المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( شِلَرْ شاعر الحرية ) دراسة - د. شاكر مطلق



الدكتور شاكر مطلق
09/04/2008, 10:19 AM
شاعر الحريّة العظيم
( فريدْرِشْ شِلَـرْ )





الشاعر الألمانيّ العظيم
( فْريدْرِشْ شِلَـرْ )
( 1757 _ 1805 )
فكرٌ حرٌّ – إبداعٌ عظيمٌ

د . شاكر مطلق

كنتُ قد نِلت في العام 1958 شهادة ( البكالوريا ) _ الثانوية العامة _ الأدبية " فلسفة ولغات " بتفوّق أدّى إلى حصولي على منحة لدراسة الأدب الإنكليزي في جامعة عين شمس في مصر ،
ولأسباب لا مجال لذكرها هنا ، ذهبت يومها إلى ألمانيا ( الغربية ) _ على نفقة والدي - لدراسة الفلسفة وعلم النفس ، ولأسباب أخرى ، تطرّقت إليها في مقدمة إحدى مجموعاتي الشعرية ( معلقة كِلْكامِشْ على أبواب أوروك _ الصادرة عن دار الذّاكرة بحمص عام 1984) ولا مجال لذكرها الآن أيضاً ، قررت دراسة الطب البشري بعد موافقة خاصة من وزير التعليم المركزي الألماني في العاصمة السابقة بون ، بشرط ( إجراء فحوص مشدّدة له –أي لي - بالعلوم الطبيعية واللاتينية ) ونجحت فيها أيضاً ( بأعلى مراتب الشرف ) وتخصصت بعدها بأمراض العين وجراحتها .
عند ذهابي إلى ألمانيا في ذلك الوقت كان من البدَهي لشاب مثقف في مدينة حمص يومها ، وبخاصة لأؤلئك الذين أخذوا في وضع أقدامهم على طريق الإبداع في الشعر والأدب والرسم والنحت والموسيقى ، وهم كثُرٌ ولا يزال بعضهم أحياءً ومن المبدعين المعروفين في القطر وخارجه أيضاً ، أقول كان من البدَهي يومها أن يعرف مثل هذا الشاب شيئاً عن شعراء ألمانيا العظام مثل ( فريدرش شِلّر _ يوهان وولفغانغ فون غوتِه ) _ بالتاء المخففة _ كما يعرف شيئاً عن الشاعر بودلير وغيره من أدباء فرنسا ومفكريها وعن الأدباء الروس مثل ( مكسيم غوركي _ دِسْتيوفسْكي _ غوغول ... إلخ ) وكنت يومها قد أصدرت في عام 1957 مجموعتي الشعرية الأولى بعنوان ( نبأ جديد ) ولهذا فلم يكن غريباً عليّ عند وصولي ألمانيا أن أعرف مثل هذه الأسماء العظيمة في الأدب والفن والموسيقى . وما كدت أتعلم اللغة الألمانية الصعبة القواعد حتى بدأت _ ويا للحماقة ، حماقتي _ بمحاولة ترجمة بعض قصائد ( شِلّر ) الذي كنت أحب فيه روح الثورة والحرية التي تجلت في باكورة أعماله الأدبية المسرحية الموسومة
بـ ( اللصوص ) تلك المسرحية العظيمة التي كتبها وهو في سن الثامنة عشر أو التاسعة عشر من العمر والتي أثارت بعد عرضها الأول على مسرح في مدينة ( مَـنْهايم ) عام 1782 ،ضجة حقيقية بين المشاهدين وأدّت إلى صعود نجمه بشكل لافت ومثير .
من الطريف حقاً أن يكون القتلة المشاغبون الذين التّفوا حول بطل المسرحية ( كارل مور ) _ المنبوذ من أبيه _ هم الذين مهّدوا لصعود نجم ( شِلّر ) في فضاء الإبداع والشّهرة ، ومنذ البداية أعرب الكثيرون من النقاد يومها عن ثقتهم بهذا الأديب الشاب الذي يبشر " بتحقيق أجمل الآمال الألمانية " وببروز شخصية شكسبير ألماني ، حتى أن ( فيلهلم فون هومبولت ) _ العالم الألماني الشهير والذي تحمل جامعة برلين الشرقية اسمه - قال عنه ربما مغالياً بأنّه (أخصب رأس في الأفكار في كل العصور ) ، كما وصفه الشاعر الألمانيّ الكبير ( هولْدَرلين ) بـ ( الشاعر العبقري العظيم ) ، بينما وصفه شاعر ألمانيا الأكثر شهرة ( غوته ) وصديقه اللدود لاحقاً وجاره لفترة من الوقت في مدينة ( فايمار ) بأنه رجل ( الحقيقيّ والخيّر والجميل ) .
أما الأديب الألماني المعاصر ( توماس مان ) _ صاحب جائزة نوبل _ فاعتبره ( إله الفن ) .
هذا الرجل لم يَخدم كغيره من المبدعين في الأدب والفن والموسيقى ، كما كان مألوفاً في ذلك العصر وفي تاريخنا الأدبي العربي أيضاً ، أيَّ حاكم أو أمير _ كما فعل على سبيل المثال _ ( غوتِه ) الشاعر العظيم الذي اصطحبه أمير ( فايمار ) الصغيرة من مدينة مولده في مدينة ( فرانكفورت ) على نـهر ( الماين ) إلى إمارته الصغيرة في ( فايمار ) والذي كان يرضى بأن يجلس إبّان تناول الطعام على طاولة مفردة قرب طاولة الأمير وأصدقائه لأنه لم يكن من النبلاء ولا يحمل لقب ( فون ) النبيل الذي أعطي له لاحقاً كما منح أيضاً لـ( شلّر ) ،هذا الشاعر المتمرد المحبِّ للحرية وللعدالة ( شيلّر ) كنت أحبه وأحترمه وأُكِنُّ له أعمق المشاعر ولا أزال ، بسبب إبداعه العظيم الخالد _ ولا ننسى أن نشيد الفرح في السمفونية التاسعة لـ( لودفيغ فان بيتهوفن ) هي من إبداعه _ وأفكاره المتألقة الوَسيعة وروحه الحرة المتمردة وشخصيته المنفتحة التي جعلته يرى نفسه مواطناً عالمياً .
أشرنا أعلاه إلى نجاح ( شِلَر ) المبكر وصعود نجمه الذي قوبل بالترحاب من أكثر من جهة أدبية وعامة أيضاً ، وأثار أيضاً كثيراً من الحسد لدى معاصريه ومنهم صديقه _ لاحقاً _ اللّدود ( غوته ) الذي تحدث يومها عن مسرحية ( اللصوص ) قائلاً بأنها( تثير اشمئزازه إلى أبعد الحدود ) لأنّ صاحب رواية ( آلام فيرتَر ) التي أثارت وألهبت مشاعر القراء قبل ( اللصوص ) يعقد من الزمن أفزعته الضجة حول هذا النجم الصاعد ، كذلك تحدث بازدراء عن ( شِلَر ) وبحسد واضح يومها الكاتب الناجح المعروف (كريستوف مارتن فيلاند ) قائلاً عنه : ( الأحمق الغريب الذي يعتبره الناس على نـهر النّيكّر رجلاً عبقرياً ) وكان ( شِلَر ) قد ولد في عام 1757 في مدينة ( مارباخ ) على ضفاف هذا النهر ، نـهر(النّيكّر ) .
علينا أن نتذكر في منتصف القرن الثامن عشر حالة ألمانيا يومئذ حيث الدولة ، دويلات مشرذمة متحاربة_قبل أن يوحّدها_المستشار( الحديدي ) الأمير ( بسمارك ) بحد السيف لاحقاً وحيث كان التنقل في القرن الثامن عشر بين بلدات قريبات إلى بعضهم البعض مثل مدينة ( شتوتغارت ) و( مَنْهايم ) _ حيث حضر ( شلَر ) العرض الأول لمسرحيته الأولى كان مثل هذا التنقل إلى ( الخارج ) يحتاج إلى موافقة مسبقة من الحاكم ولا سيّما وأن ( شِلَر ) _ وهذا أمر يكاد يكون مجهولاً بالنسبة إلينا _ كان طبيباً عسكرياً في منطقة ( شفابِنْ ) وغير مسموح له _ دون إذنٍ _ بمغادرة المقاطعة .
حاكم المقاطعة كان اسمه ( كارل أويْغن فون فوتِمْبرغ ) وكان صارماً حاد المزاج مستبدّاً ومسرفاً مبذّراً يطلب الانضباط والطاعة المطلقة وبخاصة من تلاميذ مدرسة المتفوقين وتلاميذ الأكاديمية العسكرية المسمّاة باسمه والتي كان من خِرّيجيها ( شِلَر ) نفسه . وبعد ( اللصوص ) لم يكن في وسع الشاعر العودة إلى مدينة
( شتوتغارت ) وكتب بعد ذلك بوقت قصير مسرحيته الثالثة ( الدّسيسة والحب ) مسرحية مأساوية في خمسة فصول ، عرضت لأول مرة في عام 1784 ولاقت نجاحاً باهراً ، استعرض فيها ما في قـصر الحاكم من نفاق واستغلال وانحلال أخلاقي وغيره .عندها قرر الشاعر أن يتفرغ للكتابة فقط وهجر الطب وكان هذا التفرغ في ذلك الزمان مغامرة جديدة تماماً وقرر الاعتماد على نفسه دون الحكام والأغنياء وقرر على حد قوله : " ألاّ يناشد بعد الآن أيَّ عرش وإنّما الروح الإنسانية ) وقرر أيضاً أن يكون جمهورُ المسرح هو الحكَمَ والمعيارَ :( الجمهور هو الآن كل شيء بالنسبة لي ) . كتب شِلَر العديدَ من المسرحيات التاريخية وغير التاريخية وفي موضوعات مختلفة وبعمق ودراية ، ولكن ماذا عن العاطفة والحب لديه ؟ .كانت الطبيعةُ العاطفية والجنسية لدى هذا الشاعر العظيم تمتاز بالحيويّة والعمليّة ومعايشتها أيضاً على أرض الواقع ، بخلاف الشاعر العظيم الآخر ( غوته ) . استطاع شِلَر أن يعبّر عن مثل هذه العواطف بطاقة فجّرت ينابيع الحب ، والحب الجسدي أيضاً وهو الذي كان يعتـقد أن ( اللذة ) قد مُنحتْ أيضاً للدودة كما ورد في ( نشيد عن النّاقوس ) وفي قـصيدة ( هيّا إلى الفرح ) .
تجمّعت لدى الشاعر ، بسنٍّ مبكرة تماماً ، خبراتٌ عمليّةٌ عن الجنس الآخر ، وقد أشرنا أعلاه إلى أنه عمل وهو في العشرين من عمره طبيباً عسكرياً وبذلك كانت معايشته لحياة الرجال والجنود تتطلب _ تعبيراً عن الرّجولة _ لعب الورق والتدخين وشرب الكحول بكثرة وزيارة بيوت الدعارة أيضاَ . إنها طقوس الرّجولة كما كانت سائدة في عصره ، وكان أصدقاء شِلَر يعتبرونه مغامراً في تصرفاته وكانت علاقته مع المرأة تتسم من ناحيةٍ بكونه " يبجّل ويحب الطبيعة الودية والمرهفة عند الجنس الآخر " أما من ناحية أخرى فإن أية امرأة لَعوب " غنّوجة " – على حدّ تعبيره -كانت تستطيع أسرَه والسّيطرة عليه .
مدينة ( فايمار ) الشهيرة الواقعة في أراضي جمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقاً والتي كان يحكمها أمير شاب ،هو الذي أحضر معه الشاعر الشاب ( غوته ) من مدينة مولده في ( فرانكفورت ) على نـهر ( الماين ) ليعمل عنده وفي خدمة الإمارة التي أصبح لاحقاً من أهم الوزراء النافذين فيها ، هذه المدينة التي عاش فيها رجال عظماء مثل ( غوته ) - كما ذكرنا -
و ( هيردَر - وفيلانْد ) كما عاش فيها أيضاً نساء شهيرات وأديبات مرموقات مثل السيدة النبيلة ( شارلوتّه فون كلب ) _ المولودة عام 1761 _ وهي متزوجة وأم لطفل صغير يومئذ ، وكانت معجبة بـ ( شِلَر ) منذ فترة من الزمن ، وهي التي سهّلت له الوصول إلى هذا الصرح الأدبي في ( فايمار ) حيث تعرف هناك لاحقاً على شقيقتين أمضى معهما صيف عام 1788 وأعجب بهما معاً كما أعجبتا به أيضاً ، وكانت إحدى الأختين تحمل اسم ( شارلوتّه فون لِنْغفِـلد ) وعمرها 21 عاماً ، أما أختها الأخرى واسمها ( كارولينه ) فكانت تكبرها بثلاثة أعوام وهي متزوجة من أحد النبلاء وتحمل اسم زوجها ( فون بويلفيتس ) . الطريف في الأمر أن شِلَر وقع في حب الأختين معاً وكانتا على دراية بذلك حتى أن رسائل العشق المرسَلة منه كانت تخاطب الاثنتين معاً ، واسم التدليل الذي أطلقه عليهما هو ( لوتّه ) و ( لينه ) .
تزوج الشاعرُ من الأخت العزباء في شباط 1790 بحضور الأخت المتزوجة ( كارولينه) واستطاعت الأخرى التي أصبحت زوجه بعد وقت قصير أن تمتلكه بحبها وتستحوذ على كامل مشاعره العاطفيّة ، وأنجبت منه أربعة أطفال ، وأدّى ذلك إلى استقراره نفسياً حيث انصرف بعدها بكامل طاقته إلى العمل الإبداعي ، على الرغم من أن صحته كانت في حالة سيئة تماماً وكانت رئتاه شبه تالفتين من التهابات شديدة فيهما مع ضعف في عضلة القلب ، حتى أن الأطباء الذين قاموا بتشريح جسده بعد موته قالوا مستغربين : " في الداخل كل شيء تالف ، إن هذا الرجل كان يجب أن يموت قبل عشرة أعوام على الأقل " ، وبقي له برغم ذلك خمسة عشر عاماً يعيشها بفضل قوة الإرادة والحماس الشديد عنده للاستمرار في الإبداع والكتابة ، حتى أن ( توماس مان ) الشهير الحائز على جائزة نوبل على القول المُبالَغ فيه عن إنجازه الأدبي : " لا يضاهيه أي إنجاز آخر منذ العهد التّوراتي " .
المفارقة الغريبة في حبه للأختين معاً _ الذي تحدّثنا عنه أعلاه _ هو أن الأخت المتزوجة ( كارولينه ) هي التي كتبت عام 1850 أولَ سيرة ذاتية متميزة عن حبها الكبير للشاعر ، هذا الحب الذي اعترفت به وانحازت إليه طوال حياتها وكرّست أعمالها لاحقاً بعد أن أصبحت كاتبة مرموقة وناجحة للتحدث عنه وعن الصورة المثالية لحبيبها شِلَر .
بعد زواج الشاعر بأعوام تخلى الشاعر بشكل لافت للنظر تقريباً عن كتابة الشعر والمسرحيات والتفت إلى الأمور الأدبية والفكرية الأخرى ، وكانت مسرحية ( دون كارلوس) التي عرضت لأول مرة عام 1787 في مدينة هامبورغ شمالي ألمانيا ،آخر مسرحية تُعرَض له في تلك المرحلة _ وأستطيع القول أنني كطالب للطب عاش في تلك المدينة ستة أعوام قد أتيحت لي خلالها الفرصة أكثر من مرة أن أرى هذا العمل القيّم يعرض على مسرحها الكبير _ .





غلاف كتاب مسرحية ( دون كارلوس) لشِلَرْ

برز اسم الشاعر شِلَر لاحقاً كمؤلّف قصصي منذ النصف الثاني من ثمانينات القرن الثامن عشر وذلك من خلال أعمال مميزة قدّمها وحققت نجاحاً كبيراً مثل ( المجرم دفاعاً عن الشرف ) من العام 1786 أو ( مَشاهد الأشباح ) _ 1789 _ .
في تلك الحقبة كان شِلَر قد أصبح شخصية اجتماعية مرموقة كأستاذ جامعي في جامعة ( يـينا ) وككاتب مشهور ، لهذا مُنحَ الشاعر بسبب أعماله الهامّة لقبَ النّبالة ( فون ) في العام 1802 ، هذا اللقب الذي حصل عليه قبله الشاعر والمفكّر والأديب ، صديقه الّلدود ( يوهان وولف غانغ فون غوتِه ) أيضاً الذي كان متحفِّظاً أول الآمر حيال شِلَر في مرحلة ما من حياته الأدبية ، ثم قامت لاحقاً بينهما علاقات أدبية متميزة ، وكان قد بقي لكلِّ منهما عشر سنوات من العمر للعيش والعَطاء ، تبادلا خلالها وبشكل مستمر الرسائل الأدبية والفكرية التي وصل عددها تقريباً إلى الألف رسالة والتي كانت تُختَتم بالمجاملات أو بالتعبير عن الصداقة والحب النبيل الذي يربطهما وبمبادلة كل منهما نفس المشاعر حيال صديقه الآخر ، على حدّ قول ( غوتِه ) .
عشرةُ أعوام كانت قد مرّت على العرض الأول لآخر مسرحية لـشِلَر، وهي المسماة ( دون كارلوس ) ، عندما عاد الشاعر بعدها إلى المسرح من جديد بمساعدةٍ وبـتحريضٍ ودعمٍ من صديقه الشاعر العظيم غوته ، حيث عرضت له مسرحية جديدة في عام 1798 ، وهي دراما تاريخية تتألف من ثلاثة أجزاء تعرض تباعاً على مدار ثلاث أمسيات واسمها ( فالِنْشتاين ) ، وهي المسرحية التي اعتبرها الفيلسوف والكاتب ( روديغَر سافرانسكي ) - واضع سيرة ذاتية جديدة عن الشاعر والأديب الكلاسيكي شِلَر بعنوان
( فريدريش شِلَر أو اختراع المثاليّة الألمانية ) - أفضلَ مسرحية في الأدب المسرحي الألماني .


كتاب ( روديغَر سافرانسكي ) عن شِلَرْ

أخذ الشاعر يكتب مسرحياته في أواخر أيامه بنشاط وسرعة وإتقان ، حيث عرضت مسرحيته الجديدة ( ماريا ستيوارت ) لأول مرة في عام 1800.
وفي عام 1801قدّم مسرحيتَه(عذراء أورليانس ) – وتدور أحداثُها حول مأساة "جاندارك" :

وفي عام 1801قدّم مسرحيتَه(عذراء أورليانس ) – وتدور أحداثُها حول مأساة "جاندارك" .
تلك الفتاة الرّيفيّة الفرنسية المهووسة برؤاها الدينية والتي أقنَعت ملكَ فرنسا "كارل السابع " المهزوم أمام القوات الإنكليزية القوية الغازية لبلاده ، بأنها سترفع الحصار عن مدينة " أورلين " وتحرر له كامل البلاد ليصلَ إلى عرشه ، وذلك بمساعدةٍ وبتوكيلٍ ربّانيٍّ .
بعد أنْ اجتازت بنجاح اختبارات الكَهنوت حول صدق إيمانها ،ً والتّحقق أيضا من عُذريّتها ، بفحصٍ نسائيّ جرى عليها من قِبَل بعض السيّدات النبيلات في القصر ، كان لها ما شاءت ، وأصبحت ، وهي في السابعة عشر من عمرها ، قائدةً للجيش الفرنسيّ الملكيّ، الذي استبشر بالمساعدة الرّبّانية هذه خيراً. تمكّن جيشه بقيادتها فعلاً من رفع الحصار عن مدينة " أورلين " وتحرير مدن أخرى ، وذلك في الربع الأوّل من القرن الخامس عشر ، قبل أنْ تَترى الهزائمُ في القتال ، ويلقى القبض عليها بتهمة " الهَرْطَـقـة " وسجنها ومن ثم قام الملكُ والكنيسةُ معاً بالدفع بها إلى قبضة ا لإنكليز ،طمعاً في إمكانية الوصول عن طريق ذلك إلى مفاوضات سلمية معهم.
هناك سجنت وعُذبت حتى وقّعت على وثيقة أنكرت فيها مَـهمتها الإلهية ، وكان العقاب المنتظَر لها الآن السجن المؤبد ، وعندما تم بعدها اغتصابُ عذريّتها عادت فسحبت اعترافها وتراجعت عنه مما دفع الإنكليز بعد ثلاثة أيام إلى الحكم عليها بالموت حرقاً , وتم حرقُـها فعلاً وهي حيّةٌ حتى الموت ، وكانوا عادة في مثل هذه الحالات يقتلون المحكوم عليه قبل وصول النار إليه ليحترق ميتاً .
بعد مرور عشرين عاماً على هذه المأساة - الفضيحة، وبطلبٍ من الملك نفسه – كارل السابع - جرت لها – بوست هوم ‘ كما يقول اللاّتينيون ، أي بعد الوفاة – محاكمة جديدة حيث أعادت الكنيسة لها ، بل إلى رفاتها ، الاعتبارَ وأسقطوا التهمة السابقة عنها ،
كما قامت الكنيسة الكاثوليكيةُ الآن – بَعد مرور خمسة قرون على حرقها المُشين – بتطويبها قدّيسةً رسميّةً .

هناك العديد من المعلومات الهامة الأخرى ، على ضوء الأبحاث التاريخية الحديثة ، التي يمكن لي سردها والتعليق عليها ، غير أنّ مثلَ هذا سيخرج عن إطار هذه الدّراسة السّرية عن شِلَر العظيم .
في عام 1803 قدّم شِلَر مسرحية جديدة أخرى لمْ تلقَ قبولاً جماهيرياً كبيراً -كسابقاتها - وهي ( عروس مِسّينا ) .
تلَتها مسرحية ( فيلهِلْم تِلْ ) في عام 1804 ، جالبة له النجاحَ الكبير والأخيرَ ، وهي مسرحيةٌ مقـتبَسة من الحكايات السويسرية الشعبية ، ولنتَذكّر ( التفاحة على رأس الإبن وسهم الوالد يخترقها ) والتي تصوّر نزوعاً عارماً نحو الحرية ، وهو العمل الذي لم يكتمل تماماً بخلاف عمله الموسوم بـ ( دِمِتيريوس ) الذي وصل فيه الشاعر إلى مرحلة متقدمة من كتاباته المسرحيّة.
شِلَر يعود في مسرحيته (فيلهِلْم تِلْ ) إلى بداياته الإبداعية قائلاً : " كلاّ إنّ الحدود لها سلطة استبدادية " ،هذه المعرفة كانت تلازمه على الدوام ، فأعمال شِلَر كانت تتضمن دوماً أفكاراً سياسيةً وتساؤلاتٍ وآمال مذهلة ، وكان يفكر بمصير الناس البسطاء الذين بنوا الأهرامات وغيرها ، ولكنّ التمجيد والمجد كان من نصيب الملوك والحكام دوماً .
بقي شِلَر وإبداعاته دوماً قريباً من الشعب ، على الرغم من أنه _ في منافسته الإبداعية الشّريفة وغير المعلنة مع صديقه اللدود( غوتِه ) _ كان يطمح إلى الارتقاء بإبداعاته إلى منزلة فنية عالية وبخاصّةٍ في اللغة، وقد اعترف غوتِه لصديقه وبرحابة صدر بأنه_ شِلَر _ كان فعلاً أقرب إلى الشعب وروح الشعب من إبداعاته هو ، وعلى سبيل المثال فإنّ مسرحية شِلَر الموسومة بـ ( مشاهد الأشباح ) من العام 1789 تتحدث في هذا السياق ، سياق الانحياز إلى الشعب والحريّة ، عن نفس الموضوع الذي تطرّق له لاحقاً عبقري المسرح الألماني المعاصر ( بِِِرْتولد بريشْت ) في مسرحيته الشهيرة المسماة ( أسئلة عاملٍ قارئ ) .
كان شِلَر قد تساءل في هذا السياق أيضاً عن مصير أولئك الناس الكادحين البسطاء قائلاً :
" بماذا نحن مدينون للعامل عندما يصبح غير قادر على العمل أو عندما لا يجد عملاً ؟ وبماذا نحن مدينون للإنسان عندما يصبح عديمَ الفائدة ؟ " .
شِلَر جسّد بحقٍ المفهوم الذي أطلقه هو في عام 1802 حيث قال : " إن العـظَمةَ الألمانية لا تكمُن في السياسة وإنّما في الثقافة " هذا المفهوم أخذه عنه وتأثر به الباحث العالم الألماني الشهير ( الكسندر فون هومبولد ) _ الذي أعطى اسمه لجامعة برلين ( الشرقية ) _ وكان شِلَر في أعماله يجسد أعلى شكل من تجلّيات اللغة الديمقراطية والمؤثرة في الروح الوطنية .
أما في المجال الفلسفي فكان استقبال شِلَر وغوتِه لفلسفة ( كانت ) متشابه ، واعترف غوته بأنه لم يستطع فهم فلسفة ( كانت ) إلاّ من خلال شِلَر ، ويذكرُني هذا بالشاعر الألماني ( هاينرش هاينه ) الذي هاجر بسبب شعره وكتاباته السياسية إلى منفاه الطّوعي في باريس حيث عمل هناك مع الثوريّ المهاجر الشاب ( كارل ليفي مارْكس ) الذي لم يستطع فَهم ( الهيجيلية ) وبخاصة في موضوع الملكية العامة إلاّ من خلال الشاعر هاينه الذي كان أحد تلامذة ( هيجِل ) في برلين ، وكان كذلك تلميذاً للفيلسوف ( شْليغِل ) في ( بون ) .
لقد أثّرت في غوتِه كثيراً موضوعةُ ( الأنا ) المُنتِجة التي تشكّل عالمَها بنفسها ، حيث يقول الفيلسوف الألمانيُّ ( كانْتْ ) : ( الذاتُ المنتجة تصنع بنفسها الصّـيَغَ التي لا تستطيع ،إلاّ بواسطتها إدراكَ، الواقع ) . هذا الأمر فُهِم من قِبَل الشاعرين على أنه تخويل للذّات أي تقوية للفرد ، وإن كان شِلَر غير متفق تماماً مع فلسفة الأخلاق عند(كانت ) وبخاصة الثنائية بين الوجوب والإرادة ، ووجدها طرحاً خشناً : الإرادة فينا ، الطبيعة ، الوجوب يقابلهما الأمر المطلق ، الأخلاق ، غير أن شِلَر طرح مفهومه الخاص عن التربية الجمالية القائمة على تهذيب شهَواتنا وغرائزَنا وميولنا بشكل يؤدي إلى عدم التعارض الصارخ مع الوجوب .
كان قد قدّم هذه الأفكار من خلال مقالته(عن التربية الجمالية للجنس البشري ) ، تلك التي يصل الإنسانُ من خلالها لأن يصبح أهلاً للحرية ومؤهَلاً أيضاً لممارسة هذه الحرية .
كان شِلَر يشعر بالراحة في المدينة الثقافية الهادئة ( فايمار) ، التي سكَنها طويلاً واستكان إليها وبقي فيها مبدعاً طوال حياته ومات ودفن فيها ، ولا يزال نصبه التَّـذكاري واقفاً إلى جانب صديقه غوتِه يزيّن إحدى ساحاتها ، ولهذا فهو لم يكن يحب السفرَ خارجها ، حتى أنه لم يَر العاصمة برلين إلاّّ قبل وفاته بعام واحد فقط ، وقد تملّكه هناك الدَّهَشُ بسبب ضخامتها مقارنة مع مدينته الصغيرة ، وكانت برلين أبعَدَ ما وصل إليه في تَرحاله ، وهي التي تقع على مرمى حجر من ( فايمار ) ، وكان قد زارها مع عائلته لأكثر من ثلاثة أسابيع حيث لقي فيها ككاتب وشاعر مرموق الكثير من الحفاوة والتّرحاب ، وعُرضَ فيها العديدُ من مسرحياته تكريماً له ولزيارته لها .
كانت الحفاوة به تجري على المستوى الشعبيّ أيضاً حيث كان السكان يستقبلونه بالهتافات والترحيب والتصفيق أينما حل .
لقد قُدّمَت له العديد من العروض والاغراءات المادية أيضاً لكي يأتي ويستقر فيها ، في برلين ، غير أنه كان يشعر بوطأة المرض وقسوته على جسده المُنهك ، فرفض كل ذلك بأدب شاكراً وعاد إلى بلدته ( فايمار ) ليموت فيها في عام 1805 عن عمر يقارب السادسة والأربعين عاماًفقط . أما صديقه الشاعر ( غوته ) الذي يكبره بعشر سنوات فقد عاش قرابة الثلاثة عقود بعد ارتحال صديقه شِلَر .
بقي أن أشير أخيراً إلى أن الاحتفال الرسمي بعام شِلَر ، كان قد ابتدأفي مطلع آذار من العام 2005 ، وأن العديد من النشاطات الفكرية والشعرية والمسرحية والغنائية وغير ذلك رافقت الاحتفالَ بما يليق بتكريم وتقدير لشاعر يعتبره الشعب الألماني مع أو إلى جانب الشاعر ( غوتِه ) مِن أهمّ عظماء الشعر الألماني ومن أهم الظواهر الأدبية التي أعطاها للعالم ( شعبُ المفكرين والشعراء ) _ كما يطلقون هم على أنفسهم _ .
ربماأعود لاحقاً له ولشعره، إسهاماً متواضعاً مني في تعريف القارئ العربي أو تعميق معرفته بهذا الشاعر الكوني العظيم ، شاعر الحرية والتمرّد والمشاعر الإنسانية النّبيلة .
==================
( * ) كنت قد نشرتُ دراسةً عن الشاعر " شِلَرْ "في الأسبوع الأدبي _ دمشق _ إتحاد الكتاب العرب / السبت 21 / 5 / 2005 العدد ( 958 ) ، بمناسبة الذّكرى المئتئين لرحيلهِ .