، دعاء وخوفا وخشية، وتوكلا واستعانةً واستعاذةً، ورجاءً وتعلقا وأملا، ومحبةً ورغبةً ورهبةً وتعظيما؛ وقرنه باسمين له متضمنين لكمال صفات البر والإحسان والجود والكرم وهما "الرحمن الرحيم"، فكانت الرحمة بذلك سببا واصلا بين المعبود الحق والعابد الصادق المتحقق.
وحَرِيٌّ بالمؤمن إذ تجلَّتْ في قلبه معاني الألوهية المطلقة برحمتها التي وسعت كل شيء، أن يحمد هذا الفضلَ الإلهيَّ الذي لا حدَّ له، وأن يشكر هذه النعمةَ الربانية التي لا تحصى. ولئن كان العبد عاجزا عن أداء واجب الحمد والشكر، لعجزه عن إحصاء النعم وتقدير الفضل، فقد تولى رب العزة إرشادَه والأخذَ بيده الرحيمة إلى التعبير السليم والأداء القويم وهو:" الحمد لله "، فكان الفضلُ منه عز جل في كل الأحوال، فضلُ النعم وفضلُ الحمد عليها، فضلُ الرحمة المطلقة وفضلُ استدامتها بالحمد عليها.
إن الحمد لله مجردا مطلقا ومرسلا هو وحده عبادةٌ في كل أحوال المؤمن، في سرائه التي استشعرها، وفي ضرائه التي تسْتُرُ نعمةً إلهيةً غيَّبَتْها عن ذهنِه حكمةُ الله تعالى، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في السراء :" الحمد لله المنعم المتفضل" ويقول في الضراء:"الحمد لله على كل حال"، وهو ما ورد في قوله تعالى :( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل: 59]، وقوله:( الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ" [النحل:75]
وإن الحمدَ مقيَّدا بصفات الله تعالى تنـزيها وفعلا معلمةٌ من معالم الإيمان، تحث المؤمنَ على صعود مَراقي القُرْب والإحسان، لذلك يأمر به الله عز وجل عباده تربيةً وتحليةً وتزكيةً، مرتبطا بمعنى إيمانِيٍّ ينير الطريق، فيَرِدُ حسب السياق القرآني تارة بلفظ: "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً" ]الإسراء: 111[، وتارة بلفظ:"الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ"[الأعراف43]، وتارة بلفظ: "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً "[الإسراء: 111]،" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا" [الكهف: 1]،" الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "[فاطر: 1]،" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" [سبأ: 1].
كلما ورد الحمد مطلقا كان التنبيه إلى نِعَم الله التي لا تحصى مما يعلمها المرءُ، ومما استأثر ربُّ العزة بعلمها، وكلما ورد الحمد مقيدا كان التعليم المباشر للعبد، أخذا بيده عَبْرَ معالمِ التوحيد الخالص إلى معرفة ربه.
ولما تجلت سورةُ الفاتحة على المؤمن بصفات الألوهية التي تقتضي الحمدَ المطلق، كان من المناسب وإتمامِ النعمة أن تتجلى تبعاً بصفة الربوبية المطلقة "رب العالمين"، وهي توحيد الله تعالى بأفعاله خلقا ورزقا وتدبيرا للأمور وإحياء وإماتة ونحو ذلك. فلا خالق إلا الله (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام: 102])، ولا رازق إلا الله( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [هود: 6]،ولا مدبِّر إلا الله ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة: 5]، ولا محيي ولا مميت إلا الله (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يونس: 56]. ولذلك كان التفكرُ في تدبير الله تعالى للكائنات خَلْقا ورعايةً مفتاحَ استشعارِ ربوبيتِه عز وجل للكائنات فقال:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ...) [آل عمران : 190]، فبَيَّنَ أن بالتفكر في عظمته ووحدانيته، وحكمته، وتدبيره، وسلطانه تستنير آياتُ الربوبية، وتسْطَع أنوارُ اليقين، وتضمحلُّ غمراتُ الشك وظُلَمُ الرَّيْبِ، فإذا ما أضاءت في قلب المؤمن مشكاةُ الربوبية كانت الاستجابة منه عبوديةً صادقة مخبتةً لربها قانتةً خاشعة، ذلك أن للربوبية عِزَّتَها المطلقةَ وللعبودية ذِلَّتَها المحرِّرَةَ للنفس من سلطة ما سواه عز وجل، الربوبيةُ عهدُ الله لعباده، والعبودية عهدُ العباد مع الله( وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)[البقرة : 40]، فإذا استجاب عهدُ العبودية لعهد الربوبية، استشعر المؤمنُ بقلبه ولسانه وجوارحه عزةَ الربوبية وذلةَ العبودية.
إن الله تعالى قد وفى بعهد الربوبية حيث خلق الإنسان وأحياه وأنعم عليه بوجوه النعم وجعله عاقلاً مميزاً، وما ترك ذرة من الذرات إلا وجعلها هادية إلى سبيل الحق، فإذا لم يشتغل المرء بواجب الخدمة والطاعة والعبودية فقد نقض عهده، مع أنه تعالى وفى بعهد ربوبيته.
إن مطلقيةَ الربوبية الإلهية للعالمين في سائر الأزمنة والأمكنة في الدنيا والآخرة، توحيدا وعبادةً وخضوعا وانقيادا، تقتضي مزيدَ الحمد على ما نعلم وما لا نعلم من رعاية الله للعالمين، وعلى حسن تقديره وتسييره وتربيته للمخلوقات( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:49]، ولذلك اقترنت في أم القرآن معالمُ التوحيد الخالص ألوهيةً وربوبيةً في ظل الرحمة المهداة، رحمةِ الإله الواحد والرب الخبير الحكيم، لعباده المخبتين المطيعين.
ولئن كان الحمد مطلقا من لوازم الألوهية إحقاقا، فإن الحمد مقيدا من لوازم الربوبية استحقاقا، والقيوميةِ قدرةً وحسنَ تقدير، ولذلك تبادر الملائكة منافسةً ومسارعةً، أيٌّ منهم يرفعه، كما ورد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ. فَقَالَ: الْحَمْدُ للّهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ. فَلَما قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلاَتَهُ قَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ. فَقَالَ: أَيُّّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْساً فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا. فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا. أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا.
وكما أن الحمد مقيدا بربوبيته عز وجل للعالمين يُراد به الإطلاقُ، لأن ربوبيتَه مطلقةٌ، كذلك جميعُ صِيَغِ الحمد لله الواردةِ في الكتاب والسنة تفيد الإطلاقَ، لأن النعم الظاهرة والباطنة التي يُحْمَد عليها الحقُّ جل جلاله خاصةٌ به لا يُنْعِم بها غيرُه، ومن هذا المعنى كان الإطلاق للتعبير المقيد، ألا ترى إلى قوله تعالى( لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ )[القصص:70]، وكيف أن انفرادَه تعالى بالحمد في الآخرة وهي الوقت الذي لا يحمد فيه سواه، مبالغةٌ في الانفراد بالحمد المطلق, له الحمد استحقاقاً لعظمته, وله الحمد وجوبا على نعمته، وهو المنفرد به في الدارين، ففي الدنيا المحمودُ اللَّهُ على إنعامه وهدايته, وفي العقبى المحمود اللَّهُ على عدله ومثوبته.
ولذلك عقب على ربوبيته المطلقة في الدنيا والآخرة بقوله ( ملِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) تذكيرا وتحذيرا وتنبيها وتقريرا، فهو عز وجل مالك يوم الدين والجزاء والعرض والمحاسبة، وملك الأكوان، الواحد الصمد يوم تقر الكائنات له بالملك طوعا وكرها، يوم يحييها بقدرته وحكمته بعد أن يفنيَها فلا يبقى إلا وجهه ذو الجلال والإكرام، يوم تعنو الوجوه للحي القيوم وتخشع الأصوات للرحمن َ(وعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً )[طه : 111]، (وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) [طه : 108]، يوم يَقبِضُ الَّلهُ الأرضَ، ويَطوِي السماوات بيمينِهِ ثم يقول: أنا الملِك، أينَ مُلوكُ الأرضِ؟.
وسواء قرئت " مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ "من المِلك بكسر الميم أو " ملِكِ يَوْمِ الدِّينِ " من المُلك بضم الميم، فالقراءتان صحيحتان تلتقيان في معنى واحد، إذ كان معلوما أنه لا ملِك إلا وهو مالك.
وتأويـل من قرأ "ملِكِ يَوْمِ الدّين" أن الملك لله يومَ الدين خالصا دون جميع خلقه الذين كانوا فـي الدنيا ملوكا وجبابرة فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الأصاغر الأذلة، وأن له دونهم ودون غيرهم الـمُلْك والكبرياء والعزّة والسلطان، (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16]، (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ )[الأنعام:73]، (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ )[طه:114] ، وكما روي عن أُمِّ سَلَمَةَ أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ( كَانَ يَقْرَأُهَا: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
أما تأويل من قرأ " مالك يوم الدين" فما روي عن ابن عباس قال: "مالكِ يَوْمِ الدّينِ" لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا، ثم قال:(لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً)[النبأ:38].
ولا شك أن من قرأ: "مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ" فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأنَّ من قرأ "مالك يوم الدين" فقد عرفه بقدرته وسلطانه وهيمنته على جميع خلقه، والقراءتان كلاهما صحيح متواتر في السبع.
ولا ريب أن يوم الدين، هو اليوم المشهود المجموع له الناس للعرض والحساب ثوابا وعقابا، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ) [هود:103]، ( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً) [الكهف:48]، (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [يونس:30].
ولئن كان لفظ "الدين" حَـمَّالا لمعاني كثيرة فإن أغلب معانيها لا تتعارض مع الآية الكريمة:
فالدِّينُ بمعنى الحِساب؛ ومنه قوْلُه تعالَى:(ملك يَوْم الدِّيْن)؛ وقوْلُه تعالَى:(ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[التوبة:36] أَي الحِسابُ الصحِيحُ والعَدَدُ المُسْتوي، وبه فسَّرَ بعضهم الحدِيث "الكَيِّس مَنْ دانَ نَفْسَه" أَي حاسَبَها. وقوْلُه تعالَى:( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات:53] أَي مُحاسَبُون.
والدِّيْنُ بمعنى القَهْرُ والغَلَبَةُ والاسْتِعلاءُ، وفي يوم القيامة تتجلى لجميع الخلائق مؤمنهم وكافرهم بَرِّهِمْ وفاجرِهم قاهريةُ الله وغلبتُه واستعلاؤه.
والدِّينُ بمعنى القضاء، وبه فسَّرَ قتادَةُ قوْلَه تعالَى: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ )[يوسف:76] أَي قَضائِهِ.
والدِّيْنُ بمعنى السلطانِ سلطانِ الله المطلق..والدّيْنُ بمعنى الحُكْمِ حكمِ الله العدل...
ولأن المقصودَ من الدين هو الوفاءُ بلوازم الربوبية ، فإذا أسلم المرءُ وجهَه لله فلم يعبدْ غيرَه ولم يتوقع الخيرَ إلا منه، ولم يشركْ به غيرَه، ولم يَخَفْ إلا من قهره وسطوته، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية، فصَحَّ أن الدين الكامل هو الإسلام. وأن يومَ الدين في الآخرة هو يوم الخضوع الكامل لرب العباد وهو يومُ الوفاء (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة:40]، (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:57]. وكأني بالخلق يومئذ ما بين مُتَوَثِّبٍ للثواب وواجِفٍ من سوء المآب، وكلا المآلين، شقاءً أو نعيما، وفاءٌ منه تعالى، فالعهدُ نوعان: عهدُ الربوبية منه عز وجل، وعهدُ العبودية من عباده، وهو الوفِيُّ أبدًا والخلْقُ مابين موفٍ للعهد وخائنٍ.
في هذا القسم من الفاتحة، النصف الذي هو له بقوله تعالى في الحديث القدسي ( فنصفها لي)، وتحت مظلة التحميد ( الحمد لله رب العالمين)، ومرحمة الثناء والتعبيد (الرحمن الرحيم)، ومقام التمجيد والوعد والوعيد (مالك يوم الدين)، يتجلى الرب الكريم على عباده بأربعة أسماء كلها رحمة ونعمة، إشارةً منه عز وجل إلى استحقاقه الحمدَ المطلقَ على نعمه وأفضاله ما عُلِم منها وما لم يُعْلَمْ، هذه الأسماء والصفات تعد مرجعَ الأسماء الحسنى والصفات العليا، عليها مدارُها، وعليها مُرْتَكَزُها، ومَرَدُّ نعمِه كلِّها إليها، ومناطُ الحمدِ كلِّه مرتبطٌ بها، وهي :الله، رب العالمين، الرحمن الرحيم ملك يوم الدين. فهو سبحان المحمود بألوهيته، المحمود بربوبيته، المحمود على رحمته ورحمانيته، المحمود بعدله يوم الدين. وهذه المحاميد كلها أساس التوحيد، إثباتا لصفات الكمال، ونفيا للشرك والتشبيه والمثال، وتنـزيها عن العيوب والنقائص.
فهو الله، المعبود الذي لا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله، ولذلك تتابعت رسالاته إليهم نعمة منه وفضلا.
وهو رب العالمين ، بربوبيته يدبر الكون، يقدر الأرزاق والآجال، هدايته العامة تنال البر والفاجر، يدبر الأمر كله (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس:31].
وهو الرحمن الرحيم، رحمته ترعى عباده وتَسَعُهم، ورحمانيته ترشدهم إلى طريق سعادتهم في الدارين معاشا ومعادا.
وهو ملك يوم الدين، العادلُ في حكمه، اللطيفُ بعباده، الكريمُ في عطائه الشديدُ في عقابه (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً )[طه:112]،( فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً) [الجن:13].( وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ) [القمر:36]، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ) [قـ:36] .
ولئن كان الشقُّ الأول من فاتحة الكتاب خاصا بالله وحده، ودالا على كمال التوحيد اليقيني، فإن ما تلاه منها بين العبد ومولاه، خاصٌّ بأدق معالم التوحيد الإرادي العملي، وهو العبادةُ والاستعانة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، عبادته لله واستعانته بالله، وبذلك يبقى المرء متفيئا ظلالَ الألوهية والربوبية لا يخرج عنها في حركاته وسكناته، في لهجات لسانه وخفقات جنانه.
ولئن كانت العبادة اسما جامعا لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، أقوالا وأعمالا ظاهرة وباطنة كالصلاة والزكاة والصوم والنسك والصدق والوفاء والبر وصلة الرحم وإخلاص الدين وشكر النعم والرضى بالقضاء وما في حكم ذلك، فإن الذي يجب أن يُلْتَزَمَ فيها أبدا هو أن لا يُتَوَجَّه بها إلا لله تعالى، وأن يكون مدارُها على جميع التصرفات نوايا ومآلا، وتعلقُها بالقلوب والجوارح لسانا وأعمالا، تشمُل النشاطَ الإنساني كلَّه وتغطي كدحَ الحياة الدنيا كاملا، فيرتفع بها المرءُ في مراقي الإسلام والإيمان والإحسان، قياما من الجسم بوظائف الأحكام، ومن القلب بوظائف الاستسلام، ومن الروح باستشعار المراقبةِ والمشاهدةِ لله العلام. وذاك ما بينه حديثُ جبريل عليه السلام إذ سأل الرسولَ الكريم صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان فكان الجواب الجامع المانع : (الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) والإيمان (أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه)، والإحسان (أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ)، وهو كذلك ما أجمله قول الحق سبحانه تلميحا وتضمينا:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، ذكرُ الله عبادةٌ بالقلب واللسان، والتعبدُ قياما وقعودا وعلى الجنوب قيامٌ للأعضاء بالأركان، والتفكرُ في خلق السماوات والأرض عبادةُ الروح والجنان. وبذلك يكون المرء في كل أحواله مستغرقا في العبادة، سائحا في رياض الرحمة، ونعيم الهدى، مؤثرا تعبَ السَّعْي لمرضاة ربه على راحة الغفلة والتيه في صحارى الضلال، مقتديا بالسيد المطاع رسول المرحمة وقد روى عن حال عبادته ابن عمر رضي الله عنه قال: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلّم، فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي، فقلت: يا رسول اللـه إني لأحب قربك وأحب مرادك، قد أذنت لك. فقام الى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلي، فقرأ من القرآن وجعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي، فقال لـه: يا رسول اللـه أتبكي وقد غفر اللـه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، ثم قال: ما لي لا أبكي وقد أنزل اللـه في هذه الليلة: ( إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَالأرض ) ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وفي رواية: ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها.
إن أكمل أحوال المرء هو حال اشتغاله بعبادة ربه، عبادةً يستنير بها قلبه، وتزكو بها نفسه، ويرطب بالذكر فيها لسانه، وتنفتح له بها طريق سعادة الدارين، ويتقوى بها على تحمل مشاق الحياة ومتاعبها، ولذلك قَالَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ( يَا بِلَالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا )، وخاطب رب العزة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وقد ضاق صدره بمكر الجاهلين فقال: ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) [الحجر:97- 98] ، فأمره بالتسبيح والتحميد والصلاة لينصرف عن أذى الخلق إلى لطف الخالق، وعن ضائقة القلب إلى فسحة الانشراح والطمانينة والسكينة وحسن الظن بنصر الله.
وإن أشرف مراتب العبودية ما كان طوعا ورضى وعلى صواب في النية والعمل، حينئذ تلتقي الربوبية الحقة بالعبودية النيرة، والتوفية بالعهد من العبد بالوفاء بالوعد من المعبود، فتثمر شجرةُ الإيمان سعادةَ الدارين، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُزْهِدُ الْمُجْهِدُ ثَلَاثًا الْمُزْهِدُ فِي الْعَيْشِ الْمُجْهِدُ فِي الْعِبَادَةِ) وقال تعالى: ( وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة:40]،( وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:72]،( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111).
وإن العبادة أشرف خدمة، وإن أشرف الخدمة عملٌ لله، والعامل مع الله عز وجل إنما عمله أداء الفرائض، واجتناب المحارم وطاعته فيما أمر به ونهى عنه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج:77- 78] (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : 25]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الأنعام:162]
إلا أن للعبادة آفةً تغتالها، ومرضا يستأصلها، وعيبا يَشينُها فتذهب ريحها، وليس ذلك إلا من غرور يصيب بعضَ العُبَّاد، واغترارٍ ينال بعضَ المتعبدين، واستعلاءٍ بالنفس يختِل الإيمانَ من القلوب، فتصبح قاعا صفصفا وبلقعا قفرا، وهو ما شرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة عن أنس قال:( ذكروا رجلا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا قوته في الجهاد واجتهاده في العبادة فإذا هم بالرجل مقبلا ، قالوا: هذا الذي كنا نذكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، إني لأرى في وجهه سنعة من الشيطان، ثم أقبل فسلم عليهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل حدثت نفسك؟ وفي رواية أبي سعيد: هل حدثتك نفسك أنه ليس في القوم أحد خير منك ؟ قال : نعم ..).
إن سنعة الشيطان المشار إليها في الحديث الشريف ليست إلا سمة من سمات الغرور الذي هو في حقيقة الأمر شرك خفي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ. فَقَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدجالِ؟، قَالَ، قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ: أَنْ يَقُومَ الرجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ.
وإن أنجعَ علاج ووقاية من آفة الغرور أن يستشعر المرء الفقرَ إلى الله تعالى، والضعف بين يديه والخضوعَ له، والخروجَ من الحول والقوة إلا به، والحاجةَ في جميع أمره إليه، ولذلك كان من رحمة الله ولطفه بأوليائه أن أرشدهم إلى بلسم الوقاية والشفاء، بلسم الاستعانة به والتوكل عليه، بأن يشفعوا عبادتهم امتثالا للأوامر والنواهي بدعاء متمِّمٍ للنعم هو (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
ولئن كان هذا الدعاء وقايةً من الآفات التي تشين العبادة، وحمايةً من الغرور والاعتداد بالنفس، فإنه أيضا سلاحٌ للمؤمن في مواجهة متاعب الحياة المادية ما تعلق منها بالدنيا أو ما تعلق منها بأمر الآخرة، فعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا مع النبيِّ في غزوة، فلقِـيَ العدوَّ، فسمعته يقول: "يا مالِك يَوْمِ الدِّينِ، إياكَ نَعْبُدُ وإيَّاك نَسْتَعِينُ "، فلقد رأيت الرجالَ تُصْرَعُ تضربها الملائكةُ من بين أيديها ومن خلفها).
ولئن اشتغل أرباب الأهواء بأوساخ شهواتهم وملذات أنفسهم، فإن أربابَ التقوى يتشاغلون عن كل شيء إلا عن اللّجْأِ والسؤال، وفي الأثَر أن قتيبةَ بنَ مسلم لما صافَّ الترك هالَهُ أمرُهم فقال: أين محمد بن واسع؟ فقيل له هو في أقصى الميمنة جانحٌ على سية قوسه يومئ بأصبعه نحو السماء، فقال قتيبة: تلك الأصبع الفاردة أحبُّ إلَيَّ من مائة ألف سيف شهير، فلما فُتِح عليهم قال له: ما كنت تصنع؟ قال: آخذ لك بمجامع الطرق.
وإن أجلَّ ثمار الإيمان بالقَدَرِ استسلاما لإرادة الله وحكمته، وما يستتبعه من حقائق الإيمان، دوامُ الافتقارِ إلى الله واستمداد العون منه، والتوكل عليه، وانتظار الفرج منه وحده، وهو ما يرشد إليه قوله تعالى: (اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]، وما نصح به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ابن عباس بقوله:(يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ وَإِذَا سَأَلْتَ فَلْتَسْأَل اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).
ولعل من طرائف معاني (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أن عبادةَ الله نفسها استعانةٌ والاستعانة بالله عبادة، والمرء في كل أحواله عابدٌ ومستعينٌ، ألَمْ تَرَ أن الدعاءَ استغاثةٌ واستعانةٌ وهو في نفس الوقت عبادةٌ لقوله صلى الله عليه وسلم ( الدعاء هو العبادة)، وأن الصبرَ عبادةٌ لقوله تعالى (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) [آل عمران:17]) والصلاة عبادة لقوله تعالى:(فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً) [النساء:103] وقوله: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) [العنكبوت:45]) وكلاهما في نفس الوقت استعانةٌ لقوله تعالى(وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45])، ولذلك قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَب إِلَىَّ مِما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطشُ بِهَا وَرِجْلَهُ التِى يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَألَنِى لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)، فإذا حقق المرء بالفرائض والنوافل أمنيته في القرب من ربه عبادة، أثمر ذلك من فضل ربه عونا وقوة وعطاء واستعاذة.
إن الإنسان في صراع دائم مع نفسه ومع الشيطان الذي يجرى منه مجرى الدم، ومع مغريات الهوى ومضلات وساوس الجِنَّة والناس، والذنوبُ من لوازم النفس البشرية، وحاجةُ المرء إلى الهدى في كل لحظة أشدُّ من حاجته إلى الطعام والشراب، وخيراتُ الدنيا وشرورُها في حقيقة أمرها ابتلاءٌ من الله واختبارٌ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]، وهو مفتقرٌ إلى من يأخذ بيده إلى شاطئ النجاة، وبناصيته إلى سلامة التصرف في شؤون دنياه، وحسن العاقبة في أمور آخرته، ولا يملك ذلك إلا ربُّ العزة عز وجل، لذلك كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه وأرجاه هو دعاء الفاتحة بعد توحيد الربوبية عبادة واستعانة بقوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).
وقد قيَّد ربُّ العزة الهدايةَ المرجوةَ لعباده بالصراط المستقيم، ومَيَّز أهلَ هذا الصراط عن غيرهم فصار الناس تبعا لهذا التمييز على ثلاثة أصناف، صنف الذين أنعم الله عليهم ممن عرفوا الطريق واتبعوه، وصنف المغضوب عليهم ممن عرفوه وأعرضوا عنه، وصنف الذين أضلوا الصراط فضلوا.
والسعيد من سأل ربه هداية التوفيق والتسديد والرشد والقلب اليقظ والسمع الواعي والبصيرة النيرة، والتمييز الذي يصون المرء عن سفه السفهاء وطيش الأغبياء، ويقيه تمردَ المغضوب عليهم وجهلَ الضالين، ويرفع همته للمعالي ويقوي عزيمته على التعلق بما عند ربه.
ذلك أن الهداية في المفهوم القرآني ثلاث مراتب:
أولها الهداية العامة المشتركة بين جميع الخلق، وهي المقصودة بقوله تعالى (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50]، أي هداه إلى ما خلق له، وهي تعم الإنسان والحيوان بإرشاده إلى الكسب والتناسل والمشاعر والحواس، بل تعم كذلك أعضاء الكائن الحي غير الإرادية كالقلب والرئتين والكبد وما في حكمها لتقوم بوظائفها التي خلقت لها.
والمرتبة الثانية هي هداية البيان والتعريف الخاصةُ بالمكلفين من الجن والإنس، يبلَّغون الرسالة وتُبَيَّن لهم طريق النجاح والفلاح فتُقام عليهم الحجة، وتَعُم المؤمنَ والكافر والمطيعَ والعاصيَ، وهي المقصودة بقوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [الشورى:52]، وقوله ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [فصلت:17]).
أما المرتبة الثالثة، فهي هداية الاصطفاء والقرب، الهدايةُ التي أرشدت إليها سورة الفاتحة، وهي خير الهدايات التي يحبها الله تعالى لأوليائه، لذلك شرع ترديدها كل يوم بعدد الصلوات المفروضة والسنن الرواتب، وكلما انشرحت قلوبهم للترويح على أنفسهم بالركوع والسجود، إنها هداية التوفيق والإلهام، التي قال الله تعالى فيها:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88])، وقال: (ليْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) [البقرة:272] )، وهي الجائزة التي يتفضل بها رب العزة على عباده المقبلين عليه بقلب سليم، المجاهدين أنفسهم ورعوناتهم وأهواءهم وضلالات المجتمع والناس حولهم ، ولذلك قال عز وجل (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، فالمجاهدة بالعلم والعمل، والهداية مواهب الله في كل الأحوال.
أما المتكبرون المعجبون بأنفسهم، المغترون بعقولهم، المتمردون على الفطرة السليمة باستعلائهم وتطاولهم وعدوانهم، فيوكَلون إلى حَوْلِهم وقوتهم وما يغني ذلك عنهم من الله في شيء (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) [الأعراف:101]، (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ) [يونس: 74])، (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف:146])، (ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون [التوبة:127]).
إن الهداية التي يريدها الله تعالى لنا هي هدايةُ الرشد والتسديد والتأييد، ولا سبيل لأحد من الخلق إليها إلا منه عز وجل، ولذلك قال (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]). كلما أقبل العبد على ربه أمدَّه من العلم والعمل الصالح حتى يحبه (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد:17]، (قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:71]، ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29]، ( أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22].
تبدأ معالم الهداية أولا رشدا يأخذ بيد العبد إلى الصواب في أموره، يُقَوِّيه على ما فيه صلاحه، ويُفَتِّره على ما فيه فساده، ويحول بينه وبين هواه، ثم تتجلى الهدايةُ في القلب الذي تزكى وتحلى تسديدا يُقَوِّم إرادته ويُوجِّه عزيمته ويأطُر عقلَه على طلب الغرض الذي من أجله خلق في الدنيا، وعنه يسأل يوم الدين، ولا شك أن هذا المطلوب هو المقصود بقوله تعالى (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ )، فإذا ارتقى العبد إلى طلب هذا الصراط المستقيم بصدق وعزيمة وإصرار، تجلت رحمة الله تعالى عليه بالتأييد والتثبيت والعون والصون وختم له بالحسنى.
إن بين الدنيا والآخرة إلى مرضاة الله تعالى طريقا واحدا مستقيما، ينتهي بمن صفت عقيدته وقبل عمله إلى الخير المطلق، ولا خير مطلق إلا الجنة، وعن يمين هذا الصراط المستقيم وعن يساره طرق معوجة تركس من سلكها في الشر المطلق، ولا شر مطلق إلا النار.
وإن من معالم الرشد والتسديد والتأييد والهداية أن يجتمع للعبد عقلٌ وعِلم يثمران فهما ربانيا للحياة الدنيا بصراطها المستقيم الواجبِ اتباعُه، ومتاهاتها المتعرجة المُعْوَجَّة الواجبِ تجنبُها؛ ولذلك يكون دعاء من بلغها من السعداء أن يتجه إلى ربه تعالى متضرعا وقد تخلص من طيش الشباب ورعونته وجهالته: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19]
إن الفهم الرباني الذي هو منحة إلهية وثمرة طبيعية للمجاهدة بالعلم والعقل, العلمِ بالقرآن والسنة، والعقلِ المنضبط بالإيمان, هو قاعدة الانطلاق في صراط الله المستقيم, سيرا فيه واتباعا له, وإعراضا عن سبل الشيطان المتعددةِ ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال, سعيا فيها أو وقوفا على أرصفتها.
وغيرُ خفيٍّ عن العقلاء الحكماء أن السير هو تتابع السعي بخطوات متزنة، من نقطة معينة هي الحياة الدنيا إلى نقطة أخرى معلومةٍ ومحددة ومرصودة ومقصودة هي حياةُ الآخرة، وإلا كان مجردَ تحرك عفويٍّ سائبٍ كحركة الأرنب عندما يدهمها الخطر فتنطلق في أي اتجاه قفزا ونطّاً، أو جريا أو تدحرجا أحيانا، حتى إذا ما أرهقتها الحركة العشوائية وقفت وأسلمت أذنيها لمن يطلبها من شياطين الجن والإنس.
هذا الفهم الرباني الذي هو قاعدة الانطلاق الأولى إلى الصراط المستقيم به يتميز الصواب من الخطأ والحق من الباطل، وسبيلُ الرحمن من سبل الشيطان (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ )[الأنعام:153]
من هنا مُفترَق طريق بين صواب واحد هو الحق من ربك، وبين أخطاءٍ متعددة ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، أخطاءٍ ذاتَ اليمين تحتفظ بالانتساب الظاهر للإسلام ولكنها تخرج عنه من عدة أنفاق، وأخطاءٍ ذاتَ الشمال تقطع صلتها بالإسلام وتذهب في الكفر مذاهب شتى، وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا فيما رواه عبد الله بن مسعود قال: ( خط رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطاً بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً، وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].
وعن ابن مسعود أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: (ضرب اللَّهُ مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جَنَبَتَي الصِّراط سوران، فيهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستورٌ مُرخاةٌ، وعند رأس الصِّراط داعٍ يقول: استَقيموا على الصراطِ ولا تَعْوَجُّوا، وفوق ذلك داعٍ يدعو، كلما همَّ عبدٌ أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحْه، فإنك إنْ تفتحْهُ تَلِجْهُ، ثمَّ فسره فأخبر: " أنَّ الصِّراط هو الإسلام، وأنَّ الأبواب المفتَّحةَ محارمُ الله، وأنَّ الستور المُرْخاةَ حدود الله، وأن الداعي على رأس الصِراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه واعظُ الله في قلبِ كلّ مؤمن" )
كما روى أبان أن رجلاً قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم ؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلّم في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جوادُّ، وعن يساره جوادُّ، وثمَ َّرجال يدعون من مَرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار, ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)
إن الفهم الرباني الذي يبين لنا الصراطَ المستقيم فنتبعه ونسير فيه بخطوات ثابتة، ويكشف لنا معالمَ سُبُلِ الشيطان اليمينية والشمالية، سبلِ المغضوب عليهم لمعرفتهم الحق والتنكر له، يهودا أو منافقين أو من فسقة علماء المسلمين، وطرق غواية كفرة الجاهلين الراكنين إلى ضلالهم المطمئنين به، من سائر الأديان والملل والنحل، فنجتنبها ونحذِّر منها... هذا الفهم الرباني هو الذي يمنحنا الجراءة الإيمانية على اقتحام العقبة الحرجة, للانطلاق الرشيد نحو هدفنا الأسمى الذي هو مرضاة ربنا عز وجل، وهدفِنا الأدنى الذي هو تحكيم كلمة التوحيد وتمكين الأمة المسلمة من حق التسلط على أمرها الجامع تقريرا وتنفيذا ومراقبة ومحاسبة, كي يكون الدين لله وكلمة الإسلام هي العليا، كما نص على ذلك الكتاب والسنة.
ولئن كان دربنا هذا طويلا وعسيرا, ولا يُشَق إلا بالتضحية والصبر والثبات والوفاء لله وللرسول وإِخْوةِ الإيمان ورُفْقةِ الطريق، فإن قاعدةَ الارتكاز الصُّلبةَ التي هي الفهم الرباني الأصيل خيرُ أداة تقَوِّي زخْم الاندفاع نحو الغاية، وتسدد الرماية نحو الهدف، وتعصم من وهْن الانطلاق وتيه التوجه وغبَش الرؤية وضلال السعي. ولذلك قرن الله تعالى بين الدعوة إلى الله، وبين البصيرة التي هي الفهمُ الرباني، المستنيرُ باليقين المسترشدُ بالبرهان الشرعي والعقلي، في قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
إن منطلق التصرف السليم لدى المرء أساسُه العقل السليم، المستنيرُ بالفهم الرباني، أما التصرف السقيم المؤدي إلى الضلالة والانحراف عن الصراط المستقيم فهو دائما منطلق من إحدى ثلاث آفات:
أولاها البلادة وسوء الفهم وغلبة المزاجية والتعصب، لذلك سريعا ما يسقط بسطاء الأحلام في شراك المتشيطنة وأبالسة الجن والإنس, ممن يزينون المنكر ويشوهون المعروف، ويطلقون ألسنتهم بما لا خَبَرَ في قلوبهم منه، ولا لهم بذلك تحقيق, تلبيساً وتدليسا على مستضعفي العقول، ليحسبوه من الحق وما هو من الحق، كما قال تعالى في أمثالهم: ( لِتَحْسِبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ ) [آل عمران:78]
وثانيها القصد السيئ، ونعني به غلبةَ الهوى على النفس وإيثارَها الجاه والمال واللذة والرتب الدنيوية الرفيعة والاستعلاء والاستكبار على الخلق؛ وأصحابُ القصد السيئ هؤلاء هم طائفة المتشيطنة والمتأبلسة الذين يسخرون كل شيء لمصالحهم الدنيئة، من أجل مكسب أو قرب أو رفعة لدى صاحب ثروة أو جاه أو سلطة.
إن أهم صفات ذوي القصد السيئ القسوة الناشئة عن انعدام الحياء من الله ومن الناس ومن النفس، ومن آثار القسوة تحريفُ الكلِم عن مواضعه، و تركُ ما أمر به الله علماً وعملاً، والتخلي عن كل القيم والمبادئ في سبيل مصلحة عاجلة يندثر نفعها وترافقه إلى الآخرة المحاسبة عليها.
وثالثتها الجبنُ الناشئ عن ضعف الإيمان وقلةِ الثقة بالله، ولذلك يسقط الجبان في الخيانة مهما كابر وادعى وتَسَتَّرَ على ضعفه وفساد طويته، وركن إلى التلبيس والتدليس والإنكار والجحود، الجبان يسقط في أول الطريق لدى أول اختبار، فينكشف عواره وتفتضح وتهتك أسراره، إن الجبان يفر عن أبيه وأمه وزوجه وولده، ويفتدي نفسه بملابسه التي تستر عورته, فكيف يُرْكَن إليه أو يُعْتَمَد عليه أو يُوثَق به، إن الجبان مشروعُ خيانةٍ مرتقبةٍ دائما, إن لم يخنك اليوم بإرادته خانك غدا طلبا لسلامته، وإن الشجاع يحمي عرضه وعرض من لا يعرفه من الخلق، لأن ما ركب في جبلته من إباء وشهامة ونصرة يأبى عليه أن يُسْلم ضعيفا أو يخذُل مستضعفا أو يتخلى عن ذي ضائقة.
أما العقلاء اليقظون ممن هُدوا إلى المحجة البيضاء ليلها كنهارها إشراقا ونورا، إلى صراط الرب مستقيما، صراط العزيز الحميد سويا، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، فقد سلكوه ثابتين غير مترددين ولا متلجلجين، ولزموا باب مولاهم متعلقين بفضله وكرمه وجوده، لا تصدُّهم عنه وحشةُ غربةِ الأيتام في مآدب اللئام، ولا يغلبهم عنه ما يرومُه من الدنيا عبيدُها، إنهم القوم حقا، ورفقاء الطريق السوي صدقا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري:( إن لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهلَ الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا:"هلمُّوا إلى حاجتكم"، قال: فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: "ما يقول عبادي؟"، قال:يقولون: "يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك"، قال: فيقول: "هل رأوني ؟"، قال:" فيقولون: "لا والله ما رأوك"، قال: فيقول: "كيف لو رأوني ؟" قال: فيقولون: "لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا"، قال: فيقول: "فما يسألون؟"، قالوا:" يسألونك الجنة "، قال: يقول: "وهل رأوها؟"، قال: فيقولون:" لا والله يا رب ما رأوها " قال: فيقول: "فكيف لو رأوها؟"، قال: يقولون: "لو أنهم رأوها كانوا أشد حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة"، قال: "فمم يتعوذون؟"، قال: يقولون: "من النار" قال: يقول: "فهل رأوها؟" قال: يقولون:" لا والله يا رب ما رأوها"، قال: يقول: "فكيف لو رأوها؟"، قال: يقولون: "لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة" قال:" فيقول:" فأشهدكم أني قد غفرت لهم"، قال: يقول ملك من الملائكة:" فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة"، قال: " هم الجلساء لا يشقى جليسهم"، وفي رواية مسلم يقول الحق سبحانه وتعالى: (قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلاَنٌ، عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ).

نزول الفاتحة على الرسول صلى الله عليه وسلم
في أول ما نزل من القرآن الكريم أربعة أقوال:
القول الأول وهو الأرجح: ( اقرأ باسم ربك ..) في رواية الشيخين والحاكم والبيهقي والطبراني وغيرهم.
القول الثاني: ( يا أيها المدثر) في رواية للشيخين عن سلمة بن عبد الرحمن.
القول الثالث: سورة الفاتحة كما ذكر ابن حجر اعتمادا على ما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة والواحدي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : " إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا"، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث؛ فلما دخل أبو بكر، وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَمَّ، ذكرت خديجة حديثه له وقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده، فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: ومن أخبرك؟ قال: خديجة، فانطلقا إليه، فقصا عليه، فقال: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد، يا محمد، فأنطلق هاربا في الأرض، فقال: لا تفعل، فإذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني؛ فلما خلا ناداه يا محمد قل: ( بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين) حتى بلغ (ولا الضالين)، قل: ( لا إله إلا الله )، فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: "أبشر، ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك"، فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لأنه آمن بي وصدقني ) يعني ورقة، فهذا منقطع، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ باسم ربك، ويا أيها المدثر، والله أعلم.
وهذا الحديث لا يفيد إلا أنها نزلت في مكة، يؤيد ذلك قوله تعالى في سورة الحجر وهي مكية بلا خلاف (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، كما أنه لا خلاف أيضا في أن فرض الصلاة كان بمكة، ولم يحفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير الفاتحة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ).
القول الرابع: أن أول ما نزل" بسم الله الرحمن الرحيم "، وهو ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس، والواحدي بإسناد عن عكرمة والحسن، قالا:( أول ما نزل من القرآن الكريم "بسم الله الرحمن الرحيم"، وأول سورة "اقرأ"، ويرد عليه بأن من الضروري أن تنـزل السورة مبدوءة بالبسملة فهي أول آية نزلت على الإطلاق.

حكم البسملة في أول الفاتحة:
البسملة آية من كل سورة عدا براءة؛ لثبوتها في المصحف الإمام؛ الذي لا زيادة فيه ولا نقصان بتواتر إجماع الأمة الإسلامية. ومعناها البدء في كل أمر ذي بال باسم ذات الله العلية، وصفاته السنية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده حديث أَبِي هُرَيْرَة الَّذِي أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ( إِذَا قَالَ الْعَبْد بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، قَالَ اللَّه تَعَالَى مَجَّدَنِي عَبْدِي)، وعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ:( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآن الْعَظِيم)، قَالَ: هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ. قَالَ أَبِي: وَقَرَأَهَا عَلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحِيمِ) الآيَةُ السابِعَةُ. قَالَ سَعِيدٌ: وَقَرَأَهَا عَلَى ابْنِ الْعَباسِ، كَمَا قَرَأْتُهَا عَلَيْكَ، ثُم قَالَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الآيَةُ السابِعَةُ، قَالَ ابْنُ عَباسٍ: فَذَخَرَهَا اللَّهُ لَكُمْ، فَمَا أَخْرَجَهَا لأَحَدٍ قَبْلَكُمْ قَالَ الشافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ عَنْهُ: وَكَانَ ابْنُ عَباسٍ يَفْعَلُهُ (يَعْنِي يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِ (بِسْمِ اللَّهِ الرحْمَنِ الرحِيمِ) وَيَقُولُ: انْتَزَعَ الشيْطَانُ مِنْهُمْ خَيْرَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَكَانَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَعْرِفُ خَتْمَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرحْمَنِ الرحِيمِ)- أحكام القرآن الشافعي 1/43.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن "بسم الله الرحمن الرحيم")، وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا أخبرك بآية لم تنـزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟، فقلت: بلى، فقال: بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟، قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: هي هي.
وأخرج البيهقي عن عَبْدِ خَيْرٍ قالَ: سئِلَ عليٌّ رضي الله عنه عن السَّبْعِ المَثَانِي فقال: الحمدُ للَّهِ، فقِيلَ لَهُ: إنَّما هِيَ ستُّ آياتٍ فقالَ: بِسْمِ الله الرحمنِ الرحيمِ آيةٌ .ورُوِيَ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً، والموقوفُ أَصَحُّ.
نفس الحكم أورده ابن عبد البر في الإنصاف عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، قال أبو يحيى: قال لي موسى بن هارون الحمال: هذا الحديث قد رواه عن أبي أويس عبد الله, كما رواه عنه ابنه، ومما يدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من أول فاتحة الكتاب, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها ويجهر بها، ما وصفت أم سلمة رضي الله عنها من قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام لها.
وقد قيل إنها المعنية بقوله تعالى: (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً )[الإسراء:46]، وأن من قرأها ـ متعبداً بها ـ أنجاه الله تعالى من ملائكة الجحيم التسعة عشر في قوله تعالى (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) [المدّثر:30]، لأن عدد حروفها بعددهم.
وقال بعضهم إنها تيجان لسور القرآن وليست بآية منه، وعلى ذلك قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها، ولعل الشبهة وردت من عدهم (صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا ٱلضَّالِّينَ) آيتين، إذ لا خلاف أن الفاتحة سبع آيات فإذا عددت" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" اطرد العدد، وإذا لم تعدها جزأت الآية الأخيرة (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) وجعلتها آيتين، فالخلاف إذن بين أهل العدد، والصحِيحُ أنَّ قوله: ((صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) نصف آية.
وقيل إن البسملة آية من كل سورة؛ وعلى ذلك قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما. وثبوتها بناصية كل سورة ماعدا سورة براءة في المصحف الإمام الذي تواتر إجماع الأمة عليه، يضعف حجة من ذهبوا إلى كونها غير آية. قال ابن كثير في تفسيره:( عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "الحمد لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب"، وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله وقال: كلهم ثقات ورواه البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى {سَبْعًا مِّنَ ٱلْمَثَانِي} بالفاتحة وأن البسملة هي الآية السابعة)

حكم قراءة البسملة في الفاتحة في الصلاة
نفاة قراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلاة حجتهم ما رواه مسلم عن أنس أنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها، وقد أعَلَّ الشافعي وغيره الزيادة التي نفى فيها البسملة بأن سبعة أو ثمانية خالفوا في ذلك واتفقوا على الاستفتاح بالحمد لله رب العالمين ولم يذكروا البسملة، والمعنى أنهم يبدؤون بأم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، لا أنهم يتركون البسملة كما في رواية الدارقطي ( فكانوا يستفتحون بأم القرآن)، وكأن بعض رواة الحديث فهم من الاستفتاح بالحمد نفي البسملة فصرح بما فهمه وهو مخطئ، ويؤيد هذا أن أنس لم يرو نفي البسملة، بل إنه لما سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله؟ قال للسائل: إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد.
كما أعَلَّ ابن عبد البر حديث أنس باضطراب المتن، ذلك أن روايته في هذه المسألة عظم فيها الخبط والاضطراب والتعارض، فقد رووا عنه ست روايات، إحداها قوله: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، والثانية قوله: أنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، والثالثة: لم أسمع أحدا منهم قال بسم الله الرحمن الرحيم، والرابعة أن أنسا روى أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار، فأعاد الصلاة، والخامسة ما روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، والسادسة أن أنس لما سئل قال للسائل إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد.
فإذا ثبت هذا تبقى رواية مثبتي الجهر بها في الصلاة الجهرية هي الأقوى والأرجح، لأن الإثبات مقدم على النفي ولأن رواتها أعلى حالا في العلم والدرجة والفضل مثل علي وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة ، وقد كانوا يلون الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ويسمعون الجهر بالبسملة منه. وروايات نفاة التسمية معلة المتن مضطربته، والراجح أن أنس رضي الله عنه لم يكن من الذين يلون الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة لصغر سنه، فلم يسمع جيدا ولذلك اضطربت روايته.
وتكون بذلك قراءةُ الفاتحة بدون بسملة ناقصةً لدى من يعدها آية، والصلاة تبعا لذلك ناقصة أيضا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خِداج، ثم هي خداج، ثم هي خداج ).

مباحث لغوية
اسم الجلالة: الله:
اتفق العلماء الذين اشتغلوا بمعاني أسماء الله الحسنى أن ما سوى اسم الجلالة " الله" من باب الصفات المشتقة. وذهب بعضهم إلى أن اسم الجلالة "الله" غير مشتق ، بل هو اسم علم انفرد الحق سبحانه به كأسماء الأعلام، وعلى رأس هؤلاء المحققين الشافعي وأبو حنيفة والقفال الشاشي والغزالي وغيرهم، وحجتهم قوله تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) [مريم:65]) أي ليس في الوجود شيء يسمى "الله" إلا "الله"، ولأن قول المرء "لا إله إلا الله" تفيد التوحيد الخالص فوجب أن يكون لفظ "الله" غير مشتق، ولأن الأسماء المشتقة صفات والصفات لا تذكر إلا بعد ذكر الموصوف ولابد للموصوف من اسم و"الله" هو الاسم العلم له جل جلاله. ولذلك قال تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180] فبدأ بالاسم العلم، اسم الجلالة: "الله"ثم ذكر أسماءه الحسنى وصفاته العليا.
وقال غيرهم إن اسم الجلالة " الله " من الأسماء المشتقة، ولكنهم اختلفوا حول الجذر اللغوي الذي اشتق منه على أقوال، منها:
- من "وَلِهَ ، يَوْلَه" والوَلَهُ شدة المحبة.
- من "لاهَ، يلوه" أي احتجب.
- من لاه يلوه أي ارتفع
- من لاهَ يَلِيهُ لَيْهاً تَسَتَّرَ
- من أله يأله، إذا تحير لأن العقول متحيرة في كنه جماله وجلاله
- من "الإله" وهو من له القدرة على الخلق
- من التأله وهو التعبد. إلاَه على وزن فِعَال بمعنى مفعول لأنه مَألُوه أي مَعْبُود
- الاسم أصله لاهٌ ووزنه على هذا، ووزنه على هذا فَعَلٌ اللام فاء الفعل والألف منقلبة عن الحرف الذي هو العين والهاء
أما قولهم: (لاهُمَّ) و(اللَّهُمَّ)، فالـميم بدل من حرف النداء

الرحمن/الرحيم:
الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة، نحو: رحم الله فلانا. وإذا وصف بها الباري سبحانه فليس يراد بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة، وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعام وإفضال، ومن الآدميين رقة وتعطف. قال النبي صلى الله عليه وسلم في روايته عن ربه عز وجل: (قال الله: أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح.
والرحم مكمن النطفة من المرأة للحمل، وامرأة رحوم تشتكي رحمها. ومنه استعير الرحم للقرابة، لكونهم خارجين من رحم واحدة، قال تعالى: (وَأَقْرَبَ رُحْماً ) [الكهف:1]، وعلى هذا فالرحمة منطوية على معنيين: الرقة والإحسان، وقد ركز تعالى في طبائع الناس الرقة، وتفرد بالإحسان.
والرحمن والرحيم، نحو: ندمان ونديم، ولا يطلق الرحمن إلا على الله تعالى من حيث إن معناه لا يصح إلا له، إذ هو الذي وسع كل شيء رحمة، والرحيم يستعمل في غيره وهو الذي كثرت رحمته، قال تعالى:( إنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[البقرة:173] ، وقال في صفة النبي صلى الله عليه وسلم:( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )التوبة:128]

الحمد:
حمده: شكره وقضى حقه، والمحمدة الخصلة يحمد عليها، وأحمد الرجل صار أمره إلى الحمد، أو فعل ما يحمد عليه، والحمد نقيض الذم، والتحميد حمدك الله تعالى مرة بعد مرة، والحمد لله الثناء عليه عز وجل، وهو أعم من الشكر، وأخص من المدح، فكل شكر حمد، وليس كل حمد شكرا، وكل حمد مدح وليس كل مدح حمدا.

رب :
الرب في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، ويقال ربه، ورباه ورببه، ورب الأب ولده يربه إذا رباه وأحسن القيام عليه ووليه حتى أدرك وفارق الطفولة، ورب السحاب المطر أي جمعه، ورب المرء المعروف والنعمة إذا نماها وزادها وأتمها وأصلحها. ورب الشيء في اللغة هو مالكه وسيده ومدبره ومربيه ومتممه، ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات، نحو قوله:تعالى:( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15]،وعلى هذا قوله تعالى: (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً) [آل عمران:80]، أي: آلهة، فالله عز وجل هو رب كل شيء ومالكه وله الربوبية المطلقة على جميع الخلق لا شريك له.

العالمين
العين واللام والميم أصل صحيح يدل على أثر بالشيء يتميز به عن غيره، ومنه "العَالَـمون/ العالَـمين"، وهم أصناف الخلق جنا وإنسا وسواهم، لأن كل جنس من المخلوقات هو في نفسه معلم وعلَم.
والعالمَ: اسم للفلك وما يحويه، وهو في الأصل اسم لما يعلم به كالطابَع والخاتَم لما يُطبَع به ويُختَم به، والعالَم بهذه الصيغة كالطابَع والآلة للدلالة على الخالق عز وجل، ولهذا أحالنا تعالى عليه في معرفة وحدانيته، فقال:( أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ ..الآية) [الأعراف:185] ، وأما جمعه فلأن كل نوع من الخلائق قد يسمى عالمَاً، فيقال: عالَم الإنسان، وعالَم الماء، وعالمَ النار، وعالَم الإنس وعالَم الجن..الخ، وقد جمُِعَ جَمْعَ مذكر سالم ( العالمين) لكون الناس في جملة هذه العوالم، والإنسان إذا شارك غيره في اللفظ غلب حكمه.

ملك/مالك:
ملَكَ الشيءَ يملكه بلام مثلثة: احتواه قادرا على الاستبداد به، ومالِك الشيءِ صاحبُه الذي يملك التصرفَ فيه، والمَلِكُ هو المتصرف بالأمر والنهي في الناس، ولهذا يقال: ملِك الناس، ولا يقال: ملِك الأشياء، والمالِك والمَلِك والمَلِيك: صاحبُ المُلْكِ المتصَرِّفُ فيه. وقوله تعالى (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) تقديره: الملك في يوم الدين، وذلك لقوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )[غافر:16].
والمُلْكُ الحقُّ الدائم لله، قال تعالى: (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ )[التغابن : 1] ، وقال: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنـزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]، فالرب تعالى هو المالك لكل شيء، والملك صفتُه عز وجل.

الدين:
الدِّين بكسر الدال العادة والشأن ، والجزاء والمكافأة والمحاسبة، من قولهم "كما تَدين تُدان" أي كما تجازِي تجازَى، وكما تحاسِب تحاسَب، وقوله تعالى : (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات:53]، أي مجزيون، ودانه دينا أذله واستعبده، والدِّين أيضا الطاعة يقال دان له أي أطاعه ومنه قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً )[النساء:125] أي طاعة، والدِّين الإسلام لقوله تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران:83]، والدِّين العبادة، والدِّين القهر والغلبة، والدِّين السلطان والملك والحكم والسيرة والتدبير والقضاء، وقوله عز وجل (ملك يوم الدين) (مالك يوم الدين) أي أنه الملك المالك مطلقا في الحياة الدنيا، وفي الآخرة يوم المحاسبة والجزاء ثوابا وعقابا على ما سلف من تصرفات الدنيا.
أما الدَّيْن بفتح الدال فمن دِنْتُ الرجلَ إذا أقرضته، فهو مدين ومديون.

نعبد:
قال ابن فارس العين والباء والدال أصلان صحيحان كأنهما متضادان،الأول يدل على لين وذل، والآخر يدل على شدة وغلظة.
فالأصل الأول: العبد وهو المملوك ،جمعه عبيد وأعبد وعباد، والفعل عبد يعبد بضم العين أطاع ومنه العبادة والعبودية والعبودة أي الطاعة والتعبد والتنسك، والتعبيد التذليل ، وطريق معبد أي مذلل، وعبد يعبد عبادة لا يقال إلا لمن يعبد الله عز وجل،
والأصل الثاني: العَبَدة، وهي القوة والصلابة ، ومن هذا القياس العَبَد أي الأنفة والحمية. من عبِد يعبَد كسلِم يسلَم غضِب وأنِف، ومنه قول علي رضي الله عنه "عبِدتُ فصمتُ" أي أنفت فسكتُّ.

نستعين:
العون: المعاونة والمظاهرة، والعون: الظهير على الأمر، للواحد والإثنين والجمع والمذكر والمؤنث،
يقال: فلان عوني، أي: معيني، وقد أعنته. وفي التنـزيل:( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) [الكهف:95] ، (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون ) [الفرقان:4].
والتعاون: التظاهر. قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) [المائدة: 2]. والاستعانة: طلب العون. قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) [البقرة : 45]، وتعاون القوم واعتونوا إذا أعان بعضهم بعضا، وفي الدعاء: " رب أعني ولا تعن علي"


اهدنا:
هداه الطريق وإلى الطريق عرفه له، وهدى واهتدى بمعنى واحد قال تعالى (فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ) [النحل:37] أي لا يهتدي من يضل، والهدى: الرشاد والدلالة والتبيين ، وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) [السجدة:26]) أي أو لم يبين لهم، والهداية دلالة بلطف، وقوله تعالى: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) [الصافات:23]،( َيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [الحج:4]،- قيل: ذلك استعمل فيه استعمال اللفظ على التهكم مبالغة في المعنى كقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران:21] وقوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان:49]
قال الراغب:وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه:
الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مكلف من العقل والفطنة، والمعارف الضرورية التي أعم منها، كل شيء بقدر فيه حسب احتماله كما قال تعالى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50].
الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء، وإنزال القرآن ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) [الأنبياء:73].
الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى، وهو المعني بقوله تعالى:( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ) [محمد:17]، وقوله تعالى(وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )[التغابن:11]، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) [يونس: 9]
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعني بقوله تعالى: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ )[محمد:5].

الصراط:
الصراط: الطريق المستقيم. قال تعالى:( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام:153] ، وصراط الدنيا هو الإسلام، أما صراط الآخرة فهو المذكور في حديث البخاري ومنه: (فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنْ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ..) وفي حديث الشفاعة عند مسلم (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمْ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ قَالَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا فَيَأْتُونَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ فَيَقُولُ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ قَالَ قُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ قَالَ أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا قَالَ وَفِي حَافَتَيْ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ)

المستقيم:
قام يقوم قياما، فهو قائم، وجمعه: قيام، وأقامه غيره. وأقام بالمكان إقامة، والقيام على أضرب: قيام بالشخص إما بتسخير أو اختيار، وقيام للشيء هو المراعاة للشيء والحفظ له، وقيام هو على العزم على الشيء، فمن القيام بالتسخير قوله تعالى (منْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ) [هود:100]، ومن القيام الذي هو بالاختيار قوله تعالى:( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر:9] وقوله:( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ) [الفرقان:64]
واستقامة الإنسان: لزومه المنهج المستقيم. نحو قوله:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت:30] وقوله:( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) [هود:112]، وقوله: ( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ)[فصلت: 6]
واستقامة الطريق أن يكون على خط مستو، وبه شبه طريق الحق. نحو قوله تعالى:( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) وقوله:(وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام:153].

أنعمت:
نَعِمَ يَنْعَم كسمع ونصر وضرب ثلاث لغات،ونعم الشيء نعومة صار لينا ناعما، والتنعم الترفه، والنعيم والنعمى الخفض والدعة والمال، والنعمة اليد والصنيعة والمنة وما أنعم به عليك، والمنفعة المفعولة على وجه الإحسان إلى الغير، يقال: نعمه تنعيما فتنعم أي: جعله في لين عيش وخصب، قال تعالى:( فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) [الفجر:15].
والنِّعمة بكسر النون بناؤها للهيئة كالجِلسة، وهي الحالة التي يكون عليها الإنسان جمع نعم وأنعم قال تعالى:( شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ )[النحل:121]، أما النَّعمة بفتح النون فبناؤها بناء المرة من الفعل، كالضربة والشتمة، وتقال للقليل والكثير.

المغضوب:
الغين والضاد والباء أصل صحيح يدل على شدة وقوة، يقال إن الغضبة هي الصخرة الصلبة، ومنه اشتق الغضب، ضد الرضا لأنه اشتداد السخط، وغضب يغضب غضبا فهو غضبان وغضوب، والغضب يكون على الشيء إذا لم يرض عنه، ويكون للشيء إذا غضب على غيره لأجله، لذلك فالغضب منه محمود إذا كان للحق ضد الباطل، ومنه مذموم إذا كان في غير الحق. وأما غضب الله تعالى فهو إنكاره على من عصاه فيعاقبه .

الضالين:
الضلال ضد الهدى والرشاد، وضل الشيء يضل ضلالا أي ضاع وهلك، وأرض مَضَلة بالفتح ، ومَضِلة بفتح الميم وكسر الضاد يضل فيها الطريق، وضللت الطريق وضل هو عني ضلالا إذا لم أعرفه، وأضللتَ الفرس إذا كان معقولا فلم تهتد إليه. والضلال أيضا النسيان ومنه قوله تعالى: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) [البقرة:282]، أي أن تنسى إحداهما.
قال ابن فارس: الضاد واللام أصل يدل على معنى واحد هو ضياع الشيء وذهابه في غير حقه، يقال ضل يضِل ويضَل لغتان، وكل جائر عن القصد ضال.
وقال ابن الكمال: الضلال فَقْدُ ما يوصل إلى المطلوب، وقيل سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب.
وقال الراغب: الضلال العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده الهداية، ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج، عمدا كان أو سهوا، يسيرا كان أو كثيرا، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا ). وإذا كان الضلال ترك الطريق المستقيم عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا، صح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما.

آمين:
لفظ"آمين" ويقال بالمد والقصر، ليس من الفاتحة, ولكنه تأمين على الدعاء, معناه: اللهم استجب, ولذلك يستحب للإمام أن يسكت سكتة لطيفة جداً بين آخر الفاتحة وآمين، لئلا يُتوهم أن آمين من القُرآن، وكي لا يظن الجاهل أنها من كلام الله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا قَالَ الْإِمَامُ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" فَقُولُوا "آمِينَ" فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ،،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أيضا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
وأخرج أبو داود وغيره عن وائل ابن حجر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ولا الضالين فقال‏:‏ آمين يمد بها صوته.
أما الجهر والإٍسرار بقول "آمين" بعد قراءة الفاتحة فقد اختلف فيهما العلماء.

حازم ناظم فاضل
09/04/2008, 12:47 PM
الاخوة الافاضل
اطلعت على التفسير القيم لسورة الفاتحة لفضيلة الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي
ولتعم الفائدة أدرج هنا تفسير سورة الفاتحة لبديع الزمان سعيد النورسي

* * *
بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم
اَلرَّحْمنُ {1} عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الإنسان {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4} 
فنحمده مصلين على نبيه محمد الذي أرسله رحمة للعالمين وجعل معجزته الكبرى الجامعة برموزها وإشاراتها لحقائق الكائنات باقية على مر الدهور إلى يوم الدين وعلى آله عامة واصحابه كافة.
أما بعد؛ فاعلم!
أولاً: إنَّ مقصدنا من هذه الإشارات تفسير جملة من رموز نظْمِ القرآن؛ لأن الإعجاز يتجلى من نظمه. وما الإعجاز الزاهر الاّ نقشُ النظم.
وثانياً: إنَّ المقاصد الأساسية من القرآن وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد والنبوة والحشر والعدالة؛ لانه:
لما كان بنو آدم كركبٍ وقافلةٍ متسلسلةٍ راحلةٍ من أودية الماضي وبلاده، سافرةٍ في صحراء الوجود والحياة، ذاهبةٍ إلى شواهق الإستقبال، متوجهةٍ إلى جنّاته، فتهتز بهم المناسبات وتتوجه إليهم الكائنات. كأنه اَرسلَتْ حكومةُ الخِلقة فَنَّ الحكمةِ مستنطقاً وسائلاً منهم بـ «يا بني آدم! مِن أين؟ إلى أين؟ ما تصنعون؟ مَنْ سلطانكم؟ مَنْ خطيبكم؟».
فبينما المحاورة، إذ قام من بين بني آدم - كأمثاله الأماثل من الرسل أولي العزائم - سيّدُ نوعِ البشر محمّد الهاشمي (صلى الله عليه وسلم) وقال بلسان القرآن:
«أيها الحكمة ! نحن معاشر الموجودات نجئ بارزين من ظلمات العدم بقدرة سلطان الأزل، إلى ضياء الوجود.. ونحن معاشر بني آدم بُعِثْنا بصفة المأمورية ممتازين من بين إخواننا الموجودات بحمل الأمانة.. ونحن على جناح السفر من طريق الحشر إلى السعادة الأبدية، ونشتغل الآن بتدارك تلك السعادة وتنمية الإستعدادات التي هي رأسُ مالِنا.. وأنا سيُّدُهم وخطيبهم. فها دونكم منشوري! وهو كلام ذلك السلطان الأزلي تتلألأ عليه سكّةُ الإعجاز. والمجيب عن هذه الأسئلة الجوابَ الصواب ليس إلا القرآنُ، ذلك الكتاب..
كان هذه الأربعة عناصره الأساسية.
فكما تتراءى هذه المقاصد الأربعة في كله، كذلك قد تتجلى في سورةٍ سورة، بل قد يُلْمَح بها في كلامٍ كلام، بل قد يُرْمَز إليها في كلمةٍ كلمة؛ لأن كل جزء فجزء كالمرآة لكلٍ فكلٍ متصاعداً، كما أن الكل يتراءى في جزءٍ فجزءٍ متسلسلاً.
ولهذه النكتة - أَعني إشتراك الجزء مع الكل - يُعرّف القرآنُ المشخَّصُ كالكلي ذي الجزئيات؟.
* إن قلت: ارني هذه المقاصد الأربعة في «بسم الله» وفي «الحمد لله».
قلت:لما اُنزل «بسم الله» لتعليم العباد كان «قُلْ» مقدَّراً فيه. وهو الأُمّ في تقدير الأقوال القرآنية . فعلى هذا يكون في «قُلْ» إشارة إلى الرسالة.. وفي «بسم الله» رمز إلى الألوهية.. وفي تقديم الباء تلويحٌ إلى التوحيد .. وفي «الرحمن» تلميحٌ إلى نظام العدالة والإحسان.. وفي «الرحيم» إيماء إلى الحشر.
وكذلك في الحمد لله إشارة إلى الألوهية.. وفي لام الاختصاص رمزٌ إلى التوحيد.. وفي رب العالمين إيماء إلى العدالة والنبوة أيضا؛ لأن بالرسل تربيةُ نوع البشر.. وفي مالك يوم الدين تصريح بالحشر.
حتى إن صَدَف ( اِنَّا اَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) يتضمن هذه الجواهر. هذا مثالاً فانسج على منواله.
«بِسْمِ الله» كالشمس يضيىء نَفْسَه كغيرِه، فاستغنى. حتى إن باءه متعلقة بالفعل المفهوم من معناها - أي: استعين به، أو المفهوم عُرفاً، أي: أتَيمّن به، أو بما يستلزمه «قل» المقدَّر من «أقرأ» - المؤخّر للإخلاص والتوحيد .
أما «الاسم» فاعلم! أن لله أسماء ذاتية، وأسماء فعلية متنوعة كالغفار والرزاق والمحيي والمميت وأمثالها. وتنوّعُها وتكثُّرها بسبب تعدد نسبة القدرة الأزلية إلى أنواع الكائنات . فكأن «بسم الله» استنـزالٌ لتأثير وتعلق القدرة ليكون ذلك التعلقُ روحاً مُمدّاً لكسب العبد.
«الله» لفظة الجلال نسخةٌ جامعة لجميع الصفات الكمالية لدلالتها التزاماً عليه؛ بسر إستلزام ذاته تعالى لصفاته بخلاف سائر الأَعلام، لعدم الإستلزام.

الرَّحْمنِ الرَّحِيم
وجه النظم: إنَّ لفظ الجلال كما يتجلى منه الجلال بسلسلته، كذلك يتراءى الجمال بسلسلته من «الرحمن الرحيم». إذ الجلال والجمال أصلان تسلسل منهما - بتجليهما في كل عالم - فروعٌ: كالأمر والنهي، والثواب والعذاب، والترغيب والترهيب، والتسبيح والتحميد، والخوف والرجاء إلى آخره. .
وأيضا كما أن لفظ الجلال إشارة إلى الصفات العينية والتنـزيهية؛ كذلك «الرحيم» إيماء إلى الصفات الغيرية الفعلية؛ و«الرحمن» رمز إلى الصفات السبع التي هي لا عينٌ ولاغيرٌ؛ إذ «الرحمن» بمعنى الرزاق، وهو عبارة عن إعطاء البقاء . والبقاءُ تكررُ الوجود. والوجود يستلزم صفة مُمَيِّزة وصفة مُخَصِّصَة وصفة مُؤَثِّرَة، وهي العلم والإرادة والقدرة. والبقاء الذي هو ثمرة إعطاء الرزق يقتضي عُرفاً ثبوت البصر والسمع والكلام؛ إذ لابد للرزاق من البصر ليرى حاجة المرزوق إن لم يَطلب، ومن السمع ليستمع كلامه إن طلب، ومن الكلام ليتكلم مع الواسطة إن كانت . وهذه الست تستلزم السابعة التي هي الحياة.
* إن قلت: تذييل «الرحمن» الدال على النِعَمِ العظيمة بـ «الرحيم» الدال على النعم الدقيقة يكون صنعة التدلّي. والبلاغة في صنعة الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى؟
قلت: تذييلٌ للتتميم كالأهداب للعين واللجام للفرس.. وأيضا لما توقفت العظيمةُ على الدقيقة، كانت الدقيقة أرقى كالمفتاح للقفل واللسان للروح.. وأيضا لما كان هذا المقام مقام التنبيه على مواقع النِعَمِ كان الأخفى أجدر بالتنبيه، فيكون صنعةُ التدلِّي في مقام الإمتنانِ والتعدادِ صنعةَ الترقِّي في مقام التنبيه.
* إن قلت: «الرحمن» و«الرحيم» كأمثالهما بمبادئها محالٌ في حقه تعالى كرقَّةِ القلب. وان اُريد منها النهايات فما حكمة المجاز؟
قلت: هي حكمة المتشابهات؛ وهي التنـزلات الإلهية إلى عقول البشر؛ لتأنيس الأذهان وتفهيمها، كمن تكلم مع صبيّ بما يألفه ويأنس به. فان الجمهور من الناس يجتنون معلوماتهم عن محسوساتهم ولا ينظرون إلى الحقائق المحضة إلا في مرآة متخيلاتهم ومن جانب مألوفاتهم.. وأيضا المقصود من الكلام: افادةُ المعنى، وهي لا تتم إلا بالتأثير في القلب والحس، وهو لا يحصل إلا بإلباس الحقيقة أسلوبَ مألوف المخاطب وبه يستعد القلب للقبول.
«الحَمْدُ»
وجه النظم مع ما قبله: إن «الرحمن» و«الرحيم» لما دلّتا على النِعَم إستوجبتا تعقيب الحمد. ثم إن «الحمد لله» قد كُرِّرَت في أربع سُوَرٍ من القرآن ، كل واحدة منها ناظرة إلى نعمةٍ من النعم الأساسية التي هي: النشأة الأولى، والبقاء فيها؛ والنشأة الأخرى، والبقاء بعدها.
ثم وجه نظمه في هذا المقام، أي جعله فاتحةَ فاتحةِ القرآن هو: انه كتصوّر العلة الغائية المقَدَّم في الذهن؛ لأن الحمدَ صورةٌ إجمالية للعبادة التي هي نتيجةٌ للخِلقة، والمعرفةِ التي هي حكمةٌ وغايةٌ للكائنات. فكأن ذكره تصورٌ للعلة الغائية.. وقد قال عز وجل :وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلإ لِيَعْبُدُونِ .
ثم إنَّ المشهور من معاني الحمد إظهار الصفات الكمالية.
وتحقيقه: إنَّ الله سبحانه خلق الإنسان وجعله نسخة جامعة للكائنات، وفهرستة لكتاب العالَم المشتمل على ثمانية عشر ألف عالَم، وأودع في جوهره انموذجاً من كل عالَم تجلى فيه إسمٌ من أسمائه تعالى. فإذا صرفَ الإنسان كل ما اُنعِمَ عليه إلى ما خُلِقَ لأجله إيفاءً للشكر العرفي - الداخل تحت الحمد - وإمتثالاً للشريعة التي هي جلاء لصدأ الطبيعة، يصيرُ كلُّ انموذجٍ مشكاةً لعالَمِهِ ومرآةً له وللصفة المتجلية فيه والإسم المتظاهر منه. فيكون الإنسان بروحه وجسمه خلاصةَ عالمَيْ الغيب والشهادة، ويتجلى فيه ما تجلى فيهما.
فبالحمد يصير الإنسان مظهراً للصفات الكمالية الإلهية. يدل على هذا قول «محي الدين العربي» في بيان حديث (كُنْتُ كَنْزَاً مَخْفِيًّا فَخَلًقْتُ الْخَلْقَ لِيَعْرِفُوني) أي : فخلقت الخلق ليكون مرآةً أشاهِدُ فيها جمالي.
لله : أي الحمد مختص ومستحق للذات الأقدس المشخص الذي يُلاحَظ بمفهوم «الواجب الوجود» إذ قد يلاحظ المشخص بأمر عام. وهذه اللام متعلقة بمعنى نفسها،كأنها تشربت معنى متعلقها . وفي اللام إشارة إلى الإخلاص والتوحيد.
رَبِّ: أي الذي يربّي العالم بجميع أجزائه، التي كلٌ منها كالعالم عالَم؛ وذرَّاتهُ كنجومه متفرِّقةٌ متحرِّكة بالإنتظام.
واعلم! أن الله عز وجل عيّن لكل شئ نقطةَ كمالٍ وأودع فيه ميلاً إليها، كأنه أمَرَه أمراً معنوياً أن يتحرك به إليها، وفي سفره يحتاج إلى ما يُمدُّه ودفع ما يَعوقهُ، وذلك بتربيته عز وجل. لو تأملت في الكائنات لرأيتها كبني آدم طوائف وقبائل يشتغل كلٌ منفرداً ومجتمعاً بوظيفته التي عيَّنَها له صانِعُه ساعياً مُجدّاً مطيعا لقانون خالقه. فما اعجب الإنسان كيف يشذّ!
الْعَالَمِينَ الياء والنون إما: علامة للاعراب فقط كـ «عشرين وثلاثين».. أو للجمعية؛ لأن أجزاء العالم عَوالم.. أو العالمُ ليس منحصراً في المنظومة الشمسية. قال الشاعر:
الَحَمْدُ لله كَمْ لله مِنْ فَلَكٍ تَجرِي النّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وآثرَ جمعَ العقلاء مثل رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ إشارة إلى أن نظرَ البلاغة يصوّر كل جزء من أجزاء العالم بصورةِ حيّ عاقلٍ متكلِّم بلسان الحال. إذ العالَم اسمُ ما يُعلَمُ به الصانعُ ويشهدُ عليه ويشير اليه. فالتربية والإعلامُ يُومِيان - كالسجود - إلى أنها كالعقلاء.
الْرَّحْمن الْرَّحِيمِ
وجه النظم: انهما إشارتان إلى أساسَيْ التربية؛ إذ «الرحمن» لكونه بمعنى الرزاق يلائم جلب المنافع؛ و«الرحيم» لكونه بمعنى الغفار يناسب دفع المضار وهما الأساسان للتربية.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي يوم الحشر والجزاء.
وجه النظم: انه كالنتيجة لسابقه؛ إذ الرحمة من أدلة القيامة والسعادة الأبدية؛ لأن الرحمة إنما تكون رحمةً، والنعمة نعمةً إذا جاءت القيامة وحصلت السعادة الأبدية. وإلاّ فالعقلُ الذي هو من أعظم النِعَم يكون مصيبةً على الإنسان، والمحبة والشفقة اللتان هما من ألطف أنواع الرحمة تتحولان ألماً شديداً بملاحظة الفراق الأبدي.
* إن قلت: إنَّ الله تعالى مالكٌ لكل شئ دائماً فما وجه الإختصاص؟
قلت: للإشارة إلى أن الأسباب الظاهرية التي وضَعَها الله تعالى في عالم الكون والفساد لإظهار عظمته - أي لئلا يُرى في ظاهر نظر العقل مباشرةُ يد القدرة بالأمور الخسيسة في جهة مُلْك الأشياء - ترتفع في ذلك اليوم وتتجلّى ملكوتيةُ كل شئ صافيةً شفّافةً، بحيث يَرى ويَعرف كلُ شئ سيِّدَه وصانِعَه بلا واسطة. وفي التعبير بلفظ «اليوم» إشارة إلى أمارة حدسية من أمارات الحشر بناءً على التناسب البيّن بين اليوم والسنة، وعمر البشر ودوران الدنيا. كالكائن بين اَمْيال الساعة العادّة للثواني والدقائق والساعات والايام. فكما أن مَن يرى ميلاً أتمَّ دَوْرَه يحدس في نفسه ان من شأن الآخر أيضاً ان يتم دوره وإن كان بمهلة؛ كذلك ان من يرى القيامة النوعية المكررة في أمثال اليوم والسنة يتحدس بتولد ربيع السعادة الأبدية في صبح يوم الحشر للإنسان الذي شخصُه كنوعٍ.
والمراد من «الدّين» إمّا الجزاء، أي يوم جزاء الأعمال الخيرية والشرية، أو الحقائق الدينية، أي يوم طلوعها وظهورها وغلبة دائرة الإعتقاد على دائرة الأسباب؛ لأن الله عز وجل أودع بمشيئته في الكائنات نظاماً يربط الأسباب بالمسببات وألجأ الإنسان بطبيعته ووهمه وخياله إلى أن يراعي ذلك النظام ويرتبط به. وكذا وجّه كل شئ اليه وتَنَزَّه عن تأثير الأسباب في مُلكه. وكلّف الإنسان إعتقاداً وإيماناً بان يراعي تلك الدائرة بوجدانه وروحه ويرتبط بها. ففي الدنيا دائرة الأسباب غالبة على دائرة الإعتقاد؛ وفي الأُخرى تتجلى حقائق العقائد غالبة على دائرة الأسباب.
واعلم! أن لكلٍ من هاتين الدائرتين مقاماً معيناً وأحكاماً مخصوصة، فلابد أن يُعطى كلٌّ حقّه. فمَن نظر في مقام دائرة الأسباب بطبيعته ووهمه وخياله ومقاييس الأسباب، إلى دائرة الإعتقاد إضطر إلى الإعتزال. ومن نظر في مقام الإعتقاد ومقاييسه بروحه ووجدانه إلى دائرة الأسباب أنتج له توكلاً تَنْبَلِياً وتمرداً في مقابلة المشيئة النظامة.
اِيَّاكَ نَعْبُدُ في «الكاف» نكتتان:
إحداهما: تضمن الخطاب بسر الإلتفات للاوصاف الكمالية المذكورة، إذ ذكرها شيئاً شيئاً يحرّك الذهن ويُعدّه ويملأُهُ شوقاً ويهزه للتوجه إلى الموصوف. فـ«إياك» أي: يا مَن هو موصوف بهذه الصفات.
والاخرى: إنَّ الخطاب يشير إلى وجوب ملاحظة المعاني في مذهب البلاغة ليكون المقروء كالمُنْزَل، فينجر طبعاً وذوقاً إلى الخطاب. فـ «إيّاك» يتضمن الامتثال بـ (أُعْبُدْ رَبَّكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ).
والتكلم مع الغير في «نعبد» لوجوه ثلاثة:
أي نعبد نحن معاشر أعضاء وذرّات هذا العالم الصغير - وهو أنا - بالشكر العُرفي الذي هو إطاعة كلٍ لما أُمر به.. ونحن معاشر الموحّدين نعبدك باطاعة شريعتك.. ونحن معاشر الكائنات نعبد شريعتك الكبرى الفطرية ونسجد بالحيرة والمحبة تحت عرش عظمتك وقدرتك.
وجه النظم: إن «نعبد» بيان وتفسير لـ «الحمد» ونتيجة ولازم لـ مالك يوم الدين.
واعلم! أن تقديم «إياك» للإخلاص الذي هو روح العبادة. وان في خطاب الكاف رمزاً إلى علة العبادة لأن من إتصف بتلك الأوصاف الداعية إلى الخطاب إستحق العبادة.
وَاِيَّاكَ نَسْتَعِينُ هذه كـ ايَّاك نعبد باعتبار الجماعات الثلاث:
أي نحن معاشر الأعضاء ومعاشر الموحِّدين ومعاشر الكائنات نطلب منك التوفيق والإعانة على كل الحاجات والمقاصد التي أهمها عبادتك.
كرَّرَ «اياك» لتزييد لذة الخطاب والحضور.. ولأن مقام العيان أعلى وأجلّ من مقام البرهان.. ولأن الحضور أدعَى إلى الصدق وبأن لا يكذب.. ولإستقلال كلٍّ من المقصدين.
واعلم! أن نظم «نستعين» مع «نعبد»:
كنظم الأجرة مع الخدمة، لأن العبادة حق الله على العبد، والإعانة إحسانُه تعالى لعبده. وفي حصر «اياك» إشارة إلى أن بهذه النسبة الشريفة التي هي العبادة والخدمة له تعالى يترفَّعُ العبد عن التذلل للأسباب والوسائط، بل تصير الوسائطُ خادمةً له وهو لا يعرف إلا واحداً، فيتجلى حُكْمُ دائرة الإعتقاد والوجدان كما مرَّ. ومَن لم يكن خادماً له تعالى بحق يصير خادماً للأسباب ومتذللاً للوسائط. لكن يلزم على العبد وهو في دائرة الأسباب أن لا يهمل الأسباب بالمرة لئلا يكون متمرداً في مقابلة النظام المودع بحكمته ومشيئته تعالى، لأن التوكل في تلك الدائرة عطالة كما مرَّ.
وكنظم المقدِّمة مع المقصود لأن الإعانة والتوفيق مقدمة العبادة.
اِهْدِنَا
وجه النظم: انه جواب العبد عن سؤاله تعالى كأنه يسأل: أي مقاصدك أعلَقُ بقلبك؟ فيقول العبد: إهدنا.
واعلم! أن «إهدنا» بسبب تعدد مراتب معانيه – بناءً على تنوّع مفعوله إلى الهادين والمستهدين والمستزيدين وغيرهم – كأنه مشتق من المصادر الأربعة لفعل الهداية. فاهدنا باعتبار معشر «ثبّتنا»، وبالنظر إلى جماعة «زدنا»، وبالقياس إلى طائفة «وفّقنا» والى فرقة «اَعْطنا».. وأيضا أن الله تعالى بحكم أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى هدانا بإعطاء الحواس الظاهرة والباطنة، ثم هدانا بنصب الدلائل الآفاقية والأنفسية، ثم هدانا بارسال الرسل وإنزال الكتب، ثم هدانا أعظم الهداية بكشف الحجاب عن الحق فظهر الحق حقا والباطل باطلاً.
اللَّهُمَّ اَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اِتِّبَاعَهُ وَاَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا إجْتِنَابَهُ.
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
إعلم! أن الصراط المستقيم هو العدل الذي هو ملخص الحكمة والعفة والشجاعة اللاتي هي أوساطٌ للمراتب الثلاث للقوى الثلاث.
توضيحه:
إنَّ الله عز وجل لما اسكن الروحَ في البدن المتحوِّل المحتاج المعروض للمهالك أودع لإدامتها فيه قوىً ثلاثاً.
إحداها: القوة الشهوية البهيمية الجاذبة للمنافع.
وثانيتها: القوة الغضبية السَبُعية الدافعة للمضرات والمخرِّبات.
وثالثتها: القوة العقلية الملكية المميزة بين النفع والضر.
لكنه تعالى - بحكمته المقتضية لتَكمُّل البشر بسر المسابقة - لم يحدِّد بالفطرة تلك القوى كما حدد قوى سائر الحيوانات، وإن حدَّدَها بالشريعة؛ لأنها تنهي عن الإفراط والتفريط وتأمر بالوسط، يصدع عن هذا فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ . وبعدم التحديد الفطري يحصل مراتب ثلاث: مرتبة النقصان وهي التفريط، والزيادة وهي الإفراط ، والوسط وهي العدل.
فتفريط القوة العقلية الغباوة والبلادة، وإفراطها الجربزة الخادعة والتدقيق في سفاسف الأمور، ووسطها الحكمة. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً
إعلم! انه كما تنوع أصل هذه القوة إلى تلك المراتب، كذلك كل فرع من فروعها يتنوع إلى هذه الثلاث. مثلا: في مسألة خَلق الأفعال: مذهبُ أهل السنة وسطُ الجبر والإعتزال ، وفي الإعتقاد: مذهبُ التوحيد وسط التعطيل والتشبيه.. وعلى هذه القياسُ.
وتفريط القوة الشهوية الخمودة وعدم الإشتياق إلى شئ، وإفراطها الفجور بأن يشتهي ما صادف حَلَّ أو حَرُمَ، ووسطها العفةُ بأن يرغب في الحلال ويهرب عن الحرام. وقس على الأصل كل فرع من فروعاته من الأكل والشرب واللبس وأمثالها.
وتفريط القوة الغضبية الجبانة أي الخوف مما لا يُخاف منه والتوهم، وإفراطها التهوّر الذي هو والدُ الإستبداد والتحكم والظلم، ووسطها الشجاعة أي بذل الروح بعشق وشوق لحماية ناموس الإسلامية وإعلاء كلمة التوحيد. وقس عليها فروعها..
فالأطراف الستة ظلمٌ والأوساط الثلاثة هي العدل الذي هو الصراط المستقيم، أي العملُ بـ فَاسْتَقِمْ كَما اُمِرْتَ ومَن مرَّ على هذا الصراط يمر على الصراط الممتد على النار.
صِرَاطَ الَّذِينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
اعلم! أن نظم درر القرآن ليس بخيط واحد بل النظم - في كثيرٍ - نقوش تحصل من نسج خطوطِ نسبٍ متفاوتة قُرباً وبُعداً، ظهوراً وخفاء. لأن أساس الإعجاز بعد الإيجاز هذا النقش. مثلاً:
صراط الذين أنعمت عليهم يناسب: الحمد لله لأن النعمة قرينة الحمد..
ورب العالمين لأن كمال التربية بترادف النِعَم..
والرحمن الرحيم لأن المنعم عليهم - اعني الأنبياء والشهداء والصالحين - رحمةٌ للعالمين ومثال ظاهر للرحمة..
ومالك يوم الدين لأن الدين هو النعمة الكاملة..
و«نعبد» لأنهم الأئمة ..
و«نستعين» لأنهم الموفقون..
و«اهدنا» لأنهم الاسوة بسر فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ  ..
و«الصراط المستقيم» لظهور إنحصار الطريق المستقيم في مسلكهم. هذا مثال لك فقس عليه. .
وفي لفظ «الصراط» إشارة إلى أن طريقهم مسلوكة محدودة الأطراف مَن سلكها لا يخرج عنها.
وفي لفظ «الذين» - بناء على انه موصول، ومن شأن الموصول أن يكون معهوداً نَصْبَ العين للسامع - إشارة إلى علو شأنهم وتلألؤهم في ظلمات البشر، كأنهم معهودون نصب العين لكل سامع وإن لم يتحرَّ ولم يطلب.. وفي جمعيته رمز إلى إمكان الاقتداء بهم وحقانية مسلكهم بسر التواتر إذ (يَدُ الله مَعَ الْجَمَاعَةِ) ..
وفي صيغة «انعمت» إشارة إلى وسيلة طلب النعمة.. وفي نسبتها شافع له كأنه يقول: يا الهي! من شأنك الإنعام وقد أنعمْتَ بفضلك، فأنْعِمْ عليّ وان لم استحق..
وفي «عليهم» إشارة إلى شدة أعباء الرسالة وحمل التكليف، وإيماء إلى انهم كالجبال العالية تتلقى أعباء الرسالة وحمل التكليف، وإيماء إلى انهم كالجبال العالية تتلقى شدائد المطر لإفاضة الصحارى. وما أجمل في «الذين انعمت عليهم» يفسره فَاُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ اَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِييِّنَ والصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء والصَّالِحِينَ إذ القرآن يفسر بعضه بعضاً.
*إن قلت: مسالك الأنبياء متفاوتة وعباداتهم مختلفة؟
قيل لك: إنَّ التبعية في أصول العقائد والأحكام؛ لأنها مستمرة ثابتة دون الفروعات التي من شأنها التغير بتبدل الزمان. فكما أن الفصول الأربعة ومراتب عمر الإنسان تؤثر في تفاوت الأدوية والتلبّس، فكم من دواء في وقت يكون داء في آخر؛ كذلك مراتب عمر نوع البشر تؤثر في إختلاف فروعات الأحكام التي هي دواء الأرواح وغذاء القلوب.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمَْ.
وجه النظم: إعلم! أن هذا المقام لكونه مقام الخوف والتخلية يناسب المقامات السابقة؛ فينظر بنظر الحيرة والدهشة إلى مقام توصيف الربوبية بالجلال والجمال، وبنظر الإلتجاء إلى مقام العبودية في «نعبد»، وبنظر العجز إلى مقام التوكل في «نستعين»، وبنظر التسلي إلى رفيقه الدائمي أعني مقام الرجاء والتحلية، إذ اوّل ما يتولد في قلب مَن يرى أمراً هائلاً حِسُّ الحيرة ثم ميلُ الفرار ثم التوكلُ عند العجز ثم التسلي بعد ذلك الأمر.
*إن قلت: إنَّ الله عز وجل حكيم غني فما الحكمة في خلق الشر والقبح والضلالة في العالم؟
قيل لك: إعلم! أن الكمال والخير والحسن في الكائنات هي المقصودة بالذات وهي الكليات؛ وان الشر والقبح والنقصان جزئيات بالنسبة إليها قليلة تبعية مغمورة في الخلقة، خلقها خالقها منتشرة بين الحسن والكمال، لا لذاتها، بل لتكون مقدمة، وواحداً قياسياً، لظهور - بل لوجود - الحقائق النسبية للخير والكمال.
* إن قلت: فما قيمة الحقائق النسبية حتى اُستُحسن لأجلها الشرّ الجزئي؟
قيل لك: إن الحقائق النسبية هي الروابط بين الكائنات.. وهي الخطوط المنسوج منها نظامها.. وهي الأشعة المنعكس منها وجود واحد لأنواعها. وان الحقائق النسبية أزيدُ بألوفٍ من الحقائق الحقيقية؛ إذ الصفات الحقيقية لذاتٍ لو كانت سبعة كانت الحقائق النسبية سبعمائة. فالشر القليل يُغْتَفَر بل يُسْتَحْسَن لأجل الخير الكثير؛ لأن في ترك الخير الكثير - لأن فيه شراً قليلاً - شراً كثيراً. وفي نظر الحكمة إذا قابل الشر القليل شراً كثيراً صار الشر القليل حسناً بالغير، كما تقرر في الاصول في الزكاة والجهاد.
وما اشتهر من: «إنَّ الاشياء إنما تُعْرَف باضدادها» معناه: إن وجود الضد سبب لظهور ووجود الحقائق النسبية للشئ. مثلاً: لو لم يوجد القبح ولم يتخلل بين الحُسن لما تظاهر وجود الحُسن بمراتبه الغير المتناهية.
* إن قلت: ما وجه تفاوت هذه الكلمات الثلاث: فعلاً، وإسم مفعولٍ، وإسمَ فاعلٍ، في: «أنعمت» و «المغضوب» و «الضالين»؟
وأيضاً ما وجه التفاوت في ذكر: صفة الفرقة الثالثة، وعاقبة الصفة في الفرقة الثانية، وعنوان صفة الفرقة الأولى باعتبار المآل؟
قيل لك: إختار عنوان النعمة؛ لأن النعمة لذةٌ تميل النفس إليها.. وفعلاً ماضياً للإشارة إلى أن الكريم المطلق شأنه أن لا يسترد ما يعطى.. وأيضاً رمز إلى وسيلة المطلوب بإظهار عادة المنعم، كأنه يقول: لأن من شأنك الإنعام وقد أنعَمْتَ فأنْعِم عليّ.
أما «غير المغضوب» فالمراد منه: الذين تجاوزوا بتجاوز القوة الغضبية فظلموا، وفسقوا بترك الأحكام كتمرد اليهود. ولما كان في نفس الفسق والظلم لذة منحوسة وعزة خبيثة لا تتنفر منه النفس ذَكَرَ القرآنُ عاقبته التي تُنَفِّر كلَّ نفسٍ وهي نزول غضبه تعالى.. وإختار الإسم الذي من شأنه الإستمرار إشارة إلى أن العصيان والشر إنما يكون سمة إذا لم ينقطع بالتوبة والعفو.
أمّا ولا الضَّالين فالمراد منه: الذين ضلوا عن الطريق بسبب غلبة الوهم والهوى على العقل والوجدان ووقعوا في النفاق بالإعتقاد الباطل كسفسطة النصارى. إختار القرآن نفسَ صفتهم لأن نفسَ الضلالة أَلَمٌ، ينفر النفس ويجتنب منه الروح وإن لم يرَ النتيجة.. وإسماً لأن الضلالة إنما تكون ضلالة إذا لم تنقطع .
واعلم! أن كل الألم في الضلالة وكل اللذة في الايمان.
فإن شئت تأمل في حال شخص، بينما اخرجَتْه يدُ القدرة من ظلمات العدم وألقَتْهُ في الدنيا - تلك الصحراء الهائلة - إذ يفتح عينيه مستعطفاً، فيرى البليات والعلل كالأعداء تتهاجم عليه، فينظر مسترحماً إلى العناصر والطبائع فيراها غليظة القلب بلا رحمة قد كشرت عليه الأسنان؛ فيرفع رأسه – مستمداً – إلى الأجرام العلوية فيراها مهيبة ومدهشة تهدده كأنها مرامي نارية من أفواه هائلة تمر حواليه؛ فيتحير ويخفض رأسه متستراً ويطالع نفسه؛ فيسمع أُلوفَ صيحاتِ حاجاته وأنين فاقاته، فيتوحش، فينظر إلى وجدانه ملتجأً؛ فيرى فيه أُلوفاً من آمال متهيجةٍ ممتدةٍ لا تُشبعها الدنيا.
فبالله عليك كيف حال هذا الشخص إنْ لم يعتقد بالمبدأ والمعاد والصانع والحشر؟ أ تظن جهنم أشدَّ عليه من حاله وأحرقَ لروحه؟ فإن له حالة تركبت من الخوف والهيبة والعجز والرعشة والقلق والوحشة واليتم واليأس؛ لأنه إذا راجع قدرته يراها عاجزة ضعيفة؛ وإذا توجه إلى تسكين حاجاته يراها لا تسكت؛ واذا صاح وإستغاث لا يُسْمَع ولا يُغاث فيظن كل شئ عدواً، ويتخيل كل شئ غريباً فلا يستأنس بشئ؛ ولا ينظر إلى دوران الأجرام إلاّ بنظر الخوف والدهشة والتوحش المزعجة للوجدان.
ثم تأمل في حال ذلك الشخص إذا كان على الصراط المستقيم وإستضاء وجدانهُ وروحُه بنور الايمان، كيف ترى انه إذا وضع قدمه في الدنيا وفتح عينيه فرأى تهاجم العاديات الخارجية يرى إذن «نقطة إستناد» يستند إليها في مقابلة تلك العاديات، وهي معرفة الصانع فيستريح. ثم إذا فتش عن إستعداداته وآماله الممتدة إلى الأبد يرى «نقطة إستمداد» يستمد منها آماله وتتشرب منها ماء الحياة وهي معرفة السعادة الأبدية. وإذ يرفع رأسه وينظر في الكائنات يستأنس بكل شئ وتجتني عيناه من كل زهرة اُنسية وتحبّباً، ويرى في حركات الأجرام حكمةَ خالقها ويتنـزّه بسيرها وينظر نظر العبرة والتفكر. كأن الشمس تناديه: أيها الأخ! لا تتوحش مني فمرحباً بقدومك! نحن كلانا خادمان لذاتٍ واحد، مطيعان لأمره. والقمر والنجوم والبحر وأخواتها يناجيه كلٌ منها بلسانه الخاص وترمز اليه: بأهلاً وسهلاً، أما تعرفنا ؟ كلنا مشغولون بخدمة مالكك فلا تضجر ولا تتوحش ولا تخف من تهديد البلايا بنعراتها، فان لجام كلٍ بيد خالقك.
فذلك الشخص في الحالة الأولى يحس في أعماق وجدانه ألماً شديداً فيضطر للتخلص منه وتهوينه وإبطال حسِّهِ بالتسلي، بالتغافل، بالإشتغال بسفاسف الأمور، ليخادع وجدانه وينام روحُه؛ وإلاَّ أحس بألمٍ عميق يحرق أعماق وجدانه. فبنسبة البُعْدِ عن الطريق الحق يتظاهر تأثير ذلك الالم.
وأما في الحالة الثانية فهو يحس في قعر روحه لذةً عالية وسعادة عاجلة كلما أيقظ قلبه وحرَّك وجدانه وأحسّ روحه إستزاد سعادة وإستبشر بفتح أبواب جنات روحانية له.
اَللَّهُمَّ بِحُرْمَةِ هذِهِ السُّورَةِ اِجْعَلْنَا مِنْ اَهْلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.